موسوعة التفسير

سُورةُ الصَّفِّ
الآيات (7-9)

ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ

غريب الكلمات:

افْتَرَى: أي: اختلَق، والافتراءُ: الاختلاقُ، ومنه قيل: افترَى فُلانٌ على فُلانٍ، إذا قذَفه بما ليس فيه، وأصلُ (فري): قطْعُ الشَّيءِ؛ فالفَرْيُ: قطعُه لإصلاحِه، والإفراءُ: قطعُه للإفسادِ، والافتِراءُ فيهما، وفي الإفسادِ أكثرُ [112] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 31)، ((تفسير ابن جرير)) (22/614)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/496)، ((المفردات)) للراغب (ص: 635)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 293). .
لِيُظْهِرَهُ: أي: لِيُعليَه ويَنصُرَه؛ مِن المُعاوَنةِ والغَلَبةِ، يُقالُ: ظهَرَ على الشَّيءِ؛ إذا غلَبَه وعلاه، ويصحُّ أن يكونَ مِن البُروزِ، وظَهَر الشَّيءُ أصْلُه: أن يَحصُلَ شَيءٌ على ظَهْرِ الأرضِ فلا يخفى، ثمَّ صار مُستعمَلًا في كلِّ بارِزٍ مُبصَرٍ بالبصَرِ والبَصيرةِ، وأصلُ (ظهر): يدُلُّ على قُوَّةٍ وبُروزٍ [113] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/471)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (4/1211)، ((المفردات)) للراغب (ص: 541)، ((تفسير البغوي)) (2/340). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى: ومَن أشَدُّ ظُلمًا ممَّن اختَلَق على اللهِ الكَذِبَ وهو يُدعَى إلى الدُّخولِ في دِينِ الإسلامِ؟! واللهُ لا يَهْدي القَومَ الَّذين ظَلَموا أنفُسَهم.
ثمَّ يُبيِّنُ تعالى غرَضَ هؤلاءِ الظَّالِمينَ مِن وراءِ افتِرائِهم الكذبَ على الدِّينِ الحقِّ، فيقولُ: يُريدُ الكافِرونَ أن يُبْطِلوا الحَقَّ الَّذي جاءهم مِن عندِ اللهِ بما يَتفَوَّهونَ به مِن أكاذيبَ، واللهُ مُتِمُّ الحَقِّ، ولو كَرِهَ ذلك الكافِرونَ.
ثمَّ يُؤكِّدُ الله تعالى وعْدَه بإتمامِ نورِه، فيقولُ: اللهُ هو الَّذي بَعَث رَسولَه مُحمَّدًا -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- بالعِلمِ النَّافِعِ وبدِينِ الإسلامِ؛ ليُعلِيَ اللهُ الإسلامَ على سائِرِ الأديانِ، ولو كَرِهَ المُشرِكونَ ذلك.

تفسير الآيات:

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه كانتْ دَعوةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُماثِلةً دَعوةَ عِيسى عليه السَّلامُ، وكان جَوابُ الَّذين دَعاهم إلى الإسلامِ مِن أهلِ الكتابَينِ والمشركينَ مُماثلًا لجَوابِ الَّذين دَعاهم عليه السَّلامُ، فلمَّا أُدمِجَ في حِكايةِ دَعوةِ عِيسى بِشارتُه برَسولٍ يَأْتي مِن بَعْدِه، ناسَبَ أنْ يُنقَلَ الكلامُ إلى ما قابَلَ به قومُ الرَّسولِ الموعودِ دَعوةَ رَسولِهم؛ فلذلك ذُكِرَ في دَعوةِ هذا الرَّسولِ دِينُ الإسلامِ [114] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/187). . وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ.
أي: ولا أحَدَ أشَدُّ ظُلمًا ممَّن اختَلَق على اللهِ الكَذِبَ، والحالُ أنَّه يُدْعَى إلى الدُّخولِ في دِينِ الإسلامِ [115] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/614)، ((تفسير القرطبي)) (18/84)، ((تفسير ابن كثير)) (8/111)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/188، 189). قال ابنُ جرير: (هو قَولُ قائِلِهم للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هو ساحِرٌ، وما جاء به سِحرٌ، فكذلك افتراؤُه على اللهِ الكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ، يَقولُ: إذا دُعِيَ إلى الدُّخولِ في الإسلامِ قال على اللهِ الكَذِبَ، وافترى عليه الباطِلَ). ((تفسير ابن جرير)) (22/614). وقال القرطبي: (هذا تعَجُّبٌ ممَّن كَفَر بعيسى ومحمَّدٍ بعدَ المُعجِزاتِ الَّتي ظهَرَت لهما). ((تفسير القرطبي)) (18/84). وقال القاسمي: (هذه الآيةُ إمَّا مُستأنَفةٌ لتحقيقِ رسالةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، طليعةٌ للآياتِ بَعْدَها، وإمَّا مُتَمِّمةٌ لِما قبْلَها؛ لتقبيحِ ما بَهَت به الإسرائيليُّونَ عيسى عليه السَّلامُ، مع الإشارةِ بعُمومِها إلى ذمِّ كلِّ مَن كان على شاكِلَتِهم. ولا يُقالُ: الإسلامُ يؤيِّدُ الأوَّلَ لأنَّه عُنوانُ المِلَّةِ الحَنيفيَّةِ؛ لأنَّه قد يُرادُ به معناه اللُّغَويُّ، وقد كثُر ذلك في آياتٍ شَتَّى، نعمْ الأقرَبُ الأوَّلُ، واحتِمالُ مِثلِ الآيةِ لهذَينِ الوجهَينِ مِن بدائعِ التَّنزيلِ). ((تفسير القاسمي)) (9/223). !
كما قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ [العنكبوت: 68] .
وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
أي: واللهُ لا يُوَفِّقُ لاتِّباعِ الحَقِّ القَومَ الَّذين ظَلَموا أنفُسَهم، فاختَلَقوا على اللهِ الكَذِبَ، وأصَرُّوا على رَدِّ الحَقِّ مع وُضوحِه [116] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/614)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/29)، ((تفسير السعدي)) (ص: 859)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/189). .
