موسوعة التفسير

سُورةُ يُونُس
الآيات (54-56)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ

المعنى الإجمالي:

يُبَيِّنُ تعالى أنَّه لو كان لكُلِّ نَفسٍ كفَرَت باللهِ أو أشركَت به جميعُ ما في الأرضِ، لبَذَلتْه يومَ القيامةِ- لو كان يُقبَلُ منها- لِتَفتديَ به من عذابِ اللهِ تعالى، وأخفى الكُفَّارُ الحَسرةَ والتأسُّفَ على كُفرِهم حين رأَوا عذابَ اللهِ تعالى يومَ القيامةِ، وتيقَّنوا أنَّه واقِعٌ بهم، وقضى اللهُ بينهم بالعَدلِ، وهو غيرُ ظالمٍ لهم.
ألَا إنَّ لله وَحدَه كلَّ ما في السَّمواتِ والأرضِ، ألا إنَّ وَعدَه تعالى حقٌّ لا محالةَ، ولكِنَّ أكثَرَ أولئك المُشرِكينَ لا يَعلَمونَ.
هو سبحانَه وَحْدَه يُحيي ويُميتُ، وإليه وَحْدَه- أيُّها النَّاسُ- مَرجِعُكم ومَصيرُكم بعد مَوتِكم، فيُجازيكم يومَ القيامةِ بأعمالِكم.

تفسير الآيات:

وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (54).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى العذابَ، وأقسَمَ على حقيقَتِه، وأنَّ المُشرِكينَ لا يُفلِتونَ منه؛ ذكَرَ بعضَ أحوالِ الظَّالِمينَ في الآخرةِ ، فقال:
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ.
أي: ولو أنَّ لكُلِّ نَفسٍ كفَرَت باللهِ، جميعَ ما في الأرضِ، لبَذَلَت ذلك يومَ القيامةِ- لو كان يُقبَلُ منها- لتفتَدِيَ به من عذابِ اللهِ .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران: 91] .
وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ.
أي: وأخفَى الكُفَّارُ الحَسرةَ والتأسُّفَ على كُفرِهم حين رأَوْا عذابَ اللهِ يومَ القيامةِ، واستيقَنوا أنَّه واقعٌ بهم .
وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ.
أي: وقضَى اللهُ بينَ الكُفَّارِ بالعَدلِ، وهو غيرُ ظالمٍ لهم .
أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (55).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى قال قبلَ هذه الآيةِ: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ [يونس:54] ، فلا جرَمَ قال في هذه الآيةِ: ليس للظالمِ شَيءٌ يَفتَدي به؛ فإنَّ كلَّ الأشياءِ مِلكُ اللهِ تعالى ومُلكُه .
أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ .
أي: ألَا إنَّ لِلَّهِ وَحْدَه جميعَ ما في السَّمواتِ والأرضِ، فلا مانِعَ يَمنَعُه من إنفاذِ حُكمِه .
أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ.
أي: ألا إنَّ وعدَ اللهِ حقٌّ لا محالةَ، ولكنَّ أكثَرَ أولئك المُشرِكينَ لا يعلمونَ ذلك، فهم به يُكذِّبونَ .
هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56).
هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ.
أي: اللهُ وَحدَه هو المتصَرِّفُ بالإحياءِ والإماتةِ، فلا يتعذَّرُ عليه إحياءُ المُشرِكينَ وغَيرِهم، ولا إماتَتُهم إذا أراد ذلك .
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
أي: وإلى اللهِ وَحْدَه مَصيرُكم- أيُّها النَّاسُ- بعد مَوتِكم، فيُجازيكم يومَ القيامةِ بأعمالِكم .

الفوائد التربوية:

