موسوعة التفسير

سورةُ الصَّافَّاتِ
الآيات (171-182)

ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى مُبشِّرًا المؤمنِينَ بنَصرِه، ومُسلِّيًا نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عمَّا أصابَه مِن أعدائِه: ولقدْ سَبَق قَضاؤُنا لِرُسُلِنا بأنَّهم هم المنصورونَ، وأنَّ العاقِبةَ لهم، وأنَّ حِزبَنا هم الغالِبونَ؛ فأعرِضْ عن أولئك الكافِرينَ -يا مُحمَّدُ- إلى مُدَّةٍ معلومةٍ عندَ اللَّهِ سبحانَه، وأبصِرْهم -يا مُحمَّدُ- فسوف يُبصِرونَ ما يَحُلُّ بهم، أفيَستَعجِلُ أولئك المجرِمونَ بعَذابِنا؟!
فإذا نزَلَ العَذابُ بفِنائِهم، فساءَ صَباحُ أولئك الذين أنذَرَهم رُسُلُنا فأعرَضوا عنه، ودَعْهم -يا محمَّدُ- إلى مُدَّةٍ معلومةٍ عندَ اللَّهِ سبحانَه، وأبصِرْ -يا مُحمَّدُ- فسوف يَرَونَ ما يَحُلُّ بهم جزاءَ كُفرِهم، تنزَّهَ ربُّك رَبُّ العِزَّةِ عمَّا يَصِفُه به أولئك الكُفَّارُ، وسَلامٌ مِنَ اللهِ على المُرسَلينَ، والحَمدُ للهِ رَبِّ العالَمينَ.

تَفسيرُ الآياتِ:

وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالَى لَمَّا هدَّدَ الكُفَّارَ بقَولِه: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ -أي: عاقِبةَ كُفرِهم-؛ أردَفَه بما يُقوِّي قَلبَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ [1121] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/363). .
وأيضًا فهو تَسليةٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على ما تضَمَّنَه قَولُه: فَكَفَرُوا بِهِ [الصافات:170] ، وبيانٌ لِبَعضِ الوَعيدِ الذي في قَولِه: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الصافات:170] ، بمنزلةِ بدَلِ البَعضِ مِن الكُلِّ، ولكِنَّه غُلِّبَ عليه [1122] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/194). .
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171).
أي: ولقدْ تَقدَّمَ منَّا القَولُ والقَضاءُ والوَعْدُ لِرُسُلِنا [1123] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/657)، ((الوسيط)) للواحدي (3/535)، ((تفسير ابن عطية)) (4/489)، ((تفسير ابن كثير)) (7/45). قيل: المرادُ بالكَلِمةِ: قَولُه تعالَى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: 21] . وممَّن ذهَب إلى هذا القَولِ: مقاتل بن سليمان، والثعلبيُّ، والبغويُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/623)، ((تفسير الثعلبي)) (8/173)، ((تفسير البغوي)) (4/50). وقيل: المرادُ بها ما ورَد في الآيتَينِ بَعدَها: إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات: 172، 173]. وممَّن قال بهذا القول: البقاعيُّ، والشوكانيُّ، والألوسي، وابن عاشور. يُنظر: ((نظم الدرر)) (16/314)، ((تفسير الشوكاني)) (4/477)، ((تفسير الألوسي)) (12/148)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/195). وقيل: المعنى: مضَى القَضاءُ والحُكمُ في أمِّ الكِتابِ، بأنَّ لهم النُّصرةَ والغَلَبةَ والعاقِبةَ. وممَّن ذهَب إلى هذا المعنى في الجُملةِ: ابن جَرير، وابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/657)، ((تفسير ابن كثير)) (7/45)، ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 354-355). قال ابن عثيمين: (المرادُ بالعبادِ هنا العبوديةُ الخاصةُ، بل أخصُّ الخاصةِ، وهي عبوديةُ الرسالةِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 354). .
إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172).
أي: بأنَّهم هُم الَّذينَ يَنصرُهم اللهُ في الدُّنيا والآخِرةِ، وأنَّ العاقِبةَ تَكونُ لهم [1124] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/657)، ((معاني القرآن)) للزجاج (4/316)، ((تفسير القرطبي)) (15/139)، ((تفسير ابن كثير)) (7/45)، ((تفسير السعدي)) (ص: 709)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/321). قال الزَّمخشريُّ: (المرادُ: المَوعِدُ بعُلُوِّهم على عَدُوِّهم في مَقاوِمِ الحِجاجِ وملاحِمِ القِتالِ في الدُّنيا، وعلوِّهم عليهم في الآخرةِ، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [البقرة: 212]). ((تفسير الزمخشري)) (4/67). ويُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/477). .
كما قال تعالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم: 47] .
وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [غافر: 51] .
وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173).
أي: وإنَّ حِزبَنا المُؤمِنينَ المُدافِعينَ عن دِينِ رَبِّ العالَمينَ، هُمْ أصحابُ الغَلبةِ والظَّفَرِ على الكافِرينَ [1125] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/658)، ((تفسير ابن كثير)) (7/45)، ((تفسير السعدي)) (ص: 709)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 356-357). قيل: المرادُ بالجُندِ: المُرسَلونَ وأتْباعُهم. وممَّن قال بذلك في الجُملةِ: البقاعي، وأبو السعود، والشوكاني، والألوسي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/314)، ((تفسير أبي السعود)) (7/211)، ((تفسير الشوكاني)) (4/477)، ((تفسير الألوسي)) (12/148). وقيل: يَعْني حِزْبنا المؤمنين وأهلَ ولايتِنا، وممَّن قال بذلك في الجُملة: مقاتل بن سليمان، وابنُ جَرير، وابن الجوزي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/623)، ((تفسير ابن جرير)) (19/658)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/555). .
كما قال اللهُ تعالَى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة: 21] .
وقال سُبحانَه: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور: 55] .
وقال اللهُ عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد: 7] .
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ثَبَت لا محالةَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو المنصورُ؛ لأنَّه مِن المُرسَلينَ ومِن جُندِ اللهِ، بل هو أعلاهم؛ سَبَّبَ عن ذلك قَولَه [1126] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/315). :
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174).
