موسوعة التفسير

سورةُ الصَّافَّاتِ
الآيات (164-170)

ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ

غَريبُ الكَلِماتِ:

الصَّافُّونَ: أي: الملائِكةُ صَفُّوا أقدامَهم، ووقَفوا صُفوفًا في السَّماءِ للعِبادةِ، كصُفوفِ النَّاسِ في الأرضِ، وأصلُ (صفف): يدُلُّ على استواءٍ وتَساوٍ بينَ شَيئَينِ .

مُشكِلُ الإعرابِ:

قَولُه تعالى: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ
مِنَّا شِبهُ جُملةٍ جارٌّ ومجرورٌ (مِن - نَا) مُتعَلِّقٌ بمَحذوفٍ، صِفةٌ لِمَوصوفٍ مَحذوفٍ هو مُبتدأٌ، والخبَرُ الجُملةُ مِنْ قولِه: إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ تَقديرُه: ما مِنَّا إلَّا له مَقامٌ؛ فحُذِفَ الموصوفُ وأُقيمَت صِفتُه مَقامَه. وحَذْفُ المبتدأِ مع (مِنْ) جيِّدٌ فَصيحٌ. وقيل في إعرابِه غيرُ ذلك .
المعنى الإجماليُّ:
يُبيِّنُ اللهُ تعالَى طاعةَ الملائكةِ له ومُداومتَهم على عِبادتِه وتسبيحِه، فيُخبرُ عنهم أنَّهم يقولونَ: وما مِنَّا إلَّا وله مَقامٌ مَعلومٌ لا يَتجاوَزُه، وإنَّا لنحنُ الذين نَقِفُ في السَّماءِ صُفوفًا عندَ اللهِ تعالَى، وإنَّا لنحنُ المُسَبِّحونَ اللهَ، والمُنَزِّهونَه عن النَّقائِصِ. والحالُ أنَّ أولئك المُشرِكينَ الضَّالِّينَ كانوا يَقولونَ قَبلَ بَعثةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لو أنَّ عِندَنا كِتابًا مِن السَّابِقينَ، لكُنَّا عِبادَ اللهِ الذين أخلَصَهم اللهُ لعِبادتِه. فلمَّا أتاهم ما تمَنَّوه مِن الكِتابِ كَفَروا به، فسوفَ يَعلَمُ هؤلاء الكُفَّارُ عاقِبةَ فِعلِهم!

تَفسيرُ الآياتِ:

وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ الملائِكةَ وَصَفوا أنفُسَهم بالمُبالَغةِ في العُبوديَّةِ؛ فإنَّهم يَصطَفُّونَ للصَّلاةِ والتَّسبيحِ، والغَرَضُ منه التَّنبيهُ على فَسادِ قَولِ مَن يَقولُ: إنَّهم أولادُ اللهِ؛ وذلك لأنَّ مُبالغتَهم في العُبوديَّةِ تَدُلُّ على اعتِرافِهم بالعُبوديَّةِ لِلهِ تعالَى رَبِّهم وإلهِهم .
وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164).
أي: يَقولُ الملائِكةُ عليهم السَّلامُ: وما مِنَّا إلَّا وله مَقامٌ مُحَدَّدٌ مَعلومٌ لا يَتجاوَزُه .
وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165).
أي: وإنَّا لَنحنُ الذين نَقِفُ في السَّماءِ صُفوفًا متراصِّينَ في طاعةِ الله .
كما قال تعالَى: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا [الصافات: 1] .
وقال سُبحانَه: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] .
وعن جابِرِ بنِ سَمُرةَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((خرَجَ علينا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: ألَا تَصُفُّونَ كما تَصُفُّ الملائِكةُ عندَ رَبِّها؟ فقُلْنا: يا رَسولَ اللهِ، وكيف تَصُفُّ الملائِكةُ عِندَ رَبِّها؟ قال: يُتِمُّونَ الصُّفوفَ الأُوَلَ، ويَتراصُّونَ في الصَّفِّ )) .
وعن حُذَيفةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((فُضِّلْنا على النَّاسِ بثَلاثٍ: جُعِلَت صُفوفُنا كصُفوفِ الملائِكةِ، وجُعِلَتْ لنا الأرضُ كُلُّها مَسجِدًا، وجُعِلَت تُربتُها لنا طَهُورًا إذا لم نَجِدِ الماءَ )) .
وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166).
أي: وإنَّا لَنحنُ الذين نُسَبِّحُ اللهَ ونُنزِّهُه عن كُلِّ ما لا يَليقُ به مِن عُيوبٍ ونقائِصَ .
كما قال تعالى: وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ [الأنبياء: 19، 20].
وقال سُبحانَه: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ [فصلت: 38].
وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170).
مُناسَبةُ الآياتِ لِمَا قبلَها:
أنَّها انتِقالٌ مِن ذِكرِ كُفرِ المُشركينَ؛ بتَعدُّدِ الإلهِ، وبإنكارِ البَعثِ، وما وصَفوا به الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِنَ السِّحرِ والجُنونِ، ثمَّ بما نَسَبوا للهِ ممَّا لا يَليقُ بإلهيَّتِه، وما تَخلَّلَ ذلك مِنَ المَواعِظِ والوَعيدِ لهم، والوَعدِ للمُؤمِنينَ، والعِبرةِ بمَصارِعِ المُكذِّبينَ السَّابِقينَ، وما لَقِيَه رُسلُ اللهِ مِن أقوامِهم؛ فانتقَلَ الكلامُ إلى ذِكرِ ما كفَرَ به المُشرِكونَ مِن تَكذيبِ القُرآنِ الَّذي أنزَلَه اللهُ هُدًى لهم ، وإلى ذِكرِ إخلافِهم للوَعدِ، والنقضِ لِمَا أكَّدوه مِن العَهدِ .
وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168).
أي: ضلَّ مُشرِكو قُرَيشٍ عن الحَقِّ، ولم يُنزِّهوا اللهَ تعالى كما يَنبغي له سُبحانَه، والحالُ أنَّهم كانوا يَقولونَ قَبلَ بَعثةِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لو أنَّ عِندَنا كِتابًا مِن السَّابِقينَ .
كما قال تعالَى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا [فاطر: 42] .
لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169).
أي: لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الذين أخلَصوا للهِ تعالَى، وأخلَصَهم لعِبادتِه وطاعتِه، واختارَهم لجَنَّتِه .
كما قال تعالَى: أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ [الأنعام: 156، 157].
فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170).
فَكَفَرُوا بِهِ.
أي: فلمَّا أتاهم ما تمَنَّوه كفَروا بالقُرآنِ الذي جاءَهم به مُحمَّدٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ [فصلت: 41].
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ.
أي: فسَوفَ يَعلَمُ هؤلاءِ الكُفَّارُ ما يأتيهم مِنَ الخِزْيِ والعَذابِ؛ بسَبَبِ كُفرِهم برَبِّهم، وإعراضِهم عن كِتابِه، وتَكذيبِهم رَسولَه .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

