موسوعة التفسير

سُورةُ يُونُس
الآيتان (65-66)

ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ

غريب الكلمات:

يَخْرُصُونَ: أي: يَحْدِسُون ويحزُرونَ، أو يكذِبونَ، لأَنَّ الكاذبَ لا يتحرَّى في الأمورِ، بل يُخمِّنُ ويحزُر، ولا يتحرَّى الحقائقَ، وكلُّ قولٍ عن ظنٍّ وتخمينٍ، يُقال له: خرصٌ، سواءٌ كان ذلك مطابقًا للشيءِ أو مخالفًا له، وأصلُ الخرصِ: حَزْرُ الشَّيءِ .

مشكل الإعراب:

قَوْلُه تعالى: وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ
وَمَا يَتَّبِعُ: في (ما) وجهان؛ الأول: أن تكونَ نافيةً، وشُرَكَاءَ مفعولُ يَتَّبِعُ، ومفعولُ يَدْعون محذوفٌ لفَهْمِ المعنى، والتَّقديرُ: وما يتَّبعُ الذين يَدْعُون مِنْ دون اللهِ آلهةً شُرَكاءَ، ومعنى: وما يتَّبِعونَ شُرَكاء، أي: وما يتَّبِعونَ حقيقةَ الشُّرَكاءِ، وإن كانوا يسمُّونَها شُرَكاءَ. الثاني: أن تكونَ استفهاميَّةً في محلِّ نصبٍ، مفعولٌ مقَدَّم لـيتَّبِعُ، أي: وأيَّ شيءٍ يَتَّبعونَ؟ وشُرَكَاءَ على هذا مفعولٌ به لـيَدْعُونَ، وقيل غيرُ ذلك .

المعنى الإجمالي:

يخاطِبُ اللهُ تعالى نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مسلِّيًا له عمَّا لَقِيَه من أعدائِه مِن أذًى، فيقولُ له: ولا يَحزُنْك قَولُ المُشرِكينَ، كافترائِهم على اللهِ وتكذيبِهم لك، واستهزائِهم بالحَقِّ؛ لأنَّ اللهَ هو المنفَرِدُ بجميعِ العِزَّةِ في الدُّنيا والآخرةِ، فهو مانِعُك من أذى المُشرِكينَ، وهو السَّميعُ العليمُ.
ويبيِّنُ تعالى أنَّه له كلُّ مَن في السَّمَواتِ ومَن في الأرضِ؛ وأيَّ شيءٍ يتَّبِعُ مَن يدعو غيرَ اللهِ من الشُّرَكاءِ؟ ما يتَّبِعونَ إلَّا الظَّنَّ بلا دليلٍ، وإنْ هم إلَّا يكذِبونَ فيما ينسُبونَه إلى اللهِ.

تفسير الآيتين:

وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا حكَى عن الكفَّارِ شُبهاتِهم المتقَدِّمةَ، وأجاب عنها؛ عدلوا إلى طريقٍ آخَرَ، وهو أنَّهم هدَّدوه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وخوَّفوه بأنَّهم أصحابُ أموالٍ وأتباعٍ، فنسعَى في قَهرِك وفي إبطالِ أمْرِك، فأجاب تعالى عن هذا الطَّريقِ .
وأيضًا فإنَّه بعد أن بيَّن اللهُ تعالى لِرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حالَ أوليائِه وصِفتَهم وما بشَّرَهم به في الحياةِ الدُّنيا وفي الآخرةِ، وكونَه لا تبديلَ لِكلماتِه فيما بشَّرَهم ووعَدَهم، كما أنَّه لا تبديلَ لها فيما أَوعَدَ به أعداءَه المُشرِكينَ، وكان هذا يتضَمَّنُ الوعدَ بنَصرِه ونَصرِ مَن آمن له- وهم أولياءُ اللهِ وأنصارُ دينِه- على ضَعفِهم وفَقرِهم، وكانت العِزَّةُ- أي: القوَّةُ والغَلَبةُ- في مكَّةَ لا تزالُ للمُشرِكينَ بكَثرتِهم، وكانوا لغُرورِهم بكَثرتِهم وثَروتِهم يُكَذِّبونَ بوَعدِ الله، وكان ذلك يَحزُنُه  صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- قال تعالى مسلِّيًا له ومؤكِّدًا وَعدَه له ولأوليائِه، ووعيدَه لأعدائِهم وأعدائِه :
وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ.
أي: ولا يُحْزِنْك- يا مُحمَّدُ- قَولُ المُشركينَ، كافترائِهم على اللهِ، وتكذيبِهم لك، واستهزائِهم بالحَقِّ .
إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا.
أي:  فإنَّ اللهَ هو المُنفَرِدُ بجميعِ العِزَّةِ في الدُّنيا والآخرةِ، فله وَحْدَه القوَّةُ الكامِلةُ، والقُدرةُ التامَّةُ، والغَلَبةُ الشَّاملةُ، فهو ناصِرُك ومُعينُك، ومانِعُك مِن أذَى المُشرِكينَ- يا مُحمَّدُ- وهو القادِرُ على عقابِهم، والانتقامِ منهم، حتى تصيرَ أعَزَّ منهم .
هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ .
أي: وهو- سُبحانَه- السَّميعُ لأقوالِ عِبادِه، العليمُ بأحوالِهم، ومن ذلك سَماعُه لأقوالِ المُشرِكينَ، وعِلمُه بأعمالِهم، وما في قُلوبِهم، فيُجازيهم بذلك، ويدفَعُ عنك أذاهم- يا مُحمَّدُ- فاكتفِ بعِلمِ اللهِ وكفايتِه عزَّ وجلَّ .
ﮀ  ﮁ  ﮂ   ﮃ  ﮄ  ﮅ  ﮆ  ﮇ  ﮈﮉ  ﮊ  ﮋ  ﮌ     ﮍ  ﮎ  ﮏ  ﮐ  ﮑﮒ  ﮓ  ﮔ  ﮕ    ﮖ  ﮗ  ﮘ  ﮙ  ﮚ  ﮛ .
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى أنَّ العِزَّةَ له، وهي القَهرُ والغَلَبةُ- ذكَرَ ما يُناسِبُ القَهرَ، وهو كَونُ المخلوقاتِ مِلكًا له تعالى ، فقال:
أَلا إِنَّ لِلّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَن فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66).
أي: ألا إنَّ لله كلَّ مَن في السَّمواتِ وكُلَّ مَن في الأرضِ، فهم مِلكُه، يتصَرَّفُ فيهم كيف يشاءُ، وهو المستَحِقُّ وَحدَه للعبادةِ .
وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء.
أي: وأيَّ شيءٍ يتَّبِعُ هؤلاء الذين يقولونَ: إنَّ لله شُرَكاءَ ؟!
إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ.
أي: ما يتَّبِعُ المُشرِكونَ في دَعواهم الشُّرَكاءَ لله إلَّا مُجَرَّدَ الظَّنِّ بلا دليلٍ، وما هم إلَّا يتقوَّلونَ الكَذِبَ على اللهِ ظنًّا بِلا عِلمٍ .

الفوائد التربوية :

قال الله تعالى: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ اللامُ في قَولِه: لِلَّهِ للمِلكِ، وقد أفاد جعلُ جِنسِ العزَّةِ مِلكًا للهِ أنَّ جميعَ أنواعِها ثابِتٌ لله ؛ فالغَلَبةُ والقُوَّةُ والمَنَعةُ لله جميعُها لا يَملِكُ أحَدٌ مِن دُونِه شَيئًا منها، فهو يَهَبُها لِمَن يشاءُ، ويَحرِمُها مَن يشاءُ، وليسَت للكَثرةِ دائمًا كما يدَّعونَ؛ فكم مِن فئةٍ قليلةٍ غَلَبَت فئةً كثيرةً بإذنِ الله، وقد وعدَ بها رسُلَه والذينَ آمَنوا بهم واتَّبَعوهم من أوليائِه، كما قال تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة: 21] ، وإِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [غافر: 51] ، ووَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: 8] ، فعِزَّتُه تعالى ذاتيَّةٌ له، وعِزَّةُ رَسولِه والمُؤمِنينَ به ومنه عزَّ وجَلَّ، كما قال تعالى: وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ [آل عمران: 26] .

