موسوعة التفسير

سُورةُ الأعرافِ
الآيات (4-9)

ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ

غريب الكلمات:

بَأْسُنَا: أي: عذابُنا، وأصلُ (بأس) الشِّدُّة وما ضاهاها [39] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/328)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 108)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 252). .
بَيَاتًا: أي: ليلًا، أو وَقتَ بَياتٍ، واشتغالٍ بالنَّومِ، وأصلُ البيت: مَأْوَى الإنسانِ باللَّيلِ؛ لأنَّه يقال: بَاتَ، أي: أقامَ باللَّيلِ [40] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 165)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 119)، ((المفردات)) للراغب (ص: 151)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 154)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 252). .
قَائِلُونَ: أي: نائِمون نِصفَ النَّهَارِ في وَقْتِ القائِلَةِ [41] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 165)، ((تفسير ابن جرير)) (10/58)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 374)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 108)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 738). .
فَلَنَقُصَّنَّ: أي: فلنُخبِرَنَّ، والقَصَصُ: الأخبارُ المتتبَّعةُ، والأثَرُ، وأصْل القصِّ: تتبُّعُ الأثَرِ أو الشَّيءِ [42] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/11)، ((المفردات)) للراغب (ص: 671)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 125). .

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ تعالى أنَّه كثيرًا ما أهلكَ أهلَ القُرى مِنَ الأُمَمِ السَّابقةِ؛ الذين عَبَدوا غيرَه، وكذَّبوا رُسُلَه، فأتَتْهم عُقوبَتُه التي أستأصَلَتْهم على غِرَّةٍ منهم، وهم غافلونَ؛ فبعضُهم جاءَتهم العُقوبةُ في بيوتِهم ليلًا قبل أن يُصبِحُوا، وبعضُهم نهارًا في وقتِ القَيلولةِ، فما كان قولُهم حين جاءَهم العذابُ إلَّا أنِ اعتَرَفوا أنَّهم كانوا ظالِمينَ.
ثمَّ بيَّنَ تعالى أنَّه سيَسألُ الأُمَمَ التي أرسَل إليهم رُسُلَه سؤالَ توبيخٍ عمَّا عَمِلَت فيما جاءَتها به الرُّسُل، هل أطاعوا الله، وأجابوا الرُّسُلَ، أم عَصَوه وكذَّبُوهم، وسيَسألُ الـمُرسَلينَ عن تبليغِهم للرِّسالة، وعمَّا أُجِيبُوا، وأخبَرَ تعالى أنَّه سيقُصُّ على العبادِ يومَ القيامةِ عنْ علمٍ بما قالوا، وبما عَمِلوا في الدُّنيا، وما كان سبحانَه غائبًا في وقتٍ مِنَ الأوقاتِ عنهم، وعن أفعالِهم؛ فهو على كلِّ شيءٍ شَهيدٌ.
وأخبَرَ اللهُ تعالى أنَّ الوَزنَ يومَ القيامةِ لأعمالِ الخلائقِ يكونُ بالعَدلِ؛ فمَن ثَقُلَت موازينُ عَمَلِه الصَّالِحِ فأولئك هم الفائزونَ، ومَن خفَّتْ موازينُ أعمالِه الصَّالحة، فرَجَحَت سيِّئاتُه، فأولئك الذين خَسِروا أنفسَهم؛ نتيجةَ تَكذيبِهم وجَحدِهم بآياتِ اللهِ.

تفسير الآيات:

وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أمَرَ اللهُ رَسولَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالإنذارِ والتَّبليغِ، وأمرَ القَومَ بالقَبولِ والمُتابعة؛ ذَكرَ في هذه الآيةِ ما في تَركِ المُتابعَةِ والإعراضِ عنها مِنَ الوَعيدِ [43] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/198). ، فقال تعالى:
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا
أي: كثيرًا ما أهلَكْنا أهلَ القُرى مِنَ الأُمَم السَّابقةِ، الذين عَصَوني، وكذَّبوا رُسُلي، وعَبَدوا غيري [44] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/58)، ((تفسير ابن كثير)) (3/387-388). .
كما قال تعالى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الأنعام: 10] .
وقال سبحانه: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج: 45] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ [القصص: 58]
وقال عزَّ وجلَّ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [محمد: 10] .
وقال سبحانه: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا [الطلاق: 8 - 9] .
فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ
أي: فجاءَتَهم عُقوبَتُنا المُستأصِلةُ لهم، فدمَّرنا بعضَهم في بُيوتِهم ليلًا قبل أن يُصبِحوا، وجاء العذابُ بعضَهم نهارًا في وقتِ القَيلولةِ، فاحذروا تكذيبَ رَسُولي محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لئلَّا أُنزِلَ بكم مِثلَ ما أنزَلتُ بتلك الأُمَمِ السَّالفةِ مِنَ العذابِ [45] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/58)، ((تفسير ابن كثير)) (3/388)، ((تفسير السعدي)) (ص: 283)، ((العذب النمير )) للشنقيطي (3/43)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/22) .
كما قال تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأعراف: 97-98] .
وقال سبحانه: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [النحل: 45-47] .
فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) 
أي: فما كان قَولُ أهلِ القُرى التي أهلَكْنَاها حين مَجيءِ العَذابِ إلَّا اعترافَهم بظُلمِ أنفُسِهم، وإقرارَهم بالإساءةِ إليها، ولم يَقدِرُوا على رَدِّ العذابِ عنهم [46] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/61-62)، ((الوسيط)) للواحدي (2/349)، ((تفسير البغوي)) (2/180)، ((تفسير ابن كثير)) (3/388). .
كما قال تعالى: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ [الأنبياء: 11-15] .
فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
في مُناسَبةِ هذه الآيةِ لِما قَبلَها وجهانِ:
الوجهُ الأوَّلُ: لَمَّا أمَرَ اللهُ الرُّسُلَ في الآيةِ الـمُتقَدِّمة بالتَّبليغِ، وأمَرَ الأُمَّةَ بالقَبولِ والمُتابَعة، وذَكَر التَّهديدَ على تَركِ القَبولِ والمُتابعة بذِكرِ نُزُولِ العَذابِ في الدُّنيا؛ أتبَعَه بنوعٍ آخَرَ مِنَ التَّهديدِ، وهو أنَّه تعالى يَسألُ الكُلَّ عن كيفيَّةِ أعمالِهم، يومَ القيامةِ.
الوجهُ الثَّاني: لَمَّا قال تعالى: فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ؛ أتْبَعَه بأنَّه لا يقَعُ يومَ القيامةِ الاقتصارُ على ما يكونُ مِنهم مِن الاعترافِ، بل ينضافُ إليه أنَّه تعالى يَسأَلُ الكُلَّ عن كيفيَّة أعمالِهم، وبيَّنَ أنَّ هذا السُّؤالَ لا يختَصُّ بأهلِ العِقابِ، بل هو عامٌّ في أهلِ العِقابِ، وأهلِ الثَّوابِ [47] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/200). ، والمرسلين كذلك، كلٌّ بحسبِه، فقال تعالى:
فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ
أي: فلَنَسألَنَّ الأمَمَ الذين أرسَلْتُ إليهم رُسُلي سُؤالَ تَوبيخٍ، لا سُؤالَ استعلامٍ: ماذا عَمِلوا فيما جاءَتَهم به الرُّسُلُ مِن أمرِي ونَهْيِي، هل أطاعوني وأجابوا رُسُلي، أم أنَّهم عَصَوني وكَذَّبوا رُسُلي؟ [48] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/64)، ((تفسير البغوي)) (2/180)، ((تفسير ابن كثير)) (3/388)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/60-61).
كما قال تعالى: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 65] .
وقال سبحانه: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 92-93] .
وعن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه قال: ((ألَا كُلُّكم راعٍ، وكلُّكم مَسؤولٌ عَن رَعِيَّتِه، فالأميرُ الذي على النَّاسِ راعٍ، وهو مَسؤولٌ عَن رَعِيَّتِه، والرَّجُلُ راعٍ على أهلِ بَيتِه، وهو مسؤولٌ عنهم، والمرأةُ راعيةٌ على بيتِ بَعلِها ووَلَدِه، وهي مسؤولةٌ عنهم، والعبدُ راعٍ على مالِ سَيِّدِه، وهو مَسؤولٌ عنه، ألَا فكُلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رَعِيَّتِه )) [49] رواه البخاري (893)، ومسلم (1829). .
وعن أبي بَرْزةَ الأسلميِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تَزولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القِيامةِ حتى يُسأَلَ عَن عُمُرِه فيمَ أفناه، وعن عِلْمِه فيمَ فَعَل، وعن مالِه مِن أينَ اكتسَبَه وفيمَ أنفَقَه، وعن جِسمِه فيمَ أبلاه )) [50] أخرجه الترمذي (2417)، والدارمي (537). صحَّحه الترمذي، وابنُ باز في ((مجموع فتاواه)) (30/301)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2417). .
وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ
أي: ولنَسألَنَّ الرُّسُلَ الذين أرسلتُهم إلى الأُمَم عن تبليغِهم لرِسالاتِ رَبِّهم، وعمَّا أجابَتْهم به أمَمُهم [51] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/64)، ((تفسير السعدي)) (ص: 283). .
