موسوعة التفسير

سورةُ الحِجْرِ
الآيات (85-99)

ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ

غريب الكلمات:

فَاصْفَحِ: أي: فأَعْرِضْ، والصَّفحُ: ترْكُ التَّثريبِ واللَّومِ، والإِعراضُ عن الذَّنبِ؛ لأنَّه إذا أعرض عنه فكأنَّه قد ولَّاه صَفْحتَه، أي: عُرْضَه وجانِبَه، وأصلُ الصَّفحِ: عرضُ الشَّيءِ وجانبُه [505] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 401)، ((تفسير ابن جرير)) (14/106)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/293)، ((المفردات)) للراغب (ص: 486)، ((تاج العروس)) للزبيدي (6/539). .
سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي: هي سُورةُ الفاتحةِ، وهي سَبعُ آياتٍ، وسُمِّيَت مَثانيَ؛ لأنَّها تُثنَّى- أي: تُكرَّرُ- في كلِّ صلاةٍ، وقيل غير ذلك [506] سيأتي الخلافُ في معنى (مثاني)، وأسبابِ التسميةِ بذلك مفصَّلًا. ، وأصلُ (ثني) تكريرُ الشَّيءِ مرَّتينِ، أو جعلُه شيئينِ مُتواليينِ أو متباينينِ [507] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 35)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 263)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/392)، ((المفردات)) للراغب (ص: 394)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 190)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 257). .
أَزْوَاجًا مِنْهُمْ: أي: أصنافًا منهم وأمْثالًا وأشبَاهًا؛ مِن المُزاوَجةِ بين الأشياءِ، وهي المُشاكَلةُ، وأصلُ (زوج): يدُلُّ على مُقارَنةِ شَيءٍ لِشَيءٍ [508] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 239)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/35)، ((الغريبين)) للهروي (3/836)، ((البسيط)) للواحدي (12/656)، ((المفردات)) للراغب (ص: 385). .
وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ: أي: ألِنْ جانِبَك، واسْكُنْ لهم، وارفُقْ بهم، وجَناحُ الإنسانِ: جانِبُه،  وأصلُ (جنح): يدُلُّ على المَيلِ؛ وسُمِّيَ الجناحانِ جَناحَينِ؛ لِمَيلهما في الشِّقَّينِ [509] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/484)، ((الغريبين)) للهروي (1/376)، ((البسيط)) للواحدي (12/657)، ((المفردات)) للراغب (ص: 206)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 191). .
الْمُقْتَسِمِينَ: أي: الذين تقَسَّمَت أقوالُهم في القُرآنِ، فقال بعضُهم: سِحرٌ، وقال بعضُهم: كِهانةٌ، وقال بعضُهم: أساطيرُ الأوَّلينَ، وأصلُ (قسم): يدلُّ على تجزئةِ شَيءٍ [510] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/129)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/86)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 191). .
عِضِينَ: أي: مُفَرَّقًا؛ لأنَّ المُشرِكينَ فرَّقوا أقاويلَهم فيه، فجعلوه كَذِبًا وسِحرًا وكِهانةً وشِعرًا؛ من عَضَّيتُ الشَّيءَ تعضيةً: أي: فَرَّقتَه، وأصلُ (عضو): يدلُّ على تجزئةِ الشَّيءِ [511] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 239)، ((تفسير ابن جرير)) (14/134)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 345)، ((تهذيب اللغة)) للأزهري (3/44)، ((الصحاح)) للجوهري (6/2241)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/347)، ((المفردات)) للراغب (ص: 571). .
فَاصْدَعْ: أي: فاجهَرْ وأظهِرْ، وأصلُ (صدع): يدلُّ على انفراجٍ في الشَّيءِ [512] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 240)، ((تفسير ابن جرير)) (14/142)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/337)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 258)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 131). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى: وما خلَقْنا السَّمَواتِ والأرضَ وما بينهما إلَّا بالحَقِّ، وإنَّ يومَ القِيامةِ لآتٍ لا محالةَ؛ لتُجزَى كلُّ نَفسٍ ما عَمِلَت، فاصفَحْ- يا محمَّدُ- عن المُشرِكينَ، وتجاوَزْ عمَّا يَفعَلونَه. إنَّ ربَّك هو الخلَّاقُ لكُلِّ شَيءٍ، العَليمُ به.
ولقد أعطيناك- يا محمَّدُ- فاتحةَ القُرآنِ، وهي سَبعُ آياتٍ مِن المثاني، وهي القرآنُ العَظيمُ القَدْرِ. لا تنظُرْ بعَينَيك وتتمَنَّ ما مَتَّعْنا به أصنافًا مِن الكُفَّارِ، ولا تَحزَنْ على كُفرِهم، وتواضَعْ للمُؤمِنينَ وارفُقْ بهم. وقلْ للمُشرِكينَ: إنِّي أنا المُنذِرُ البَيِّنُ النِّذارةِ؛ أن يُصيبَكم عَذابٌ مِثلُ العذابِ الذي أنزَلَه اللهُ على الذين قسَّموا القُرآنَ، فجَعَلوه أقسامًا وأجزاءً؛ فمنهم من يقولُ: سِحرٌ، ومنهم من يقول: كِهَانةٌ، ومنهم من يقولُ غيرَ ذلك.
فورَبِّك- يا محمدُ- لنسألنَّهم يومَ القيامةِ أجمعينَ، عما كانوا يَعمَلونَه في الدنيا. فاجهَرْ  بدَعوةِ الحَقِّ التي أمَرَك اللهُ بها، ولا تهتمَّ بالمُشرِكينَ؛ واكفُفْ عن قِتالِهم، إنَّا كَفَيناك المُستَهزِئينَ الذين اتَّخَذوا شَريكًا مع اللهِ في عبادتِه، فسوف يَعلَمونَ ما يَلقَونَ مِن العذابِ يومَ القيامةِ. ولقد نعلَمُ ضِيقَ صَدرِك؛ بسبَبِ تكذيبِ قَومِك واستهزائِهم، فنَزِّهْ ربَّك عن كلِّ ما لا يليقُ به متلبِّسًا بحَمدِه، وكُنْ مِن المصَلِّينَ لله العابدينَ له، واستمِرَّ في عبادةِ رَبِّك حتى يأتيَك الموتُ وأنت على ذلك.

تفسير الآيات:

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه تعالى لَمَّا بيَّنَ أنَّه أنزل العذابَ على الأُمَم السَّالفةِ، فعندَ هذا قال لمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ، وإنَّ اللهَ لَينتَقِمُ لك فيها مِن أعدائِك، ويُجازيك وإيَّاهم على حَسناتِك وسَيِّئاتِهم؛ فإنَّه ما خلقَ السَّمواتِ والأرضَ وما بينهما إلَّا بالحَقِّ والعَدلِ والإنصافِ، فكيف يَليقُ بحِكمتِه إهمالُ أمْرِك [513] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (19/158). ؟!
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ.
أي: وما خَلَقْنا السَّمواتِ والأرضَ وما فيهما وما بينَهما إلَّا لحِكَمٍ ومَصالِحَ عَظيمةٍ، لا عبثًا وباطِلًا، وخلَقهما سبحانَه بالعدلِ لا بالظلمِ والجورِ [514] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/105)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 597)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (17/99)، ((تفسير ابن كثير)) (4/545)، ((تفسير الشوكاني)) (3/168)، ((تفسير السعدي)) (ص: 434)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/312). .
كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص: 27] .
وقال سُبحانه: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الدخان: 38-39] .
وقال عزَّ وجلَّ: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ * وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون: 115-117] .
وقال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران: 190-191] .
وقال سُبحانه: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم: 31] .
وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ.
مُناسَبتُها لِما قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا صبَّرَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أذَى قَومِه، رغَّبَه بعدَ ذلك في الصَّفحِ عن سيِّئاتِهم بقَولِه تعالى [515] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (2/210). :
وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ.
