موسوعة التفسير

سورةُ الفَجْرِ
الآيات (21-30)

ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ

غريب الكلمات:

دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا: أي: زُلزِلَت الأرضُ، وحُرِّكَت تحريكًا بعدَ تحريكٍ، والدَّكُّ: الكَسرُ والدَّقُّ وحَطُّ المُرتَفِعِ مِنَ الأرضِ بالبَسْطِ، وأصلُ (دكك): يدُلُّ على تَطامُنٍ وانسِطاحٍ .
وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ: الوَثاقُ بفتحِ الواوِ اسْمُ مَصْدَرِ أوْثَق، وهو الرَّبْطُ، يقالُ: أَوْثَقْتُه: أي: شددتُه، والوَثاقُ والوِثاقُ: اسمان لِما يُوثَقُ به الشَّيءُ، وأصل (وثق): يدُلُّ على عَقْدٍ وإحْكامٍ .
الْمُطْمَئِنَّةُ: أي: السَّاكِنَةُ الموقِنَةُ بالإيمانِ وتوحيدِ اللهِ، فلا يُخالِطُها شَكٌّ، ولا يَعْتَريها رَيْبٌ، الَّتي اطْمأَنَّتْ إلى وَعْدِ اللهِ، وصدَّقَتْ بما قال، والطُّمَأْنينةُ والاطْمِئنانُ: السُّكونُ بعدَ الانزعاجِ، وأصلُ الطُّمأنينةِ: السُّكونُ .

مشكل الإعراب:

1- قَولُه تعالى: كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا
دَكًّا دَكًّا: مَجموعُ المَصدرَينِ في تأويلِ مُفرَدٍ مَنصوبٍ على الحالِ، والمعنى: مُكَرَّرًا عليها الدَّكُّ، كعَلَّمتُه الحِسابَ بابًا بابًا، أي: علَّمتُه الحِسابَ مُفَصَّلًا باعتبارِ أبوابِه. ويجوزُ أن يكونَ دَكًّا الأوَّلُ مَصدرًا مؤكِّدًا لفِعْلِه، ودَكًّا الثَّاني تأكيدًا لفظيًّا للأوَّلِ.
صَفًّا صَفًّا: مَجموعُهما في تأويلِ مُفرَدٍ مَنصوبٍ على الحالِ المفيدةِ للتَّرتيبِ، أي: مُصطَفِّينَ صَفًّا بَعْدَ صَفٍّ .
2- قَولُه تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ
 عَذَابَهُ مَفعولٌ مُطلَقٌ على معنى التَّشبيهِ، نائِبٌ عن المصدَرِ، وكذا وَثَاقَهُ، والعَذابُ: اسمُ مَصدَرِ عَذَّب، والوَثاقُ: اسمُ مَصدَرِ أوثَقَ، والضَّميرُ فيهما يعودُ على الله تعالى، والمصدَرُ مُضافٌ إلى الفاعِلِ: والمعنى: لا يُعَذِّبُ أحدٌ تعذيبًا مِثلَ تعذيبِ اللهِ هذا الكافِرَ، ولا يُوثِقُ أحدٌ إيثاقًا مِثلَ إيثاقِ اللهِ هذا الكافِرَ؛ في الشِّدَّةِ والمُبالَغةِ، وأَحَدٌ فيهما فاعِلٌ للفِعلِ قَبْلَه.