كما قال تعالى: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [آل عمران: 86] .
يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8).
يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ.
أي: يُريدُ الكافِرونَ أن يُبْطِلوا الحَقَّ الَّذي جاء به مُحمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن عندِ اللهِ، بما يَتفَوَّهونَ به مِن أكاذيبَ وافتراءاتٍ لا بُرْهانَ عليها [117] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/614)، ((الوسيط)) للواحدي (2/491)، ((تفسير السعدي)) (ص: 859). قال ابنُ كثير: (أي: يحاوِلونَ أن يَرُدُّوا الحَقَّ بالباطِلِ، ومَثَلُهم في ذلك كمَثَلِ مَن يريدُ أن يُطفِئَ شُعاعَ الشَّمسِ بفِيه! وكما أنَّ هذا مُستحيلٌ، كذلك ذاك مُستحيلٌ). ((تفسير ابن كثير)) (8/112). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/189، 190). وقال ابن جرير: (بِأَفْوَاهِهِمْ يعني: بقَولِهم: إنَّه ساحِرٌ، وما جاء به سِحرٌ). ((تفسير ابن جرير)) (22/614). !
وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ.
أي: واللهُ قد تكفَّل بإتمامِ الحَقِّ، وإشاعةِ نُورِه في الآفاقِ [118] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/614)، ((تفسير القرطبي)) (18/85)، ((تفسير السعدي)) (ص: 859). .
كما قال تعالى: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [التوبة: 32] .
وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ.
أي: ولو كَرِهَ ذلك الكافِرونَ باللهِ مِن المُشرِكينَ أو اليَهودِ، أو النَّصارى أو غَيرِهم [119] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/615)، ((تفسير القرطبي)) (18/85)، ((تفسير السعدي)) (ص: 859). .
ثمَّ ذكَرَ الله تعالى سببَ الظُّهورِ والانتِصارِ للدِّينِ الإسلاميِّ [120] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 860). ، فقال:
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9).
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ.
أي: اللهُ هو الَّذي بَعَث رَسولَه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالعِلمِ النَّافِعِ المُشتَمِلِ على الإيمانِ الصَّحيحِ، ومَعرفةِ أحكامِ اللهِ، وبَعَثَه بدِينِ الإسلامِ المُشتَمِلِ على الأعمالِ الصَّالِحةِ النَّافِعةِ في الدُّنيا والآخِرةِ [121] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/615)، ((تفسير ابن عطية)) (3/26)، ((تفسير ابن كثير)) (4/136)، ((تفسير السعدي)) (ص: 860)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/173). .
لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ.
أي: ليُعلِيَ اللهُ الإسلامَ بالغَلَبةِ والانتِصارِ في قِتالِ الكُفَّارِ، ويُعلِيَه بالحُجَّةِ والبُرهانِ على سائِرِ الأديانِ [122] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/615)، ((تفسير القرطبي)) (18/86)، ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (1/239)، ((تفسير السعدي)) (ص: 860). قال ابنُ جرير: (يقولُ: لِيُظهِرَ دِينَه الحَقَّ -الَّذي أرسَلَ به رَسولَه- على كُلِّ دينٍ سِواه، وذلك عندَ نُزولِ عيسى ابنِ مَريمَ، وحينَ تَصيرُ المِلَّةُ واحِدةً، فلا يكونُ دينٌ غيرُ الإسلامِ). ((تفسير ابن جرير)) (22/615). وقال ابنُ عاشور: (قد تمَّ وَعدُ اللهِ، وظَهَر هذا الدِّينُ، ومَلَك أهلُه أُممًا كثيرةً، ثمَّ عَرَضَت عوارِضُ مِن تفريطِ المسلمينَ في إقامةِ الدِّينِ على وَجهِه؛ فغلَبَت عليهم أُمَمٌ، فأمَّا الدِّينُ فلم يَزَلْ عاليًا مَشهودًا له مِن علماءِ الأُمَمِ المُنصِفينَ بأنَّه أفضَلُ دينٍ للبَشَرِ). ((تفسير ابن عاشور)) (28/192، 193). وقال السَّمْعاني: (مِصداقُ هذه الآيةِ على الكمالِ إنَّما يكونُ عِندَ نُزولِ عيسى ابنِ مَريمَ، حَيثُ لا يَبقى إلَّا دينُ الإسلامِ). ((تفسير السمعاني)) (5/427). قال ابن جُزَي: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ الضَّميرُ للرَّسولِ صلَّى الله عليه وآلِه وسلَّم، أو للدِّينِ). ((تفسير ابن جزي)) (1/336). وقال الشنقيطي في نظيرِ هذه الآيةِ مِن سورةِ التَّوبةِ (الآية 33): (الضَّميرُ في قولِه: لِيُظْهِرَهُ فيه وجْهانِ للعُلماءِ: قال بعضُهم -وهو مرويٌّ عن ابنِ عبَّاسٍ-: الضَّميرُ عائدٌ إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم. أي: أرسلَه بهذا الهُدى لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ لِيُطلِعَه على جميعِ الأديانِ؛ فيُبيِّنَ لأهلِها حقيقَها مِن باطلِها، كما ... في قولِه: وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [المائدة: 48] ، يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ [المائدة: 15] ، قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران: 93]، وغيرِ ذلك مِن الآياتِ أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم عَلِم مِن كتابِ الله ما جاء في جميعِ الكُتبِ المُتقدِّمةِ. القولُ الثَّاني: -وعليه الأكثرُ- أنَّ الضَّميرَ للدِّينِ لِيُظْهِرَهُ أي: لِيُظهِرَ دينَ الإسلامِ، أي: يُعلِيَه على جميعِ الأديانِ كلِّها. وهذا الإعلاءُ يَدخُلُ فيه إظهارُه بالحُجَّةِ والبُرهانِ؛ فبَراهينُه قاطِعةٌ، وحُجَجُه ساطِعةٌ لا شكَّ فيه، وكتابُه محفوظٌ، فلا شَيءَ يُوازيه ولا يُشابِهُه. قال بعضُ العُلماءِ: لِيُظْهِرَهُ أي: يَنصُرَه ويُغَلِّبَه على جميعِ الأديانِ، وقد وفَى اللهُ بهذا فيما مضى، وسيَفِي به أيضًا في المُستقبَلِ). ((العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير)) (5/451). .
كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [الفتح: 28] .
وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((لا يَذهَبُ اللَّيلُ والنَّهارُ حتَّى تُعبَدَ اللَّاتُ والعُزَّى! فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إنْ كُنتُ لَأظُنُّ حينَ أنزَلَ اللهُ: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ أنَّ ذلك تامًّا! قال: إنَّه سيَكونُ مِن ذلك ما شاء اللهُ)) [123] رواه مسلم (2907). .
وعن ثَوبانَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ زَوَى [124] زَوَى: أي: طَوى له -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- الأرضَ، وجعَلَها مَجموعةً كهَيئةِ كَفٍّ في مِرآةِ نَظَرِه. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (9/3676). ليَ الأرضَ، فرأيتُ مَشارِقَها ومَغارِبَها، وإنَّ أُمَّتي سيَبلُغُ مُلكُها ما زُوِيَ لي مِنها )) [125] رواه مسلم (2889). .
وعن خَبَّابِ بنِ الأَرَتِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((شَكَوْنا إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو مُتوَسِّدٌ بُرْدةً [126] أي: كِساءً مُخَطَّطًا، والمعنى: جاعِلٌ البُرْدةَ وِسادةً له، مِن تَوسَّدَ الشَّيءَ: جعَلَه تحتَ رأسِه. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (9/3747). له في ظِلِّ الكعبةِ، قُلْنا له: ألا تَستَنصِرُ لنا، ألا تَدْعو اللهَ لنا؟! قال: كان الرَّجُلُ فيمَنْ قَبْلَكم يُحفَرُ له في الأرضِ، فيُجعَلُ فيه، فيُجاءُ بالمنشارِ فيُوضَعُ على رأسِه فيُشَقُّ باثنَتَينِ، وما يَصُدُّه ذلك عن دينِه! ويُمْشَطُ بأمشاطِ الحديدِ ما دونَ لَحْمِه [127] ما دُونَ لَحمِه، أي: تحتَ لَحمِه، أو عندَ لَحمِه. يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (16/144). مِن عَظمٍ أو عَصَبٍ [128] فيه مِن المُبالَغةِ أنَّ الأمشاطَ تَنفُذُ مِن اللَّحمِ إلى العَظمِ والعَصَبِ؛ لِحِدَّتِها وقوَّتِها. يُنظر: ((شرح المشكاة)) للطِّيبي (12/3734). ، وما يَصُدُّه ذلك عن دينِه! واللهِ لَيُتِمَّنَّ [129] لَيُتِمَّنَّ: بضَمِّ حرفِ المُضارَعةِ وكسرِ التَّاءِ، على أنَّ الفاعلَ هو الله، أي: لَيُكمِلَنَّ. وفي نسخةٍ بفتحِ الياءِ وكسرِ التَّاءِ وتشديدِ الميمِ، وفي أخرى بصيغةِ المجهولِ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (9/3747). هذا الأمرَ حتَّى يَسيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنعاءَ إلى حَضْرَمَوتَ، لا يخافُ إلَّا اللهَ أو الذِّئبَ على غَنَمِه، ولكِنَّكم تَستَعجِلونَ! )) [130] رواه البخاري (3612). .
وعن تميمٍ الدَّاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((لَيَبْلُغَنَّ هذا الأمرُ ما بَلَغ اللَّيلُ والنَّهارُ، ولا يَترُكُ اللهُ بَيتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ [131] بَيتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ: المَدَرُ: جَمْعُ مَدَرةٍ، وهي: اللَّبِنةُ، والمرادُ به هنا: البُيوتُ المُحكَمةُ المَبنيَّةُ مِن الأحجارِ والطُّوبِ واللَّبِنِ، كبُيوتِ المُدُنِ والقُرى. والوَبَرُ: شَعرُ الإبِلِ، والمرادُ به هنا: البُيوتُ غيرُ المُحكَمةِ، كبُيوتِ البوادي وأهلِ الخِيامِ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (1/116)، ((الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم)) لمحمد الأمين الهَرري (26/259). إلَّا أدخَلَه اللهُ هذا الدِّينَ بعِزِّ عزيزٍ أو بذُلِّ ذَليلٍ؛ عِزًّا يُعِزُّ اللهُ به الإسلامَ، وذُلًّا يُذِلُّ اللهُ به الكُفرَ)) [132] أخرجه أحمد (16957) واللَّفظُ له، والحاكم (8326)، والبيهقي (19090). صحَّحه الحاكِمُ على شرطِ الشَّيخينِ، وقال الألبانيُّ في ((تحذير الساجد)) (158): (على شرطِ مُسلمٍ). وصَحَّح إسنادَه على شرط مسلمٍ: شُعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (28/155). .
وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ.