أي: وإنَّ يومَ القيامةِ لآتٍ وواقِعٌ لا ريبَ فيه؛ وفيه يُجازَونَ بأعمالِهم، ومِنهم مُشرِكو قَومِك الذين كذَّبوك وآذَوك؛ فأعرِضْ- يا محمَّدُ- عن مؤاخَذتِهم في الدُّنيا، واعفُ عنهم عَفوًا حَسَنًا مِن غَيرِ عِتابٍ [516] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/105)، ((تفسير القرطبي)) (10/54)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/666)، ((تفسير السعدي)) (ص: 434)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/313). قال ابنُ كثير: (قال مجاهدٌ وقتادةُ وغيرهما: كان هذا قبلَ القِتالِ. وهو كما قالا؛ فإنَّ هذه مكيَّةٌ، والقتالُ إنَّما شُرِع بعدَ الهجرةِ). ((تفسير ابن كثير)) (4/545، 546). ويُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (2/541). .
كما قال تعالى: وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ * فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الزخرف: 88-89] .
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86).
أي: إنَّ ربَّك- يا محمَّدُ- قادِرٌ على إقامةِ السَّاعةِ؛ لأنَّه هو الذي خلقَ كُلَّ شَيءٍ، فلا يُعجِزُه شَيءٌ، وسيُعيدُ خَلقَ عِبادِه يومَ البَعثِ، وهو العالِمُ بكُلِّ شَيءٍ، ومِن ذلك عِلمُه بما تفَرَّق من أجسادِ العبادِ، وعِلمُه بجميعِ أعمالِهم [517] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/106)، ((تفسير ابن كثير)) (4/546)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/84)، ((تفسير السعدي)) (ص: 434).  .
كما قال تعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 81-82] .
وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ (87).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا صبَّرَ اللهُ تعالى نبيَّه- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- على أذى قَومِه، وأمَرَه بأن يصفَحَ الصَّفحَ الجميلَ؛ أتبعَ ذلك بذِكرِ النِّعَمِ العظيمةِ التي خَصَّه اللهُ تعالى بها؛ لأنَّ الإنسانَ إذا تذكَّرَ كَثرةَ نِعَمِ الله عليه، سَهُلَ عليه الصَّفحُ والتَّجاوُزُ [518] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (19/158). .
وأيضًا فإنَّه لَمَّا ذكَرَ صِفةَ العِلمِ بصيغةِ المُبالغة الْعَلِيمُ، أتبعَها ما آتى النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في هذه الدَّارِ من مادةِ العِلمِ بصيغةِ العَظَمةِ، فقال [519] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/85). :
وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ (87).
أي: ولقد  أعطَيناك- يا محمَّدُ- سبعَ آياتٍ؛ هي سُورةُ الفاتحةِ التي تتَّصِفُ بأنَّها مَثانٍ [520] وممَّن اختار أنَّ المرادَ بقولِه تعالى: سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي: الفاتحة: الواحدي، والقرطبي، والبقاعي، وابنُ عاشور، والشنقيطي. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 597)، ((تفسير القرطبي)) (10/55)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/85)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/80)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/315).  ونسَب الواحديُّ والشوكاني هذا القولَ إلى أكثرِ المفسرينَ. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/51)، ((تفسير الشوكاني)) (3/170). قال الشوكاني: (ومما يُقوِّي كونَ السَّبعِ المثاني هي الفاتحةَ: أنَّ هذه السورةَ مكيَّةٌ، وأكثَرُ السَّبعِ الطِّوال مدنيةٌ، وكذلك أكثرُ القرآن وأكثرُ أقسامِه). ((تفسير الشوكاني)) (3/170). وقال القرطبي: (وقد قدَّمنا في الفاتحةِ أنَّه ليس في تسميتِها بالمثاني ما يمنعُ مِن تسميةِ غيرِها بذلك، إلَّا أنَّه إذا ورَد عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، وثبَت عنه نصٌّ في شيءٍ لا يَحتمِلُ التأويلَ؛ كان الوقوفُ عندَه). ((تفسير القرطبي)) (10/55). وهذا النصُّ هو قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: ((أُمُّ القرآنِ هي السَّبعُ المثاني والقرآنُ الْعَظِيمُ)). قال ابنُ كثير: (فهذا نصٌّ في أنَّ الفاتحةَ السَّبعُ المثاني والقرآنُ العظيمُ، ولكن لا يُنافي وصفَ غَيرِها من السَّبعِ الطُّوَلِ بذلك؛ لِما فيها من هذه الصِّفة، كما لا ينافي وصفَ القرآنِ بكماله بذلك أيضًا، كما قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ [الزمر: 23] فهو مَثانٍ مِن وجهٍ، ومتشابهٌ من وجه، وهو القرآنُ العظيم أيضًا، كما أنَّه - عليه السَّلامُ- لَمَّا سُئِل عن المسجد الذي أُسِّسَ على التقوى، فأشار إلى مسجِدِه، والآيةُ نزلتْ في مسجدِ قُباء، فلا تَنافيَ؛ فإنَّ ذِكرَ الشَّيءِ لا ينفي ذِكرَ ما عداه إذا اشتركَا في تلك الصفةِ، والله أعلمُ). ((تفسير ابن كثير)) (4/547-548). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: عليٌّ، وابنُ مسعود، وابنُ عباس، وأبيُّ بنُ كعبٍ، والحسنُ، وأبو العالية. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/113: 116). وفي سببِ اتصافِ الفاتحةِ بكونِها مثانيَ أقوالٌ: منها: أنَّها تُثنَّى في كلِّ صلاةٍ، أي: تُقرَأُ في كلِّ ركعةٍ. وممن قال بذلك: الواحديُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 597)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/80)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/315). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ، والحسنُ، وقتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/118)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/542). ومنها: اشتمالُها على الثناءِ على الله تعالى. ومنها: أنها قسمان: ثناءٌ ودعاءٌ، وأيضًا النصفُ الأوَّلُ منها حقُّ الربوبيةِ وهو الثناءُ، والنصفُ الثاني حقُّ العبوديةِ، وهو الدعاءُ. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (12/649)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/541)، ((تفسير الرازي)) (19/159)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/85-86). وقيل: المرادُ بالسبعِ المثاني: السَّبعُ الطِّوالُ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (10/55). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ مسعودٍ، وابنُ عباسٍ في روايةٍ، وابنُ جبيرٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/107)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (7/2272). قال محمد رشيد رضا: (والقولُ بأنَّها السبعُ الطُّوَلُ، رواه النَّسائي والطَّبَريُّ والحاكِمُ عن ابن عباسٍ بإسنادٍ قويٍّ، كما قال الحافظ. ولا حاجةَ إلى التفصيلِ فيه؛ فإنه مردودٌ؛ لِمخالفتِه للحديثِ الصحيحِ المرفوعِ، ولا قولَ لأحدٍ [مع] قولِ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم). ((تفسير المنار)) (1/80). قال ابنُ الجوزي: (في تسميتِها [أي: السبعِ الطوالِ] بالمثاني قولانِ: أحدهما : لأنَّ الحدودَ والفرائضَ والأمثالَ ثُنيت فيها، قاله ابنُ عباسٍ. والثاني : لأنَّها تُجاوزُ المائةَ الأولَى إلى المائةِ الثانيةِ، ذكره الماورديُّ). ((تفسير ابن الجوزي)) (2/542). وقيل: المرادُ بالسبعِ: الفاتحةُ؛ لأنَّها سبعُ آياتٍ، والمرادُ بالمثاني: كلُّ القرآنِ، ويكونُ التقديرُ: ولقد آتيناك سبعَ آياتٍ هي الفاتحةُ، وهي مِن جملةِ المثاني الذي هو القرآنُ. قال الرازي: (وهذا القولُ عينُ الأوَّلِ [أي: تفسيرِ السبعِ المثاني بأنَّها الفاتحةُ]، والتفاوتُ ليس إلَّا بقليلٍ والله أعلم). ((تفسير الرازي)) (19/161). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/121، 124). وقيل: المرادُ بـ سَبْعًا: السبعُ الطوالُ، والمرادُ بالمثاني: القرآنُ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/373). وفي سببِ تسميةِ القرآنِ بالمثاني أقوالٌ: منها: أنَّ بعضَ الآياتِ يتلو بعضًا، فتُثنى الآخرةُ على الأولَى، ولها مقاطعُ تفصِلُ الآيةَ بعدَ الآيةِ حتى تنقضيَ السورةُ. ومنها: أنَّه سُمِّي بالمثاني لما يترددُ فيه مِن الثناءِ على الله عزَّ وجلَّ. وقيل غيرُ ذلك. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (2/542). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن جرير)) (14/124). وكلمةُ (من) في قولِه: مِنَ المَثَانِي لبيانِ الجنسِ، وقيل: للتبعيضِ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (2/543)، ((تفسير ابن عطية)) (3/373). ، وهي القرآنُ العَظيمُ القَدْرِ [521] وممَّن اختار أنَّ المرادَ بالقرآنِ العظيمِ هنا: الفاتحةُ أيضًا: القرطبي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (10/55)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/315). قال الشنقيطي: (قيل لها: «القرآنُ العظيمُ»؛ لأنَّها هي أعظمُ سورةٍ؛ كما ثبَت عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في الحديثِ الصحيحِ). ((أضواء البيان)) (2/315). وقال القرطبي: (لاشتمالِها على ما يتعلَّقُ بأصولِ الإسلامِ). ((تفسير القرطبي)) (10/55). وقال الخطَّابي في شرحِ حديثِ ((هي السَّبعُ المثاني والقرآنُ العظيم)): (وفيه بيانُ: أنَّها القرآنُ العظيمُ، وأنَّ الواوَ في هذه الآيةِ ليست بواوِ العطفِ الموجِبةِ الفصلَ بينَ الشيئينِ، وإنَّما هي الواوُ التي تجيءُ بمعنى التخصيصِ والتفضيلِ، كقوله عزَّ وجلَّ: فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرحمن: 68]، وكقوله: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [البقرة: 98] ونحو ذلك). ((أعلام الحديث)) (3/1798). وقيل: القرآنُ العظيم مرادٌ به جميعُ القرآنِ. وممن اختار هذا المعنى: ابنُ جرير، والواحدي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/126)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 597)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/81). قال الزمخشري: (فإن قلتَ: كيف صحَّ عطفُ القرآنِ العظيم على السَّبعِ؟ وهل هو إلَّا عطفُ الشيءِ على نفسِه؟! قلتُ: إذا عُنِيَ بالسَّبع الفاتحةُ أو الطوالُ فمَا وراءهنَّ ينطلِقُ عليه اسمُ القرآن؛ لأنَّه اسمٌ يقعُ على البعضِ كما يقعُ على الكلِّ، ألا ترَى إلى قولِه: بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ يعني سورةَ يوسفَ). ((تفسير الزمخشري)) (2/319). ويُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/416). .
عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أمُّ القُرآنِ هي السَّبعُ المَثاني، والقُرآنُ العَظيمُ) ) [522] رواه البخاري (4704). .    
وعن أبي سَعيدِ بنِ المُعلَّى رَضِيَ الله عنه، قال: ((كنتُ أصلِّي في المسجِدِ، فدعاني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فلم أُجِبْه، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي كنتُ أصَلِّي، فقال: ألم يَقُل اللهُ: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال: 24] ؟! ثم قالَ لي: لأعَلِّمَنَّك سورةً هي أعظَمُ السُّوَرِ في القُرآنِ قبل أن تخرُجَ مِن المسجِدِ، ثمَّ أخذَ بيدي، فلمَّا أراد أن يخرُجَ قُلتُ له: ألم تقُلْ: لأعَلِّمَنَّك سورةً هي أعظَمُ سورةٍ في القُرآنِ؟ قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هي السَّبعُ المثاني، والقُرآنُ العظيمُ الذي أوتيتُه )) [523] رواه البخاري (4474). .
لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا عرَّف رسولَه عِظَمَ نِعَمِه عليه فيما يتعَلَّقُ بالدِّينِ- وهو أنَّه آتاه سبعًا مِن المَثاني والقُرآنَ العظيمَ- نهاه عن الرَّغبةِ في الدُّنيا، فحظَرَ عليه أن يمُدَّ عَينَيه إليها رغبةً فيها [524] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (19/161). .
لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ.
أي: لا تَنظُرَنَّ- يا محمَّدُ- وتتطلَّعَنَّ إلى نعيمِ الدُّنيا الَّذي متَّعْنا به أصنافًا مِن الأغنياءِ مِن قَومِك، الذين لا يُؤمِنونَ باللهِ واليومِ الآخرِ، ولا تتمَنَّاه، واستغنِ بما آتاك اللهُ مِن القرآنِ عمَّا هم فيه مِن المَتاعِ الفاني؛ فقد أُوتيتَ تلك النِّعمةَ العُظمَى، التي كلُّ نِعمةٍ أُخرَى وإن عَظُمَت، فهي حقيرةٌ في جانِبِها [525] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/436)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 239)، ((تفسير ابن جرير)) (14/126)، ((تفسير القرطبي)) (10/56)، ((تفسير ابن كثير)) (4/546، 548)، ((تفسير القاسمي)) (6/344).  قال الواحدي: (المرادُ بنَهيِه- صلَّى الله عليه وسلَّم- من مدِّ العَينِ: نهيُه عن التطلُّعِ إليه رغبةً فيه، وإنما يكون مادًّا عينيه إلى الشيءِ: إذا أدام النظرَ نحوَه، وإدامةُ النظرِ إلى الشيء تدلُّ على استحسانِه وتمنِّيه... وقولُه تعالى: أَزْوَاجًا مِنْهُمْ قال الزجاج: أي: أمثالًا في النِّعَم، يعني: أن الأغنياءَ بعضُهم أمثالُ بعضٍ في الغِنى والنِّعمةِ، فهم أزواجٌ. وقال ابنُ قتيبة: أي: أصنافًا منهم، والزوجُ في اللغةِ: الصِّنفُ، يعني أصنافَ الكُفَّارِ مِن المشركينَ واليهودِ وغيرِهم. وقال المفضَّلُ: أَزْوَاجًا مِنْهُمْ أي: رجالًا ونساءً أغنيناهم، فلا تمدَّنَّ عينيك إلى ما أعطيناهم). ((البسيط)) (12/656- 657). .
كما قال تعالى: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه: 131] .
وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ.
أي: ولا تَحزَنْ على الكُفَّارِ أنَّهم لم يُؤمِنوا، فقَدْ بَلَّغْتَ رسالةَ ربِّك [526] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/589)، ((تفسير الرازي)) (19/161)، ((تفسير ابن كثير)) (4/546)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/316). وممن قال بأنَّ المعنى: لا تحزَنْ عليهم لعدمِ إيمانِهم: الزمخشري، والرازي، وابنُ كثير، والشنقيطي. يُنظر: المصادر السابقة. قال الشنقيطي: (الصحيحُ في معنَى هذه الآيةِ الكريمةِ: أنَّ اللَّهَ نهَى نبيَّه صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم عن الحزنِ على الكفَّارِ إذا امْتَنَعوا مِن قبولِ الإسلامِ. ويدُلُّ لذلك كثرةُ وُرودِ هذا المعنَى في القرآنِ العظيمِ، كقولِه: وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل: 127] ، وقولِه: فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [فاطر: 8] ، وقولِه: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء: 3] ، وقولِه: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف:  6]، وقولِه: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [المائدة: 68]، إلى غيرِ ذلك مِن الآياتِ). ((أضواء البيان)) (2/316). وقال البقاعي: (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ لكونِهم لم يُؤمنوا؛ فيخلِّصوا أنفسَهم مِن النارِ، ويقوَى بهم جانبُ الإسلامِ). ((نظم الدرر)) (11/88). وذهب ابنُ جريرٍ إلى أنَّ المعنى: ولا تحزَنْ على ما مُتِّعُوا به فعُجِّلَ لهم؛ فإنَّ لك في الآخرةِ ما هو خيرٌ منه، معَ الذي قد عجَّلْنا لك في الدنيا مِن الكرامةِ، بإعطائِنا السبعَ المثانيَ والقرآنَ العظيم. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/126-127). .