أنَّه يَنبغي تأكيدُ الخِطابِ إذا كان المُخاطَبُ مُنكِرًا، أو مُترَدِّدًا، أو كان المعنى ذا أهميَّةٍ يَحتاجُ إلى التَّوكيدِ؛ لِقَولِه تعالَى مُخبِرًا عن الملائكةِ: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ؛ وذلك مِن أجْلِ تَقريرِ هؤلاء المُنكِرينَ الذين يَدَّعونَ أنَّ الملائِكةَ بناتُ اللهِ؛ فيَقولونَ: نحن نَصُفُّ للهِ تَعبُّدًا له وتَعظيمًا .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالَى: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ بيانُ أنَّ الملائِكةَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ مُنَزَّهُون عمَّا يَدَّعِيه هؤلاء مِن كونِهم بَناتِ اللهِ، ووجهُ ذلك: أنَّهم مُكَلَّفونَ بالعِبادةِ على حَدٍّ مَعلومٍ -على قولٍ في التفسيرِ-، ومَن كان مُكَلَّفًا بالعِبادةِ لا يُمكِنُ أنْ يكونَ ابنًا أو ولَدًا للمَعبودِ !
2- قَولُ اللهِ تعالَى: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ يدُلُّ على أنَّ مِن صِفاتِ الملائِكةِ أنَّ لكُلِّ واحدٍ منهم مَرتبةً لا يَتجاوَزُها، ودرجةً لا يتعدَّاها . وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
3- قَولُ اللهِ تعالَى: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ فيه بيانُ بَراءةِ الملائِكةِ عليهم السَّلامُ ممَّا قالَه فيهم المُشرِكونَ، وأنَّهم عِبادُ اللهِ لا يَعصُونَه طَرفةَ عَينٍ؛ فما منهم مِن أحدٍ إلَّا له مَقامٌ وتَدبيرٌ قدْ أمَرَه اللهُ به لا يَتعدَّاه ولا يَتجاوزُه -وذلك على قَولٍ في التفسيرِ-، وليس لهم مِنَ الأمرِ شَيءٌ .
4- قَولُ اللهِ تعالَى: وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ * لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ذلك أفظَعُ الكُفرِ؛ لأنَّه كُفرٌ بما كانوا على بَصيرةٍ مِن أمْرِه، إذ كانوا يتَمنَّونَه لأنفُسِهم، ويَغبِطونَ الأُمَمَ التي أُنزِلَ عليهم مِثلُه، فلم يكُنْ كُفرُهم عن مُباغَتةٍ، ولا عن قِلَّةِ تمكُّنٍ مِن النَّظَرِ .
5- أنَّ النَّاسَ لا يُمكِنُ أنْ يكونَ لهم استِقامةٌ إلَّا بكُتُبٍ نازلةٍ مِن السَّماءِ، حتى المُشرِكونَ الكُفَّارُ يُقِرُّونَ بهذا؛ لقَولِه تعالَى: لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ * لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، وهذه الفائِدةُ يَشهَدُ لها الواقِعُ؛ فإنَّ الأُمَمَ الذين لم تَنزِلْ عليهمُ الكتُبُ تَجِدُهم في فَوضَى مُطَّرِدةٍ، لا يَستقيمُ لهم حالٌ، ولا يَمشونَ على خَطٍّ مُستقيمٍ، بخِلافِ الأُمَمِ التي تَنزِلُ عليها الكُتُبُ؛ فإنَّها تكونُ مُستقيمةً بقَدرِ تَمَسُّكِها بهذه الكُتُبِ .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ حِكايةُ اعتِرافِ الملائكةِ بالعُبوديَّةِ للرَّدِّ على عَبَدتِهم. ويَحتمِلُ أنْ يَكونَ هذا وما قبْلَه مِن قَولِه: سُبْحَانَ اللَّهِ [الصافات: 159] مِن كَلامِهم؛ لِيَتَّصِلَ بقَولِه: وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ [الصافات: 158] ، كأنَّه قال: ولقدْ عَلِمَتِ المَلائكةُ أنَّ المُشركينَ مُعَذَّبونَ بذلك، وقالوا: سُبحانَ اللهِ؛ تَنزيهًا له عنه، ثمَّ استَثْنَوُا المُخلَصينَ؛ تَبرئةً لهم منه، ثمَّ خاطَبوا المُشركينَ بأنَّ الافتِتانَ بذلك للشَّقاوةِ المُقَدَّرةِ، ثمَّ اعتَرَفوا بالعُبوديَّةِ، وتَفاوُتِ مَراتِبِهم فيها لا يَتجاوَزُونَها؛ فحُذِف المَوصوفُ وأُقيمَتِ الصِّفةُ مُقامَه ، وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