الفوائد العلمية واللطائف:

قَولُ الله تعالى: أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ عبَّرَ بـ (مَن) التي للعُقَلاءِ، والمرادُ كلُّ ما في الكونِ؛ لأنَّ السِّياقَ لِنَفي العِزَّةِ عن غَيرِه، والعقلاءُ بها أجدَرُ، فنفيُها عنهم نفيٌ عن غيرِهم بطريقِ الأَوْلى، ثم غُلِّبوا لشَرَفِهم على غيرِهم .
وقيل: خص العُقَلاءَ المميِّزين، وهم الملائكةُ والثَّقلان في قوله: مَنْ فِي السَّمَواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ؛ لِيُؤذِنَ أنَّ هؤلاء إذا كانوا له وفي مُلكِه فهُم عَبيدٌ كُلُّهم، وهو سبحانه وتعالى ربُّهم، ولا يَصلُحُ أحدٌ مِنهم للرُّبوبيَّةِ، ولا أن يكونَ شَريكًا له فيها، فما وَراءهم ممَّا لا يُعقَلُ أحَقُّ أن لا يكونَ له نِدًّا وشَريكًا، ولِيَدُلَّ على أنَّ مَن اتَّخَذ غيرَه ربًّا مِن ملَكٍ أو إنسيٍّ، فضلًا عن صنمٍ أو غيرِ ذلك، فهو مُبطِلٌ .

بلاغة الآيتين :

1- قوله تعالى: وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
قولُه: وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ على القولِ بأنَّ المرادَ بقولِهم بعضُ أفرادِه، وهو التَّكذيبُ والتَّهديدُ، وما يتَشاوَرون به في أمرِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فيكونُ مِن إطلاقِ العامِّ المرادِ به الخاصُّ .
قولُه: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا استئنافٌ بمعنى التَّعليلِ، كأنَّه قيل: ما لي لا أحزَنُ؟ فقيل: إنَّ العزَّةَ للهِ جميعًا؛ تعليلًا لِدَفعِ الحزنِ عنه؛ ولذلك فُصِلَتْ عن جملةِ النَّهيِ: وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ ولم تُعطَفْ عليها .
وقولُه: جَمِيعًا حالٌ مِن الْعِزَّةُ مؤكِّدةٌ لمضمونِ الجملةِ قبْلَها، المفيدِ لاختصاصِه تعالى بجميعِ جنسِ العزَّةِ؛ لِدَفعِ احتمالِ إرادةِ المبالَغةِ في مِلْكِ ذلك الجنسِ .
وفي قوله تعالى: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ مناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال اللهُ تعالى هنا: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [يونس: 65] ، وقال في سورةِ (المنافقون): وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: 8] ؛ لأنَّ المرادَ في سورةِ يونُسَ: العزَّةُ الخاصَّةُ باللهِ، وهي: عِزَّةُ الإلهيَّةِ، والخَلْقِ والإماتةِ، والإحياءِ والبقاءِ الدَّائمِ، وشِبْهِها، وفي سورةِ (المنافقون) العزَّةُ المشترَكةُ، وهي في حقِّ اللهِ تعالى: القدرةُ والغَلَبةُ، وفي حقِّ رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: عُلُوُّ كَلمتِه، وإظهارُ دينِه، وفي حقِّ المؤمنين: نَصرُهم على الأعداءِ فلا مضادَّةَ بينَ قَولِه تعالى: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، وقَولِه: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: 8] ؛ لأنَّ عِزَّةَ الرَّسولِ والمؤمنينَ كُلَّها باللهِ، فهي لله .
2- قوله تعالى: أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ
قولُه: أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ فيه افتتاحُ الجملةِ بحرفِ التَّنبيهِ أَلَا، والمقصودُ منه إظهارُ أهمِّيَّةِ العلمِ بمَضمونِها وتَحقيقِه؛ ولذلك عُقِّب بحرفِ التَّأكيدِ إِنَّ، وزِيدَ ذلك تأكيدًا بتقديمِ الخبَرِ لِلَّهِ على الاسمِ مَنْ وباجتلابِ لامِ المِلْكِ في لِلَّهِ .
وابتدأ بالسَّموات؛ لأنَّ مِلكَها يدُلُّ على مِلكِ الأرضِ بطَريقِ الأَولى ، وأيضا لعظَمِها، ولأنَّها أشرفُ مِن الأرضِ وأعلَى .
قولُه: وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ على القولِ بأنَّ مَا يَتَّبِعُ في مَعْنى الاستفهامِ- أيْ: وأيَّ شيءٍ يتَّبِعون، فـ مَا استفهامٌ بمعنى الإِنكارِ والتَّوبيخِ، فتكونُ اسمًا في موضعِ نصبٍ بـ يَتَّبِعُ، كأنَّه قيل: وأيَّ شيءٍ يتَّبِعُ الَّذين تَدْعونهم شُركاءَ مِن الملائكةِ والنَّبيِّين؛ تقريرًا لكونِهم مُتَّبِعين للهِ تعالى مُطيعين له، وتَوبيخًا لهم على عدَمِ اقتدائِهم بهم في ذلك .