أي: فأعرِضْ -يا مُحمَّدُ- عن الذين كَفَروا إلى مُدَّةٍ معلومةٍ عندَ اللَّهِ سبحانَه [1127] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/658، 659)، ((معاني القرآن)) للزجاج (4/316)، ((تفسير السمعاني)) (4/421)، ((تفسير ابن كثير)) (7/45)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/315)، ((تفسير الشوكاني)) (4/477)، ((تفسير الإيجي)) (3/463)، ((تفسير السعدي)) (ص: 709). قال الشوكانيُّ: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ أي: أعرِضْ عنهم إلى مُدَّةٍ معلومةٍ عندَ اللَّهِ سبحانَه، وهي مُدَّةُ الكفِّ عن القِتالِ. قالَ السُّدِّيُّ ومجاهِدٌ: حتَّى نأمُرَكَ بالقِتالِ. وقالَ قتادَةُ: إلى الموتِ. وقيلَ: إلى يومِ بَدرٍ، وقيلَ: إلى يومِ فتحِ مَكَّةَ. وقيلَ: هذه الآيةُ منسوخَةٌ بآيةِ السَّيفِ). ((تفسير الشوكاني)) (4/477). وممن اختار أنَّ المرادَ: إلى يومِ بدرٍ: مقاتل بن سليمان، وابن جرير، والبيضاوي، وابن جزي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/623)، ((تفسير ابن جرير)) (19/658، 659)، ((تفسير البيضاوي)) (5/21)، ((تفسير ابن جزي)) (2/200). وقال السعديُّ: (أمَرَ رَسولَه بالإعراضِ عمَّن عانَدوا، ولم يَقبَلوا الحَقَّ، وأنَّه ما بَقِيَ إلَّا انتِظارُ ما يَحُلُّ بهم مِنَ العَذابِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 709). ويُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/155). وممن اختار أنَّ المرادَ: مدةُ الكفِّ عن القتالِ: الزمخشري، وأبو حيان، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/68)، ((تفسير أبي حيان)) (9/131)، ((تفسير الشوكاني)) (4/477). وقال العليمي: (حَتَّى حِينٍ أي: حين نأمرُكَ بقتالِهم، فالآيةُ محكمةٌ). ((تفسير العليمي)) (5/556). وقال السمعاني: (حَتَّى حِينٍ أي: حينِ الموتِ). ((تفسير السمعاني)) (4/421). .
كما قال تعالَى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ [السجدة: 30] .
وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175).
أي: وأبصِرْهم -يا مُحمَّدُ- فسوف يُبصِرونَ ما يَحُلُّ بهم؛ جزاءَ كُفرِهم [1128] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/659)، ((تفسير الثعلبي)) (8/173)، ((الهداية)) لمكي (9/6180)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 917)، ((تفسير ابن كثير)) (7/45)، ((تفسير الشوكاني)) (4/477)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/196). قيل: المرادُ بـ وَأَبْصِرْهُمْ انظُرْ إليهم إذا عُذِّبوا. وممَّن قال بهذا المعنى: الواحديُّ، وابنُ الجوزي، وابنُ عُثَيمين. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 917)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/556)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 361). قال مقاتل: (وَأَبْصِرْهُمْ إذا نزَل بهم العذابُ ببدرٍ). ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/623). وقال ابنُ عاشور: (وليسَ المرادُ النَّظَرَ إلى ذواتِهم لكِنْ إلى أحوالِهم، أي: تأمَّلْ أحوالَهم تَرَ كيفَ ننصرُك عليهم، وهذا وَعيدٌ بما حَلَّ بهم يومَ بدْرٍ). ((تفسير ابن عاشور)) (23/196). وقيل: المرادُ: أنظِرْهم، وارتَقِبْ ماذا يحُلُّ بهم مِنَ العذابِ والنَّكالِ على مُخالفَتِك وتَكذيبِك. وممَّن قال بهذا المعنى في الجملة: مكي، وابن كثير. يُنظر: ((الهداية الى بلوغ النهاية)) لمكي (9/6180)، ((تفسير ابن كثير)) (7/45). وقيل: المعنى: وأبصِرْهم ببَصَرِك وبَصيرتِك عِندَ الحِينِ الذي ضرَبْناه لك وقَبلَه، كيف تُؤدِّيهم أحوالُهم وتقَلُّباتُهم كُلَّما تقَلَّبوا إلى سُفولٍ. قاله البقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/315). .
أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176).
أي: أفيَطلُبُ المُشرِكونَ أن يُعَجَّلَ لهم عَذابُ اللهِ، فيَأتيَهم قبْلَ أوانِه الذي ضُرِبَ لهم [1129] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/660)، ((تفسير القرطبي)) (15/140)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/316). ؟!
كما قال تعالَى: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ [النمل: 71، 72].
وقال عزَّ وجَلَّ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [العنكبوت: 53].
وقال سُبحانَه: وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [1130] معنَى عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا: أي: نصيبَنا المقدَّرَ لنا مِن العذابِ الَّذي تزعُمُ وُقوعَه بنا إنْ لم نُصَدِّقْكَ ونُؤْمِنْ بك. يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/304). [ص: 16] .
فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177).
أي: فإذا نزَلَ العَذابُ بفِناءِ أولئك المُستَعجِلينَ به، فما أسوَأَه مِن صَباحٍ هذا الذي يَحُلُّ فيه العَذابُ على مَن أنذَرَهم رَسولُهم، فأعرَضوا عنه ولم يلتَفِتوا إلى إنذارِه [1131] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/660)، ((تفسير القرطبي)) (15/140)، ((تفسير ابن كثير)) (7/45)، ((تفسير السعدي)) (ص: 709)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/197)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 363-364). !
عن أَنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أتَى خيبَرَ ليلًا، وكان إذا أتَى قَومًا بلَيلٍ لم يُغِرْ [1132] مِن الإغارةِ، وهي الهُجومُ على العَدوِّ على وجْهِ الغَفلةِ، أو: تبييتُ العَدوِّ ليلًا. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن رجب (5/231)، ((عمدة القاري)) للعيني (6/265). بهم حتى يُصبِحَ، فلمَّا أصبَحَ خَرَجت اليَهودُ بمَسَاحِيهم [1133] المَسَاحي: جمْع مِسْحاة، وهي المِجرَفةُ مِن الحَديدِ، وهي مِن آلاتِ الحرْثِ. يُنظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (2/349). ((فتح الباري)) لابن حجر (7/468). ومَكاتِلِهم [1134] المَكاتِل: جمْع مِكْتَل، وهو الزِّنْبيلُ -وهو ما يُعمَلُ مِن الْخُوصِ- والقُفَّةُ الكَبيرةُ التي يُحْمَلُ فيها التَّمْرُ وغَيْرُه. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (9/224)، ((المصباح المنير)) للفيومي (2/525)، ((فتح الباري)) لابن حجر (7/468). ، فلمَّا رأَوْه قالوا: محمَّدٌ واللهِ، محمَّدٌ والخَميسُ [1135] الخميس: الجيشُ؛ قيل: سُمِّيَ خميسًا لأنَّه خمسةُ أقسامٍ: مُقدِّمة، وساقة، ومَيْمنة، ومَيْسرة، وقلْب. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (9/219). ! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: خَرِبَت خَيبرُ، إنَّا إذا نزَلْنا بساحةِ قَومٍ فساءَ صَباحُ المُنذَرينَ )) [1136] رواه البخاري (4197) واللَّفظُ له، ومُسلِمٌ (1365). .
وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178).
أي: وأعرضْ -يا مُحمَّدُ- عنهم إلى مُدَّةٍ معلومةٍ عندَ اللَّهِ سبحانَه [1137] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/660)، ((تفسير السمعاني)) (4/421)، ((تفسير ابن كثير)) (7/46)، ((تفسير الشوكاني)) (4/477)، ((تفسير السعدي)) (ص: 709). .
وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179).