وقُرِئَ يُعَذَّبُ ... يُوثَقُ بالبناء للمَفعولِ فيهما ، فيكونُ أَحَدٌ فيهما نائِبَ فاعلٍ، والضَّميرُ في عَذَابَهُ... وَثَاقَهُ يعودُ على الإنسانِ الكافِرِ، والمصدَرُ مُضافٌ إلى المفعولِ: والمعنى: لا يُعَذَّبُ أحَدٌ مِثلَ تعذيبِ هذا الكافِرِ يومَئذٍ، ولا يُوثَقُ أحَدٌ مِثلَ وَثاقِه، ويجوزُ عَودُ الضَّميرِ كذلك على اللهِ تعالى، والمصدَرُ مُضافٌ إلى الفاعِلِ، كالقراءةِ المتقَدِّمةِ .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مذكِّرًا بأهوالِ الآخرةِ: كَلَّا! فارجِعوا عن انكِبابِكم على الدُّنيا الفانيةِ؛ فإنَّه إذا دُكَّت الأرضُ يومَ القيامةِ، وزُلزِلتْ مرَّةً بعْدَ مرَّةٍ، يَنهَدِمُ كُلُّ ما عليها، وتُصبِحُ أرضًا مُستويةً، وجاء ربُّك -يا محمَّدُ- إلى المحشَرِ للفَصلِ بيْن عبادِه، وجاءت الملائِكةُ صَفًّا بعدَ صَفٍّ، وجيءَ يومَ القيامةِ بنارِ جَهنَّمَ؛ يَومَ يَتذَكَّرُ الإنسانُ أعمالَه، فلا تَنفَعُه ذِكْراه، ولا يَنفَعُه الإيمانُ والتَّوبةُ لِمَولاه! يَقولُ: يا لَيْتَني قَدَّمْتُ في الدُّنيا أعمالَ الخَيرِ والبِرِّ لحياتي في الآخِرةِ، فيَومَ القيامةِ لا يُعَذِّبُ أحَدٌ في الدُّنيا مِثلَ عَذابِ اللهِ في الآخِرةِ، ولا يُوثِقُ أحَدٌ في الدُّنيا مِثلَ وَثاقِ اللهِ في الآخِرةِ لأهلِ النَّارِ. ثمَّ يختِمُ الله السُّورةَ بهذه البِشارةِ للمؤمنينَ، فيقولُ: يا أيَّتُها النَّفْسُ المُطمَئِنَّةُ بالإيمانِ، الموقِنةُ باللهِ وبوَعْدِه، ارجِعي إلى رَبِّك راضيةً مَرْضِيَّةً، فادخُلِي في جُملةِ عِبادي الصَّالِحينَ، وادْخُلي جَنَّتي معهم.

تفسير الآيات:

كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه انتِقالٌ مِن تَهديدِهم بعَذابِ الدُّنيا الَّذي في قولِه: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ [الفجر: 6] الآياتِ، إلى الوعيدِ بعَذابِ الآخرةِ، فإنِ استَخفُّوا بما حلَّ بالأُمَمِ قبْلَهم أو أُمهِلوا، فأُخِّرَ عنهم العذابُ في الدُّنيا؛ فإنَّ عَذابًا لا مَحيصَ لهم عنه يَنتظِرُهم يومَ القيامةِ حِينَ يَتذكَّرون قسْرًا، فلا يَنفَعُهم التَّذكُّرُ، ويَندَمون وَلاتَ ساعةَ مَندَمٍ .
كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21).
أي: ما هكذا ينبغي أن يكونَ الأمرُ؛ فارجِعوا عن انكِبابِكم على الدُّنيا الفانيةِ الَّتي لا يَبقى منها ولا مِن مَتاعِها شَيءٌ؛ فإنَّه إذا وقع دَكُّ الأرضِ يومَ القيامةِ ورَجُّها وزلزلتُها مرَّةً بَعْدَ مرَّةٍ، يَنهَدِمُ كُلُّ ما عليها، وتُصبِحُ أرضًا مُستويةً .
كما قال تعالى: وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ [الحاقة: 14-15] .
وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22).
أي: وجاء ربُّك -يا محمَّدُ- إلى المحشَرِ لحِسابِ عبادِه والقَضاءِ بيْنَهم مَجيئًا يَليقُ بجلالِه وعَظَمتِه، وجاءت الملائِكةُ صُفوفًا صَفًّا بعدَ صَفٍّ، خاضِعينَ للهِ .
كما قال تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [البقرة: 210].
وقال سُبحانَه: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [الزمر: 69] .
وقال عزَّ وجَلَّ: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [النبأ: 38] .
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23).
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ.
أي: وجيءَ يومَ القيامةِ بنارِ جَهنَّمَ .
كما قال الله تعالى: وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا * إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا [الفرقان: 11-12] .
وعن عَبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يُؤْتَى بجَهنَّمَ يومَئِذٍ لها سَبْعونَ ألْفَ زِمامٍ ، مع كُلِّ زِمامٍ سَبعونَ ألْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَها )) .
يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى.
أي: في ذلك اليَومِ يَتذَكَّرُ الإنسانُ عِصيانَه وطُغيانَه، وما فاته مِنَ العَمَلِ الصَّالحِ؛ فلا تَنفَعُه ذِكْراه، ولا يَنفَعُه الإيمانُ والتَّوبةُ لِمولاه .
كما قال سبحانه وتعالى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر: 56] .
وقال سُبحانَه: يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ [النبأ: 40] .
يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24).
أي: يَقولُ: يا لَيْتَني قَدَّمْتُ في الدُّنيا أعمالَ الخَيرِ والبِرِّ والطَّاعةِ لحياتي الأبَديَّةِ في الآخِرةِ، فألقَى فيها ثَوابَها !
كما قال تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا [الأنعام: 31] .