أي: سيُظهِرُ اللهُ تعالى دِينَه على جميعِ الأديانِ، ولو كَرِهَ المُشرِكونَ ذلك [133] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/422)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/32)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 739)، ((تفسير الشوكاني)) (2/404). .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ التَّحذيرُ مِن الظُّلمِ، وأنَّه كُلَّما كان الإنسانُ أظْلَمَ كان عن الهدايةِ أبْعَدَ؛ لأنَّ اللهَ تعالى عَلَّقَ نفْيَ الهدايةِ بالظُّلْمِ، وتعليقُ الحُكْمِ بالظُّلمِ يدُلُّ على عِلِّيَّتِه، وكلَّما قَوِيَتِ العِلَّةُ قَوِيَ الحُكْمُ المُعَلَّقُ عليها [134] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (3/285). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، أي: لِيُعْلِيَه على سائِرِ الأديانِ بالحُجَّةِ والبُرهانِ، ويُظهِرَ أهْلَه القائِمينَ به بالسَّيفِ والسِّنانِ، فأمَّا نَفْسُ الدِّينِ فهذا الوَصفُ مُلازِمٌ له في كُلِّ وَقتٍ، فلا يُمكِنُ أن يُغالِبَه مغالبٌ، أو يُخاصِمَه مُخاصِمٌ إلَّا فَلَجَه وبَلسَه [135] وبَلسَه: أي: ظَفِرَ وفاز عليه وكَسَرَه. يُنظر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 39، 242). ، وصار له الظُّهورُ والقَهرُ، وأمَّا المُنتَسِبونَ إليه فإنَّهم إذا قاموا به، واستناروا بنُورِه، واهتَدَوا بهَدْيِه في مصالحِ دِينِهم ودُنياهم؛ فكذلك لا يقومُ لهم أحدٌ، ولا بدَّ أن يَظهَروا على أهلِ الأديانِ، وإذا ضَيَّعوه واكتَفَوا منه بمُجَرَّدِ الانتِسابِ إليه، لم يَنفَعْهم ذلك، وصار إهمالُهم له سَبَبَ تَسليطِ الأعداءِ عليهم [136] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 860). .
3- في قَولِه تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أنَّه سُبحانَه تَكَفَّلَ لهذا الأمرِ بالتَّمامِ والإظهارِ على جميعِ أديانِ أهلِ الأرضِ؛ ففي هذا تَقويةٌ لقُلوبِ أهلِ الإسلامِ، وبِشارةٌ لهم وتَثبيتٌ، وأنَّه لا بُدَّ أنْ يكونوا على ثِقةٍ مِن هذا الوَعدِ الَّذي لا بُدَّ أنْ يُنْجِزَه سُبحانَه [137] يُنظر: ((زاد المعاد)) لابن القيم (3/280). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قولِه تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ما الجمعُ بَينَ هذه الآيةِ الكريمةِ وبينَ نُصوصٍ أخرى يَرِدُ فيها مِثلُ هذه العبارةِ في ذَنبٍ آخَرَ غيرِ هذا، وتدلُّ أيضًا على أنَّ هذا الفِعلَ أظلمُ شيءٍ؛ مثل قولِه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [البقرة: 114] ، وقوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا [الكهف: آية 57]؛ فكيفَ نَجمعُ بين هذه النُّصوصِ؟
والجوابُ مِن أحدِ وجهينِ:
الأول: أنَّ هذه الأشياءَ جميعَها اشتركَتْ في المرتبةِ العُليا من الظُّلمِ؛ فكلُّها في مقامِ الأظلميَّةِ، فأفعلُ التفضيلِ لا تمنعُ التَّساوي ولكنَّها تمنعُ الزِّيادةَ. وعلى ذلك فلا مُعارَضَةَ البتَّةَ بينَ الآياتِ، فهؤلاءِ المذكورونَ لا يُوجَدُ أحدٌ أظلَمُ منهم، وهم متساوونَ في مرتبةِ الظُّلْم.
الوجه الثاني: أنَّ هذه المواضعَ تَتخصَّصُ بصِلاتِها. ومعنَى (تتخصصُ بصِلاتِها): أَنَّ كُلَّ واحدٍ منها تُفَسِّرُه صلةُ موصُولِه، أي أنَّ كلَّ واحدةٍ تختصُّ ببابِها، فيكونُ المعنَى: لا أحدَ مِنَ المفْتَرِينَ أظلمُ مِمَّنِ افْتَرَى على اللَّهِ كَذِبًا، ولا أحدَ مِنَ المانِعِينَ أظلمُ مِمَّنْ مَنَعَ مساجدَ اللَّهِ، ولاَ أحدَ مِنَ المعْرِضِينَ أظلمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بآياتِ رَبِّه فأعْرَضَ عنها... إلخ [138] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/512-513)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 122- 123). والوجهُ الأوَّل مخرجٌ على قاعدةِ: (نفيُ التفضيلِ لا يستلزمُ نفيَ المساواةِ). يُنظر: ((قواعد التفسير)) لخالد السبت (2/528). .
2- في قَولِه تعالى: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أنَّ مَن أَضَلَّه اللهُ فإنَّما ذلك لظُلمٍ منه، وأمَّا مَن طَلَبوا الحقَّ وتَحَرَّوه وتَشَوَّفوا له، فإنَّهم جَديرونَ بالهِدايةِ [139] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/517). .
3- في قَولِه تعالى: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ حُجَّةٌ على المُعتَزِلةِ والقَدَرِيَّةِ؛ إذْ لو كان كلُّ مَبعوثٍ إليه رَسولًا، وكلُّ مدلولٍ على طريقِ الهدايةِ: يَقْدِرُ بنَفْسِه أنْ يهتديَ مِن غيرِ أنْ يهديَه اللهُ؛ ما كان في ذلك فائِدةٌ، ولا كان ذلك عليهم عُقوبةً [140] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/297). .
4- في قَولِه تعالى: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أنَّ اللهَ لا يَمْنَعُ فَضْلَه عن أحدٍ إلَّا إذا كان هذا الممنوعُ هو السَّبَبَ؛ فلِظُلْمِهم لم يَهْدِهم اللهُ، وهذا كقَولِه تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [141] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (3/285). [الصف: 5].
5- في قَولِه تعالى: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أنَّ مَن أخَذَ بالعَدْلِ كان حَرِيًّا بالهدايةِ؛ لمفهومِ المخالفةِ في الآيةِ، فإذا كان الظَّالمُ لا يَهديه اللهُ، فصاحِبُ العَدْلِ حَرِيٌّ بأنْ يَهديَه اللهُ عزَّ وجلَّ؛ فإنَّ الإنسانَ الَّذي يريدُ الحقَّ ويَتَّبِعُ الحقَّ -والحقُّ هو العَدْلُ- غالبًا يُهْدَى ويُوَفَّقُ للهدايةِ؛ ولهذا قال شَيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ في ((العقيدةِ الواسِطيَّةِ)) [142] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (3/137). عبارةً مِن أحسَنِ العباراتِ؛ قال: (مَن تَدَبَّرَ القرآنَ طالبًا الهُدى منه تَبَيَّنَ له طريقُ الحَقِّ)، وهذه كَلِمةٌ مأخوذةٌ مِن القُرآنِ مَنطوقًا ومَفهومًا [143] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (3/286). .