أي: وأبصِرْ -يا مُحمَّدُ- فسوفَ يَرَونَ ما يَحُلُّ بهم؛ جَزاءَ كُفرِهم [1138] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/660)، ((تفسير الثعلبي)) (8/173)، ((الهداية)) لمكي (9/6180)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 917)، ((تفسير ابن كثير)) (7/45، 46)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/196). قال الشوكاني: (حَذْفُ مفعولِ «أَبْصِرْ» هاهنا وذِكرُه أوَّلًا؛ إمَّا لدَلالةِ الأوَّلِ عليه، فتَرَكَه هنا اختِصارًا، أو قَصدًا إلى التَّعميمِ؛ للإيذانِ بأنَّ ما يُبصِرُه من أنواعِ عذابِهم لا يُحيطُ به الوَصفُ. وقيل: هذه الجُملةُ المرادُ بها أحوالُ القِيامةِ، والجُملةُ الأُولى المرادُ بها عذابُهم في الدُّنيا، وعلى هذا فلا يكونُ مِن بابِ التَّأكيدِ، بل مِن بابِ التَّأسيسِ). ((تفسير الشوكاني)) (4/477). ويُنظر: ((تفسير الشربيني)) (3/398). وقيل: المرادُ: أَبصِرْ ما تُريدُ مِن شُؤونِك التي يُهِمُّك النَّظَرُ فيها، وأمَّا هُم فصاروا بحيثُ لا يُبالَى بهم، ولا يُفكَّرُ في أمرِهم، ولا يُلتَفتُ إليهم. وممَّن قال بهذا المعنى: البقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/318). .
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالَى في هذه السُّورةِ كَثيرًا مِن أقوالِ المُشرِكينَ الشَّنيعةِ التي وَصَفوه بها؛ نزَّه نَفسَه عنها، فقال تعالى [1139] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:708). :
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180).
أي: تنَزَّهَ ربُّك -يا مُحمَّدُ- المُختَصُّ بالعِزَّةِ، ذو القُوَّةِ والمَنَعةِ، والغَلَبةِ والقَهرِ، وعَظَمةِ القَدْرِ: عمَّا يَصِفُه به الكُفَّارُ مِن الشَّريكِ والوَلَدِ والصَّاحِبةِ، وغَيرِ ذلك ممَّا يَفتَرونَ مِن أوصافٍ لا تَليقُ باللهِ تعالَى [1140] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/661)، ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (4/405)، ((تفسير ابن كثير)) (7/46)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/319)، ((تفسير القاسمي)) (8/235)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/198، 199)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 366-368). .
كما قال تعالَى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنعام: 100، 101].
وقال سُبحانَه: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [المؤمنون: 91، 92].
وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181).
أي: وسَلامُ اللهِ في الدُّنيا والآخِرةِ علَى رُسُلِه؛ لسَلامةِ ما قالوه عنِ اللهِ تعالَى مِن كُلِّ نقْصٍ وعَيبٍ [1141] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/661)، ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (4/406)، ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 170)، ((تفسير ابن كثير)) (7/46)، ((تفسير القاسمي)) (8/235)، ((تفسير السعدي)) (ص: 709). والمرسَلونَ هنا: قيلَ: هم المُرسَلونَ مِن البَشَرِ إلى أُمَمِهم. وممَّن ذهَب إلى هذا المعنى في الجُملةِ: ابنُ جَرير، والسمعاني، والخازن. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/661)، ((تفسير السمعاني)) (4/422)، ((تفسير الخازن)) (4/30). وقيل: وَصفُ المُرسَلينَ يَشمَلُ الأنبياءَ والملائِكةَ. وممَّن قال بهذا: البقاعي، وابن عاشور. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/320)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/200). .
كما قال تعالَى: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى [النمل: 59].
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182).
أي: وجَميعُ أنواعِ المحامِدِ ثابِتةٌ، ومُختصَّةٌ بالمُدَبِّرِ المالِكِ الخالِقِ لجَميعِ أصنافِ الخلائِقِ [1142] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/662)، ((تفسير القرطبي)) (15/142)، ((تفسير ابن كثير)) (7/46)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/320)، ((تفسير السعدي)) (ص: 709)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 369-370). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قَولُ اللهِ تعالَى: وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ فيه بِشارةٌ عَظيمةٌ لِمَن اتَّصَف بأنَّه مِن جُندِ اللهِ بأنْ كانتْ أحوالُه مُستقيمةً، وقاتَلَ مَن أُمِرَ بقِتالِهم: أنَّه غالِبٌ مَنصورٌ [1143] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:708). .
2- في قَولِه تعالَى: فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ أنَّهم لو آمَنوا في هذا الوَقتِ فلنْ يَنفَعَهم؛ لأنَّه لو نَفَعهم الإيمانُ لم تَصدُقْ عليهم هذه الجُملةُ صِدْقًا كامِلًا؛ لأنَّه لو نَفَعَهم الإيمانُ لزال عنهم هذا السُّوءُ، ولكِنَّ الإيمانَ لنْ يَنفَعَهم، وهذه سُنَّةُ اللهِ عزَّ وجلَّ في عِبادِه: إذا نَزَلَ بهمُ العَذابُ فآمَنوا: ألَّا يَنفَعَهم إيمانُهم؛ قال اللهُ تعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [غافر: 84، 85]، وكلُّ هذا يُوجِبُ للإنسانِ العاقلِ أنْ يُبادِرَ بالتَّوبةِ، وألَّا يتأخَّرَ وألَّا يُهمِلَ؛ لأنَّه لا يَدري متى يُفاجِئُه الموتُ، وإذا نَزَلَ به الموتُ فإنَّه لنْ تَنفَعَه التَّوبةُ، فلا بُدَّ أنْ تكونَ التَّوبةُ في وَقتٍ تُقبَلُ فيه [1144] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 372). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قَولُ اللهِ تعالَى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ *وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ هذه الآياتُ الكَريماتُ تَدُلُّ على أنَّ الرُّسُلَ -صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عليهم- وأتْباعَهم: مَنصورونَ دائِمًا على الأعداءِ بالحُجَّةِ والبَيانِ، ومَن أُمِرَ منهم بالجِهادِ مَنصورٌ أيضًا بالسَّيفِ والسِّنانِ، والآياتُ الدَّالَّةُ على هذا كَثيرةٌ [1145] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/321). ، وفيها تَثبيتُ مَن دعا إلى اللهِ عزَّ وجلَّ مِن أتْباعِ الرُّسُلِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ بأنَّ لهم الغَلَبةَ، كما قال تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [1146] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 370). [المنافقون: 8] .
2- في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ تَهديدُ أعداءِ الرُّسُلِ، وأنَّهم مَخذولون؛ لأنَّه إذا كَتَب النَّصرَ للرَّسولِ فسيكونُ الخِذلانُ لأعدائِهم [1147] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 370). .
3- قال تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ إنْ قيل: هذه الآيةُ تتعلَّقُ بغلبةِ الرُّسلِ ونصرِهم على مَن ناوَأهم، وقد رأيْنا الحربَ بينَهم وبينَ أعدائِهم سجالًا، وفي أُحُدٍ كانت الغلبةُ للمشركينَ، وفي الأنبياءِ مَن قُتِل؟
فالجوابُ من أوجهٍ:
منها: أنَّ الغلبةَ للرُّسلِ ولمن تبِعهم في العاقبةِ، وإن وقَع في غضونِ الأمرِ خلافُ ذلك ابتلاءً وامتحانًا، فمعنى الْمَنْصُورُونَ و(غَالِبُونَ): أي في أكثَرِ الأحوالِ، وباعتبارِ العاقبةِ؛ فلا يُنافي أنَّهم يُغلَبونَ نادِرًا، ثم تكونُ لهم العاقِبةُ، وكفَى بمَشاهِدِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ مَثَلًا يُحتذَى عليها، وعِبَرًا يُعتبَرُ بها
ومنها: أن يقالَ: إنَّ النصرَ المطلقَ هو نصرُ الآخرةِ، أمَّا نصرُ الدنيا فليس بمضمونٍ.