وقال سُبحانَه: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا [الفرقان: 27] .
فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26).
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ: لَا يُعَذَّبُ وَلَا يُوثَقُ بفَتحِ الذَّالِ والثَّاءِ، أي: لا يُعَذَّبُ أحَدٌ مِثلَ عَذابِ هذا الصِّنفِ مِنَ النَّاسِ، وكذا لا يُوثَقُ وَثاقَه أحَدٌ .
2- قِراءةُ: لَا يُعَذِّبُ وَلَا يُوثِقُ بكَسرِ الذَّالِ والثَّاءِ. قيل: المعنى: لا يعذِّبُ أحدٌ في الدُّنيا مِثلَ عَذابِ اللهِ في الآخِرةِ، ولا يُوثِقُ أحدٌ مِثلَ وَثاقِ اللهِ لأهلِ النَّارِ. وقيل: أي: لا يتولَّى يومَ القيامةِ عَذابَ اللهِ أحدٌ غَيْرُه؛ فالمُلْكُ له وَحْدَه، وملائِكةُ العَذابِ يَأتَمِرونَ بأمْرِه في تعذيبِ الكافِرينَ وأَسْرِهم في القُيودِ .
فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25).
أي: فيَومَ القيامةِ لا يُعَذِّبُ أحَدٌ في الدُّنيا مِثلَ عَذابِ اللهِ في الآخِرةِ؛ فلا أحَدَ أشَدُّ عَذابًا منه .
كما قال تعالى: وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه: 127] .
وقال سُبحانَه: فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ [الغاشية: 24] .
وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26).
أي: ولا يُوثِقُ أحَدٌ في الدُّنيا مِثلَ وَثاقِ اللهِ في الآخِرةِ لأهلِ النَّارِ؛ فلا أحَدَ أشَدُّ وَثاقًا منه .
كما قال تعالى: إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غافر: 71-72] .
وقال تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا [الإنسان: 4] .
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر حالَ مَن كانت هِمَّتُه الدُّنيا فاتَّهم اللهَ في إغنائِه وإفقارِه؛ ذَكَر حالَ مَنِ اطمأَنَّت نَفْسُه إلى اللهِ تعالى، فسَلَّم لأمْرِه، واتَّكَل عليه .
وأيضًا لَمَّا استَوعَبَ ما اقتَضاهُ المقامُ مِن الوعيدِ والتَّهديدِ والإنذارِ؛ ختَمَ الكلامَ بالبِشارةِ للمؤمنينَ الَّذين تَذكَّروا بالقرآنِ واتَّبَعوا هَدْيَه، على عادةِ القرآنِ في تَعقيبِ النِّذارةِ بالبِشارةِ والعكسِ؛ فإنَّ ذلك ممَّا يَزيدُ رَغبةَ النَّاسِ في فِعلِ الخَيرِ، ورَهبتَهم مِن أفعالِ الشَّرِّ .
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27).
أي: يُقالُ : يا أيَّتُها النَّفْسُ المُطمَئِنَّةُ بالإيمانِ، الموقِنةُ باللهِ وبوَعْدِه، الثَّابِتةُ على الحَقِّ .
ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28).
أي: ارجِعي إلى اللهِ الَّذي ربَّاك بنِعَمِه وفَضْلِه، راضيةً باللهِ وثَوابِه، مَرْضِيَّةً عندَ اللهِ تعالى .
كما قال تعالى: جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [البينة: 8] .