كما قال تعالى: وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 176] .
وقال سُبحانه: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل: 127] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [لقمان: 23-24] .
وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ.
أي: وألِنْ جانِبَك للمُؤمنينَ، وارفُقْ بهم، وتواضَعْ لهم [527] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/128)، ((تفسير القرطبي)) (10/57)، ((تفسير ابن كثير)) (4/546)، ((تفسير السعدي)) (ص: 434)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/316). .
كما قال تعالى: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 215] .
وقال سُبحانه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران: 159] .
وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا أمَرَ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بألَّا يَحزَنَ على مَن لم يُؤمِنْ، وأمَرَه بخَفضِ جَناحِه للمُؤمِنينَ؛ أمَرَه أن يُعلِمَ المؤمنينَ وغَيرَهم أنَّه هو النَّذيرُ المُبينُ؛ لئلَّا يظُنَّ المؤمِنونَ أنَّهم لَمَّا أُمِرَ- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- بخَفضِ جَناحِه لهم، خَرَجوا مِن عُهدةِ النِّذارةِ، فأمَرَه تعالى بأن يقولَ لهم [528] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/497). :
وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89).
أي: وقُلْ- يا محمَّدُ- للمُشرِكينَ: إنِّي أنا النَّذيرُ الذي قد أبان إنذارَه، وأظهَرَ الحَقَّ لكم، أُنذِرُكم عذابَ اللهِ إن لم تُؤمِنوا به [529] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/128)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 598)، ((تفسير السمعاني)) (3/152)، ((تفسير الرازي)) (19/164). قال الرازي: (أَمرَه بأنْ يَقولَ لِلقومِ: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ فيدخلُ تحتَ كونِه نذيرًا، كونُه مُبَلِّغًا لجميعِ التَّكاليفِ؛ لأنَّ كلَّ ما كان واجبًا ترتَّبَ على تركِه عقابٌ، وكلَّ ما كانَ حرامًا ترتَّبَ على فعلِه عقابٌ، فكانَ الإخبارُ بحصولِ هذا العقابِ داخِلًا تحتَ لفظِ النَّذيرِ، ويدخلُ تحتَه أيضًا كونُه شارِحًا لمراتبِ الثَّوابِ والعقابِ والجنَّةِ والنَّارِ، ثمَّ أردفَه بكونِه مُبِينًا، ومعناه كونُه آتيًا في كلِّ ذلك بالبياناتِ الشَّافيةِ والبيِّناتِ الوافيةِ). ((تفسير الرازي)) (19/162). .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا [الأحزاب: 45- 46] .
وعن أبي موسى الأشعريِّ رضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَثَلي ومثَلُ ما بعَثَني اللهُ، كمَثَلِ رجُلٍ أتَى قومًا، فقال: رأيتُ الجيشَ بِعَينَيَّ، وإنِّي أنا النَّذيرُ العُريانُ [530] النذيرُ العُريان: مثلٌ مَشهورٌ سائِرٌ بين العرَبِ، يُضرَبُ لشِدَّةِ الأمرِ، ودنُوِّ المحذورِ، وبراءةِ المُحَذِّرِ عن التُّهمةِ، وأصلُه: أنَّ الرجُلَ إذا رأى العدُوَّ قد هجَم على قَومِه، وأراد أن يفاجِئَهم وكان يخشى لُحوقَهم قبل لُحوقِه، تجَرَّدَ عن ثوبِه وجعلَه على رأسِ خَشَبةٍ وصاح؛ ليأخُذوا حِذرَهم. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للملا الهروي (1/231). ، فالنَّجاءَ النَّجاءَ [531]  فالنَّجاءَ النَّجاءَ: أَيِ: اطلُبوا النَّجاةَ بأن تُسرِعوا الهَرَب. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (11/317). ، فأطاعَته طائِفةٌ فأَدلَجوا [532] فأدلجوا: أي: سارُوا أوَّلَ الليَّلِ، أو ساروا اللَّيلَ كُلَّه. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للملا الهروي (1/231). على مَهَلِهم [533] على مَهَلِهم: المَهَلُ: الهِينةُ والسُّكونُ والتأنِّي. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للملا الهروي (1/231). فنَجَوا، وكذَّبَته طائفةٌ فصَبَّحَهم الجيشُ [534] فصَبَّحهم الجَيشُ: أي: أتاهم جيشُ العَدُوِّ صَباحًا للإغارةِ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للملا الهروي (1/231). فاجتاحَهم [535] فاجتاحهم: أي: استأصَلَهم وأهلَكَهم بالكُلِّيَّةِ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للملا الهروي (1/231). ) [536] رواه البخاري (6482) واللفظ له، ومسلم (2283). .
كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90).
أي: وأنذِرْ قومَك عذابًا مثلَ العذابِ [537] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/128)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 598)، ((تفسير ابن عطية)) (3/374)، ((تفسير ابن كثير)) (4/548)، ((تفسير السعدي)) (ص: 435). وممَّن ذهَب إلى أنَّ المشبَّهَ به هو العذابُ: ابنُ جرير، والواحدي، وابنُ عطية، والقرطبي، وابنُ كثير، والشوكاني، والقاسمي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/128)، ((تفسير ابن عطية)) (3/374)، ((تفسير القرطبي)) (10/57)، ((تفسير ابن كثير)) (4/548)، ((تفسير الشوكاني)) (3/171)، ((تفسير القاسمي)) (6/345)، ((تفسير السعدي)) (ص: 435). قال الرسعني: (اختلفوا في متعلَّقِ الكافِ في قولِه: كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ، فقال قومٌ: هي متعلِّقةٌ بقَولِه: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ فإنْ أريدَ بالمُقتسمينَ اليهودُ والنصارى، فالمعنى: ولقد أنزَلْنا عليك سبعًا مِن المثاني مثلَ ما أنزَلْنا على المقتَسِمين أهلِ الكتابِ. وهذا معنى قولِ مقاتلٍ. وإن أريدَ به كُفَّارُ قُريشٍ، فالمعنى: ولقد شرَّفْناك وكرَّمْناك وأنعَمْنا عليك بالسَّبعِ المثاني والقرآنِ العظيمِ مِثلَ ما شرَّفناك وأنعَمْنا عليك بما أنزَلْنا على أعدائِك المُقتَسِمين من العذابِ، حيثُ انتقَمْنا لك منهم. وإن أريدَ بهم قومُ صالحٍ، كان المعنى: ولقد كرَّمْناك وأيَّدْناك بإنزالِ السَّبعِ والقرآنِ عليك كما كرَّمْنا صالِحًا بإنزالِ العذابِ على المُقتَسِمين عليه. وقال قومٌ: هي متعلِّقةٌ بقولِه: وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ فإن أريدَ بالمقتسمين أهلُ الكتابِ أو قومُ صالحٍ، فالمعنى: قُلْ لكُفَّارِ قريش: إني أنا النذيرُ، أنذِرُكم عذابًا مِثلَ ما أُنزِل على المُقتَسمين. وقال بعضُهم: هو ما جرى على قُرَيظةَ والنَّضيرِ، فجَعَل المتوقَّعَ بمنزلة الواقعِ، وهو من الإعجازِ؛ لأنَّه إخبارٌ بما سيكون، وقد كان، وعذابُ قُريشٍ هو ما أصاب المُستهزِئين... وما أصابهم يومَ بدرٍ وغيرَه، وعذابُ قومِ صالحٍ مذكورٌ في سورة النملِ. وقال الواحدي: يجوزُ أن يكونَ المعنى: أنِّي أنذِرُكم ما أنزَلْنا، فتكونُ الكافُ زائدةً). ((تفسير الرسعني)) (3/635). الذي