- ويَجوزُ أنْ يَكونَ قولُه: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ مِن قَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وعلى هذا يَكونُ قَولُه: سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ اعتراضًا، وكلامُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ استِطرادًا؛ لأنَّه تعالى لَمَّا أمَرَ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالاستِفتاءِ عن وجهِ تلك القِسمةِ الضِّيزَى الَّتي قَسَموها بقَولِه: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ [الصافات: 149] ، وبالإنكارِ البَليغِ واستِجهالِ النُّفوسِ واستِركاكِ العُقولِ سُخطًا عليهم وغضَبًا على تلك المقالةِ الشَّنيعةِ؛ أتَى بما دَلَّ على ضِدِّ ذلك مِن مَعنى الرِّضا عن المؤمِنينَ لأجْلِ أعْمالِهمُ الصَّالحةِ؛ مِنَ الصَّلاةِ في الجَماعاتِ، وتَسبيحِ اللهِ وتَنزيهِه عمَّا أَضافَ إليه الكَفَرةُ .
- قولُه: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (المَقامُ): أصْلُه مكانَ القِيامِ، ولَمَّا كان القِيامُ يَكونُ في الغالِبِ لأجْلِ العَملِ؛ كثُرَ إطلاقُ المَقامِ على العَملِ الَّذي يَقومُ به المرءُ. و(المعلومُ): المُعَيَّنُ المَضبوطُ، وأُطلِقَ عليه وصْفُ مَعلومٍ؛ لأنَّ الشَّيءَ المُعَيَّنَ المَضبوطَ لا يَشتبِهُ على المُتبَصِّرِ فيه، فمَن تأمَّلَه عَلِمَه. والمعنى -على قولٍ في التَّفسيرِ-: ما مِن أحدٍ مِنَّا -مَعشَرَ المؤمِنينَ- إلَّا له صِفةٌ وعمَلٌ نحوَ خالِقِه لا يَستزِلُّه عنه شَيءٌ، ولا تَرُوجُ عليه فيه الوَساوِسُ؛ فلا تَطْمَعوا أنْ تُزِلُّونا عن عِبادةِ ربِّنا، فالمَقامُ هو صِفةُ العُبوديَّةِ للهِ؛ بقرينةِ وُقوعِ هذه الجُملةِ عَقِبَ قَولِه: فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ [الصافات: 161، 162]، أي: ما أنتم بفاتِنينَ لنا، فلا يَلتبِسُ علينا فضْلُ الملائكةِ فنَرفَعَه إلى مَقامِ البُنوَّةِ للهِ تعالَى، ولا نُشَبِّهُ اعتِقادَكم في تَصرُّفِ الجِنِّ أنْ تَبلُغوا بهم مَقامَ المُصاهَرةِ للهِ تعالَى والمُداناةِ لجَلالِه، كقَولِه: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ [الأنعام: 100].
2- قولُه تعالَى: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ
- قَولُه: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ فيه تَحليةُ كلامِهم بفُنونِ التَّأكيدِ -بـ (إنَّ) واللَّامِ، وتَوسيطِ الفَصلِ (نحن)- مِنَ التأكيدِ والاختِصاصِ؛ لأنَّهم المُواظِبونَ على ذلك دائمًا مِن غيرِ فَترةٍ دُونَ غَيرِهم، ولإبرازِ أنَّ صُدورَه عنهم بكَمالِ الرَّغبةِ والنَّشاطِ .
- وحُذِف مُتعلَّقُ «الصَّافُّونَ المُسَبِّحونَ»؛ لدَلالةِ قَولِه مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ [الصافات: 162] عليه، أي: الصَّافُّونَ لعِبادتِه، المُسَبِّحونَ له؛ فإنَّ الكلامَ في هذه الآياتِ كلِّها مُتعلِّقٌ بشُؤونِ اللهِ تعالَى .
- قَولُه: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ تعريفُ جُزْأيِ الجُملةِ، وضميرُ الفَصلِ مِن قَولِه: لَنَحْنُ يُفيدانَ قَصْرًا مؤكِّدًا؛ فهو قَصرُ قَلبٍ، أي: دُونَ ما وصَفْتُموهُ به مِنَ البُنوَّةِ للهِ .