ومنها: أنَّ المرادَ بالنصرِ انتصارُهم بالحجةِ، وظهورُ ما جاؤوا به، لا الغلبةُ الحسيةُ، وقيل غير ذلك [1148] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/67)، ((تفسير الرسعني)) (6/440)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/195)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 357). .
4- في قَولِه تعالى: فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ دَلالةٌ على أنَّه لا يُمكِنُ أنْ يُعَذَّبَ أحَدٌ إلَّا بعدَ إبلاغِه، وهل يَكفي بُلوغُ الحُجَّةِ أو لا بُدَّ مِن فَهْمِ الحُجَّةِ؟ لا بُدَّ مِن فَهمِ الحُجَّةِ؛ ولهذا قال اللهُ تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ [الشعراء: 198، 199]؛ لأنَّهم لا يَفهَمونَه، وإذا لم يُؤمِنوا به لعَدَمِ فَهمِهم فهُم مَعذورونَ، وقال اللهُ تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ [إبراهيم: 4]، أي: بِلُغَتِهم لِيُبَيِّنَ لَهُمْ؛ فلا بُدَّ مِن بَيانِ الحُجَّةِ [1149] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 378). .
5- قال اللهُ تعالَى: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ذَكَر تَنزيهَه لِنَفسِه عمَّا لا يَليقُ بجَلالِه، ثمَّ سَلامَه على رُسُلِه، وفي اقْترانِ السَّلامِ عليهم بتَسبيحِه لنَفْسِه سِرٌّ عظيمٌ مِن أسرارِ القُرآنِ، يَتضَمَّنُ الرَّدَّ على كُلِّ مُبطِلٍ ومُبتَدِعٍ؛ فإنَّه نَزَّهَ نَفسَه تَنزيهًا مُطلَقًا، كما نَزَّهَ نَفسَه عمَّا يَقولُ خَلقُه فيه، ثم سَلَّمَ على المُرسَلينَ، وهذا يَقتَضي سَلامتَهم مِن كلِّ ما يَقولُ المُكَذِّبونَ لهم المُخالِفونَ لهم، وإذا سَلِمُوا مِن كلِّ ما رماهم به أعداؤُهم لَزِمَ سَلامةُ كلِّ ما جاؤُوا به مِن الكَذِبِ والفَسادِ، وأعظَمُ ما جاؤوا به التَّوحيدُ ومَعرِفةُ اللهِ تعالَى، ووَصفُه بما يَليقُ بجلالِه ممَّا وَصَفَ به نَفسَه على ألسِنتِهم، وإذا سَلِمَ ذلك مِن الكَذِبِ والمُحالِ والفَسادِ فهو الحقُّ المَحضُ، وما خالَفَه هو الباطِلُ والكَذِبُ والمُحالُ [1150] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/171). .
6- قال اللهُ تعالَى: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ سبَّح نَفسَه عمَّا يَصِفُه المُفتَرونَ المُشرِكونَ، وسَلَّم على المُرسَلينَ؛ لِسَلامةِ ما قالوه مِن الإفكِ والشِّركِ، وحَمِدَ نفسَه؛ إذْ هو سُبحانَه المُستَحِقُّ للحَمدِ بما له مِن الأسماءِ والصِّفاتِ وبَديعِ المَخلوقاتِ [1151] يُنظر: ((التدمرية)) لابن تيمية (ص: 9-10). .
7- يُستَحَبُّ للدَّاعي أنْ يَقولَ في آخِرِ دُعائِه كما قال أهلُ الجَنَّةِ: وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس: 10] ، وحسُنَ أن يقرأَ آخِرَ الصَّافَّاتِ: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات: 180 - 182] ؛ فإنَّها جمَعَت تنزيهَ البارئِ تعالى عمَّا نُسِبَ إليه، والتَّسليمَ على المُرسَلينَ، والخَتمَ بالحَمدِ للَّهِ ربِّ العالَمينَ [1152] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (8/314). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ استِئنافٌ مُقرِّرٌ للوَعيدِ، وتَصديرُه بالقَسَمِ؛ لغايةِ الاعتِناءِ بتحقيقِ مَضمونِه، أي: وباللهِ لقدْ سبَقَ وَعْدُنا لهم بالنُّصرةِ والغَلَبةِ [1153] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/210)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/321). .
- وهي أيضًا تَسليةٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على ما تَضمَّنَه قَولُه: فَكَفَرُوا بِهِ [الصافات: 170] ، وبيانٌ لبعضِ الوعيدِ الَّذي في قَولِه: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الصافات: 170] ، بمنزلةِ بَدَلِ البعضِ مِنَ الكُلِّ، ولكنَّه غلَبَ عليه جانبُ التَّسليةِ؛ فعُطِفَ بالواوِ عَطْفَ القِصَّةِ على القِصَّةِ [1154] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/194، 195). .
- و(الكَلِمةُ) في قوله: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ مُرادٌ بها الكَلامُ، عُبِّرَ عنِ الكَلامِ بكَلِمةٍ؛ إشارةً إلى أنَّه مُنتظَمٌ في معنًى واحِدٍ دالٍّ على المقصودِ دَلالةً سريعةً، فشُبِّهَ بالكَلِمةِ الواحِدةِ في سُرعةِ الدَّلالةِ، وإيجازِ اللَّفظِ، وبُيِّنَتِ الكَلِمةُ -على قولٍ في التَّفسيرِ- بجُملةِ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، أي: الكَلامِ المُتضمِّنِ وَعْدَهم بأنْ يَنصُرَهمُ اللهُ على الَّذينَ كَذَّبوهم وعادَوْهم، وهذه بِشارةٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَقِبَ تَسليتِه؛ لأنَّه داخِلٌ في عُمومِ المُرسَلينَ [1155] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/21)، ((تفسير أبي حيان)) (9/131)، ((تفسير أبي السعود)) (7/211)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/195). .
- وووَصَفَهم اللهُ بالعُبوديَّةِ قَبْلَ الرِّسالةِ في قولِه: لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، مع أنَّ الرِّسالةَ شَرَفٌ عَظيمٌ؛ لأنَّ كَونَهم عِبادًا للهِ عزَّ وجلَّ أشرَفُ وأعظَمُ [1156] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (9/364). .
- قولُه: لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ لم يُبَيِّنْ مَنِ النَّاصِرُ؛ لِيكونَ هذا أشمَلَ؛ قال اللهُ تعالى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ [1157] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 370). [الأنفال: 62] .
- قَولُه: وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ عطْفٌ على ما قَبْلَه، وفيه بِشارةٌ للمُؤمِنينَ؛ فإنَّ المؤمِنينَ جُندُ اللهِ، أي: أنصارُه؛ لأنَّهم نَصَروا دِينَه، وتَلَقَّوْا كَلامَه [1158] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/195). .
2- قولُه تعالَى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ تَسليةٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وتَنفيسٌ عنه [1159] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/68)، ((تفسير أبي حيان)) (9/131). .