نزلَ على الذين اقْتَسَموا القرآنَ [538] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/128). ممن اختار أنَّ كلمةَ الْمُقْتَسِمِينَ مأخوذةٌ مِن القِسمةِ: ابنُ جريرٍ الطبريُّ، والواحدي، وابنُ حجرٍ، والشنقيطي، وابنُ عاشورٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/128)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 598)، ((فتح الباري)) لابن حجر (8/383)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/317)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/85). قال ابنُ حجرٍ: (والمعروفُ أنَّه مِن القِسْمَةِ، وبه جَزَم الطَّبريُّ وغيرُه، وسِياقُ الكلامِ يدُلُّ عليه). ((فتح الباري)) (8/383). واختلَف المفسِّرونَ في مَن أُريدَ بـ الْمُقْتَسِمِينَ- بناءً على هذا المعنى المذكورِ- على أقوالٍ: منها: أنَّهم جماعةٌ من كفَّارِ مكَّةَ اقتسموا القرآنَ بأقوالِهم الكاذبةِ، فقال بعضُهم: هو شِعرٌ، وقال بعضُهم: هو سِحرٌ، وقال بعضُهم: كهانةٌ، وقال بعضُهم: أساطيرُ الأوَّلينَ، وقال بعضُهم: اختلَقه محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلم. ومال إلى هذا القولِ واستظهره الشنقيطي. يُنظر: ((أضواء البيان)) (2/317). وممن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السلفِ: قتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/151). وقيل: هم الذين اقتسَموا طرقَ مكَّةَ يصدُّون الناسَ عن رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، والإيمانِ به. وهو قولُ السمعاني، والواحدي. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (3/153)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 598).  قال السمعاني: (ومعنَى الاقتسامِ: أنَّهم اقْتَسموا طرقَ مَكَّةَ، وهذا قولٌ معروفٌ، ذكَره مجاهدٌ وقتادةُ وغيرُهما). ((تفسير السمعاني)) (3/153). وممن اختار أنَّ الْمُقْتَسِمِينَ مأخوذٌ مِن القَسَمِ: ابنُ قتيبةَ، وابنُ كثيرٍ، والسعدي. يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 239)، ((تفسير ابن كثير)) (4/548، 549)، ((تفسير السعدي)) (ص: 435). واختلف المفسِّرون في المرادِ بهم بناءً على هذا القولِ، فقيل: إنَّهم قومُ صالحٍ الذين تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ [النمل: 49] ، فكفاه الله شرَّهم، وقيل غيرُ ذلك. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/75). ورجَّح ابنُ جريرٍ العمومَ فقال: (الصوابُ من القول في ذلك عندي أن يقال: إنَّ اللهَ تعالى أمَرَ نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يُعلِمَ قومَه الذين عَضَوُا القرآنَ ففَرَّقوه أنَّه نذيرٌ لهم من سَخَطِ الله تعالى وعقوبتِه؛ أن يحُلَّ بهم على كُفرِهم ربَّهم وتكذيبِهم نبيَّهم ما حَلَّ بالمقتسمينَ مِن قبلِهم ومنهم، وجائزٌ أن يكون عُنِي بالمقتسمين: أهلُ الكتابين: التوراةِ والإنجيل؛ لأنَّهم اقتسموا كتابَ الله، فأقَرَّت اليهودُ ببعضِ التوراةِ، وكذَّبت ببعضها، وكذَّبت بالإنجيلِ والفرقانِ، وأقرَّت النصارى ببعضِ الإنجيلِ وكذَّبت ببعضِه وبالفرقانِ، وجائزٌ أن يكون عُني بذلك: المشركون مِن قريش؛ لأنَّهم اقتسموا القرآنَ، فسمَّاه بعضُهم شِعرًا، وبعضٌ كهانةً، وبعضٌ أساطيرَ الأولينَ، وجائزٌ أن يكون عُنِي به الفريقان، وممكنٌ أن يكونَ عُني به المقتسِمون على صالحٍ مِن قومِه، فإذ لم يكن في التنزيلِ دَلالةٌ على أنَّه عُني به أحدُ الفِرَق الثلاثة دونَ الآخَرينَ، ولا في خبَرٍ عن الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلم، ولا في فطرةِ عقلٍ، وكان ظاهِرُ الآيةِ مُحتَمِلًا ما وصفتُ- وجب أن يكون مقتضيًا بأنَّ كُلَّ من اقتسم كتابًا لله بتكذيبِ بَعضٍ وتصديقِ بعضٍ، واقتسم على معصية الله ممَّن حلَّ به عاجلُ نقمةِ الله في الدار الدنيا قبل نزول هذه الآية- فداخِلٌ في ذلك؛ لأنَّهم لأشكالِهم من أهلِ الكفرِ بالله كانوا عبرةً، وللمتَّعظين بهم منهم عِظةً). ((تفسير ابن جرير)) (14/133-134). .
كما قال تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ [فصلت: 13] .
الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ (91).
الذين [539] ممن اختار أنَّ هذه صفةُ المقتسمينَ: القرطبي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (10/58)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/85). وقيل: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ جملةٌ منفصلةٌ عمَّا قبلَها. على معنى إنذارِ الذين جعَلوا القرآنَ عضينَ بعذابٍ مثل الذي نزَل بالمقتسمينَ. وممن قال بهذا: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/138). وقيل: هو مبتدأٌ، خبرُه فَوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ أي: مِن التقسيمِ فنجازيهم عليه. وممن قال بهذا: القاسمي. يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (6/345). فرَّقوا القرآنَ [540] قال ابنُ الجوزي: (قوله تعالى: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ في المرادِ بالقرآنِ قولانِ: أحدهما: أنَّه كتابُنا، وهو الأظهرُ، وعليه الجمهورُ. والثاني: أنَّ المرادَ به: كتبُ المتقدمينَ قبلَنا). ((تفسير ابن الجوزي)) (2/544). وقال ابنُ عاشور: (والقرآنُ هنا يجوزُ أن يكونَ المرادُ به الاسمَ المجعولَ علمًا لكتابِ الإسلامِ، ويجوزُ أن يكونَ المرادُ به الكتابَ المقروءَ، فيصدقُ بالتوراةِ والإنجيلِ). ((تفسير ابن عاشور)) (14/85). وقال أيضًا: (والمقتَسِمون يجوزُ أن يُرادَ بهم جمعٌ مِن المشركينَ مِن قريش...، فيكون المرادُ بالقرآنِ مسمَّى هذا الاسمِ العَلَمِ، وهو كتابُ الإسلامِ، ويجوزُ أن يرادَ بهم طوائِفُ أهل الكتابِ قَسَّموا كتابَهم أقسامًا، منها ما أظهروه، ومنها ما أُنسوه، فيكونُ القرآنُ مصدرًا أُطلِق بمعناه اللغويِّ، أي: المقروءِ من كُتُبِهم، أو قسَّموا كتابَ الإسلام، منه ما صدَّقوا به، وهو ما وافق دينَهم، ومنه ما كذَّبوا به، وهو ما خالف ما هم عليه... وعلى الوجهينِ المتقدِّمين في المرادِ مِن القرآنِ في هذه الآيةِ، فالمقتسمون الذين جعلوا القرآنَ عِضينَ: هم أهلُ الكتابِ؛ اليهود والنصارى، فهم جحدوا بعضَ ما أُنزل إليهم من القرآن، أُطلق على كتابِهم القرآنُ؛ لأنَّه كتابٌ مقروءٌ، فأظهروا بعضًا وكتموا بعضًا؛ قال الله تعالى: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [سورة الأنعام: 91] فكانوا فيما كتَموه شبيهينَ بالمُشركين فيما رفَضوه مِن القرآن المنَزَّل على محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، وهم أيضًا جعلوا القرآنَ المنَزَّلَ على محمد صلَّى الله عليه وسلَّم عِضينَ، فصَدَّقوا بعضَه، وهو ما وافق أحوالَهم، وكذَّبوا بعضَه المخالفَ لأهوائِهم، مِثلُ نَسخِ شريعتِهم، وإبطالِ بنُوَّةِ عيسَى لله تعالى، فكانوا إذا سألهم المشركون: هل القرآنُ صِدقٌ؟ قالوا: بعضُه صِدقٌ، وبعضُه كَذِبٌ، فأشبه اختلافُهم اختلافَ المشركينَ في وصفِ القرآنِ بأوصافٍ مختلفةٍ، كقولِهم: أساطيرُ الأولينَ، و: قولُ كاهنٍ، و: قولُ شاعرٍ). ((تفسير ابن عاشور)) (14/85-86). أجزاءً، وافتروا عليه الباطلَ؛ فقال بعضُهم: هو شعرٌ، وقال بعضُهم: هو سحرٌ، وقال بعضُهم: هو كهانةٌ، وقال بعضُهم: هو أساطيرُ الأولينَ [541] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/138، 139)، ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيمية (5/463)، ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (6/381)، ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (1/240)، ((تفسير السعدي)) (ص: 435).  وممن قال بهذا المعنى: ابنُ جريرٍ، وابنُ تيميةَ، وابنُ القيمِ، والسعدي. يُنظر: المصادر السابقة. وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ : قتادةُ، وابنُ زيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/135). ولابنِ تيميةَ تفسيرٌ آخرُ، فقال: (قوله تعالى: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ [الحجر: 91] أي: قسَّموه فآمنوا ببعضِه وكفروا ببعضِه). ((بيان تلبيس الجهمية)) (1/259)، واختاره ابنُ كثير في ((تفسيره)) (4/549). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ عباس. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/129). وقال البقاعي: (لَمَّا ذَكَر ما التحم بقصَّةِ أصحابِ الحِجرِ المقتسمينَ على قَتلِ رسولِهم، وختَمَه بالإنذارِ الذي هم أهلُه؛ عاد إلى تتميمِ أمرِهم، فشَبَّههم بمن كذَّب مِن هذه الأمةِ، فقال: كَمَا أي: كذَّب أولئك وآتيناهم آياتِنا، فأعرضوا عنها، ففعَلْنا بهم مِن العذابِ ما هم أهلُه مثلَ ما أَنْزَلْنَا أي بعظمتِنا مِن الآياتِ عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ أي: مثلِهم مِن قريشٍ؛ حيث اقتَسَموا شِعابَ مكةَ، ينفِّرون الناسَ عنك، ويفرِّقون القولَ في القرآنِ، فلا تأسَ عليهم لتكذيبِهم وعنادهم مع رؤيتِهم الآياتِ البيِّناتِ؛ فإنَّ سُنَّتَنا جرت بذلك فيمَن أردنا شِقوتَه، كقومِ صالحٍ، ثمَّ قال: الَّذِينَ أي: مع أنهم تقاسموا على قتلِك، واقتسموا طرقَ مكَّةَ للتنفيرِ عنك جعَلُوا الْقُرْآنَ بأقوالهم عِضِينَ أي: قسَّموا القولَ فيه... فقالوا: سِحر، وقالوا: شِعر، وقالوا: كهانة، وقالوا: أساطيرُ الأولين، وغيرَ ذلك، أنزلنا عليهم آياتِنا البيناتِ، وأدلَّتَنا الواضحاتِ، فأعرضوا عنها واشتغلوا بما لا ينفعُهم من التعنُّتِ وغيرِه، دأبَ أولئك؛ فليرتقبوا مِثلَ ما حَلَّ بهم، ومِثلُهم كلُّ من تكلَّمَ في القرآنِ بمِثلِ ذلك ممَّا لا ينبغي، مِن العربِ وغيرِهم). ((نظم الدرر)) (11/89-90). وقال أيضًا: (ويؤيِّدُ أنَّ قولَه: كَمَا راجعٌ إلى قصة صالح ومتعلِّقٌ بها- وإن لم أرَ من سبقني إليه- ذِكرُ الوصفِ الذي به تناسبت الآيتانِ، وهو الاقتسامُ، ثمَّ وصَف المقتسمين بالذين جعلوا القرآنَ عضين؛ لئلَّا يُظَنَّ أنهم الذين تقاسموا في بَياتِ صالحٍ، أي: آتينا أولئك الآياتِ المقتضيةَ للإيمانِ، فما كان منهم إلا التكذيبُ والتقاسمُ، كما أنزلنا على هؤلاء الآياتِ، فما كان منهم إلَّا ذلك، وإنما عبَّرَ في أولئك بـ آتَيْنَاهُمْ؛ لأنَّ آياتِهم الناقةُ وولدُها والبئرُ، وهي معطاةٌ محسوسة، لا مُنَزَّلةٌ معقولة، وقال في هؤلاء: أَنْزَلْنَا إشارةً إلى القرآن الذي هو أعظَمُ الآيات، أو إلى الجميعِ، وغَلَّب عليها القرآنَ؛ لأنَّه أعظمُها، وإلى أنَّهم مُبطِلون في جَحدِهم، وأنَّه لا ينبغي لهم أن يتداخلَهم نوعُ شَكٍّ في أنَّه مُنزَّلٌ؛ لأنَّه أعظَمُ من تلك الآياتِ مع كونِها محسوساتٍ). ((نظم الدرر)) (11/91). .
عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما قال: (هم أهلُ الكتابِ؛ جَزَّؤوه أجزاءً، فآمَنوا ببَعضِه، وكَفَروا ببعضِه)، يعني: قولَ الله تعالى: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ [542] رواه البخاري (3945).  .
فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92).
أي: فأُقسِمُ برَبِّك- يا مُحمَّدُ- لنسألَنَّهم يومَ القيامةِ أجمعين [543] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/437)، ((تفسير السمرقندي)) (2/263)، ((تفسير البغوي)) (4/394). قال الرازي: (قوله: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ يحتملُ أن يكونَ راجعًا إلى المقتسمينَ الذين جعلوا القرآنَ عضينَ؛ لأنَّ عودَ الضميرِ إلى الأقربِ أولَى، ويكون التقديرُ أنَّه تعالى أقسَم بنفسِه أن يسألَ هؤلاء المقتسمينَ عمَّا كانوا يقولونَه مِن اقتسامِ القرآنِ وعن سائرِ المعاصي، ويحتمِلُ أن يكونَ راجعًا إلى جميعِ المكلفينَ؛ لأنَّ ذكرَهم قد تقدَّم في قولِه: وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ [الحجر: 89] أي: لجميعِ الخلقِ، وقد تقدَّم ذكرُ المؤمنينَ، وذكرُ الكافرينَ، فيعودُ قولُه: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ على الكلِّ، ولا معنَى لقولِ مَن يقولُ: إنَّ السؤالَ إنَّما يكونُ عن الكفرِ أو عن الإيمانِ، بل السؤالُ واقعٌ عنهما وعن جميعِ الأعمالِ؛ لأنَّ اللفظَ عامٌّ فيتناولُ الكلَّ). ((تفسير الرازي)) (19/164). ويُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (11/494)،  ((تفسير الشربيني)) (2/213). وممن اختار أنَّ الضميرَ في قوله تعالى: لَنَسْأَلَنَّهُمْ يعودُ إلى المقتسمينَ الذين جعلوا القرآنَ عضينَ: ابنُ جريرٍ، ومكيُّ بنُ أبي طالب، وأبو حيان، والنسفي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/139)، ((الهداية الى بلوغ النهاية)) لمكي بن أبي طالب (6/3933)، ((تفسير النسفي)) (2/200)، ((تفسير أبي حيان)) (6/497)، ((تفسير السعدي)) (ص: 435). وممن اختار أنَّ الضميرَ عامٌّ، يشملُ جميعَ الخلائقِ: ابنُ عطية، والقرطبي، وابنُ كثيرٍ، والنيسابوري، والثعالبي، ومحمد رشيد رضا، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/375)، ((تفسير القرطبي)) (10/60)، ((تفسير ابن كثير)) (5/490)، (7/499)، ((تفسير النيسابوري)) (4/236)، ((تفسير الثعالبي)) (3/409)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (8/280)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/7). وقيل: الضميرُ المقصودُ به: جميعُ أصنافِ الكفرةِ مِن المقتسمينَ وغيرِهم. وممن اختار ذلك: أبو السعود، والألوسي، والقنوجي. يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/92)، ((تفسير الألوسي)) (7/326)، ((تفسير القنوجي)) (7/199).
عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) .
أي: عمَّا كانوا يَعمَلونَه في الدُّنيا [544] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/139)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 598)، ((تفسير القرطبي)) (10/59)، ((تفسير السعدي)) (ص: 435). قال الشوكاني: (عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ في الدُّنيا مِن الأعمالِ الَّتي يُحاسبونَ عليها ويسألونَ عنها، وقيلَ: إنَّ المرادَ سؤالُهم عن كلمةِ التَّوحيدِ، والعمومُ في عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ، يُفيدُ ما هو أوسعُ من ذلك). ((تفسير الشوكاني)) (3/172). .
فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94).
فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ.
أي: فاجهَرْ بدينِ اللهِ- الذي أمَرْناك بتبليغِه- وأظْهِرْه علانيةً، وفرِّقْ بين الحَقِّ والباطلِ حتى تقومَ على النَّاسِ الحُجَّةُ [545] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 240)، ((تفسير ابن جرير)) (14/142، 144)، ((تفسير الماوردي)) (3/174)، ((البسيط)) للواحدي (12/670، 671)، ((تفسير الزمخشري)) (2/590)، ((تفسير الرازي)) (19/165)، ((تفسير القرطبي)) (10/61)، ((تفسير ابن كثير)) (4/551)، ((تفسير الشوكاني)) (3/173)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/88)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/319، 320). .
وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ.
أي: بلِّغْ ما أُنزِلَ إليك من ربِّك، ولا تلتَفِتْ إلى المُشرِكينَ الذين يَصدُّونَك عن تبليغِ دينِ اللهِ، ولا تُبالِ باستِهزائِهم، واكفُفْ عن قِتالِهم [546] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/145)، ((تفسير القرطبي)) (10/62)، ((تفسير ابن كثير)) (4/551)، ((تفسير السعدي)) (ص: 435)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/88).  وهذه الآيةُ قيل: إنَّها منسوخةٌ بآيةِ السيفِ، وهي قولُه تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وممَّن قال بذلك: ابنُ جرير، وابنُ عطية، والشنقيطي، ونسبه ابنُ الجوزي إلى أكثرِ المفسِّرينَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/145)، ((تفسير ابن عطية)) (3/375)، ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 93). ويُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (2/545). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ عباسٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/145). وقيل: إنها مُحكَمةٌ. وممن قال بذلك: السخاوي، والقنوجي. يُنظر: ((جمال القراء)) للسخاوي (2/740)، ((تفسير القنوجي)) (7/200). قال ابن جُزي: (إن كان معناه: أعرِضْ عمَّا يدعونَك إليه أو عن مجادلتِهم، فهو مُحكَم، وإن كان عن قتالِهم وعقابِهم فهو منسوخٌ). ((تفسير ابن جزي)) (1/272). ويُنظر: ((البسيط)) للواحدي (12/673)، ((معترك الأقران)) للسيوطي (3/276)، ((تفسير أبي السعود)) (3/171). ومن أهلِ العلمِ مَن ذهب إلى أنَّ هذه الآيةَ وغيرَها مِن الآياتِ التي فيها الصَّفحُ والكَفُّ عمَّن لم يقاتِلْ من المشركين، ليست منسوخةً بآيةِ السيفِ، وأنَّ آيةَ السيفِ إنَّما يُعملُ بها في حالِ العزَّةِ والقوةِ والمنعةِ للمسلمينَ، وأمَّا آياتُ الموادعةِ والصفحِ والكفِّ فيُعملُ بها في حالِ الضعفِ والعجزِ، وأنَّ الأمرَ موكولٌ إلى وليِّ الأمرِ؛ إن شاء قاتَلَ، وإن شاء كفَّ، وإن شاء قاتلَ قومًا دون قومٍ، على حسبِ القوَّةِ والقدرةِ والمصلحةِ للمسلمينَ. قال ابن باز: (وهذا القولُ أظهرُ وأبينُ في الدليلِ؛ لأنَّ القاعدةَ الأصوليَّةَ أنَّه لا يُصارُ إلى النسخِ إلَّا عند تعذُّرِ الجمعِ بين الأدلَّة، والجمعُ هنا غيرُ متعَذِّر). ((مجموع فتاوى ابن باز)) (3/194). ويُنظر: ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (ص: 221). .
كما قال تعالى: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 106] .
وقال عزَّ وجَلَّ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ [السجدة: 30] .
وقال تبارك وتعالى: وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا [المزمل: 10] .
إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه لَمَّا كان الصَّدعُ في غايةِ الشِّدَّةِ عليه- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- لكثرةِ ما يَلقَى مِن الأذَى؛ خَفَّف عنه سُبحانَه بقَولِه مُعَلِّلًا له [547] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/97). :
إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95).
أي: إنَّا كَفَيناك الذين يَستهزِئونَ بك وبما جئتَ به، وسنَحفَظُك منهم ونعاقِبُهم؛ فبلِّغْ ما أمَرَك اللهُ ولا تَخشَهم [548] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/145)، ((تفسير ابن كثير)) (4/551)، ((تفسير السعدي)) (ص: 435). 
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] .
الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96).
الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ.
أي: نكفيك هؤلاء المُستَهزِئينَ الذين يتَّخِذونَ مع الله- المستحِقِّ للعبادةِ وَحدَه- شريكًا في عبادتِه يَعبُدونَه معه [549] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/153)، ((تفسير الألوسي)) (7/328)، ((تفسير السعدي)) (ص: 435).  .
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ.
أي: فسوف يعلمونَ- يومَ القيامةِ- ما يَلقَونَ مِن العذابِ [550] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/153)، ((تفسير السعدي)) (ص: 435)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/90).  .
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه لَمَّا كان الوعيدُ مُؤذِنًا بإمهالِهم قليلًا، كما دلَّ عليه حرفُ التَّنفيسِ في قولِه تعالى: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ؛ طَمْأنَ اللهُ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّه مُطَّلِعٌ على تحرُّجِه مِن أذاهم، وبُهتانِهم من أقوالِ الشِّركِ وأقوالِ الاستهزاءِ، فأمَرَه بالثَّباتِ والتَّفويضِ إلى ربِّه؛ لأنَّ الحِكمةَ في إمهالِهم؛ ولذلك افتُتِحَت الجملةُ بلام القَسَم وحرفِ التَّحقيقِ، فقال تعالى [551] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/90-91). :
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97).
أي: وإنَّا لنعلَمُ- يا محمَّدُ- أنَّك يضيقُ صَدرُك؛ بسبَبِ ما تسمَعُه مِن مُشرِكي قَومِك، مِن تكذيبٍ واستهزاءٍ، وطعنٍ في دينِ الله سُبحانَه [552] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/154)، ((تفسير القرطبي)) (10/63)، ((تفسير الخازن)) (3/65)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/321).  .
كما قال تعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ [الأنعام: 33] .
وقال سُبحانه: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ [هود: 12] .
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98).
أي: فافزَعْ- فيما نابك مِن أمرٍ تَكرهُه منهم- إلى تنزيهِ رَبِّك عن كُلِّ ما لا يليقُ به تنزيهًا مُتَلَبِّسًا بحَمدِه سُبحانَه، وافزَعْ إلى الصَّلاةِ لِرَبِّك [553] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/154)، ((تفسير ابن كثير)) (4/553)، ((تفسير السعدي)) (ص: 435)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/91)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/321، 322).  .