وعن البَراءِ بنِ عازِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ العبدَ المؤمِنَ إذا كان في انقِطاعٍ مِنَ الدُّنيا وإقبالٍ مِنَ الآخِرةِ، نزَلَ إليه مَلائكةٌ مِنَ السَّماءِ بِيضُ الوُجوهِ، كأنَّ وُجوهَهم الشَّمسُ، معهم كَفَنٌ مِن أكفانِ الجَنَّةِ، وحَنُوطٌ مِن حَنُوطِ الجَنَّةِ، حتَّى يَجلِسوا مِنه مَدَّ البَصَرِ ، ثمَّ يَجيءُ مَلَكُ المَوتِ عليه السَّلامُ حتَّى يَجلِسَ عندَ رَأسِه، فيَقولُ: أيَّتُها النَّفْسُ الطَّيِّبةُ، اخرُجي إلى مَغفرةٍ مِنَ اللهِ ورِضوانٍ، فتَخرُجُ تَسيلُ كَما تَسيلُ القَطرةُ مِن فِي السِّقاءِ، فيَأخُذُها، فإذا أخَذَها لم يَدَعُوها في يَدِه طَرْفةَ عَينٍ حتَّى يَأخُذوها فيَجعَلوها في ذَلِك الكَفَنِ وفي ذَلِك الحَنُوطِ، ويَخرُجُ مِنها كأَطيبِ نَفحةِ مِسكٍ وُجِدَت على وَجهِ الأرضِ، فيَصعَدونَ بِها، فَلا يَمُرُّونَ بها على مَلَأٍ مِنَ الملائكةِ إلَّا قالوا: ما هذا الرُّوحُ الطَّيِّبُ؟! فيَقولونَ: فُلانُ بنُ فُلانٍ؛ بأحسَنِ أسمائِه الَّتي كانوا يُسَمُّونَه بها في الدُّنيا، حتَّى يَنتَهوا بها إلى السَّماء الدُّنيا، فيَستَفتِحونَ له، فيُفتَحُ لهم، فيُشَيِّعُه مِن كُلِّ سَماءٍ مُقَرَّبوها إِلى السَّماءِ الَّتي تَلِيها، حتَّى يُنتَهَى به إلى السَّماءِ السَّابعةِ، فيَقولُ اللهُ عزَّ وجَلَّ: اكتُبوا كِتابَ عَبدي في عِلِّيِّينَ، وأعيدُوه إلى الأَرضِ؛ فإنِّي منها خلَقْتُهم، وفيها أُعيدُهم، ومِنها أُخرِجُهم تارةً أُخرى )) .
فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30).
أي: فادخُلِي في جُملةِ عِبادي الصَّالِحينَ الطَّائِعينَ وفي زُمْرتِهم، وادْخُلي جَنَّتي معهم .
كما قال الله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [النساء: 69] .
وقال سُبحانَه وتعالى: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ [العنكبوت: 9] .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي دليلٌ على أنَّ الحياةَ الَّتي ينبغي السَّعيُ في أصلِها وكَمالِها، وفي تتميمِ لَذَّاتِها: هي الحياةُ في دارِ القَرارِ؛ فإنَّها دارُ الخُلْدِ والبَقاءِ ، فالحياةُ الحقيقيَّةُ هي حياةُ الآخرةِ، ولذلك يقولُ الكافِرُ يومَ القيامةِ: يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي؛ فالحياةُ الدُّنيا ليست حياةً، ووجْهُ ذلك:
أوَّلًا: لأنَّها مُنَغَّصةٌ؛ فكُلُّ صَفْوِها كَدَرٌ.
وثانيًا: أنَّها غيرُ باقيةٍ.
وثالثًا: أنَّ الإنسانَ مُهَدَّدٌ فيها، فلا يدري متى يجيئُه أَجَلُه صُبحًا أو مساءً، وكم مِن إنسانٍ خَرَجَ مِن أهلِه ولم ترجِعْ إلَّا جُثَّتُه! وكم مِن إنسانٍ على كُرسِيِّه فَجَأَه الموتُ، فلم يُكْمِلِ الكتابةَ الَّتي يَخُطُّها بيَمينِه! ولهذا يقولُ الشَّاعرُ:
«لا طِيبَ للعَيشِ ما دامتْ مُنغَّصَةً          لَذَّاتُه بادِّكارِ المَوتِ والهَرَمِ»
فمهما طالتْ بك الحياةُ فسوف تَهرَمُ وتَدَعُ هذا العَيشَ الطَّيِّبَ، أو تموتُ فلا تبقى لهذا العَيشِ أصلًا !
2- في قَولِه تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ أنَّه على المسلِمينَ أن يَحَذروا عِقابَ اللهِ، ولا يتعَرَّضوا لسَخَطِ اللهِ الموجِبِ لعِقابِه؛ لأنَّ اللهَ تعالى لا يُعَذِّبُ عَذابَه أحَدٌ، ولا يُوثِقُ وَثاقَه أحَدٌ .
3- في قَولِه تعالى: وَادْخُلِي جَنَّتِي أضافها اللهُ سُبحانَه إلى نفْسِه؛ للدَّلالةِ على شَرَفِها وعنايةِ اللهِ بها، وهذا يُوجِبُ للإنسانِ أنْ يَرغَبَ فيها غايةَ الرَّغبةِ، كما أنَّه يَرغَبُ في بُيوتِ اللهِ -الَّتي هي المساجدُ-؛ لأنَّ اللهَ أضافَها إلى نفْسِه .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا سؤالٌ: أنَّ هذا يُوهِمُ أنَّه مَلَكٌ واحِدٌ، وقَولُه: صَفًّا صَفًّا يقتضي أنَّه غَيرُ مَلَكٍ واحِدٍ، بل صفوفٌ مِن جماعاتِ الملائكةِ؟
الجوابُ: أنَّ قَولَه تعالى: وَالْمَلَكُ معناه: والملائِكةُ، ونظيرُه قَولُه تعالى: وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا [الحاقة: 17] .
