موسوعة التفسير

سورةُ الغاشِيةِ
الآيات (21-26)

ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ

غريب الكلمات:

بِمُصَيْطِرٍ: أي: بمُسَلَّطٍ قاهِرٍ، والمُصَيْطِرُ: المُجْبِرُ المُكْرِهُ. وقيل: أي: قائمٍ وحافظٍ، والمُسَيْطِرُ هو المُتَعهِّدُ للشَّيءِ المُتَسلِّطُ عليه، يُقالُ: صَيْطَر وسَيْطَر بالصَّادِ والسِّينِ .
تَوَلَّى: أي: أعرَضَ، والتَّولِّي إذا وُصِلَ بـ (عن) لفظًا، أو تقديرًا -كما هنا- اقتضَى معنَى الإعراضِ، وتَركِ القُربِ .
إِيَابَهُمْ: أي: رُجوعَهم بعدَ الموتِ، وأصلُ (أوب): يدُلُّ على رُجوعٍ .

المعنى الإجمالي:

يأمُرُ اللهُ تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم بدَوامِ التَّذكيرِ، فيقولُ: فذَكِّرِ النَّاسَ -يا محمَّدُ- بآياتِ اللهِ تعالى، وعِظْهُم بها؛ فما أرسَلْتُك إليهم إلَّا لتَذكيرِهم، ولَسْتَ مُتسَلِّطًا على النَّاسِ ولا قاهِرًا لهم؛ فتُكرِهَهم على الإيمانِ باللهِ وطاعتِه، لكِنْ مَن أعرَضَ عن الحَقِّ وكَفَر بعدَ تذكيرِه بآياتِ اللهِ تعالى، فيُعَذِّبُه اللهُ في الآخِرةِ عذابَ النَّارِ الأكبَرَ.
ثمَّ يختمُ الله تعالى السُّورةَ الكريمةَ فيقولُ: إنَّ إلينا مَرجِعَهم ومَصيرَهم بعْدَ مَوتِهم، ثمَّ إنَّ علينا حِسابَهم يومَ القيامةِ على أعمالِهم، وسنُجازيهم بها.

تفسير الآيات:

فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّن الدَّلائِلَ على صِحَّةِ التَّوحيدِ والمَعادِ، قال لِرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، وتذكيرُ الرَّسولِ إنَّما يكونُ بذِكرِ هذه الأدِلَّةِ وأمثالِها، والبَعْثِ على النَّظَرِ فيها، والتَّحذيرِ مِن تَرْكِ تلك، وذلك بَعْثٌ منه تعالى للرَّسولِ على التَّذكيرِ والصَّبرِ على كُلِّ عارِضٍ معه؛ وبيانُ أنَّه إنَّما بُعِثَ لذلك دونَ غَيرِه؛ فلهذا قال :
فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21).
أي: فذَكِّرِ النَّاسَ -يا محَمَّدُ- بآياتِ اللهِ تعالى، وعِظْهُم بها؛ فما أرسَلْتُك إليهم إلَّا لتَذكيرِهم .
كما قال تعالى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق: 45] .
وقال عزَّ وجَلَّ: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 55].
لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22).
النَّاسِخُ والمَنسوخُ:
الآيةُ مُحكَمةٌ غَيرُ مَنسوخةٍ .
وقيل: هي مَنسوخةٌ بآيةِ السَّيفِ، وهي قَولُه تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ... [التوبة: 5] .
لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22).
أي: لم تُبعَثْ -يا محَمَّدُ- مُتسَلِّطًا على النَّاسِ وقاهِرًا لهم؛ فتُكرِهَهم على الإيمانِ باللهِ وطاعتِه .
كما قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة: 272] .
وقال سُبحانَه: إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الزمر: 41] .
وقال عزَّ وجَلَّ: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ [الشورى: 48] .
وقال تبارك وتعالى: وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ [ق: 45] .
إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا نفى عنهم تسَلُّطَ الدُّنيا، وكان التَّقديرُ: فمَنْ أقْبَلَ وآمَنَ فإنَّ اللهَ يُنَعِّمُه النَّعيمَ الأكبَرَ؛ قال مُستَدرِكًا قَسيمَهم في صورةِ الاستثناءِ :
إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23).
أي: إلَّا مَن أعرَضَ عن الحَقِّ وكَفَر بعدَ تذكيرِه بآياتِ اللهِ تعالى .
فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24).
أي: فيُعَذِّبُه اللهُ في الآخِرةِ على كُفْرِه وإعراضِه عذابَ النَّارِ الَّذي لا عذابَ أعظَمُ منه .
كما قال تعالى: وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه: 127] .
وقال سُبحانَه وتعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السجدة: 21] .
إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25).
أي: إنَّ إلينا مَرجِعَهم ومَصيرَهم بعْدَ مَوتِهم .
كما قال سبحانه وتعالى: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [المائدة: 105] .
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26).
أي: ثمَّ إنَّ علينا حِسابَهم يومَ القيامةِ على أعمالِهم، وسنُجازيهم بها .
قال تعالى: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [الرعد: 40] .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ أنَّ مِنَ الجَهَلةِ مَن يضَعُ قَولَه تعالى هذا في غيرِ مَوضِعِه، ويَحيدُ به عن مَهْيَعِه، فيُريدُ أن يتَّخِذَه حُجَّةً على حُرِّيَّةِ التَّدَيُّنِ بيْن جماعاتِ المسِلمينَ! وشتَّانَ بيْن أحوالِ أهلِ الشِّركِ وأحوالِ جامِعةِ المسلِمينَ؛ فمَن يُلحِدُ في الإسلامِ بعْدَ الدُّخولِ فيه يُستتابُ ثلاثًا، فإنْ لم يَتُبْ قُتِلَ، وإنْ لم يُقْدَرْ عليه فعلى المسلِمينَ أن يَنبِذُوه مِن جامِعَتِهم، ويُعامِلوه مُعاملةَ المحارِبِ، وكذلك مَن جاء بقَولٍ أو عمَلٍ يَقتضي نَبْذَ الإسلامِ، أو إنكارَ ما هو مِن أُصولِ الدِّينِ بالضَّرورةِ، بعدَ أن يُوقَفَ على مآلِ قَولِه أو عَمَلِه، فيَلتَزِمُه ولا يتأوَّلُه بتأويلٍ مقبولٍ، ويأبى الانكِفافَ .
2- في قَولِه تعالى: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ أنَّ الدَّاعيَ إلى اللهِ لا يَنبغي أنْ يَحزَنَ إذا لم تُقْبَلْ دعوتُه، فإذا أدَّى ما يجبُ عليه فقد بَرِئَتِ الذِّمَّةُ، والحِسابُ على اللهِ تعالى؛ فقَولُه تعالى: إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ يعني: لكِنْ مَن تولَّى وكَفَرَ -على قولٍ- فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ، فلا تحزَنْ أيُّها الدَّاعي إلى اللهِ إذا رُدَّ قولُك، أو إذا لم يُقْبَلْ لأوَّلِ مرَّةٍ؛ لأنَّك أدَّيتَ ما يجِبُ عليك .