كما قال تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ [المائدة: 109] .
وقال سبحانه: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة: 116] .
فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
 لَمَّا كان السُّؤالُ في الآيةِ السَّابقةِ يُوهم خَفاءَ المَسؤولِ عنه على السَّائل؛ سَبَّبَ عن ذلك ما يُزيلُ هذا الوَهمَ بِقَولِه، مُؤذِنًا بأنَّه أعلمُ مِنَ المسؤولينَ عَمَّا سألَهم عنه [52] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/358). :
فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ
أي: فلَنُخبِرَنَّ العبادَ يومَ القيامةِ عَن علمٍ بما قالوا، وبما عَمِلوا في الدُّنيا [53] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/65)، ((تفسير البغوي)) (2/180)، ((تفسير ابن كثير)) (3/389). .
وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ
أي: وما كنَّا غائبينَ في أيِّ وقتٍ مِنَ الأوقاتِ عنهم، وعن أفعالِهم التي كانوا يفعَلونها؛ فاللهُ تعالى شهيدٌ على كلِّ شيءٍ، لا يغيبُ عنه شيءٌ [54] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/65)، ((تفسير ابن كثير)) (3/389)، ((تفسير السعدي)) (ص: 283).
كما قال تعالى: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام: 59] .
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى في الآيةِ الأُولى أنَّ مِن جُملةِ أحوالِ القِيامةِ السُّؤالَ والحِسابَ؛ بَيَّنَ في هذه الآيةِ أنَّ مِن جُملةِ أحوالِ القِيامةِ أيضًا وزنَ الأعمالِ [55] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/202). وقال ابنُ عاشور: (عطف جملة: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ على جملةِ: فَلَنَقُصَّنَّ لِما تضمَّنَته المعطوفُ عليها مِنَ العِلمِ بحَسَناتِ النَّاسِ وسَيِّئاتِهم، فلا جرَمَ أشعَرَت بأنَّ مَظهَرَ ذلك العِلمِ وأثَرَه، هو الثَّوابُ والعِقابُ، وتفاوتُ دَرَجاتِ العاملينَ ودَرَكاتِهم تفاوتًا لا يُظلَمُ العامِلُ فيه مثقالَ ذَرَّةٍ، ولا يفوتُ ما يستحِقُّه إلَّا أن يتفَضَّل اللهُ على أحدٍ؛ برَفعِ دَرَجةٍ أو مغفرةِ زَلَّةٍ؛ لأجلِ سلامةِ قَلبٍ، أو شفاعةٍ، أو نحوِ ذلك، مِمَّا اللهُ أعلَمُ به مِن عبادِه؛ فلذلك عُقِّبَت جملةُ: فَلَنَقُصَّنَّ بجملةِ: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ، فكأنَّه قيل: فلنقُصَّنَّ عليهم بعِلمٍ، ولَنُجازِيَنَّهم على أعمالِهم جزاءً لا غَبْنَ فيه على أحدٍ). ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/28). ، فقال تعالى:
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ
أي: والوزنُ يومَ القيامةِ لأعمالِ الخَلقِ: الحَسناتِ مِنها والسَّيِّئاتِ؛ يكونُ بالعَدلِ، ولا يَظلِمُ اللهُ تعالى أحدًا [56] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/70)، ((تفسير القرطبي)) (7/164)، ((تفسير ابن كثير)) (3/389)، ((تفسير السعدي)) (ص: 283). وقال الواحديُّ: (عامَّةُ المُفَسِّرين على أنَّ المُرادَ بهذا الوَزنِ أعمالُ العبادِ). ((التفسير البسيط)) (9/23). وقال ابن عطيَّةَ: (قال جمهورُ الأمَّةِ: إنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ أراد أن يَعرِضَ لعبادِه يومَ القيامةِ تحريرَ النَّظَر، وغايةَ العَدلِ بأمرٍ قد عَرَفوه في الدُّنيا، وعَهِدَتْه أفهامُهم؛ فميزانُ القيامةِ له عمودٌ وكِفَّتانِ على هيئةِ موازينِ الدُّنيا). ((تفسير ابن عطية)) (2/376)، ويُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/71). .