2- في قَولِه تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا حُجَّةٌ على المُعتَزِلةِ، وهو نظيرُ قَولِه في سورةِ (البقرةِ): هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [البقرة: 210] ، وهي حُجَّةٌ خانِقةٌ لهم، شَديدةٌ عليهم . والقاعِدةُ في أسماءِ اللهِ وصِفاتِه: أنَّ كُلَّ ما أسنده اللهُ إلى نَفْسِه فهو له نَفْسِه لا لغَيرِه، فنُجري كلامَ اللهِ تعالى ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على ظاهِرِه، ولا نُحَرِّفُ فيه، وعلى هذا فالَّذي يأتي هو اللهُ عزَّ وجَلَّ، وليس كما حَرَّفه أهلُ التَّعطيلِ؛ حيث قالوا: إنَّه جاء أمرُ اللهِ! فإنَّ هذا إخراجٌ للكلامِ عن ظاهِرِه بلا دَليلٍ، فاللهُ تعالى يجيءُ يومَ القيامةِ هو نَفْسُه، ولكِنْ كيف هذا المجيءُ؟ هذا هو الَّذي لا عِلْمَ لنا به، لا ندري كيف يَجيءُ، والسُّؤالُ عن مِثْلِ هذا بِدْعةٌ، كما قال الإمامُ مالِكٌ رحمه الله .
3- في قَولِه تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا دَلالةٌ على قِيامِ الأفعالِ الاختياريَّةِ باللهِ تعالى .
4- في قَولِه تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا جوازُ إتيانِ الحالِ مِنَ المعطوفِ فقط دونَ المعطوفِ عليه .
5- في قَولِه تعالى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ أنَّ النَّفْسَ في القرآنِ قد تُطْلَقُ على الرُّوحِ وَحْدَها .
6- في قَولِه تعالى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي أنَّ النَّفْسَ لا تَرْجِعُ إليه سُبحانَه إلَّا إذا كانت مُطمَئِنَّةً، فهناك ترجِعُ إليه، وتَدخُلُ في عبادِه، وتَدخُلُ جنَّتَه .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي
- كَلَّا ردْعٌ لهم عن الأعمالِ المَعدودةِ قبْلَه، وإنكارٌ لفِعلِهم .
- وقولُه: إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا... استئنافٌ جِيءَ به بطَريقِ الوعيدِ تَعليلًا للرَّدعِ .
- وقولُه: دَكًّا دَكًّا يَجوزُ أنْ يكونَ أوَّلُهما مَنصوبًا على المفعولِ المطلَقِ المُؤكِّدِ لفِعلِه، ولعلَّ تَأكيدَه هنا؛ لأنَّ هذه الآيةَ أوَّلُ آيةٍ ذُكِرَ فيها دكُّ الجِبالِ، وإذ قد كان أمرًا خارقًا للعادةِ، كان المقامُ مُقتضيًا تَحقيقَ وُقوعِه، فأُكِّدَ مَرَّتينِ هنا، ولم يُؤكَّدْ نَظيرُه في قولِه: فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً في سُورةِ الحاقةِ [14]؛ فقولُه: دَكًّا الأوَّلُ مَقصودٌ به تَحقيقُ الوُقوعِ. ودَكًّا الثَّاني مَنصوبٌ على التَّوكيدِ اللَّفظيِّ لـ دَكًّا الأوَّلِ؛ لزِيادةِ تَحقيقِ إرادةِ مَدلولِ الدَّكِّ؛ لأنَّ دكَّ الأرضِ العَظيمةِ أمرٌ عَجيبٌ، فلِغرابتِه اقْتَضى إثباتُه زِيادةَ تَحقيقٍ لمعْناهُ .