- وقولُه: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ مُفرَّعٌ على التَّسليةِ الَّتي تَضمَّنَها قَولُه: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا [الصافات: 171] . والتَّولِّي حقيقتُه: المُفارَقةُ، واستُعمِلَ هنا للدَّلالةِ على عدَمِ الاهتِمامِ بما يَقولونَه، وتَرْكِ النَّكدِ مِن إعراضِهم [1160] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/195، 196). .
- والحِينُ: الوقتُ، وأُجمِلَ هنا إيماءً إلى تَقليلِه، أي: تَقريبِه؛ فالتَّنكيرُ للتَّحقيرِ المَعنويِّ، وهو التَّقليلُ [1161] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/68)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/196). .
- وقَولُه: وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ تهديدٌ ووَعيدٌ للمُشرِكينَ، كأنَّه قال: أَبصِرْهم على أسوأِ حالٍ، وأفظَعِ نَكالٍ حَلَّ بهم مِنَ القتلِ والأَسْرِ [1162] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 484)، ((تفسير أبي السعود)) (7/211). . وذلك على قولٍ.
- وصِيغةُ الأمرِ في وَأَبْصِرْهُمْ مُستعمَلةٌ في الإرشادِ [1163] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/196). .
- وأيضًا قَولُه: وَأَبْصِرْهُمْ عُبِّر عن ترتُّبِ نُزولِ الوعيدِ بهم بفِعلِ الإبصارِ؛ للدَّلالةِ على أنَّ ما تُوُعِّدوا به واقِعٌ لا مَحالةَ، وأنَّه قريبٌ حتَّى إنَّ المَوعودَ بالنَّصرِ يَتشَوَّفُ إلى حُلولِه، فكان ذلك كِنايةً عن تَحقُّقِه وقُربِه؛ لأنَّ تَحديقَ البَصرِ لا يَكونُ إلَّا إلى شَيءٍ أَشرَفَ على الحُلولِ، أو كأنَّها قُدَّامَ ناظِرَيهِ، والمعنَى: إنَّما أمَرَ اللهُ نبيَّه -صلواتُ اللهُ وسلامُه عليه- بقَولِه: وَأَبْصِرْهُمْ، والمُبصَرُ مُنتظَرٌ بعدُ؛ للدَّلالةِ على أنَّ وعْدَ اللهِ الآتيَ بمَنزلةِ الكائنِ؛ استِحضارًا لتلك الحالةِ الآتيةِ [1164] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/68)، ((تفسير البيضاوي)) (5/21)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/221)، ((تفسير أبي حيان)) (9/131)، ((تفسير أبي السعود)) (7/211)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/196). . وقيل: معناه: انظُرْ إليهم، أي: مِنَ الآنَ، وعُدِّيَ (أَبصِرْ) إلى ضَميرِهمُ الدَّالِّ على ذَواتِهم، وليس المُرادُ النَّظرَ إلى ذَواتِهم، لكنْ إلى أحوالِهم، أي: تأمَّلْ أحوالَهم تَرَ كيف نَنصُرُك عليهم. وحُذِفَ ما يَتعلَّقُ به الإبصارُ مِن حالٍ أو مفعولٍ معه، بتقديرِ: وأَبصِرْهم مأْسُورينَ مَقتولينَ، أو: وأَبصِرْهم وما يُقضَى به عليهم مِن أَسْرٍ وقَتلٍ؛ لدَّلالةِ ما تقدَّمَ مِن قَولِه: إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات: 172، 173] عليه؛ إذ ليس المأمورُ به ذَواتَهم، وهذا مِن دَلالةِ الاقتِضاءِ [1165] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/196). ودَلالةُ الاقتضاءِ: هي دَلالةُ اللَّفظِ على مَقصودٍ محذوفٍ لا بدَّ مِن تَقديرِه؛ لتوقُّفِ الصِّدقِ أو الصِّحةِ عليه. يُنظر: ((إجابة السائل شرح بغية الآمل)) لابن الأمير (ص: 355)، ((مذكرة في أصول الفقه)) للشنقيطي (ص: 283). .
- وتفريعُ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ على وَأَبْصِرْهُمْ تَفريعٌ لإنذارِهم بوَعيدٍ قَريبٍ على بِشارةِ النَّبيِّ بقُربِه؛ فإنَّ ذلك المُبصَرَ يَسُرُّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ويُحزِنُ أعداءَه، ففي الكلامِ اكتِفاءٌ، كأنَّه قيل: أَبصِرْهم وما يَنزِلُ بهم، فسوف تُبصِرُ ما وَعَدْناكَ، ولْيُبْصِروا ما يَنزِلُ بهم فسوف يُبصِرُونَه. وحُذِف مَفعولُ يُبْصِرُونَ؛ لدَلالةِ ما دلَّتْ عليه دَلالةُ الاقتِضاءِ [1166] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/196). .
- قَولُه: وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ أعادَه في قَولِه: وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ [الصافات: 179] ؛ تأكيدًا، أو لأنَّ الأوَّلَ في الدُّنيا، والثانيَ في الآخِرةِ [1167] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 484). .
- وأيضًا قال تعالَى: وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ، وقال بعْدَه: وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ [الصافات: 179] ، فعَدَّى هذا الفِعلَ الأوَّلَ وهو: وَأَبْصِرْهُمْ، وحذَفَ ما تعَدَّى إليه (أَبْصِرْ) في الثَّانيةِ، وكرَّرَ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ؛ وذلك لأنَّ هذا بعْدَما بَشَّرَ اللهُ تعالى به عِبادَه، حيثُ قال: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات: 171 - 173] ، ومعناهُ: إنَّ المُرسَلينَ ومَن تَبِعَهم مِنَ المؤمِنينَ إذا حارَبوا أعداءَ اللهِ بأمرِ اللهِ، فإنَّ اللهَ قدْ حكَمَ لهم بالظَّفَرِ والنَّصْرِ في عاقِبةِ أُمورِهم، وإنْ كان بعْدَ مُدَّةٍ. فقَولُه تعالَى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ [الصافات: 174] ، أيْ: أَعرِضْ عن مُحارَبتِهم إلى الحِينِ الَّذي يَعلَمُ اللهُ أنَّه يُظفِرُك بهم، وَأَبْصِرْهُمْ في الوقتِ الَّذي تُنصَرُ فيه عليهم، فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ قَهْرَكم لهم وذُلَّهم.
فأمَّا حَذْفُ (هُمْ) في (أَبْصِرْ) الثَّانيةِ؛ فلِذِكْرِها في الأُولى، ولأنَّ هناك معانيَ أُخرى تَنضَمُّ إلى ذِكرِهم، فيُترَكُ ذِكرُ المفعولِ ليَشرعَ الفِعلُ إلى تلك المعاني كلِّها، ويَبينُ ذلك في الجوابِ عن فائدةِ تَكرارِ العامِلِ، وهي أنَّ قَولَه: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ [الصافات: 174] إنَّما يُرادُ به الحِينُ فى الدُّنيا، وهو الوقتُ الَّذي يُنصَرُ فيه المُسلِمونَ عليهم ويُقهَرونَ بأيدِيهم.