3- في قَولِه تعالى: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ أنَّ الرُّجوعَ هو إلى اللهِ تعالى، فمهما فَرَّ الإنسانُ، وطالتْ به حياةٌ فإنَّه راجعٌ إلى اللهِ؛ ولهذا قال تعالى: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [الانشقاق: 6] ؛ فاستَعِدَّ يا أخي لهذه المُلاقاةِ، وقد قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم: ((ما مِنكم مِن أحدٍ إلَّا سيُكَلِّمُه ربُّه ليس بيْنَه وبيْنه تَرْجُمانٌ، فيَنظُرُ أيْمَنَ منه فلا يرى إلَّا ما قَدَّمَ مِن عمَلِه، ويَنظُرُ أشْأَمَ منه -يعني: على اليَسارِ- فلا يرى إلَّا ما قَدَّمَ، وينظُرُ بيْنَ يديه فلا يرَى إلَّا النَّارَ تِلْقاءَ وجْهِه؛ فاتَّقوا النَّارَ ولو بشِقِّ تمرةٍ )) ، والله عزَّ وجَلَّ يومَ القيامةِ يُقَرِّرُ العبدَ بذُنوبِه، يقولُ: فعَلْتَ كذا في يومِ كذا، حتَّى يُقِرَّ ويَعترِفَ، فإذا أَقَرَّ واعترفَ قال اللهُ تعالى: ((ستَرْتُها عليك في الدُّنيا، وأنا أغفِرُها لك اليَومَ )) ، وكم مِن ذُنوبٍ سَتَرَها اللهُ عزَّ وجَلَّ! كم مِن ذُنوبٍ اقتَرَفْناها لم يَعلَمْ بها أحدٌ، ولكنَّ اللهَ تعالى عَلِمَ بها! فمَوقِفُنا مِن هذه الذُّنوبِ أنْ نستغفِرَ اللهَ عزَّ وجَلَّ، وأنْ نُكْثِرَ مِن الأعمالِ الصَّالحةِ المكفِّرةِ للسَّيِّئاتِ؛ حتَّى نلقى اللهَ عزَّ وجَلَّ ونحن على ما يُرْضيه سُبحانَه وتعالى .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله عزَّ وجَلَّ: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ في قَولِه تعالى: فَذَكِّرْ لم يَخْصُصِ اللهُ أحدًا بالتَّذكيرِ، أي: لم يَقُلْ: ذَكِّرْ فُلانًا وفُلانًا، فالتَّذكيرُ عامٌّ؛ لأنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم بُعِثَ إلى النَّاسِ كافَّةً، أي: ذَكِّرْ كلَّ أحدٍ في كلِّ حالٍ، وفي كلِّ مكانٍ؛ فذَكَّرَ النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وذَكَّرَ خُلَفاؤُه مِن بَعْدِه؛ الَّذين خَلَفُوه في أُمَّتِه في العِلمِ والعَمَلِ والدَّعوةِ .
2- في قَولِه تعالى: إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ أنَّ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليس إلَّا مُذَكِّرًا مُبَلِّغًا، وأمَّا الهدايةُ فبِيَدِ اللهِ تعالى؛ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة: 272] .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ
- الفاءُ في فَذَكِّرْ تفريعٌ على مُحصَّلِ ما سبَقَ مِن أوَّلِ السُّورةِ الَّذي هو التَّذكيرُ بالغاشيةِ وما اتَّصَلَ به مِن ذِكرِ إعراضِهِم وإنذارِهم، رُتِّبَ على ذلك أمْرُ اللهِ رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالدَّوامِ على تَذكيرِهم، وأنَّه لا يُؤيسُه إصرارُهم على الإعراضِ وعدَمُ ادِّكارِهم بما ألْقى إليهم مِن المواعظِ، وتَثبيتُه بأنَّه لا تَبِعةَ عليه مِن عدَمِ إصغائِهم؛ إذْ لم يُبعَثْ مُلجِئًا لهم على الإيمانِ، فالأمرُ مُستعمَلٌ في طلَبِ الاستمرارِ والدَّوامِ .
- ومَفعولُ (ذكِّرْ) مَحذوفٌ، هو ضَميرٌ يدُلُّ عليه قولُه بعْدَه: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ .
- وجُملةُ إِنَّمَا أَنْتَ تَعليليَّةٌ للأمْرِ بالدَّوامِ على التَّذكيرِ مع عدَمِ إصغائِهِم .