ويَجوزُ أنْ يكونَ مَجموعُ المَصدرينِ دَكًّا دَكًّا في تَأويلِ مُفرَدٍ مَنصوبٍ على المفعولِ المُطلَقِ المُبيِّنِ للنَّوعِ، وتَأويلُه: أنَّه دكٌّ يَعقُبُ بَعضُه بعضًا، كما تَقولُ: قرَأتُ الكتابَ بابًا بابًا، والعرَبُ تقولُ الشَّيءَ مرَّتينِ، فتَستوعِبُ تَفصيلَ جِنسِه باعتبارِ المعْنى الَّذي دلَّ عليه لَفظُ المُكرَّرِ، فإذا قلْتَ: بيَّنْتُ له الكتابَ بابًا بابًا، فمعْناه: بيَّنْتُه له مُفصَّلًا باعتبارِ أبوابِه، فالتَّكرارُ للدَّلالةِ على الاستيعابِ وليس للتَّأكيدِ، وهذا الوجْهُ أوْفَى بحقِّ البلاغةِ؛ فإنَّه معْنًى زائدٌ على التَّوكيدِ، والتَّوكيدُ حاصلٌ بالمَصدرِ الأوَّلِ. أو الدَّكُّ كِنايةٌ عن التَّسويةِ؛ لأنَّ التَّسويةَ مِن لَوازمِ الدَّكِّ، أي: صارتِ الجِبالُ مع الأرضِ مُستوياتٍ لم يَبْقَ فيها نُتوءٌ .
- قولُه: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا المَلَكُ: اسمُ جِنسٍ، وتَعريفُه تَعريفُ الجِنسِ، فيُرادِفُه الاستغراقُ، أي: والملائكةُ .
- قولُه: صَفًّا صَفًّا ليس للتَّأكيدِ؛ إذِ المرادُ صفًّا بَعْدَ صفٍّ، أي: صفًّا يتلوه صَفٌّ .
- وفي قولِه: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ إنَّما اقتُصِرَ على ذِكرِ جهنَّمَ؛ لأنَّ المقصودَ في هذه السُّورةِ وَعيدُ الَّذين لم يَتذكَّروا، وإلَّا فإنَّ الجنَّةَ أيضًا مُحضَرةٌ يَومَئذٍ؛ قال الله تبارك وتعالَى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ [الشعراء: 90-91] .
- قولُه: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ الأوَّلُ مُتعلِّقٌ بفِعلِ (جِيءَ)، والتَّقديرُ: وجِيءَ يومَ تُدَكُّ الأرضُ دكًّا دكًّا... إلى آخِرِه، ويَوْمَئِذٍ الثَّاني بدَلٌ مِن إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ، والمعْنى: يومَ تُدَكُّ الأرضُ دكًّا... إلى آخِرِه، يَتذكَّرُ الإنسانُ، والعاملُ في البدَلِ والمُبدَلِ منه معًا فِعلُ يَتَذَكَّرُ، وتَقديمُه للاهتِمامِ، مع ما في الإطنابِ مِن التَّشويقِ؛ ليَحصُلَ الإجمالُ ثمَّ التَّفصيلُ، مع حُسنِ إعادةِ ما هو بمعْنى (إذا)؛ لزِيادةِ الرَّبطِ؛ لطُولِ الفصْلِ بالجُمَلِ الَّتي أُضِيفَ إليها (إذا) .
- قولُه: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ الإنسانُ هنا: قيل: هو الإنسانُ الكافرُ، وهو الَّذي تَقدَّمَ ذِكرُه في قولِه تبارك وتعالَى: فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ [الفجر: 15] الآيةَ، فهو إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ لبُعدِ مَعادِ الضَّميرِ .
- وجُملةُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى مُعترِضةٌ بيْن جُملةِ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وجُملةِ يَقُولُ ... إلخ؛ جِيءَ به لتَحقيقِ أنَّه ليس يَتذكَّرُ حَقيقةً؛ لعَرائِه عن الجَدوَى بعدَمِ وُقوعِه في أوانِه .
- ولَفظُ وَأَنَّى اسمُ استِفهامٍ بمعْنى: أيْن له الذِّكرى؟ وهو استِفهامٌ مُستعمَلٌ في الإنكارِ والنَّفيِ .
- قولُه: وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى فيه حذْفُ مُضافٍ، أي: ومِن أينَ له مَنفعةُ الذِّكرى ؟!
- قولُه: يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي الجُملةُ بدَلُ اشتِمالٍ مِن جُملةِ يَتَذَكَّرُ. أو استِئنافٌ وَقَعَ جَوابًا عن سُؤالٍ نَشَأَ منه، كأنَّه قيل: ماذا يقولُ عندَ تَذَكُّرِه ؟ فإنَّ جُمْلةَ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي يَجوزُ أنْ يكونَ قولًا باللِّسانِ تحسُّرًا وتَندُّمًا، فتَكونَ الجُملةُ حالًا مِن الْإِنْسَانُ، أو بدَلَ اشتمالٍ مِن جُملةِ يَتَذَكَّرُ؛ فإنَّ تَذكُّرَه مُشتمِلٌ على تَحسُّرٍ ونَدامةٍ. ويجوزُ أنْ يكونَ قَولُه في نفْسِه، فتَكونَ الجُملةُ بَيانًا لجُملةِ يَتَذَكَّرُ .