وقولُه ثانيًا: وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ [الصافات: 178، 179]، أي: بعْدَ أنْ تُنصَرَ عليهم، فيَهلِكوا في الدُّنيا، تَوقَّعْ ما يَحُلُّ بهم في الأُخرى، وَأَبْصِرْهُمْ هناك وأنواعَ العَذابِ الَّتي تُصَبُّ عليهم، وعمَلَ النَّارِ فيهم، ثمَّ ما لهم فيها مِنَ البقاءِ والخُلودِ، ومع تَبديلِ الجُلودِ وسائرِ ما أعَدَّ اللهُ تعالى للكفَّارِ في عذابِ النَّارِ، فقَولُه: وَأَبْصِرْ مُودَعٌ فيه كلُّ ذلك: فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ تهديدٌ لهم، أي: سوف يَلْقَوْنَ ما أَوعَدَ اللهُ به أهلَ معصيتِه مِن أليمِ عُقوبتِه [1168] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 1096-1099)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 215)، ((ملاك التأويل)) للغرناطي (2/412، 413)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/397)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 484). . وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
3- قولُه تعالَى: أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ
- تَفريعٌ على التَّأجيلِ المذكورِ في قَولِه: حَتَّى حِينٍ [الصافات: 174] ؛ فإنَّ ذلك لَمَّا أنذَرَهم بعَذابٍ يَحُلُّ بهم تُوُقِّعَ أنَّهم سيَقولونَ على سَبيلِ الاستِهزاءٍ: أَرِنا العَذابَ الَّذي تُخَوِّفُنا به، وعَجِّلْهُ لنا. أو أنَّهم قالُوه، فلُوحِظَ ذلك، وفُرِّع عليه استِفهامٌ تعجُّبيٌّ مِنَ استِعجالِهم ما في تأخيرِه والنَّظرةِ به؛ رأفةً بهم، واستِبقاءً لهم حينًا [1169] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/197). .
- والاستِفهامُ في قَولِه: أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ استِفهامُ تَوبيخٍ [1170] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/131). ، أو للتَّهديدِ والوعيدِ [1171] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/323). .
4- قولُه تعالَى: فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ
- الفاء في قَولِه: فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ ... فاءُ الفَصيحةِ، أي: إنْ كانوا يَستعجِلونَ بالعَذابِ، فإذا نزَلَ بهم فبئسَ وقتُ نُزولِه [1172] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/197). .
- وفي قَولِه: فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ مُثِّلَ العَذابُ النَّازِلُ بهم بعْدَ ما أُنذِرُوه فأَنكَرُوه، بجَيشٍ أَنذَرَ بهُجومِه قَومَه بعضُ نُصَّاحِهم، فلمْ يَلتَفِتوا إلى إنذارِه، ولا أخَذوا أُهْبَتَهم، ولا دَبَّروا أمْرَهم تدبيرًا يُنجِيهم، حتَّى أناخَ بفِنائِهم بَغْتةً، فشَنَّ علَيهمُ الغارةَ وقطَعَ دابِرَهم. وما فَصُحَتْ هذه الآيةُ، ولا كانتْ لها الرَّوعةُ الَّتي تُحِسُّ بها، ويَروقُك مَورِدُها على نفْسِك وطبعِكَ إلَّا لمَجيئِها على طريقةِ التَّمثيلِ [1173] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/68)، ((تفسير البيضاوي)) (5/21)، ((تفسير أبي حيان)) (9/131)، ((تفسير أبي السعود)) (7/211)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/197)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/324). .
- قَولهُ: نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ أي: غلَبَ عليها؛ لأنَّ ذلك شأنُ النَّازِلِ بالشَّيءِ مِن غيرِ إذنِ صاحِبِه، ولا يَغلِبُ عليها إلَّا وقد غلَبَ على أهلِها فبرَكَ عليهم بُروكًا لا يَقدِرونَ معه على البُروزِ إلى تلك السَّاحةِ، وهي الفِناءُ الخالي عن الأبنيةِ كأنَّه مُتحدَّثُ القَومِ، ومَوضِعُ راحتِهم، في أيِّ وقتٍ كان بُروكُه مِن لَيلٍ أو نَهارٍ [1174] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/316). .
- وخَصَّص الصَّباحَ بالذِّكرِ؛ لأنَّه كان مِن عادةِ العَربِ الإغارةُ في الصَّباحِ؛ فسُمِّيَتِ الغارةُ صباحًا؛ لأنَّها تقَعُ فيه عادةً، ولأنَّه مِن عَلائقِ الهَيئةِ المُشَبَّهِ بها؛ فإنَّ شأنَ الغارةِ أنْ تَكونَ في الصَّباحِ؛ ولذلك كان نذيرُ المَجيءِ بغارةِ عَدُوٍّ يُنادي: يا صَباحاهْ! نِداءَ نُدبةٍ وتَفجُّعٍ؛ ولذلك جعَلَ جوابَ (إذا) قَولَه: فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ، أي: بِئسَ الصَّباحُ صَباحُهم؛ ولهذا استَفصَحَ العربُ هذه الآيةَ [1175] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/68)، ((تفسير البيضاوي)) (5/21)، ((تفسير أبي حيان)) (9/131)، ((تفسير أبي السعود)) (7/211)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/197)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/325). .
- وفي وَصْفِهم بالمُنذَرينَ تَرشيحٌ للتَّمثيلِ [1176] التَّرشيح: هو أنْ يُذكَرَ شَيءٌ يلائمُ المشبَّهَ به إنْ كان في الكلام تَشبيهٌ، كما في قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: ((أسْرَعُكنَّ لُحوقًا بي أطْوَلُكنَّ يدًا)) [البخاري (1420) ومسلم (2452)]؛ فإنَّ ((أطولكنَّ)) تَرْشيحٌ لليدِ، وهو تَعبيرٌ عن النِّعمة. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 385)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 302)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 272). ، وتَوريةٌ في اللَّفظِ؛ لأنَّ المُشبَّهينَ مُنذَرونَ مِنَ اللهِ بالعَذابِ، والَّذينَ يَسوءُ صَباحُهم عِندَ الغارةِ هُمُ المَهزومونَ، فكأنَّه قيل: فإذا نُزِلَ بساحَتِهم كانوا مَغلوبِينَ. وهذا التَّمثيلُ قابِلٌ لتَفريقِ أجزائِه في التَّشبيهِ؛ بأنْ يُشَبَّهَ العَذابُ بالجَيشِ، وحُلولُه بهم بنُزولِ الجَيشِ بساحةِ قَومٍ، وما يَلحَقُهم مِن ضُرِّ العَذابِ بضُرِّ الهزيمةِ، ووقتُ نُزولِ العَذابِ بهم بتَصبيحِ العَدُوِّ مَحلَّةَ قَومٍ [1177] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/197). .
- وأيضًا في اختيارِ هذا التَّمثيلِ البَديعِ معنًى بديعٌ؛ مِن إيماءٍ إلى أنَّ العَذابَ الَّذي وُعِدوه هو -على قولٍ- ما أصابَهم يَومَ بَدرٍ مِن قتلٍ وأَسْرٍ على طريقةِ التَّوريةِ [1178] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/198). .