6- قَولُ اللهِ تعالى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ فيه سؤالٌ: التَّمامُ لا يكونُ إلَّا عندَ النُّقصانِ، فكيفَ نُقصانُ هذا النُّورِ؟
الجوابُ: إتمامُه بحَسَبِ النُّقصانِ في الأَثَرِ، وهو الظُّهورُ في سائِرِ البِلادِ مِن المشارِقِ إلى المغارِبِ؛ إذ الظُّهورُ لا يَظهَرُ إلَّا بالإظهارِ، وهو الإتمامُ، يُؤَيِّدُه قَولُه تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [144] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/530). [المائدة: 3] .
7- في قَولِه تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ أنَّ رسالةَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم تتضَمَّنُ شيئينِ؛ هما: العِلمُ النَّافِعُ، والعَمَلُ الصَّالحُ؛ فالهُدى هو: العِلمُ النَّافعُ، ودِينُ الحَقِّ هو: العَمَلُ الصَّالحُ الَّذي اشتَمَل على الإخلاصِ للهِ، والمتابعةِ لِرَسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم [145] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (4/15). .
8- في قَولِه تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ أنَّه لا هُدَى إلَّا فيما جاء به رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، ولا يَقْبَلُ اللهُ مِن أحدٍ دينًا يَدينُه به إلَّا أنْ يكونَ مُوافِقًا لدِينِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقد نزَّه سُبحانَه وتعالى نفْسَه عمَّا يَصِفُه به العِبادُ إلَّا ما وصَفَه به المُرسَلونَ، فقال تعالى: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [الصافات: 180 - 181] ، وسلَّمَ على المُرسَلينَ؛ لِسَلامةِ ما وصَفُوه به مِن النَّقائِصِ والعُيوبِ [146] يُنظر: ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (1/152). .
9- في قَولِه تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أنَّ مَنِ اتَّبَعَ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم فإنَّه غالِبٌ، ومعنى «يُظْهِرُه» يُعْلِيه؛ لأنَّ الظَّهْرَ والظُّهُورَ كلُّه يدُلُّ على الغَلَبةِ [147] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 173). .
10- في قَولِه تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أنَّ الإسلامَ سيَعْلُو على جميعِ الأديانِ [148] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة سبأ)) (ص: 294). ، فتَعليلُ قولِه: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ بقولِه: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ؛ إعلامٌ بأنَّ اللهَ أراد ظُهورَ هذا الدِّينِ وانتشارَه؛ كيْلَا يَطمَعوا أنْ يَنالَه ما نال دِينَ عِيسى عليه السَّلامُ مِن القمْعِ والخَفْتِ في أوَّلِ أمْرِه، واستمرَّ زَمانًا طويلًا، فلمَّا أخبَرَ اللهُ بأنَّه أراد إظهارَ دِينِ الإسلامِ على جَميعِ الأديانِ، عُلِمَ أنَّ أمْرَه لا يَزالُ في ازديادٍ حتَّى يَتِمَّ المرادُ [149] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/192). .
11- في قَولِه تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ حُجَّةٌ لأهلِ السُّنَّةِ على كلِّ مَن أسَرَّ دِينًا مِن أهلِ البِدعةِ؛ فإنَّ كلَّ مَن كان على شَيءٍ يَزْعُمُ أنَّه مِن الدِّينِ، وهو يَسْتُرُه ولا يُظْهِرُه خَشيةَ إنكارِه؛ فقد عُرِفَ بُطلانُه قبْلَ أنْ يُسْألَ بُرهانَه، واستوى في معرفةِ تزييفِه العالِمُ والجاهِلُ؛ إذْ مِن شَرْطِ الآيةِ أنْ يكونَ بعدَ نزولِها دِينُ الحَقِّ ظاهِرًا، فإنْ كُتِمَ عُدِمَ شَرْطُه المشروطُ فيه، وفي عَدَمِ شَرْطِه دُخولُ الخَلَلِ عليه، وزوالُ الحقِّ عنه [150] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (1/521-524). .
