موسوعة التفسير

سُورةُ ق
الآيات (41-45)

ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ

غريب الكلمات:

سِرَاعًا: جَمعُ سَريعٍ، أي: مُسرِعينَ في الخُروجِ إلى محَلِّ الحِسابِ، وأصلُ (سرع): يدُلُّ على خِلافِ البُطءِ .
بِجَبَّارٍ: أي: بمُسَلَّطٍ تُجبِرُهم على الإسلامِ؛ مِن: جَبَرَه على الأمرِ، بمعنى: أكرَهَه، وأصلُ (جبر): يدُلُّ على العَظَمةِ والعُلُوِّ .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى مبيِّنًا بعضَ أهوالِ يومِ القيامةِ: واستَمِعْ -يا محمَّدُ- حينَ يُنادي الملَكُ النَّاسَ مِن مَوضِعٍ قَريبٍ؛ يومَ يَسمَعُ الخَلقُ صَيحةَ البَعثِ بالحَقِّ، ذلك اليَومُ هو يَومُ خُروجِ النَّاسِ أحياءً مِن قُبورِهم للحَشرِ والحِسابِ.
ثمَّ يبيِّنُ كمالَ قدرتِه تعالى، فيقولُ: إنَّا نحن نُحيي الموتى، ونُميتُ الأحياءَ بقُدرتِنا، وإلينا مَرجِعُ الخَلائِقِ يومَ القيامةِ؛ يومَ تتصَدَّعُ الأرضُ عن الأمواتِ، فيَخرُجونَ مِن قُبورِهم أحياءً مُسرِعينَ إلى أرضِ المَحشَرِ، ذلك الحشَرُ سَهلٌ وهَيِّنٌ علينا.
ثمَّ يقولُ تعالى مُسلِّيًا نَبِيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم: نحن أعلَمُ بما يَقولُ الكُفَّارُ، وما أنت بمُسَلَّطٍ عليهم -يا محمَّدُ- فتُجبِرَهم على اتِّباعِ الحَقِّ، وإنَّما عليك البَلاغُ، فذكِّرْ بالقُرآنِ مَن يخافُ عذابي الَّذي توعَّدْتُ به مَن عَصاني.

تفسير الآيات:

وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41).
أي: واستَمِعْ -يا محمَّدُ- حينَ يُنادي الملَكُ الموكَّلُ بالصُّوْرِ النَّاسَ مِن مَوضِعٍ قَريبٍ .
يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42).
يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ.
أي: وذلك يومَ يَسمَعُ الخَلقُ صَيحةَ البَعثِ بالحَقِّ .
ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ.
أي: ذلك اليَومُ هو اليَومُ الَّذي يَخرُجُ فيه النَّاسُ أحياءً مِن قُبورِهم للحَشرِ والحِسابِ .
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43).
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ.
أي: إنَّا نحن نُحيي الموتَى، ونُميتُ الأحياءَ بقُدرتِنا .
كما قال تعالى: لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الحديد: 2] .
وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ.
أي: وإلينا مَرجِعُ جَميعِ الخَلقِ يومَ القيامةِ، فنُحاسِبُهم ونُجازيهم بحَسَبِ أعمالِهم .
كما قال تعالى: هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يونس: 56] .
وقال سُبحانَه: إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى [العلق: 8] .
يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44).
يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا.
أي: يومَ تتصَدَّعُ الأرضُ عن الأمواتِ، فيَخرُجونَ مِن قُبورِهم أحياءً، وهم مُسرِعونَ إلى أرضِ المَحشَرِ .
كما قال الله سبحانه وتعالى: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [المعارج: 43] .
وقال تبارك وتعالى: وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ [الانفطار: 4].
وعن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((النَّاسُ يَصعَقونَ يومَ القيامةِ، فأكونُ أوَّلَ مَن تَنشَقُّ عنه الأرضُ )) .
ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ.
أي: جمْعُ النَّاسِ في أرضِ المَحشَرِ يومَ القيامةِ شَأنٌ سَهلٌ وهَيِّنٌ علينا، لا تَعَبَ فيه ولا مَشقَّةَ .
كما قال تعالى: مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [لقمان: 28] .
وقال سُبحانَه: إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ [يس: 53] .
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّها تَسليةٌ لقَلبِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمُؤمِنينَ، وتَحريضٌ لهم على ما أُمِرَ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ الصَّبرِ والتَّسبيحِ، أي: اشتَغِلْ بما قُلْناه، ولا تَشغَلْك الشَّكوى إلينا؛ فإنَّا نَعلَمُ أقوالَهم، ونرَى أعمالَهم .
وأيضًا فهذه الآيةُ تَقريرٌ للحَشرِ؛ وذلك لأنَّه لَمَّا بَيَّن اللهُ تعالى أنَّ الحَشرَ عليه يَسيرٌ؛ لكَمالِ قُدرتِه، ونُفوذِ إرادتِه، ولكِنَّ تَمامَ ذلك بالعِلمِ الشَّامِلِ، حتَّى يُمَيَّزَ بينَ جُزءِ بَدَنَينِ: جُزءِ بَدَنِ زَيدٍ، وجُزءِ بَدَنِ عَمرٍو؛ فقال: ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ؛ لكَمالِ قُدرتِنا، ولا يَخفى علينا الأجزاءُ؛ لِمَكانِ عِلْمِنا .
وأيضًا لَمَّا أقام اللهُ سُبحانَه الأدِلَّةَ على تمامِ قُدرتِه وشُمولِ عِلْمِه، وخَتَم بسُهولتِه عليه واختِصاصِه به؛ وَصَل -تَسليةً للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- بتَهديدِهم على تَكذيبِهم بالعِلمِ الَّذي هو أعظَمُ التَّهديدِ .
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ.
أي: نحن أعلَمُ بما يَقولُه الكُفَّارُ مِنَ الكَذِبِ والافتراءِ على اللهِ، والتَّكذيبِ بآياتِه ورُسُلِه، والإنكارِ لقُدرتِه على بَعثِ عِبادِه .
وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ.
أي: وما أنت بمُسَلَّطٍ عليهم -يا محمَّدُ- فتُجبِرَهم على اتِّباعِ الحَقِّ، وتَقهَرَهم على الانقيادِ إليه، وإنَّما عليك البَلاغُ .
كما قال الله تبارك وتعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة: 272] .
وقال سُبحانَه: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [يونس: 99، 100].
وقال الله عزَّ وجلَّ: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ [الغاشية: 21، 22].
فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ.
أي: فذكِّرْ -يا محمَّدُ- بهذا القُرآنِ مَن يخافُ عذابي الَّذي توعَّدْتُ به مَن عَصاني .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس: 57].
وقال سُبحانَه: إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [يس: 11] .
وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا [النازعات: 45] .

الفوائد التربوية:

1- مَدارُ السَّعادةِ وقُطبُ رَحاها على التَّصديقِ بالوَعيدِ، فإذا تعطَّلَ مِن قَلبِه التَّصديقُ بالوَعيدِ خَرِبَ خَرابًا لا يُرجَى معه فَلاحٌ البتَّةَ، واللهُ تعالى أخبَرَ أنَّه إنَّما تَنفَعُ الآياتُ والنُّذُرُ لِمَن صَدَّق بالوَعيدِ، وخاف عذابَ الآخِرةِ، فهؤلاء هم المقصودونَ بالإنذارِ، والمُنتَفِعونَ بالآياتِ دونَ مَن عَداهم؛ قال اللهُ تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ [هود: 103] ، وقال: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا [النازعات: 45] ، وقال: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ، وأخبَرَ تعالى أنَّ أهلَ النَّجاةِ في الدُّنيا والآخرةِ هم المصَدِّقونَ بالوَعيدِ، الخائِفونَ منه؛ فقال تعالى: وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم: 14] .
2- تذكُّرُ الوَعدِ والوَعيدِ يُوجِبُ خَشيتَه والحَذَرَ منه، ولا تَنفَعُ الموعِظةُ إلَّا لِمَنْ آمَنَ به وخافَه ورَجاه؛ قال الله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ [هود: 103] ، وقال: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى [الأعلى: 10] ، وقال: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا [النازعات: 45] ، وأصرَحُ مِن ذلك قَولُه تعالى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ؛ فالإيمانُ بالوَعدِ والوَعيدِ وذِكرُه: شَرطٌ في الانتِفاعِ بالعِظاتِ والآياتِ والعِبَرِ، يَستحيلُ حُصولُه بدُونِه .