كما قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: 47]
وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 40]
وقال تعالى: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ [القارعة: 6-11]
وقال تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون: 101 -103]
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
مُناسَبَتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا أخبَرَ اللهُ تعالى أنَّ العِبرةَ بالمِيزانِ على وجهٍ يُظهِرُ أنَّه لا حَيفَ فيه بوَجهٍ؛ جاء قولُه [57] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/360). :
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
أي: فمَن ثَقُلَت موازينُ عَمَلِه الصَّالِحِ، بأنْ رَجَحَتْ كِفَّةُ حَسَناتِه على سَيِّئاتِه؛ فأولئك هم النَّاجُونَ الفائِزونَ [58] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/70)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 387)، ((تفسير السعدي)) (ص: 284). قال ابنُ كثيرٍ: (فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي: الذينَ فازُوا فنَجَوْا منَ النَّارِ، وأُدخِلُوا الجنَّة. وقال ابنُ عبَّاسٍ: أولئك الذينَ فازُوا بما طَلَبوا، ونَجَوْا مِن شَرِّ ما منه هَرَبوا). ((تفسير ابن كثير)) (5/496). قال الشِّنقيطيُّ: (الفلاحُ في جميعِ القُرآنِ مُحتَمِلٌ للمَعنيينِ المذكُورينِ: الأوَّل: الفوزُ بالمطلوبِ الأكبَرِ. الثاني: الدَّوامُ والبقاءُ السَّرمديُّ في النَّعيمِ، فكلُّ مَن كان له دوامٌ وبقاءٌ في النَّعيمِ، تقول العَرَبُ: نال الفلاحَ، وهذا المعنى معروفٌ في كلامهم). ((العذب النمير)) (3/83)، ويُنظر: ((البسيط)) للواحدي (2/84). قال أبو عُبيدٍ: (الفلاحُ أصلُه البقاءُ، وإنَّما قيل لأهلِ الجنَّة: مُفلِحونَ؛ لِفَوزِهم ببقاءِ الأبَدِ في الجنَّةِ). ((غريب الحديث)) (4/38) باختصار وتصَرُّف. .
عن أبي الدَّرداءِ رَضِيَ الله عنه، قال: سمِعْتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: ((ما مِن شَيءٍ يُوضَعُ في الميزانِ أثقَلُ مِن حُسْنِ الخُلُقِ، وإنَّ صاحِبَ حُسْنِ الخُلُقِ لَيَبلُغُ به درجةَ صاحِبِ الصَّومِ والصَّلاةِ )) [59] أخرجه أبو داود (4799)، والترمذي (2003) واللفظ له، وأحمد (27557). قال الترمذي: غريبٌ مِن هذا الوجهِ، وحسَّنَ إسنادَه البزَّارُ في ((البحر الزخَّار)) (10/36)، وقال الخطيبُ في ((أوهام الجمع والتفريق)) (1/361): طريقُه مَرضيٌّ، وقال ابنُ العربيِّ في ((عارضة الأحوذي)) (4/357): معنًى صحيحٌ جدًّا، تُعَضِّدُه الأحاديثُ والأُصولُ، وصَحَّحه ابنُ دقيق العيد في ((الاقتراح)) (127)، وصحَّحَه الألبانيُّ في ((صَحيحِ سُنَنِ الترمذي)) (2003). .
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((كَلِمَتانِ خَفِيفتانِ على اللِّسانِ، ثَقيلتانِ في المِيزانِ، حَبيبتانِ إلى الرَّحمنِ: سُبحانَ اللهِ وبِحَمدِه، سُبحانَ اللهِ العظيمِ )) [60] رواه البخاري (6682) ومسلم (2694). .
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
أي: ومَنْ خفَّتْ مَوازينُ أعمالِه الصَّالحةِ، بأنْ رَجَحَت سيِّئاتُه، وصار الحُكمُ لها، ولم تَثْقُلْ بالإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ؛ فأولئك الذين أضاعوا حَظَّ أنفُسِهم مِن ثَوابِ اللهِ وكَرامَتِه [61] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/72)، ((تفسير السعدي)) (ص: 284) . .  
بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ
أي: خَسِرُوا أنفُسَهم؛ لأنَّهم كذَّبوا وجَحَدوا بآياتِ اللهِ سُبحانه وتعالى [62] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/73)، ((البسيط)) للواحدي (13/376)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/89). قال ابن جرير: (بما كانوا بحُجَجِ اللهِ وأدِلَّتِه يَجحَدون، فلا يُقِرُّونَ بِصِحَّتِها، ولا يُوقِنونَ بحَقيقَتِها). ((تفسير ابن جرير)) (10/73). وقال الواحدي: (بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ بجُحودِهم بما جاء به محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم). ((التفسير الوسيط)) (2/350). وقال ابن عطية: («الآيات» هنا البَراهينُ والأوامِرُ والنَّواهي، ويَظْلِمُونَ أي يَضَعونَها في غيرِ مَواضِعِها بالكُفرِ والتَّكذيبِ). ((تفسير ابن عطية)) (2/377). وقال الشنقيطيُّ: (فإذا عَلِمْتُم أنَّ الآيةَ في اللُّغةِ تُطلَقُ على العلامةِ، وعلى الجَماعةِ؛ فهي في القرآنِ العظيمِ باستقراءِ القُرآنِ العَظيمِ تُطلَقُ إطلاقينِ: أحدُهما: الآيةُ الكونيَّةُ القدَريَّة، وهي ما نَصَبَه اللهُ جَلَّ وعلا؛ ليدُلَّ به خَلقَه على أنَّه الواحِدُ الأحَدُ الأعظَمُ الصَّمَدُ، المستحِقُّ لِأن يُعبَدَ وَحدَه... وتُطلَقُ الآيةُ في القُرآنِ إطلاقًا آخَرَ: ومعناها: الآيةُ الشَّرعيَّةُ الدينيَّةُ، كآياتِ هذا القُرآنِ العظيم،ِ ومنه قولُه هنا: بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ لأنَّه قال: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الأعراف: آية 3] وذلك الذي أُنزِلَ إليهم مِن رَبِّهم، أعظَمُه الآياتُ السَّماويَّةُ القُرآنيَّةُ التي تُتلَى، وآياتُ الكُتُب، فلمَّا ظَلَمُوا بها وجَحَدوا بها كانوا ظالِمينَ ودَخَلوا النَّارَ). ((العذب النمير)) (3/91-92). .

الفوائد التربوية :

 لا يَنبغي للعاقِلِ أنْ يأمَنَ صَفوَ اللَّيالي، ولا مُواتاةَ الأيَّامِ، ولا يَغتَرَّ بالرَّخاءِ؛ فيَعُدَّه آيةً على الاستحقاقِ له، الذي هو مَظِنَّةُ الدَّوامِ، بل يلزَم التَّذكُّرَ والحَذرَ والتَّوقِّيَ والاحتياطَ؛ قال الله تعالى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ [63] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/199)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (8/276). .

الفوائد العلمية واللطائف:

لقائِلٍ أن يقولَ: قولُه: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ يقتضي أن يكونَ الإهلاكُ مُتقَدِّمًا على مجيءِ البأسِ، وليس الأمرُ كذلك؛ فإنَّ مجيءَ البأسِ مُقَدَّمٌ على الإهلاكِ. والإجابةُ عن هذا السؤالِ من وجوهٍ:
 الأول: المرادُ بقولِه: أَهْلَكْنَاهَا أي: حَكَمْنا بهلاكِها فجاءَها بأسُنا.
وثانيها: كم مِن قريةٍ أرَدْنا إهلاكَها فجاءَها بأسُنا، كقوله تعالى: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة: 6] .
وثالثها: أنْ يكونَ التَّرتيبُ تَرتيبَ تَفصيلٍ على جملةٍ؛ ذَكَرَ الإهلاكَ ثمَّ فَصَّلَه بنوعينِ؛ أحدُهما: مجيءُ البأسِ بياتًا، أي: ليلًا. والثَّاني: مجيئُه وقتَ القائِلةِ [64] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/198، 199)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/196). .
قوله: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا فيه الإتيانُ بِقَولِه: أَهْلَكْنَاهَا في مَوضِعِ (أَرَدْنَا إِهْلاكَها) بقرينةِ فَجَاءَهَا بَأْسُنَا- على أحدِ الأقوالِ في الآيةِ- والإتيانُ بحرفِ التَّعقيبِ بعدَ ذلك؛ للدَّلالَةِ على عدمِ التَّرَيُّثِ، فدلَّ الكلامُ كلُّه: على أنَّه تعالى يُريدُ فيخلُقُ أسبابَ الفعلِ المرادِ، فيحصلُ الفعلُ، كُلُّ ذلك يَحْصُلُ كالأشْياءِ الـمُتَقارِنَةِ، والغرضُ مِنْ ذلك تَهْديدُ السَّامِعينَ المعانِدينَ، وتَحْذيرُهم مِنْ أنْ يَحُلَّ غَضَبُ الله عليهم، فيُريد إهلاكَهم، فضَيَّقَ عليهم المهلةَ؛ لِئلَّا يتباطَؤُوا في تدارُكِ أمْرِهم، والتَّعجيلِ بالتَّوبةِ [65] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/20-21) .