12- كثيرًا ما يجمَعُ سُبحانَه بيْنَ هذينِ الأصلَينِ: (الْهُدَى، ودِينِ الْحَقِّ)؛ لأنَّ بهما تمامَ الدَّعوةِ، وظهورَ دِينِه على الدِّينِ كُلِّه [151] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/14). ، وقد بعَثَ اللهُ تعالى مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ إلى النَّاسِ؛ فبالهُدى يُعرَفُ الحقُّ، وبدِيْنِ الحَقِّ يُقصَدُ الخَيرُ ويُعمَلُ به، فلا بُدَّ مِن عِلْمٍ بالحَقِّ، وقَصْدٍ له، وقُدرةٍ عليه، والفِتنةُ تُضادُّ ذلك؛ فإنَّها تمنعُ معرفةَ الحَقِّ؛ لِمَا فيها مِن الشُّبُهاتِ الَّتي تَلبِسُ الحقَّ بالباطِلِ، أو تمنَعُ قصدَ الحَقِّ؛ لِمَا فيها مِن الأهواءِ والشَّهواتِ، أو تمنعُ القُدرةَ على الخَيرِ؛ لِمَا فيها مِن ظُهورِ قُوَّةِ الشَّرِّ [152] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (4/547). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وُصِفوا بأنَّهم أظلَمُ النَّاسِ تَشنيعًا لحالِهم؛ فالمرادُ مِن هذا الاستِفهامِ هم الَّذين كذَّبوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ ولذلك عُطِفَ هذا الكلامُ بالواوِ ودونَ الفاءِ؛ لأنَّه ليس مُفرَّعًا على دَعوةِ عِيسى عليه السَّلامُ، وقد شَمِلَ هذا التَّشنيعُ جميعَ الَّذين كذَّبوا دَعوةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن أهلِ الكتابَينِ والمشركينَ [153] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/187، 188). . وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
- والاستِفهامُ في قولِه: وَمَنْ أَظْلَمُ إنكارٌ، أي: لا أحَدَ أظلَمُ مِن هؤلاء؛ فالمُكذِّبون مِن قبْلِهم إمَّا أنْ يَكونوا أظلَمَ منهم، وإمَّا أنْ يُساوُوهم على كلِّ حالٍ، فالكلامُ مُبالَغةٌ. وإنَّما كانوا أظلَمَ الناسِ؛ لأنَّهم ظَلَموا الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بنِسبتِه إلى ما ليس فيه إذْ قالوا: هو ساحرٌ. وظَلَموا أنفُسَهم إذْ لم يَتوخَّوا لها النَّجاةَ، فيَعرِضوا دَعوةَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على النَّظَرِ الصَّحيحِ حتَّى يَعلَموا صِدقَه. وظَلَموا النَّاسَ بحَمْلِهم على التَّكذيبِ، وظَلَموهم بإخفاءِ الأخبارِ الَّتي جاءتْ في التَّوراةِ والإنجيلِ مُثبِتةً صِدقَ رسولِ الإسلامِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكَمَلَ لهم هذا الظُّلمُ بقولِه تعالَى: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، فيُعلَمُ أنَّه ظُلمٌ مُستمِرٌّ [154] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/188). .
- قولُه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ كان لجُملةِ الحالِ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ موقعٌ متينٌ هنا، أي: فعَلوا ذلك في حِينِ أنَّ الرسولَ يدْعوهم إلى ما فيه خيرُهم، فعاضُوا الشُّكرَ بالكُفرِ. وإنَّما جُعِلَ افتِراؤهم الكذِبَ على اللهِ؛ لأنَّهم كذَّبوا رَسولًا يُخبِرُهم أنَّه مُرسَلٌ مِن اللهِ، فكانت حُرمةُ هذه النِّسبةِ تَقْتضي أنْ يُقبِلوا على التَّأمُّلِ والتَّدبُّرِ فيما دَعاهم إليه؛ ليَصِلوا إلى التَّصديقِ، فلمَّا بادَرُوها بالإعراضِ وانتَحَلوا للدَّاعي صِفاتِ النَّقصِ، كانوا قد نَسَبوا ذلك إلى اللهِ دونَ تَوقيرٍ؛ فأمَّا أهلُ الكتابِ فجَحَدوا الصِّفاتِ الموصوفةَ في كِتابِهم، كما قال تَعالى فيهم: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ [البقرة: 140] ، وذلك افتراءٌ، وأمَّا المشرِكون فإنَّهم افتَرَوا على اللهِ؛ إذْ قالوا: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [155] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/188). [الأنعام: 91] .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال تعالَى هنا: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ، وقال في سُورةِ (الأنعامِ): وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام: 21] ، وقال فيها: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ [الأنعام: 93] ، وقال في آخِرِ سُورةِ (العَنكبوتِ): وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ [العنكبوت: 68] ، وقال في سُورةِ (الأعرافِ): فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ [الأعراف: 37] ، وقال في سُورةِ (يُونسَ): فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ [يونس: 17] ؛ فاختُصَّ هذا الموضعُ هنا بلَفظِ التَّعريفِ في (الكذِب)، مع أنَّ نَظائرَه في الآيِ المذكورةِ بلَفظِ التَّنكيرِ؛ ووجْهُ ذلك: أنَّ الكذِبَ مَصدرٌ يُسمَّى به الكلامُ المكذوبُ فيه، وهو في قولِه تَعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا على أصْلِه، مَصدرٌ غيرُ مَنقولٍ، والمصدرُ إذا عُرِّفَ قُصِدَ به الجِنسُ. ولأنَّ كَذِبًا بالنَّكرةِ أَكثرُ استعمالًا معَ المصدرِ مِن المعرفةِ. وخُصَّت هذه السُّورةُ بالمعرفةِ؛ لأنَّه إشارةٌ إلى ما تقدَّم مِن قولِ اليهودِ والنَّصارى [156] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 1269-1274)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 236)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/462، 463)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 562). .
- قولُه: وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ جُملةٌ حاليَّةٌ، واسمُ (الإسلامِ) عَلَمٌ للدِّينِ الذي جاء به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ -على قولٍ-، وهو جامِعٌ لِما فيه خَيرُ الدُّنيا والآخرةِ؛ فكان ذِكرُ هذا الاسمِ في الجُملةِ الحاليَّةِ زِيادةً في تَشنيعِ حالِ الَّذين أعْرَضوا عنه، أي: وهو يُدْعى إلى ما فيه خَيرُه، وبذلك حقَّ عليه وَصْفُ (أظْلَم) [157] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/189). .
- وإيقاعُ الإسلامِ مُقابلًا لافتِراءِ الكذبِ إيذانٌ باتِّصالِ قِصَّةِ عِيسى عليه السَّلامُ بقصَّةِ محمَّدٍ صَلواتُ اللهِ عليه، وأنَّ ذِكرَ الإسلامِ كالتَّخلُّصِ مِن القِصَّةِ إلى القِصَّةِ؛ ولذلك ذُيِّلت الآيةُ بقولِه: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، كأنَّه قيل: قد عُلِمَ ظُلْمُ أولئك الكفرةِ برُوحِ اللهِ، وما أرادوا به مِن المكْرِ والكَيدِ، وعُرِفَ أنَّ اللهَ ما هَداهم إلى ما أرادوا، بلْ خَذَلَهم اللهُ ونَصَرَ أولياءَه، كما قال تَعالى: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [الصف: 14] ، فما ظُلْمُ هؤلاء الكفرةِ لحَبيبِ اللهِ؟ وما مَكْرُهم به؟ وكيف يَفعَلُ اللهُ به وبهم؟ قِيل: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ إلى آخِرِ الآيتينِ [158] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/389). .
- وجُملةُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ تَذييلٌ للآيةِ، وهو تَقريرٌ لقولِه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ؛ لأنَّ الظُّلمَ وضْعُ الشَّيءِ في غيرِ مَوضعِه، فالمعْنى: وأيُّ النَّاسِ أشدُّ ظُلمًا ممَّن يَدْعوه ربُّه على لِسانِ نَبيِّه إلى الإسلامِ، فيَجعَلُ إجابتَه افتراءَ الكذِبِ على اللهِ؟! يعْني: كان جَزاءُ الدَّاعي القَبولَ والتَّصديقَ، فوَضَعوا مَوضِعَه أنْ كذَّبوه، وسمَّوا ما جاء به سِحرًا [159] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/385). !
وهذه الجُملةُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ تأْييسٌ لهم مِن الإقلاعِ عن هذا الظُّلمِ، أي: إنَّ الَّذين بَلَغوا هذا المَبلَغَ مِن الظُّلمِ لا طَمَعَ في صَلاحِهم؛ لتَمكُّنِ الكفْرِ منهم حتَّى خالَطَ سَجاياهم، وتقوَّمَ مع قَوميَّتِهم؛ ولذلك أُقحِمَ لَفظُ (القوم)؛ للدَّلالةِ على أنَّ الظُّلمَ بلَغَ حدَّ أنْ صار مِن مُقوِّماتِ قَوميَّتِهم، وهذا يَعُمُّ المُخبَرَ عنهم وأمثالَهم الَّذين افتَرَوا على عِيسى؛ ففيها معْنى التَّذييلِ [160] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/189). .
2- قولُه تعالَى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ استِئنافٌ بَيانيٌّ ناشئٌ عن الإخبارِ عنهم بأنَّهم افتَرَوا على اللهِ الكذِبَ في حالِ أنَّهم يُدْعَون إلى الإسلامِ؛ لأنَّه يُثيرُ سُؤالَ سائلٍ عمَّا دَعاهم إلى هذا الافتراءِ، فأُجيبَ بأنَّهم يُريدونَ أنْ يُخْفُوا الإسلامَ عن النَّاسِ، ويَعُوقوا انتشارَه [161] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/189). .
- ومُثِّلَث حالتُهم بحالةِ نَفَرٍ يَبتَغون الظَّلامَ للتَّلصُّصِ أو غيرِه ممَّا يُرادُ فيه الاختفاءُ، فلاحَتْ لهم ذُبالةُ [162] الذُّبَالةُ: الفَتِيلةُ. يُنظر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 112). مِصباحٍ تُضِيءُ للنَّاسِ، فكَرِهوا ذلك وخَشُوا أنْ يُشَعَّ نُورُه على النَّاسِ فتَفْتضِحَ تُرَّهاتُهم، فعَمَدوا إلى إطفائِه بالنَّفخِ عليه فلمْ يَنطفِئْ، فالكلامُ تَمثيلٌ دالٌّ على حالةِ المُمثَّلِ لهم، والتَّقديرُ: يُريدون عَوقَ ظُهورِ الإسلامِ كمَثَلِ قَومٍ يُريدون إطفاءَ النُّورِ، فهذا تَشبيهُ الهيئةِ بالهيئةِ تَشبيهَ المَعقولِ بالمحسوسِ. ثمَّ إنَّ ما تَضمَّنَه مِن المحاسنِ أنَّه قابلٌ لِتَفرقةِ التَّشبيهِ على أجزاءِ الهَيئةِ؛ فاليهودُ في حالِ إرادتِهم عَوقَ الإسلامِ عن الظُّهورِ مُشبَّهون بقَومٍ يُريدون إطفاءَ نُورِ الإسلامِ، فشُبِّهَ بمِصباحٍ، والمشرِكون مِثلُهم، ووَصْفهم القرآنَ بأنَّه سِحرٌ ونحْوِ ذلك مِن تَمْويهاتِهم، فشُبِّهَ بنفْخِ النَّافِخينَ على المِصباحِ؛ فكان لذِكرِ بِأَفْوَاهِهِمْ وقْعٌ عَظيمٌ في هذا التَّمثيلِ؛ لأنَّ الإطفاءَ قدْ يكونُ بغَيرِ الأفواهِ مِثل المروحةِ والكِيرِ، وهمْ أرادوا إبطالَ آياتِ القرآنِ بزعْمِ أنَّها مِن أقوالِ السِّحرِ [163] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/525)، ((تفسير أبي السعود)) (8/244)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/189، 190)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/85). .
- قولُه: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ اللَّامُ مِن قولِه: لِيُطْفِئُوا تُسمَّى اللَّامَ الزائدةَ، وتُفيدُ التَّأكيدَ، وأصْلُها لامُ التَّعليلِ، ذُكِرَت عِلَّةُ فِعلِ الإرادةِ عِوَضًا عن مَفعولِه بتَنزيلِ المفعولِ مَنزلةَ العِلَّةِ، والتَّقديرُ: يُريدون إطفاءَ نُورِ اللهِ ليُطْفِئوا. ويَكثُرُ وُقوعُ هذه اللَّامِ بعْدَ مادَّةِ الإرادةِ ومادَّةِ الأمْرِ [164] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/525)، ((تفسير البيضاوي)) (5/209)، ((تفسير أبي حيان)) (10/166)، ((تفسير أبي السعود)) (8/244)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/190)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/85). .
- وإضافةُ نُورَ إلى اسمِ الجلالةِ (الله) إضافةُ تَشريفٍ [165] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/190). .
- وإطفاءُ نُورِ اللهِ بأفواهِهم تَهكُّمٌ بهم في إرادتِهم إبطالَ الإسلامِ بقولِهم في القُرآنِ: هذا سِحرٌ، مُثِّلَت حالُهم بحالِ مَن يَنفُخُ في نُورِ الشَّمسِ بفِيهِ ليُطفِئَه [166] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/525)، ((تفسير أبي السعود)) (8/244)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/85). .