- ومَفعولُ قَدَّمْتُ مَحذوفٌ للإيجازِ .
- يَحتمِلُ أنْ تكونَ اللَّامُ في قولِه: لِحَيَاتِي للعِلَّةِ، أي: قدَّمْتُ الأعمالَ الصالحةَ مِن أجْلِ أنْ أحْيا في هذه الدَّارِ، والمرادُ: الحياةُ الكاملةُ السَّالِمةُ مِن العَذابِ؛ لأنَّ حَياتَهم في العذابِ حَياةُ غِشاوةٍ وغِيابٍ؛ قال تعالى: ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا [الأعلى: 13] .
- وحرْفُ النِّداءِ في قولِه: يَا لَيْتَنِي للتَّنبيهِ؛ اهتِمامًا بهذا التَّمنِّي في يومِ وُقوعِه .
2- قولُه تعالَى: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ
- المقصودُ مِن الكلامِ هو قولُه: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وقولُه: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ [الفجر: 27] ، وأمَّا ما سبَقَ مِن قولِه: إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ إلى قولِه: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ؛ فهو تَوطئةٌ وتَشويقٌ لسَماعِ ما يَجِيءُ بعْدَه، وتَهويلٌ لشَأنِ ذلك اليومِ، وهو الوقتُ الَّذي عُرِّف بإضافةِ جُملةِ دُكَّتِ الْأَرْضُ وما بعْدَها مِن الجُمَلِ، وقد عُرِّفَ بأشراطِ حُلولِه وبما يَقَعُ فيه مِن هَولِ العِقابِ .
- والتَّنوينُ في (يومَئذٍ) عِوَضٌ عن جُملةٍ تُفيدُ ما تَقدَّمَ مِن هَولِ الموقفِ .
- قولُه: أَحَدٌ في الموضعينِ فاعلُ يُعَذِّبُ ويُوثِقُ، وعَذَابَهُ مِن إضافةِ المصدرِ إلى مَفعولِه، والضَّميرُ قيل: هو عائدٌ إلى الإنسانِ في قولِه: يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ، وهو مَفعولٌ مُطلَقٌ مُبيِّنٌ للنَّوعِ على معْنى التَّشبيهِ البليغِ، أي: عَذابًا مِثلَ عَذابِه، وانتفاءُ المُماثلةِ في الشِّدَّةِ، أي: يُعذِّبُ عَذابًا هو أشدُّ عَذابٍ يُعَذَّبُه العُصاةُ، أي: عَذابًا لا نَظيرَ له في أصْنافِ عَذابِ المُعذَّبين. و(أحدٌ) يُستعمَلُ في النَّفيِ لاستغراقِ جِنسِ الإنسانِ، (فأحدٌ) في سِياقِ النَّفيِ يعُمُّ كلَّ أحدٍ؛ فانحصَرَ الأحدُ المُعذِّبُ -بكسْر الذَّالِ- في فرْدٍ، وهو اللهُ تعالَى. وانتصابُ وَثَاقَهُ كانتصابِ عَذَابَهُ على المفعوليَّةِ المُطلَقةِ لمعْنى التَّشبيهِ .
3- قولُه تعالَى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي
- اتِّصالُ هذه الآيةِ بالآياتِ الَّتي قبْلَها في التِّلاوةِ وكِتابةِ المصحفِ، الأصلُ فيه أنْ تكونَ نَزَلَتْ مع الآياتِ الَّتي قبْلَها في نسَقٍ واحدٍ، وذلك يَقْتضي أنَّ هذا الكلامَ يُقالُ في الآخرةِ؛ فيَجوزُ أنْ يُقالَ يومَ الجَزاءِ، فهو مَقولُ قَولٍ مَحذوفٍ هو جَوابُ (إذا) في إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ [الفجر: 21] الآيةَ، وما بيْنَهما مُستطرَدٌ واعتراضٌ، فهذا قولٌ يَصدُرُ يومَ القِيامةِ مِن جانبِ القُدسِ مِن كَلامِ اللهِ تعالَى، أو مِن كَلامِ الملائكةِ؛ فإنْ كان مِن كَلامِ اللهِ تعالَى، كان قولُه: إِلَى رَبِّكِ إظهارًا في مَقامِ الإضمارِ، بقَرينةِ تَفريعِ فَادْخُلِي فِي عِبَادِي عليه، ونُكتةُ هذا الإظهارِ ما في وصْفِ (ربّ) مِن الولاءِ والاختصاصِ، وما في إضافتِه إلى ضَميرِ النَّفْسِ المُخاطَبةِ مِن التَّشريفِ لها، وإنْ كان مِن قولِ الملائكةِ فلَفْظُ رَبِّكِ جَرى على مُقْتضى الظَّاهرِ، وعطْفُ فَادْخُلِي فِي عِبَادِي عطْفُ تَلقينٍ يَصدُرُ مِن كَلامِ اللهِ تعالَى؛ تَحقيقًا لقولِ الملائكةِ: ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ. ويَجوزُ أنْ تكونَ الآيةُ استِئنافًا ابتدائيًّا جَرَى على مُناسَبةِ ذِكرِ عَذابِ الإنسانِ المشرِكِ، فتكونَ خِطابًا مِن اللهِ تعالَى لنُفوسِ المؤمنينَ المُطمئنَّةِ .