النفعُ والضرُّ، والثوابُ والعقابُ يكون على الأعمالِ الصالحةِ والسيئةِ، قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ، فـ لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ بالكفرِ والمعاصي جميعَ مَا فِي الأَرْضِ مِن ذهبٍ وفضةٍ وغيرهما، لتفتديَ به مِن عذابِ اللهِ يومَ القيامةِ لافْتَدَتْ بِهِ ولما نفَعها ذلك .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ ذكَرَ لِكُلِّ نَفْسٍ دون أن يُقالَ (ولو أنَّ لكم ما في الأرضِ لافتَدَيتُم به)؛ لأنَّ المعنى أنَّ هذا العذابَ لا تتحَمَّلُه أيَّةُ نَفسٍ على تفاوُتِ الأنفُسِ في احتمالِ الآلامِ .
2- قال تعالى: وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وإنَّما يقَعُ هذا الكِتمانُ منهم قبلَ إحراقِ النَّارِ لهم، فإذا أحرَقَتْهم النَّارُ ألهَـتْهم عن هذا التصَنُّعِ لِمَن كان يَتبَعُهم في الدُّنيا؛ يدلُّ على هذا قَولُه تعالى: قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا... الآيات [المؤمنون: 106] ، فهم في هذه الحالِ لا يكتُمونَ نَدَمَهم .
3- قَولُ اللهِ تعالى: أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ صَدَّرَ الجملةَ بِحَرفِ التَّنبيهِ (ألا) الذي يُفتَتَحُ به الكلامُ؛ لِتَنبيهِ الغافلينَ عن هذه الحَقيقةِ، وإن كانوا يعرفونَها؛ لكثرةِ ذُهولِ النَّاسِ عن تذكُّرِ أمثالِها .
4- قَولُ الله تعالى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فيه تقييدُ نَفيِ العِلمِ بالأكثَرِ؛ إشارةً إلى أنَّ منهم مَن يعلَمُ ذلك، ولكِنَّه يجحَدُه مكابرةً .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ
قولُه: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ، فيه تقديمُ خبرِ (أنَّ) لِكُلِّ نَفْسٍ على الاسمِ ما؛ للاهتمامِ بما فيه مِن العمومِ؛ بحيث يَنُصُّ على أنَّه لا تَسلَمُ نفسٌ مِن ذلك .
وقولُه: وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ فيه التَّعبيرُ عن الإسرارِ المستقبَليِّ بلفظِ الماضي وَأَسَرُّوا؛ تَنبيهًا على تحقيقِ وُقوعِه حتَّى كأنَّه قد مضَى، والمعنى: وسيُسِرُّون النَّدامةَ قطعًا، وكذلك قولُه: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ .
والعدولُ إلى صيغةِ الجمعِ وَأَسَرُّوا مع تحقُّقِ العمومِ في صورةِ الإفرادِ أيضًا (وأسَرَّت)؛ لإفادةِ تَهويلِ الخَطْبِ بكَونِ الإسرارِ بطريقِ المعيَّةِ والاجتماعِ، ولم يُراعَ ذلك فيما سبَق لتحقيقِ ما يُتوخَّى مِن فرضِ كَونِ جميعِ ما في الأرضِ لكلِّ واحدةٍ من النُّفوسِ .
2- قَولُه تعالى: أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
قولُه: أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ... تذييلُ إنهاءٍ للكلامِ المتعلِّقِ بصدقِ الرَّسولِ والقرآنِ وما جاء به مِن الوعيدِ، وتَرقُّبِ يومِ البعثِ ويومِ نُزولِ العذابِ بالمشرِكين، وقد اشتَمل هذا التَّذييلُ على مُجمَلِ تفصيلِ ذلك الغرَضِ، وعلى تعليلِه بأنَّ مَن هذه شُؤونُه لا يَعجِزُ عن تَحقيقِ ما أخبَر بوُقوعِه، وافتُتح هذا التَّذييلُ بحَرفِ التَّنبيهِ أَلَا، وأُعيدَ فيه حرفُ التَّنبيهِ للتأكيدِ على استِماعِه، وللتَّنبيهِ على أنَّه كلامٌ جامعٌ هو مُحصِّلةُ الغرَضِ الَّذي سَمِعوا تَفصيلَه آنِفًا ، وقيل: أعاد حرفَ التنبيهِ (ألا) تأكيدًا لتمييزِه تعالى بهذا التنبيهِ عما سبَقه؛ لأنَّه المقصودُ هنا بذاتِه، وإنَّما ذكر قبلَه للاستدلالِ عليه، أي كلُّ ما وعَد به على لسانِ رسلِه حقٌّ واقعٌ، لا ريبَ فيه؛ لأنَّه وعدُ المالكِ القادرِ على إنجازِ ما وعَد، لا يعجزُه منه شيءٌ .
وفيه تأكيدُ الخبرِ بحرفِ (إنَّ)؛ للرَّدِّ على المشركين؛ لأنَّهم لَمَّا جعَلوا للهِ شُرَكاءَ فقد جعَلوها غيرَ مَملوكةٍ للهِ، وكذلك أَكَّد بحرفِ التَّوكيدِ (إنَّ) بعدَ حرفِ التَّنبيهِ (ألَا) في الموضِعَين؛ للاهتمامِ به، ولِرَدِّ إنكارِ مُنكِري بعضِه والَّذين هم بمَنزِلةِ المنكِرين بعضَه الآخَرَ .
وفي قولِه: إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ تقديمُ خبَرِ إنَّ لِلَّهِ على اسمِها مَا؛ للاهتمامِ باسمِه تعالى، ولإفادةِ القَصْرِ؛ لِرَدِّ اعتقادِهم الشَّرِكةَ .