- وجُملةُ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ مَعطوفةٌ على جُملةِ يُرِيدُونَ، وهي إخبارٌ بأنَّهم لا يَبلُغون مُرادَهم، وأنَّ هذا الدِّينَ سيَتِمُّ، أي: يَبلُغُ تَمامَ الانتشارِ. والجُملةُ الاسميَّةُ تُفيدُ ثُبوتَ هذا الإتمامِ [167] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/190). .
- وجُملةُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ حاليَّةٌ، و(لو) وصْليَّةٌ، وهي تدُلُّ على أنَّ مَضمونَ شَرْطِها أجدَرُ ما يُظَنُّ ألَّا يَحصُلَ عندَ حُصولِه مَضمونُ الجوابِ، والمعْنى: واللهُ مُتِمُّ نُورِه على فرْضِ كَراهةِ الكافِرينَ، ولَمَّا كانت كَراهةُ الكافِرينَ إتمامَ هذا النُّورِ مُحقَّقةً، كان سِياقُها في صُورةِ الأمْرِ المفروضِ تَهكُّمًا [168] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/191). .
- وشَمِل لَفظُ الْكَافِرُونَ جَميعَ الكافِرينَ بالإسلامِ مِن المشركينَ وأهلِ الكتابِ وغَيرِهم، ولكنْ غلَبَ اصطلاحُ القُرآنِ على تَخصيصِ وصْفِ الكافرينَ بأهلِ الكِتابِ ومُقابَلتِهم بالمشركينَ أو الظَّالِمين، ويتَّجِهُ على هذا أنْ يكونَ الاهتمامُ بذِكرِ الكافرينَ بعْدَ (لو) الوصْليَّةِ؛ لأنَّ المقامَ لإبطالِ مُرادهِم إطفاءَ نُورِ اللهِ، فإتمامُ اللهِ نُورَه إبطالٌ لمُرادِهم إطفاءَهُ، وسيَرِدُ بعْدَ هذا ما يُبطِلُ مُرادَ غَيرِهم مِن المُعانِدين، وهم المشرِكون [169] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/191). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قالَ هنا: وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، وقال بعْدَه: وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ؛ وذلك لأنَّهم أنْكَروا الرَّسولَ، وما أُنزِلَ إليه -وهو الكِتابُ-، وذلك مِن نِعَمِ اللهِ، والكافِرون كلُّهم في كُفرانِ النِّعَمِ سواءٌ، فلهذا قال: وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، ولأنَّ لَفظَ (الكافر) أعمُّ مِن لَفظِ (المشرِك)، والمرادُ مِن الكافرينَ هاهنا: اليهودُ والنَّصارى والمشرِكون، وهنا ذَكَر النُّورَ وإطفاءَه، واللَّائقُ به الكُفْرُ؛ لأنَّه السَّترُ والتَّغطيةُ؛ لأنَّ مَن يُحاوِلُ الإطفاءَ إنَّما يُريدُ الزَّوالَ. وفي الآيةِ الثَّانيةِ ذَكَرَ الرَّسولَ والإرسالَ ودِينَ الحقِّ، وذلك مَنزلةٌ عَظيمةٌ للرَّسولِ عليه السَّلامُ، وهي اعتراضٌ على اللهِ تَعالى، والاعتراضُ قَريبٌ مِن الشِّركِ، ولأنَّ الحاسِدينَ للرَّسولِ عليه السَّلامُ كان أكثَرُهم مِن قُريشٍ، وهم المشرِكون، ولَمَّا كان النُّورُ أعمَّ مِن الدِّينِ والرَّسولِ، لا جَرَمَ قابَلَه بالكافِرين الَّذين همْ جَميعُ مُخالِفي الإسلامِ، ولَمَّا كان الرَّسولُ والدِّينُ أخصَّ مِن النُّورِ، قابَلَه بالمشْركين الَّذين همْ أخصُّ مِن الكافرينَ [170] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/530). .
3- قولُه تعالَى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ زِيادةُ تَحدٍّ للمشرِكين وأحلافِهم مِن أهلِ الكِتابِ، فيه تَقويةٌ لمَضمونِ قولِه: وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف: 8] ، وفيه معْنى التَّعليلِ للجُملةِ الَّتي قبْلَه؛ فقدْ أفاد تَعريفُ الجُزأينِ في قولِه: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ قصْرًا إضافيًّا [171] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144]. والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زَيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ؛ لقلْبِ زعْمِ الكافِرين أنَّ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أتى مِن قِبَلِ نفْسِه، أي: اللهُ لا غَيرُه أرسَلَ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالهُدى ودِينِ الحقِّ، وإنَّ شيئًا تَولَّى اللهُ فِعلَه لا يَستطيعُ أحدٌ أنْ يُزِيلَه [172] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/192). .
- والتَّعريفُ في قولِه: الدِّينِ تَعريفُ الجِنسِ المُفيدُ للاستِغراقِ، أي: ليُعلِيَ هذا الدِّينَ الحقَّ على جَميعِ الأديانِ، ويَنصُرَ أهْلَه على أهلِ الأديانِ الأُخرَى الَّذين يَتعرَّضون لأهلِ الإسلامِ [173] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/192). .
- وخُصَّ المُشرِكون بالذِّكرِ هنا؛ إتمامًا للَّذين يَكرَهون إتمامَ هذا النُّورِ، وظُهورَ هذا الدِّينِ على جَميعِ الأديانِ، ولِيُعلَمَ أنَّ غيرَ المشركين يَكرَهون ظُهورَ هذا الدِّينِ؛ لأنَّهم أرادوا إطفاءَ نُورِ الدِّينِ؛ لأنَّهم يَكرَهون ظُهورَ هذا الدِّينِ، فحصَلَ في الكلامِ احتِباكٌ [174] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/193). الاحتِباك: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحَذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القرآنِ وعناصِر إعجازِه، وهو مِن ألْطَفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). .