- وعبَّرَ في قَولِه: وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ بالجُملةِ الاسميةِ، وهي تفيدُ الثُّبوتَ والاستمرارَ؛ فدَلَّ على أنَّ دَأْبَ الملائكةِ التسبيحُ .
3- قولُه تعالَى: وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ * لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
- انتقَلَ الكلامُ إلى ذِكرِ ما كفَرَ به المُشرِكونَ مِن تَكذيبِ القُرآنِ الَّذي أنزَلَه اللهُ هُدًى لهم؛ فالمقصودُ مِن هذا هو قَولُه: فَكَفَرُوا بِهِ، أي: الذِّكرِ، وإنَّما قُدِّم له في نَظْمِ الكلامِ ما فيه تَسجيلٌ على الكافِرينَ بتَهافُتِهم في القَولِ؛ إذْ كانوا قبْلَ أنْ يأتيَهم محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالكِتابِ المُبينِ يَوَدُّونَ أنْ يُشَرِّفَهمُ اللهُ بكِتابٍ لهم كما شرَّفَ الأوَّلينَ، ويَرْجونَ لو كان ذلك أنْ يَكونوا عِبادًا للهِ مُخلِصينَ له، فلمَّا جاءَهم ما رَغِبوا فيه كَفَروا به .
- قَولُه: وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ تأكيدُ الخَبرِ بـ (إنْ) المُخفَّفةِ مِنَ الثَّقيلةِ، وبلامِ الابتِداءِ الفارِقةِ بيْن المُخفَّفةِ والنَّافيةِ؛ للتَّسجيلِ عليهم بتَحقيقِ وُقوعِ ذلك منهم؛ لِيُسَدَّ عليهم بابُ الإنكارِ ؛ فقد كانوا جادِّينَ في ذلك، ثمَّ ظهَرَ منهمُ التَّكذيبُ والنُّفورُ البَليغُ، فكَمْ بيْن أوَّلِ أمْرِهم وآخِرِه !
- وإقحامُ فِعلِ كَانُوا في قَولِه: وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ؛ للدَّلالةِ على أنَّ خبْرَ (كان) ثابتٌ لهم في الماضي .
- والتَّعبيرُ بالمُضارِعِ في (يَقولونَ)؛ لإفادةِ أنَّ ذلك تَكرَّرَ منهم .
- قولُه: وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ ... مِنَ ابتدائيَّة، أي: ذِكرًا جائيًا مِن الرُّسُلِ الأوَّلينَ، أي: مِثل موسى وعيسى، ومُرادُهم بهذا أنَّ الرُّسلَ الأوَّلينَ لم يَكونوا مُرسَلينَ إليهم، ولا بَلَّغوا إليهم كِتابَهم، ولو كانوا مُرسَلينَ إليهم لآمَنوا بهم، فكانوا عِبادَ اللهِ المُخلَصينَ، فذُكِرَ في جَوابِ (لو) ما هو أخَصُّ مِنَ الإيمانِ؛ ليُفيدَ معنَى الإيمانِ بدَلالةِ الفَحْوى .
- وفي جُملةِ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ صِيغةُ قَصرٍ؛ مِن أجْلِ كَونِ المُسنَدِ إليه مَعرفةً بالإضمارِ، والمُسنَدِ مَعرفةً بالإضافةِ، أي: لَكُنَّا عِبادَ اللهِ دُونَ غَيرِنا، ولَمَّا وُصِف المُسنَدُ بـ الْمُخْلَصِينَ وهو مُعرَّفٌ بِلامِ الجِنسِ، حصَلَ قَصرُ عِبادِ اللهِ الَّذينَ لهم صِفةُ الإخلاصِ في المُسنَدِ إليه، وهذا قَصرٌ ادِّعائيٌّ ؛ لِلمُبالَغةِ في ثُبوتِ صِفةِ الإخلاصِ لهم حتَّى كانوا شَبِيهينَ بالمُنفرِدينَ بالإخلاصِ؛ لعدَمِ الاعتِدادِ بإخلاصِ غَيرِهم في جانبِ إخلاصِهم، وهو يَؤولُ إلى معنَى تَفضيلِ أنفُسِهم في الإخلاصِ للهِ حينَئذٍ .
- والفاءُ في قَولِه: فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ للتَّعقيبِ على فِعلِ لَيَقُولُونَ، أي: استَمَرَّ قَولُهم حتَّى كان آخِرُه أنْ جاءَهمُ الكِتابُ فكَفَروا به. أو للفَصيحةِ، والتَّقديرُ: فكان عِندَهم ذِكرٌ فكَفَروا به، فالضَّميرُ عائدٌ إلى الذِّكرِ، وهو القُرآنُ، وبهذا كان للوَعيدِ بقَولِه: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ مَوقِعُه المُصادِفُ المَحَزَّ مِنَ الكَلامِ، وهَولُه بما ضُمِّنَه مِنَ الإبهامِ .