قول الله تعالى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ * فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فيه لطيفةٌ، حيث أُجْريَ الضَّميرانِ في قولِه: أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا على الإفرادِ والتأنيثِ؛ مُراعاةً للفظِ (قَرية)؛ ليَحصُلَ التماثُلُ بين لفظِ الـمُعادِ ولفظِ ضَميرِه في كلامٍ مُتَّصلِ القُربِ، ثم أُجريتْ ضمائرُ القرية على صِيغة الجمعِ في الجملةِ الـمُفرَّعةِ عن الأُولى في قوله: أَوْ هُمْ قَائِلُونَ * فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ؛ لحُصولِ الفَصلِ بينَ الضَّميرِ ولفظِ مُعادِه بجُملةٍ فيها ضميرُ مُعادِه غير لَفظِ القرية، وهو بَأْسُنَا بَيَاتًا؛ لأنَّ (بَياتًا) مُتحمِّلٌ لضميرِ البأسِ، أي: مُبيَّتًا لهم، وانتقَل منه إلى ضميرِ القرية باعتبارِ أَهلِها، فقال: أَوْ هُمْ قَائِلُونَ * فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ [66] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/19). .
قوله تعالى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ يدُلُّ على أنَّ اللهَ يسألُ جَميعَ النَّاسِ يومَ القيامةِ، ونظيرُه قولُه تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 93] ، وقولُه: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئولُونَ [الصفات: 24]، وقولُه: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 65] ، وقد جاءَتْ آياتٌ أُخَرُ تدُلُّ على خلافِ ذلك؛ كقوله: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ [الرحمن: 39]، وكقوله: وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص: 78] ، والجوابُ عن هذا من ثلاثةِ أوجُهٍ:
الأوَّل- وهو أوجَهُها؛ لدَلالةِ القُرآنِ عليه- هو: أنَّ السُّؤالَ قِسمانِ: سؤالُ تَوبيخٍ وتقريعٍ، وأداتُه غالبًا: (لِمَ)، وسؤالُ استخبارٍ واستعلامٍ، وأداتُه غالبًا: (هَل)، فالـمُثبَتُ هو سؤالُ التَّوبيخِ والتَّقريعِ، والمنفيُّ هو سُؤالُ الاستخبارِ والاستعلامِ، وجهُ دلالةِ القرآنِ على هذا: أنَّ سؤالَه لهم المنصوصَ في كُلِّه توبيخٌ وتقريعٌ، كقوله: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ، وقوله: أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ، وكقوله: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، إلى غيرِ ذلك مِنَ الآياتِ.
الوجه الثاني: أنَّ في القيامةِ مواقِفَ مُتعدِّدةً؛ ففي بعضِها يُسألونَ، وفي بعضها لا يُسألونَ.
الوجه الثالث: أنَّ إثباتَ السُّؤالِ مَحمولٌ على السُّؤالِ عَنِ التَّوحيدِ، وتَصديقِ الرُّسلِ، وعدمَ السُّؤالِ مَحمولٌ على ما يستلزِمُه الإقرارُ بالنُّبوَّاتِ مِن شرائِعِ الدِّينِ وفُروعِه [67] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) للشنقيطي (ص: 100-101). ، وقيل غير ذلك [68] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/201)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/28). .
قولُ الله تعالى: وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ الفائدةُ في سُؤالِ الرُّسُلِ مع العِلمِ بأنَّه لم يصدُرْ عنهم تقصيرٌ ألبتَّةَ: أنَّهم إذا أثبَتُوا أنَّه لم يَصدُرْ عنهم تقصيرٌ ألبتَّةَ، التحَقَ التَّقصيرُ بكُلِّيَّتِه بالأمَّةِ، فيتضاعَفُ إكرامُ اللهِ في حَقِّ الرُّسُلِ؛ لظُهورِ بَراءَتِهم عن جميعِ مُوجباتِ التَّقصيرِ، وتتضاعَفُ أسبابُ الخِزي والإهانةِ في حقِّ الكُفَّارِ؛ لِمَا ثبت أنَّ كُلَّ التقصيرِ كان منهم [69] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/200)، ((تفسير ابن عادل)) ( 9/20). .
قولُ اللهِ تعالى: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ يدلُّ على أنَّه تعالى عالِمٌ بالعِلمِ، وهو صِفَةٌ له، قائِمٌ بذاتِه، وأنَّ قَولَ مَن يقولُ: (إنَّه لا عِلمَ لله) قولٌ باطِلٌ [70] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/201)، ((تفسير أبي حيان)) (5/13)، ويُنظر أيضًا: ((شرح العقيدة الواسطية)) للهراس (ص: 120). .