- وقَولُه: فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ أقام فيه الظاهرَ مقامَ المُضْمَرِ، ومُقتضَى السِّياقِ أنْ يَقولَ: «فإذا نَزَلَ بساحتِهم فساءَ صباحُهم»! لكنَّه قال: فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ فأقام الظاهرَ مقامَ المُضْمَرِ، وهنا إقامةُ الظاهرِ مقامَ المُضْمَرِ له فائدةٌ لفظيةٌ ومعنويةٌ، فاللفظيةُ هي: مراعاةُ فواصِلِ الآياتِ، أمَّا المعنويةُ فهي التَّعميمُ، وانطباقُ الوَصفِ عليهم، وإقامةُ الحُجَّةِ على هؤلاء الذين نَزَل العذابُ بساحتِهم؛ وهي أنَّهم قد أُنْذِروا ولم يكُن لهم عُذْرٌ، واستحقُّوا العَذابَ بعَدْلِ اللهِ عزَّ وجلَّ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ [1179] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 364). .
5- قولُه تعالَى: وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ
- قَولُه: وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ عطْفٌ على جُملةِ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ الآيةَ [الصافات: 177]؛ لأنَّ معنَى المَعطوفِ عليها: الوعدُ بأنَّ اللهَ سيَنتقِمُ منهم، فعطَفَ عليه أمْرَه رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بألَّا يَهتَمَّ بعِنادِهم، وهذه نَظيرُ الَّتي سبَقَتْها المُفرَّعةِ بالفاءِ؛ فلذلك يَحصُلُ منها تأكيدُ نَظيرتِها، على أنَّه قد يَكونُ هذا التَّولِّي غيْرَ الأوَّلِ، وإلى حِينٍ آخَرَ وإبصارٍ آخَرَ، فالظَّاهِرُ أنَّه تَوَلٍّ عمَّن يَبقَى مِنَ المُشركينَ بعْدَ حُلولِ العَذابِ الَّذي استُعجِلوهُ، فيَحتمِلُ أنْ يَكونَ حينًا مِن أوقاتِ الدُّنيا، فهو إنذارٌ بفتحِ مكَّةَ، ويَحتمِلُ أنْ يَكونَ إلى حِينٍ مِن أحيانِ الآخِرةِ، وإنَّما جُعِل ذلك غايةً لتَولِّي النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عنهم؛ لأنَّ تَوليةَ العَذابِ عنهم غايةٌ لتَولِّي النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عنهم؛ لأنَّ تَولِّيَه عنهم مُستمِرٌّ إلى يَومِ القِيامةِ؛ فإنَّ مُدَّةَ لَحاقِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالرَّفيقِ الأعْلى لَمَّا كانتْ مُتَّصِلةً بتَولِّيهِ عنهم جُعِلَتْ تلك المُدَّةُ كأنَّها ظَرفٌ للتَّولِّي يَنتهي بحِينِ إحضارِهم للعِقابِ، فيَكونُ قَولُه: حَتَّى حِينٍ مُرادًا به الأبدُ [1180] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/198). .
- وكَرَّر الأمرَ بالتَّولِّي؛ تأنيسًا له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ولِيَكونَ ذلك تَسليةً على تَسليةٍ، وتأكيدًا لوُقوعِ الميعادِ إلى تأكيدٍ [1181] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/68، 69)، ((تفسير البيضاوي)) (5/21)، ((تفسير أبي حيان)) (9/131)، ((تفسير أبي السعود)) (7/211). .
6- قولُه تعالَى: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الخِطابُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، تَذييلًا لخِطابِه المُبتدَأِ بقَولِه: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ الآيةَ [الصافات: 149] ؛ فإنَّه خُلاصةٌ جامِعةٌ لِما حَوَتْه مِن تَنزيهِ اللهِ، وتأييدِه رُسُلَه. وهذه الآيةُ فَذْلَكةٌ [1182] الفَذْلكة: مِن فَذْلَكَ حِسابَه فَذْلَكَةً، أي: أَنْهاهُ وفَرَغَ مِنْه، وذكَر مُجمَلَ ما فُصِّل أولًا وخُلاصتَه. و(الفَذْلكةُ كَلِمةٌ منحوتةٌ كـ (البَسملة) و(الحوقلة) مِن قولِهم: (فذَلِكَ كذَا وكذَا عددًا). ويُراد بالفذلكة النتيجةُ لِمَا سبَق من الكلام، والتفريعُ عليه، ومنها فذلكةُ الحساب، أي: مُجمَل تفاصيله، وإنهاؤه، والفراغ منه، كقوله تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ بعد قولِه: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة: 196] . يُنظر: ((تاج العروس)) للزبيدي (27/293)، ((كناشة النوادر)) لعبد السلام هارون (ص: 17)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 638، 639). لِما احتَوَتْ عليه السُّورةُ مِنَ الأغراضِ؛ جمَعَتْ تَنزيهَ اللهِ، والثَّناءَ على الرُّسلِ والملائكةِ، وحَمْدَ اللهِ على ما سبَقَ ذِكرُه مِن نِعَمِه على المُسلِمينَ؛ مِن هُدًى، ونَصرٍ، وفَوزٍ بالنَّعيمِ المُقيمِ [1183] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/132)، ((تفسير أبي السعود)) (7/212)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/198، 199). .
- والتَّعرُّضُ لعُنوانِ الرُّبوييَّةِ المُعْرِبةِ عن التَّربيةِ والتَّكميلِ والمالِكيَّةِ الكُلِّيةِ، مع الإضافةِ إلى ضَميرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ تشريفًا له بإضافتِه وخِطابِه أوَّلًا، وإلى العِزَّةِ ثانيًا، كأنَّه قيلَ: سُبحانَ مَن هو مُرَبِّيكَ ومُكَمِّلُكَ ومالِكُ العِزَّةِ والغَلَبةِ على الإطلاقِ عمَّا يَصِفُه المُشرِكونَ به مِنَ الأشياءِ الَّتي منها تَرْكُ نُصرتِكَ عليهم، كما يدُلُّ عليه استِعجالُهم بالعَذابِ [1184] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/131)، ((تفسير أبي السعود)) (7/212). ، وأيضًا في إضافةِ الرَّبِّ إليه وإلى العِزَّةِ إشارةٌ إلى اختِصاصِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وكُلِّ مَن وافَقَه في أمْرِه عن جميعِ الخَلقِ بالعِزَّةِ، وإنْ رُئِيَ في ظاهِرِ الأمرِ غيرُ ذلك [1185] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/319). .
- وأُضيفَ الرَّبُّ إلى العِزَّةِ؛ لاختِصاصِه بها، مع التَّوصيفِ بصِفاتِ الكَمالِ. ويَجوزُ أنْ يُرادَ: أنَّه ما مِن عزَّةٍ لأحدٍ مِنَ الملوكِ وغَيرِهم إلَّا وهو ربُّها ومالِكُها؛ كقَولِه تعالى: وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ [آل عمران: 26] [1186] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/69)، ((تفسير البيضاوي)) (5/21)، ((تفسير أبي حيان)) (9/132)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/199). .
- و(رَبُّ) هنا بمعنَى: مالِكٍ، ومعنَى كَونِه تعالى مالِكَ العِزَّةِ: أنَّه مُنفرِدٌ بالعِزَّةِ الحقيقيَّةِ، وهي العِزَّةُ الَّتي لا يَشوبُها افتِقارٌ؛ فإضافةُ رَبِّ إلى الْعِزَّةِ على معنَى لامِ الاختِصاصِ، كما يُقالُ: صاحِبُ صِدقٍ، لِمَن اختُصَّ بالصِّدقِ وكان عريقًا فيه. والتَّعريفُ في الْعِزَّةِ هو تعريفُ الجِنسِ؛ فيَقتضِي انفِرادَه تعالى به؛ لأنَّ ما يَثبُتُ لغَيرِه مِن ذلك الجِنسِ كالعدَمِ [1187] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/199). .