- والمُطمئنَّةُ: يجوزُ أنْ يكونَ مِن سُكونِ النَّفْسِ بالتَّصديقِ لِما جاء به القرآنُ دونَ تَردُّدٍ ولا اضطرابِ بالٍ، فيكونَ ثَناءً على هذه النَّفْسِ .
- ووَصْفُ النَّفسِ بالمُطمئنَّةِ ليس وَصْفًا للتَّعريفِ ولا للتَّخصيصِ، أي: لتَمييزِ المُخاطَبينَ بالوصْفِ الَّذي يُميِّزُهم عمَّن عَداهم، فيَعرِفون أنَّهم المُخاطَبونَ المَأْذونونَ بدُخولِ الجنَّةِ؛ لأنَّهم لا يَعرِفون أنَّهم مُطمئنُّونَ إلَّا بعْدَ الإذنِ لهم بدُخولِ الجنَّةِ، فالوصْفُ مُرادٌ به الثَّناءُ، والإيماءُ إلى وَجْهِ بِناءِ الخبَرِ، وتَبشيرُ مَن وُجِّهَ الخِطابُ إليهم بأنَّهم مُطمئنُّونَ آمِنونَ. ويجوزُ أنْ يكونَ للتَّعريفِ، أو التَّخصيصِ بأنْ يَجعَلَ اللهُ إلهامًا في قُلوبِهم يَعرِفون به أنَّهم مُطمئنُّون .
- والأمرُ في ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ مُرادٌ منه تَقييدُه بالحالَينِ بعْدَه؛ وهما رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، وهو مِن استِعمالِ الأمرِ في الوعْدِ. والإضمارُ في قولِه: فِي عِبَادِي وقولِه: جَنَّتِي الْتفاتٌ مِن الغَيبةِ إلى التَّكلُّمِ .
- والرَّاضيةُ: الَّتي رَضِيت بما أُعطِيَتْه مِن كَرامةٍ، وهو كِنايةٌ عن إعطائِها كلَّ ما تَطمَحُ إليه .
- والمَرضيَّةُ: اسمُ مَفعولٍ، وأصْلُه: مَرضيًّا عنها، فوَقَعَ فيه الحذْفُ والإيصالُ ؛ فصار نائبَ فاعلٍ بدونِ حرْفِ الجرِّ، والمقصودُ مِن هذا الوصفِ زِيادةُ الثَّناءِ مع الكِنايةِ عن الزِّيادةِ في إفاضةِ الإنعامِ؛ لأنَّ المَرْضيَّ عنه يَزيدُه الرَّاضي عنه مِن الهِباتِ والعَطايا فوقَ ما رَضِيَ به هو .
- وفُرِّعَ على هذه البُشرَى الإجماليَّةِ تَفصيلُ ذلك بقولِه: فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي، فهو تَفصيلٌ بعْدَ الإجمالِ؛ لتَكريرِ إدْخالِ السُّرورِ على أهْلِها، والمعْنى: ادخُلي في زُمرةِ عِبادي، والمرادُ العِبادُ الصَّالحونَ؛ بقَرينةِ مَقامِ الإضافةِ، مع قَرْنِه بقولِه: جَنَّتِي .
- وإضافةُ (جنَّة) إلى ضَميرِ الجَلالةِ إضافةُ تَشريفٍ، وهذه الإضافةُ هي ممَّا يَزيدُ الالتفاتَ إلى ضَميرِ التَّكلُّمِ حُسنًا بعْدَ طَريقةِ الغَيبةِ بقولِه: ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ .
- وفيه تَكريرُ فِعلِ وَادْخُلِي، حيثُ لم يقلْ: (فادْخُلي جنَّتي في عِبادي)؛ للاهتِمامِ بالدُّخولِ بخُصوصِه؛ تَحقيقًا للمَسَرَّةِ لهم .