قولُ الله تعالى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إنْ قيل: الميزانُ واحِدٌ، فما وجهُ الجَمعِ؟ فالجوابُ: أنَّ العَربَ قد تُوقِعُ لفظَ الجَمعِ على الواحِدِ تفخيمًا له. وقيل: إنَّه يُنصَبُ لكُلِّ عبدٍ مِيزانٌ. وقيل: جُمِعَ لاختلافِ الموزوناتِ، وتعَدُّدِ الجَمعِ، فهو جمعُ مَوزونٍ أو ميزانٍ فالميزانُ واحدٌ، وأُطلق عليه اسمُ الجمعِ؛ لكثرةِ ما يُوزن فيه مِن أنواعِ الأعمالِ، وكثرةِ الأشخاصِ العاملين، الموزونةِ أعمالُهم [71] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (1/464)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/76)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (8/499). .
في قَولِه تعالى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ دلالةٌ على أنَّ الحَسَناتِ هي مِن أسبابِ مَحْوِ الذُّنُوبِ، وزوالِ العُقُوبةِ [72] يُنظر: ((مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية)) للبعلي (ص: 252). .

بلاغة الآيات:

قوله: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ هذا الخبرُ مُستعمَلٌ في التَّهديدِ للمُشركينَ، الذين وُجِّهَ إليهم التعريضُ في الآيةِ الأولى [73] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/19). ، وقد خَصَّ بالذِّكرِ إهلاكَ القُرى، دون ذِكرِ الأُمَم؛ لأنَّ المُواجَهينَ بالتَّعريضِ هم أهلُ مَكَّةَ، وهي أمُّ القرى؛ فناسَبَ أن يكونَ تهديدُ أهلِها بما أصابَ القُرى وأهلَها، وأيضًا لأنَّ تعليقَ فِعلِ أَهْلَكْنَاهَا بالقريةِ دون أهلِها؛ لِقَصدِ الإحاطةِ والشُّمولِ، فهو مُغنٍ عن أدواتِ الشُّمولِ، فالسَّامِعُ يعلَمُ أنَّ الـمُرادَ مِنَ القريةِ أهلُها؛ لأنَّ العِبرةَ والموعِظةَ إنَّما هي بما حَصَل لأهلِ القَريةِ [74] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/19). .
والتَّعبيرُ عن إرادةِ الفِعلِ بذِكرِ الصِّيغةِ التي تدُلُّ على وقوعِ الفِعلِ في قولِه: أَهْلَكْنَاهَا؛ لإفادةِ عَزمِ الفاعِلِ على الفِعلِ عزمًا لا يتأخَّرُ عنه العَمَلُ، بحيث يُستعارُ اللَّفظُ الدَّالُّ على حُصولِ المرادِ للإرادةِ؛ لتَشابُهِهما [75] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/20). . وهذا على أحدِ الأوجهِ في التفسيرِ.
وقولُه: فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ فيه مبالغةٌ في تصويرِ غَفْلتِهم، وأمْنِهم مِن العذابِ، وخُصَّ مَجيءُ البَأسِ بهَذينِ الوَقتينِ؛ لأنَّهما وقتانِ للسُّكونِ والدَّعَةِ والاستراحةِ، على عادَتِه سُبحانَه في أخْذِ الظَّالِمِ في وَقتِ بُلوغِ آمالِه وفَرَحِه ورُكونِه إلى ما هو فيه؛ فمَجيءُ العذابِ فيهما أقطَعُ وأشَقُّ، ولأنَّه يكون المجيءُ فيه على غَفلةٍ مِنَ المُهلَكينَ، فهو كالمجيءِ بَغتةً، كما أنَّ التَّذكيرَ بالعذابِ فيهما يُنَغِّصُ على المُكَذِّبين تَخَيُّلَ نَعيمِ الوَقتينِ، وفي هذا التَّقسيمِ تهديدٌ؛ حتَّى يكونوا على وَجَلٍ في كلِّ وقتٍ، لا يَدْرُون متَى يَحُلُّ بِهم العذابُ، بحيثُ لا يَأْمَنون في وقتٍ ما [76] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/5)، ((تفسير أبي حيان)) (5/11-12)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/196)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/22- 23). .
قوله: فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فيه حَصْرٌ، ومعناه: أنَّهم لم يَستغيثوا اللهَ ولا توَجَّهوا إليه بالدُّعاءِ، ولِكَنَّهم وَضَعوا الاعترافَ بالظُّلمِ مَوضِعَ الاستغاثةِ؛ فلذلك استثناه اللهُ مِنَ الدَّعوى [77] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/23). . هذا على القولِ بأنَّ الاستثناءَ متَّصلٌ.
والتَّوكيدُ بـ(إنَّ) في قولهم: إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ؛ لتحقيقِ الخَبرِ للنَّفسِ أو للمُخاطَبينَ [78] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/25). .