- قَولُه: وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ تعميمٌ للرُّسلِ بالتَّسليمِ، بعْدَ تَخصيصِ بعضِهم [1188] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/21). ، وفيه تَشريفٌ لهم عليهم السَّلامُ، وتَنويهٌ بشأنِهم، وإيذانٌ بأنَّهم سالِمونَ عن كلِّ المَكارِه، فائِزونَ بجَميعِ المآرِبِ [1189] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/212). .
- وتَنكيرُ (سَلام) للتَّعظيمِ. ووصفُ المُرسَلينَ يَشملُ الأنبياءَ والمَلائكةَ -على قولٍ في التفسيرِ-؛ فإنَّ المَلائكةَ مُرسَلونَ فيما يَقومونَ به مِن تَنفيذِ أمْرِ اللهِ [1190] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/199، 200). .
- قَولُه: وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أي: والحَمدُ للهِ علَى ما أفاضَ عليهم وعلى مَنِ اتَّبَعَهم مِنَ النِّعَمِ وحُسنِ العاقبةِ؛ ولذلك أخَّرَه عن التَّسليمِ. ولعلَّ تَوسيطَ التَّسليمِ على المُرسَلينَ بيْن تَسبيحِه تعالَى وتَحميدِه؛ لختْمِ السُّورةِ الكريمةِ بحَمدِه تعالَى، مع ما فيه مِنَ الإشعارِ بأنَّ توفيقَه تعالى للتَّسليمِ عليهم مِن جُملةِ النِّعَمِ المُوجِبةِ للحمدِ؛ وذلك أنَّه لَمَّا كانتْ النُّفوسُ وإنْ تفاوتَتْ في مراتِبِ الكَمالِ لا تَسلَمُ مِن نقْصٍ أو حَيرةٍ، كانتْ في حاجةٍ إلى مُرشِدينَ يُبَلِّغونَها مَراتِبَ الكمالِ بإرشادِ اللهِ تعالَى، وذلك بواسِطةِ الرُّسلِ إلى النَّاسِ، وبواسِطةِ المُبَلِّغينَ مِنَ المَلائكةِ إلى الرُّسلِ، وكانتْ غايةُ ذلك هي بُلوغَ الكمالِ في الدُّنيا، والفوزَ بالنَّعيمِ الدَّائمِ في الآخِرةِ، وتلك نِعمةٌ تَستَوجِبُ على النَّاسِ حَمْدَ اللهِ تعالى على ذلكَ؛ لأنَّ الحمْدَ يَقتَضي اتِّصافَ المحمودِ بالفضائلِ، وإنعامَه بالفَواضِلِ، وأَعْظَمُها نِعمةُ الهِدايةِ بواسِطةِ الرُّسلِ؛ فهُمُ المُبلِّغونَ إرشادَ اللهِ إلى الخَلقِ [1191] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/69)، ((تفسير البيضاوي)) (5/21، 22)، ((تفسير أبي السعود)) (7/212)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/199). .
- وفي قَولِه: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إشارةٌ إلى وَصْفِه عزَّ وجلَّ بصِفاتِه الكَريمةِ الثُّبوتيَّةِ بعْدَ التَّنبيهِ على اتِّصافِه تعالى بجَميعِ صِفاته السَّلبيةِ، وإيذانٌ باستِتباعِها للأفعالِ الجَميلةِ الَّتي مِن جُملتِها إفاضتُه عليهم مِن فُنُونِ الكراماتِ السَّنيَّةِ، والكمالاتِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ، وإسباغُه عليهم وعلى مَن تَبِعَهم صُنوفَ النَّعماءِ الظَّاهرةِ والباطنةِ، المُوجِبةِ لحَمدِه تعالَى، وإشعارٌ بأنَّ ما وُعِدَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِنَ النُّصرةِ والغَلَبةِ قد تحقَّقتْ، والمرادُ: تَنبيهُ المؤمِنينَ على كَيفيَّةِ تَسبيحِه تعالَى وتَحميدِه، والتَّسليمِ على رُسلِه الَّذين هُم وسائطُ بيْنهم وبيْنه -عزَّ وعَلا- في فَيَضانِ الكَمالاتِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ عليهم [1192] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/69)، ((تفسير البيضاوي)) (5/21)، ((تفسير أبي السعود)) (7/212). .
- وأيضًا في قَولِه تعالَى: وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَمِدَ اللهُ نَفسَه بَعدَ أنْ نَزَّهَها في قولِه: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ؛ لأنَّ في الحَمدِ كمالَ الصِّفاتِ، وفي التَّسبيحِ تَنزيهًا عنِ العُيوبِ؛ فجَمَعَ في الآيةِ بينَ التَّنزيهِ عن العُيوبِ بالتَّسبيحِ، وبينَ إثباتِ الكَمالِ بالحَمدِ [1193] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) لابن عثيمين (1/140). ؛ فالتَّسبيحُ لَمَّا كان يَتضمَّنُ التَّنزيهَ والتَّبرِئةَ مِنَ النَّقصِ بدَلالةِ المُطابَقةِ، ويَستلزِمُ إثباتَ الكمالِ، كما أنَّ الحمدَ يدُلُّ على إثْباتِ صِفاتِ الكَمالِ مُطابَقةً، ويَستلزِمُ التَّنزيهَ مِنَ النَّقصِ؛ قرَنَ بيْنهما في هذا الموضِعِ، وفي مواضِعَ كَثيرةٍ مِنَ القُرآنِ [1194] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/46). .
- وفي الانتِقالِ مِنَ الآياتِ السَّابِقةِ إلى التَّسبيحِ والتَّسليمِ في قولِه: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إيذانٌ بانتِهاءِ السُّورةِ، على طَريقةِ بَراعةِ الخَتمِ، مع كَونِها مِن جَوامِعِ الكَلِمِ [1195] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/199). .
- وقد اشتمَلَتِ هذه السُّورةُ العظيمةُ على ذِكرِ ما قاله المُشرِكونَ في اللهِ ونَسَبوا إليه ممَّا هو مُنَزَّهٌ عنه، وما عاناهُ المُرسَلونَ مِن جِهَتِهم، وما خُوِّلوه في العاقبةِ مِنَ النُّصرةِ عليهم، فختَمَها بجَوامِعِ ذلك؛ مِن تَنزيهِ ذاتِه عمَّا وصَفَه به المُشرِكونَ، والتَّسليمِ على المُرسَلينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ على ما قَيَّضَ لهم مِن حُسنِ العَواقِبِ. والغرضُ: تعليمُ المؤمِنينَ أنْ يَقولوا ذلك، ولا يُخِلُّوا به، ولا يَغفُلوا عن مُضَمَّناتِ كِتابِه الكريمِ، ومُودَعاتِ قُرآنِه المَجيدِ [1196] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/69)، ((تفسير البيضاوي)) (5/21)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/224)، ((تفسير أبي حيان)) (9/132)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/199). .