- والقصْرُ المُستفادُ بـ إِنَّمَا قصْرٌ إضافيٌّ ، أي: أنت مُذكِّرٌ لستَ وَكيلًا على تَحصيلِ تَذَكُّرِهم، فلا تَتحرَّجْ مِن عدَمِ تَذكُّرِهم؛ فأنت غيرُ مُقصِّرٍ في تَذكيرِهم، وهذا تَطمينٌ لنفْسِه الزَّكيَّةِ صلَّى الله عليه وسلَّم .
- قولُه: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ تَقريرٌ وتَحقيقٌ لمَعْنى الإنذارِ، أي: لستَ بمُتسَلِّطٍ عليهم تُجبِرُهم على ما تُريدُ ؛ فهذه الجُملةُ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ بدَلُ اشتِمالٍ مِن جُملةِ القصْرِ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ باعتبارِ جانبِ النَّفْيِ الَّذي يُفيدُه القصرُ، فنفْيُ كَونِه مُصَيطِرًا عليهم خبَرٌ مُستعمَلٌ في غيرِ الإخبارِ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَعلَمُ أنَّه لم يُكلَّفْ بإكراهِهِم على الإيمانِ، فالخبَرُ بهذا النَّفيِ مُستعمَلٌ كِنايةً عن التَّطمينِ برَفْعِ التَّبِعةِ عنه مِن جرَّاءِ استمرارِ أكثَرِهم على الكُفرِ .
- وتَقديمُ عَلَيْهِمْ على مُتعلَّقِه -وهو (مُصَيْطِرٍ)-؛ للرِّعايةِ على الفاصِلةِ .
2- قولُه تعالَى: إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ مُعترِضٌ بيْن جُملةِ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ وجُملةِ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ [الغاشية: 25] ، والمقصودُ مِن هذا الاعتراضِ الاحتراسُ مِن تَوهُّمِهم أنَّهم أصْبَحوا آمِنينَ مِن المُؤاخَذةِ على عدَمِ التَّذكُّرِ؛ فحرْفُ (إلَّا) للاستثناءِ المنقطِعِ -على قولٍ-، وهو بمعْنى الاستِدراكِ، والمعْنى: لكنْ مَن تَولَّى عن التَّذكُّرِ ودامَ على كُفْرِه، يُعذِّبُه اللهُ العذابَ الشَّديدَ .
- وعلى القولِ بأنَّ الاستثناءَ في قولِه: إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ استِثناءٌ مُتَّصلٌ؛ فإنَّ جِهادَ الكفَّارِ وقتْلَهم تَسلُّطٌ، كأنَّه قِيل: لستَ عليهم بِمُصَيْطِرٍ -أي: بمُتسلِطٍ- بالقتْلِ والجِهادِ إلَّا مَن تَولَّى وكَفَرَ، كأنَّه أوعَدَهم بالجهادِ في الدُّنيا، وعَذابِ النَّارِ في الآخرةِ. وقيل: هو استِثناءٌ مِن قولِه: فَذَكِّرْ، أي: فذَكِّرْ إلَّا مَن انقَطَعَ طَمَعُك مِن إيمانِه وتَولَّى، فاستحَقَّ العَذابَ الأكبَرَ، وما بيْنَهما إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ اعتراضٌ .
- في قولِه: الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ لم يَذْكُرِ المفضَّلَ عليه، يعني: لم يَقُلْ: الأكبرَ مِن كذا؛ فهو قد بَلَغ الغايةَ في الكِبَرِ والمشَقَّةِ والإهانةِ .
3- قولُه تعالَى: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ
- قولُه: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ تَعليلٌ للعذابِ الأكبَرِ؛ أي: إنَّ إلينا رجوعَهُم بالموتِ والبَعثِ لا إلى أحدٍ سِوانا؛ لا استقلالًا ولا اشتِراكًا . وقيل: هو تَعليلٌ لجُملةِ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية: 22] ، أي: لسْتَ مُكلَّفًا بجَبْرِهم على التَّذكُّرِ والإيمانِ؛ لأنَّا نُحاسِبُهم حِينَ رُجوعِهم إلينا في دارِ البَقاءِ .