الفوائد العلمية واللطائف:

قَولُ اللهِ تعالى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ فيه سُؤالٌ: هذه الآيةُ تدُلُّ على خُصوصِ التَّذكيرِ بالقُرآنِ بمَن يَخافُ وَعيدَ اللهِ، وقد جاءت آياتٌ أُخَرُ تدُلُّ على عُمومِه، كقَولِه تعالى: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ [الغاشية: 21] ، وقَولِه تعالى: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا [طه: 113] .
الجوابُ: أنَّ التَّذكيرَ بالقُرآنِ عامٌّ، إلَّا أنَّه لَمَّا كان المُنتَفِعُ به هو مَن يَخافُ وَعيدَ اللهِ صار كأنَّه مُختَصٌّ به، كما أشار إليه قَولُه تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 55].

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ
- قولُه: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ عطْفٌ على جُملةِ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [ق: 39] ؛ فالأمرُ بالاستِماعِ مُفرَّعٌ بالفاءِ الَّتي فُرِّعَ بها الأمْرُ بالصَّبرِ على ما يقولونَ، فهو لاحِقٌ بتَسليةِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فلا يكونُ المَسموعُ إلَّا مِن نَوعِ ما فيه عِنايةٌ به وعقوبةٌ لِمُكذِّبيه .
- وابتداءُ الكلامِ بقولِه: وَاسْتَمِعْ يُفيدُ توثيقًا إلى ما يَرِدُ بَعْدَه .
- يَجوزُ حمْلُ الاستِماعِ على الإنصاتِ والإصغاءِ، وإذ كان المذكورُ عقِبَ فِعلِ السَّمْعِ لا يَصلُحُ لِأنْ يكونَ مَسموعًا -لأنَّ اليَومَ ليس ممَّا يُسمَعُ- تَعيَّنَ تَقديرُ مَفعولٍ لـ (اسْتَمِعْ) يدُلُّ عليه الكلامُ الَّذي بعْدَه، فيُقدَّرُ: استمِعْ نِداءَ المُنادي، أو استمِعْ خبَرَهم، أو استمِعِ الصَّيحةَ يومَ يُنادي المُنادي. ويجوزُ جعْلُ فِعلِ (اسْتَمِعْ) مُنزَّلًا مَنزِلةَ اللَّازِمِ، أي: كُنْ سامِعًا، فيَكونُ مَعنى الأمْرِ بالاستِماعِ تَخييلًا لصَيحةِ ذلك اليومِ في صُورةِ الحاصِلِ، بحيث يُؤمَرُ المخاطَبُ بالإصغاءِ إليها في الحالِ. أو يُحمَلُ (اسْتَمِعْ) على أنَّه بمَعنى: انتظِرْ؛ لأنَّ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يُؤمَرْ بأنْ يَستمِعَ في يومِ النِّداءِ؛ لأنَّ كلَّ مَن فيه يَستمِعُ، وإنَّما الآيةُ في معنى الوعيدِ للكفَّارِ، فقِيل لمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: تَحسَّسْ هذا اليومَ وارْتقِبْه؛ فإنَّ فيه تَبيُّنَ صِحَّةِ ما قُلْتُه. أو المعنى: واستمِعْ لِمَا أُخبِرُك به مِن حالِ يومِ القِيامةِ، وفي ذلك تَهويلٌ وتعظيمٌ لشأنِ المُخبَرِ به؛ لِمَا في الإبهامِ والتَّفسيرِ مِن التَّهْويلِ والتَّعظيمِ .
- وتعريفُ الْمُنَادِ تَعريفُ الجِنسِ، أي: يومَ يُنادي المَلَكُ الَّذي يَنفُخُ النَّفْخةَ الثَّانيةَ، فتَتكوَّنُ الأجسادُ، وتحُلُّ فيها أرواحُ النَّاسِ للحَشرِ .
- وتنْوينُ مَكَانٍ قَرِيبٍ للنَّوعيَّةِ؛ إذ لا يَتعلَّقُ الغرَضُ بتَعيينِه. ووصْفُه بـ قَرِيبٍ؛ للإشارةِ إلى سُرعةِ حُضورِ المُنادَينَ، وهو الَّذي فسَّرَتْه جُملةُ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ؛ لأنَّ المعروفَ أنَّ النِّداءَ مِن مكانٍ قريبٍ لا يَخفَى على السَّامِعينَ، بخِلافِ النِّداءِ مِن مكانٍ بعيدٍ .
- وبِالْحَقِّ بمعنى: بالصِّدقِ، وهو هنا الحَشرُ -على قولٍ-؛ وُصِفَ بالحقِّ إبطالًا لزعْمِ المشركينَ أنَّه اختِلاقٌ .