وفي قولِه تعالى: أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال اللهُ تعالى هنا: أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، ثم قال بعدَ عشرِ آياتٍ مِن الآيةِ المذكورةِ: أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ [يونس: 66] ، ثم قال بعدَ ذلك: قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا [يونس: 68] ، فقال في الآيةِ الأولى: مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وفي الثَّانيةِ: مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ؛ وذلك لأنَّ الأُولى جاءَت بعدَ قولِه تعالى: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ [يونس: 54] ، فكان المعنى: أنَّ النَّفْسَ الظَّالمةَ إذا رأَتْ عذابَ اللهِ تعالى لو مَلَكَت جميعَ ما في الأرضِ لبذَلَته في فداءِ نفسِها، وهي تَحرِصُ على اليَسيرِ مِن حُطامِها في ظُلمِ أهلِها؛ فكرَّر على ذلك بقولِه: أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، أي: إنَّ النَّفسَ الظَّالمةَ لا تَملِكُ ما في الأرضِ فتَفتَدي به، ولو ملَكَتْه لَما قُبِلَ في فِدائِها، وكيف يكونُ لها ذلك، واللهُ تعالى مالِكُ ما في السَّمواتِ والأرضِ، وليس للعبدِ ذلك، ولا مَحِلُّه هنالك؟! فناسَب لهذا المكان: (ما).
وأمَّا الموضعُ الَّذي ذُكِر فيه (مَن) فلم يَصِحَّ فيها غيرُها؛ لأنَّ قبْلَه: وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [يونس: 65- 66] ، والمعنى: لا يَحزُنْك ما يتَوعَّدُك به الكفَّارُ مِن القتلِ وأنواعِ المكروهِ؛ فإنَّ العزَّةَ للهِ تعالى، لا يَمنَحُ الكفَّارَ قُدرةً على ما يُريدونه مِنك، بل يُعطيك القدرةَ عليهم، والغلَبةَ لهم، فإنَّه يَملِكُ مَن في السَّمواتِ ومَن في الأرضِ، ولا قوَّةَ لهم إلَّا به، ولا قُدرةَ لهم إلَّا مِن عِندِه، فاقتضى هذا المكانُ (مَن) .
والسَّببُ في إعادةِ (مَن) في قولِه: أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [يونس: 66] ، وتَرْكِ إعادةِ (ما) في الآيةِ الأولى أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [يونس: 55] ، فلَم يَقُلْ: (وما في الأرضِ): أنَّ المقصودَ بالذِّكرِ أنَّه قادرٌ على أن يَكفِيَ نَبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أمْرَه مِمَّن في الأرضِ مِن الكفَّارِ الَّذين بُعِث إليهم، وخوَّفوه أذاهم؛ فقرَن إلى ذِكْرِهم ذِكْرَ مَن في السَّمواتِ، وهم أكبَرُ شأنًا وأعظَمُ أمرًا؛ فإذا مُلِكوا كان مَن دونهم أدْوَنَ؛ فإعادةُ (مَن) مع ذِكرِ الأرضِ؛ للتَّوكيدِ الَّذي اقتَضاه القَصدُ إلى ذِكْرِهم. وأمَّا حذفُ (ما) في الآيةِ الأولى عندَ ذِكْرِ الأرضِ؛ فلأنَّ ذِكرَها قد تَقدَّم، وهو: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ [يونس: 54] ، فلمَّا قال: أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، كان ما في ذِكْرِ الأرضِ هناك، ورُجوعُ هذا إلى ذلك المعنى مِثلُ ذِكْرِه في هذا الموضِعِ، فأغْنَى ذلك عن التَّكريرِ .
ووجهُ تَكْرارِ (ما) في قولِه: لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا [يونس: 68] ، وحَذْفِها من الآيةِ الأولى: أنَّ قَبْلَه: قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [يونس: 68] ، فنزَّه نفْسَه تعالى عن الولَدِ، وأخبَر أنَّه غنيٌّ عمَّا يُجلَبُ باتِّخاذِه، ويُستفادُ بمَكانِه، إذ كان مالِكًا لكلِّ ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ، فكان الموضعُ موضعَ توكيدٍ؛ فكأنَّه قال: (إذا كان له كلُّ ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ، فلِماذا يتَّخِذُ الولدَ؟)، فإعادةُ (ما) في هذا المكانِ؛ لهذا الضَّربِ من التَّوكيدِ، أي: هو غنيٌّ لا يَحتاجُ إلى ولَدٍ يُعينُه على شيءٍ ممَّا في السَّمواتِ، وهو مالِكٌ له كلِّه، ولا إلى أن يُعينَه على شيءٍ ممَّا في الأرضِ، وهو مالِكٌ له بأَسْرِه، فلمَّا تأكَّد الكلامُ في مثلِ هذا المكانِ جاءت (ما) مُعادَةً لهذا الشَّأنِ .
وفي قولِه تعالى: أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ إظهارُ اسمِ الجلالةِ دونَ الإتيانِ بضَميرِه؛ لِتَفخيمِ شأنِ الوعدِ، والإشعارِ بعِلَّةِ الحُكمِ ، ولِتَكونَ الجملةُ مُستقلَّةً؛ لِتَجريَ مَجْرى المثَلِ، والكلامِ الجامعِ .