- والسِّرُّ في تَقديمِ الجارِّ والمجرورِ في قولِه: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ؛ التَّشديدُ والمُبالَغةُ في الوعيدِ، وأنَّ إيابَهم ليس إلَّا إلى الجَبَّارِ المُقتدِرِ على الانتقامِ، وأنَّ حِسابَهم ليس إلَّا عليه تعالى، وهو الَّذي يُحاسِبُ على النَّقيرِ والقِطْميرِ، وبَيانُ ذلك أنَّه تعالَى علَّل قولَه: فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ بقولِه: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ، والْتَفَتَ فيه مِن الغَيبةِ إلى الحِكايةِ، ومِن الاسمِ الجامعِ إلى صِيغةِ الكِبرياءِ والجَبَروتِ، وقدَّمَ الظَّرفينِ على عامِلَيْهما .
وقيل: يَظهَرُ أنَّ تَقديمَ خبَرِ (إنَّ) على اسْمِها لمُجرَّدِ الاهتمامِ تَحقيقًا لهذا الرُّجوعِ؛ لأنَّهم يُنكِرونه، وتَنبيهًا على إمكانِه بأنَّه رُجوعٌ إلى الَّذي أنشَأَهم أوَّلَ مرَّةٍ .
- وجاء الخبَرُ مُؤكَّدًا بـ (إنَّ)، كأنَّهم وقد تَردَّدوا بحاجةٍ إلى تَأكيدِ هذا الأمرِ الَّذي أشاحُوا عنه ولم يَتدبَّروه .
- ونُقِلَ الكلامُ مِن أسلوبِ الغَيبةِ في قولِه: فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ [الغاشية: 24] إلى أُسلوبِ التَّكلُّمِ بقولِه: إِلَيْنَا على طَريقةِ الالْتفاتِ .
- والعطفُ بحرْفِ (ثُمَّ) في قولِه: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ للدَّلالةِ على التَّراخي في الرُّتبةِ لا في الزَّمانِ؛ فإنَّ حِسابَهم هو الغرَضُ مِن إيابِهِم، وهو أوقَعُ في تَهديدِهم على التَّولِّي، فالحسابُ قدْ يكونُ مُباشَرةً بعدَ الإيابِ، ولكنَّ التَّفاوُتَ بيْن الموقفَينِ أمرٌ لا تُكْتَنَهُ أهوالُه، ولا يَدْري أحدٌ مَداهُ، ولا يَتصَوَّرُه العقلُ على الإطلاقِ .
- ومعْنى (على) مِن قولِه: عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ أنَّ حِسابَهم -لتَأكُّدِه في حِكمةِ اللهِ- يُشبِهُ الحقَّ الَّذي فَرَضَه اللهُ على نفْسِه .
- وأيضًا هذه الجُملةُ: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ هي المقصودُ مِن التَّعليلِ، والَّتي قبْلَها بمعْنَى التَّمهيدِ لها والإدماجِ لإثباتِ البَعثِ، وفي ذلك إيذانٌ بأنَّ تَأخيرَ عِقابِهم إمهالٌ، فلا يَحسَبوه انفلاتًا مِن العِقابِ .
- وفي تَصديرِ الجُملتَينِ بـ (إنَّ) وتَقديمِ خبَرِها، وعطْفِ الثَّانيةِ على الأُولى بكلمةِ (ثُمَّ) المفيدةِ لبُعدِ مَنزلةِ الحِسابِ في الشِّدَّةِ؛ مِن الإنباءِ عن غايةِ السَّخطِ الموجِبِ لتَشديدِ العَذابِ ما لا يَخفَى .