- قولُه: ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ اسمُ الإشارةِ ذَلِكَ جيءَ به لتَهويلِ المشارِ إليه، وهو يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ؛ فأُريدَ كَمالُ العِنايةِ بتمْييزِه؛ لاختِصاصِه بهذا الخبَرِ العظيمِ، وكان مُقتضَى الظَّاهرِ أنْ يُقالَ: (هو يومُ الخُروجِ) .
2- قولُه تعالَى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ تَذييلٌ، أي: هذا الإحياءُ بعدَ أنْ أَمَتْناهم هو مِن شُؤونِنا؛ بأنَّا نُحييهم، ونُحيي غيرَهم، ونُميتُهم، ونُميتُ غيرَهم، والمقصودُ هو قولُه: وَنُمِيتُ، وأمَّا قولُه: نُحْيِي؛ فإنَّه لاستِيفاءِ معنى تَصرُّفِ اللهِ تعالى في الخَلْقِ .
- وتَقديمُ وَإِلَيْنَا في وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ؛ للاهتِمامِ .
- والتَّعريفُ في الْمَصِيرُ إمَّا تَعريفُ الجِنسِ، أي: كلُّ شَيءٍ صائرٌ إلى ما قدَّرْناه له، وأكبرُ ذلك هو ناموسُ الفَناءِ المكتوبِ على جَميعِ الأحياءِ، وإمَّا تَعريفُ العَهدِ، أي: المصيرُ المُتحدَّثُ عنه، وهو الموتُ؛ لأنَّ المصيرَ بعْدَ الموتِ إلى حُكمِ اللهِ تعالَى .
3- قولُه تعالَى: يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ بَيانٌ لجُملةِ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ [ق: 42] ، أو بدَلُ اشتِمالٍ منها، مع ما في المُعادِ منها مِن تأْكيدٍ لِمُرادِفِه. أو استِئنافٌ يُفيدُ الاستِدلالَ على إمكانِ الحَشرِ، ووَصْفَ حالٍ مِن أحوالِه، وهو تَشقُّقُ الأرضِ عنهم، أي: عن أجسادٍ مَثيلةٍ لأجسادِهم، وعن الأجسادِ الَّتي لم يَلحَقْها الفَناءُ .
- وتقدُّمُ الجارِّ المجرورِ عَلَيْنَا على الخَبرِ يَسِيرٌ يُفيدُ الاختِصاصَ، أي: هو يَسيرٌ في جانبِ قُدرتِنا، لا كما زَعَمَه نُفاةُ الحشرِ .
4- قولُه تعالَى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ استِئنافٌ بَيانيٌّ ناشئٌ عن قولِه: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ [ق: 39] ؛ فهو إيغالٌ في تَسليةِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وتَعريضٌ بوَعيدِهم وتَهديدِهم .
- وفي قَولِه: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ فُرِّع أمْرُه بالتَّذكيرِ على وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ؛ لأنَّه ناشئٌ عن نفْيِ كَونِه جبَّارًا عليهم، وهذا كقولِه تعالى: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ [الغاشية: 21، 22]، ولكنْ خَصَّ التَّذكيرَ هنا بالمؤمنينَ الَّذين يَخافونَ وعيدَ اللهِ تعالَى؛ لأنَّه أرادَ التَّذكيرَ الَّذي يَنفَعُ المُذَكَّرَ، ولأنَّ مَن لا يَخافُ الوعيدَ -لِكَونِه غيرَ مُصدِّقٍ بوُقوعِه- لا يَذَّكَّرُ؛ إذ لا تَنفَعُ فيه الذِّكرى، كما قال سُبحانَه: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 55].
- وما أنسَبَ هذا الاختِتامَ بالافتِتاحِ، حيثُ جاءَ أوَّلُ هذِه السُّورةِ وآخِرُها مُتناسِبَينِ ومُتقارِبَينِ في المعنَى، حيثُ قال في الأوَّلِ: ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ [ق: 1] ، وقال في آخِرِها: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ؛ فافتَتحَ بما اختَتمَ به .