قوله: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ المرادُ من هذا السؤالِ توبيخُ الكفَرَةِ وتقريعُهم [79] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/88)، ((تفسير أبي السعود)) (3/212). .
والذينَ أُرسِلَ إليهم هُم أُمَمُ الرُّسُل، وعبَّرَ عنهم بالموصولِ الَّذِينَ؛ لِمَا تَدُلُّ عليه الصِّلةُ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مِنَ التَّعليلِ، فإنَّ فائدةَ الإرسالِ هي إجابةُ الرُّسُلِ [80] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/27). .
وفي قوله: فَلَنَسْأَلَنَّ وقوله: وَلَنَسْأَلَنَّ التأكيدُ بلامِ القَسمِ ونُونِ التَّوكيدِ؛ لإزالةِ الشَّكِّ في ذلك، ولأنَّ الـمُخاطَبينَ مِنَ العَرَبِ في أوَّلِ الدَّعوةِ كانوا يُنكِرونَ البَعثَ والجَزاءَ، ولتأكيدِ الخَبرِ تأثيرٌ في الأنفُسِ، ولا سيَّما خَبرُ الـمَشهورِ بالأمانةِ والصِّدقِ، كالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فقد كانوا يُلَقِّبونَه قبل البَعثةِ بالأمينِ [81] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/26)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (8/279-280). .
وقدَّمَ ذِكرَ سُؤالِ الأمَمِ على ذِكرِ الرُّسُلِ؛ لأنَّ المقصودَ الأهَمَّ مِنَ السُّؤالِ هو الأمَمُ؛ لإقامَةِ الحُجَّةِ عليهم في استحقاقِ العِقابِ [82] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/27). .
قوله: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ هذا مِن أعظَمِ التَّوبيخِ والتَّقريعِ؛ حيث يُقِرُّونَ بالظُّلمِ، وتَشهَدُ عليهم أنبياؤُهم، ويَقُصُّ اللهُ عليهم أعمالَهم [83] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/88)، ((تفسير أبي حيان)) (5/13). .
وتَنكيرُ قَولِه: بِعِلْمٍ يدلُّ على إرادةِ التَّفصيلِ، أي: عالِمينَ بأحوالِهِم الظَّاهِرةِ والباطِنةِ، وأقوالِهم وأفعالِهم، وتَنوينُه للتَّعظيمِ، أي: بعلمٍ عَظيمٍ [84] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/88)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/27). .
وقوله: وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ تذييلٌ مُقَرِّرٌ لِما قبلَه [85] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/212)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/27) ، والغائِبُ ضِدُّ الحاضِرِ، وهو هنا كنايةٌ عن الجاهِلِ؛ لأنَّ الغَيبةَ تستلزِمُ الجهالةَ عُرفًا، أي: الجَهالة بأحوالِ المَغيبِ عنه؛ فإنَّها ولو بلَغَتْه بالإخبارِ، لا تكونُ تامَّةً عنده مثلَ الـمُشاهِد [86] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/27). .
قولُه: فَمَنْ ثقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ: فيه اسمُ الإشارةِ أُولَئِكَ وما فيه مِن مَعنى البُعدِ؛ للإيذانِ بعُلوِّ طَبَقَتِهم، وبُعدِ منزلَتِهم في الفَضلِ والشَّرَفِ [87] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/213). .
وضَميرُ الفَصلِ (هُمْ) في قوله: هُمُ الْمُفْلِحُونَ؛ لقَصدِ الانحصارِ، أي: هُم الذين انحصَرَ فيهم تحقُّقُ المُفلِحينَ، أي: إن عَلِمْتَ جماعةً تُعرَفُ بالمُفلحينَ فَهُمُ هُمُ [88] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/31). .
وتعريفُ الْمُفْلِحُونَ؛ للدَّلالةِ على أنَّهم النَّاسُ الذين بلغَك أنَّهم مُفلِحون في الآخِرَةِ، أو إشارةٌ إلى ما يَعرِفُه كلُّ أحدٍ مِن حقيقةِ المُفلحينَ، وخصائِصِهم [89] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/213). .
قوله: بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ صِيغةُ المضارِعِ في قوله: يَظْلِمُونَ؛ لحكايةِ حالِهم في تجدُّدِ الظُّلمِ فيما مضَى [90] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/32). .
وتقديمُ المجرورِ في قوله: بِآيَاتِنَا على عامِلِه، وهو يَظْلِمُونَ؛ للاهتمامِ بالآياتِ [91] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/32). .
الجَمعُ بين صِيغَتَي الماضي والمُستقبَل (كَانوا... يَظلمون)؛ للدَّلالةِ على استمرارِ الظُّلمِ في الدُّنيا [92] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/214). .