كما قال تعالى: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى [طه: 130] .
وقال سُبحانه: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ [غافر: 55] .
وقال تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: 153] .
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا أمرَ اللهُ تعالى نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعبادةٍ خاصَّةٍ، تَبِعَه بالعامَّةِ، فقال تعالى [554] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/100). :
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99).
أي: وتقَرَّبْ إلى رَبِّك على وجهِ الذُّلِّ والخضوعِ والمحبَّةِ له، وداوِمْ على عبادتِه، حتى يأتيَك الموتُ وأنت على ذلك [555] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/154)، ((تفسير القرطبي)) (10/64)، ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية  (3/273)، ((تفسير ابن كثير)) (4/553)، ((تفسير السعدي)) (ص: 435)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/323، 324). قال ابن القيم: (اليقينُ هاهنا هو الموتُ؛ بإجماعِ أهل التفسير). ((مدارج السالكين)) (1/124). ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/418). .
كما قال تعالى: وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [المدثر: 45-47] .
وعن أمِّ العَلاءِ الأنصاريَّةِ رضِيَ اللهُ عنها، ((أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لَمَّا توفِّيَ عُثمانُ بنُ مَظعونٍ: أمَّا عُثمانُ فقد جاءه- واللهِ- اليَقينُ )) [556] رواه البخاري (2687). .
وعن أبي هُريرةَ رضِيَ اللهُ عنه، عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((مِن خيرِ مَعاشِ النَّاسِ لهم رجلٌ مُمسِكٌ عِنانَ [557] العِنانُ: اللِّجامُ الذي تُمسَكُ به الدَّابَّةُ. يُنظر: ((تاج العروس)) للزبيدي (35/414). فَرَسِه في سَبيلِ الله، يطيرُ على مَتنِه [558] يطيرُ على مَتْنِه: أي: يُسرعُ راكِبًا على ظَهرِه. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للملا الهروي  (6/2459). ، كلَّما سمِعَ هَيعةً [559]  هَيْعةً: أي: صَيحةً. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للملا الهروي  (6/2459). أو فَزعةً طار عليه؛ يبتغي القَتلَ والموتَ مَظانَّه، أو رجلٌ في غُنيمةٍ في رأسِ شَعَفةٍ [560]  في رأس شَعَفةٍ: أي: رأسِ جَبَلٍ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للملا الهروي  (6/2460).  مِن هذه الشَّعَفِ، أو بطنِ وادٍ مِن هذه الأوديةِ، يُقيمُ الصَّلاةَ، ويُؤتي الزَّكاةَ، ويَعبُدُ رَبَّه حتى يأتيَه اليقينُ، ليس مِن النَّاسِ إلَّا في خيرٍ) ) [561] رواه مسلم (1889). .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ * لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ هذا وإن كان خِطابًا للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فالمعنى: نهيُ أمَّتِه عن ذلك؛ لأنَّ مَن أوتيَ القُرآنَ شغلَه النَّظَرُ فيه وامتثالُ تكاليفِه وفَهمُ معانيه عن الاشتغالِ بزهرةِ الدُّنيا [562] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/496). .
2- في قَولِه تعالى: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ دليلٌ على أنَّ الإنسانَ مأمورٌ بالتواضُعِ لإخوانِه، فإنَّه وإن كان رفيعَ المنزلةِ فَليَخفِضْ جناحَه، ولْيتذَلَّلْ ولْيتواضَعْ لإخوانِه، ولْيعلَمْ أنَّ مَن تواضعَ لله رفَعَه الله عزَّ وجلَّ [563] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (2/543). .
3- في قَولِه تعالى: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ يُفهَمُ مِن دليل خِطابِ الآيةِ الكريمةِ- أعني مفهومَ مُخالفتِها- أنَّ غيرَ المؤمنينَ لا يُخفَضُ لهم الجناحُ، بل يُعامَلونَ بالشِّدَّةِ والغِلظةِ [564] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/317). . فالكافرُ يُتَرفَّعُ عليه ويُتعالى عليه، ولْيجعَل المسلِمُ نفسَه في موضعٍ أعلى منه؛ لأنَّه مُستمسِكٌ بكَلمةِ اللهِ- وكلمةُ اللهِ هي العُليا- ولهذا قال الله عزَّ وجلَّ في وصفِ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابِه: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29] ، يعني: أنَّهم على الكُفَّارِ أقوياءُ ذَوو غِلظةٍ، أمَّا فيما بينهم فهم رُحَماءُ [565] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (3/515). .
4- قال الله تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ في ترتيبِه- جلَّ وعلا- الأمرَ بالتَّسبيحِ والسُّجودِ على ضِيقِ صَدرِه- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- بسبَبِ ما يقولونَ له مِن السُّوءِ؛ دليلٌ على أنَّ الصَّلاةَ والتَّسبيحَ سبَبٌ لزوالِ ذلك المكروهِ؛ ولذا كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا حَزَبَه أمرٌ بادرَ إلى الصلاةِ، وقال تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ [البقرة: 45] ، فينبغي للمُسلمِ إذا أصابه مَكروهٌ أن يفزَعَ إلى اللهِ تعالى بأنواعِ الطَّاعاتِ مِن صلاةٍ وغَيرِها [566] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/323). .
5- قولُ الله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ حِكمةُ التَّغْيِيَةِ باليقينِ- وهو الموتُ- أنَّه يقتضي ديمومةَ العبادةِ ما دام حيًّا، بخلافِ الاقتصارِ على الأمرِ بالعبادةِ غيرَ مُغَيَّا؛ لأنَّه يكونُ مُطلقًا فيكونُ مُطيعًا بالمرَّة الواحدةِ، والمقصودُ ألَّا يُفارِقَ العبادةَ حتى يموتَ [567] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/499). .
6- عمَلُ المؤمِنِ لا ينقضي حتى يأتيَه أجَلُه؛ قال الحسَنُ: (إنَّ اللهَ لم يجعَلْ لعمَلِ المؤمِنِ أجَلًا دونَ الموتِ، ثم قرأ: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [568] يُنظر: ((لطائف المعارف)) لابن رجب (ص: 223). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال اللهُ تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّه سُبحانَه هو الخالِقُ لجَميعِ أعمالِ العِبادِ؛ لأنَّها تدُلُّ على أنَّه سُبحانَه هو الخالِقُ للسَّمواتِ والأرضِ ولكُلِّ ما بينَهما، ولا شَكَّ أنَّ أفعالَ العبادِ بينهما، فوجَب أن يكونَ خالِقَها هو اللهُ سُبحانَه [569] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (19/158). .
2- قولُه تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ دلَّ على أنَّ فاتحةَ الكِتابِ نَزَلتْ بمكَّةَ بلا رَيبٍ، وقد ثبَت في الصَّحيحِ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال عن الفاتحةِ: ((هي السَّبعُ المَثاني والقُرآنُ العظيمُ الذي أُوتيتُه) ) [571] رواه البخاري (4474). ، وسورةُ الحِجرِ مكِّيَّةٌ بلا رَيبٍ، وفيها كلامُ مُشركي مكَّةَ وحالُه معهم [572] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (17/190). .
3- قولُه تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ، يدُلُّ على أنَّ اللهَ يسألُ جَميعَ النَّاسِ يومَ القيامةِ، ونظيرُه قولُه تعالى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ [الأعراف: 6] ، وقولُه: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئولُونَ [الصافات: 24] ، وقولُه: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 65] ، وقد جاءَتْ آياتٌ أُخَرُ تدُلُّ على خلافِ ذلك؛ كقوله: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ [الرحمن: 39]، وكقوله: وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص: 78] .
والجوابُ عن هذا من ثلاثةِ أوجُهٍ:
الأوَّل- وهو أوجَهُها؛ لدَلالةِ القُرآنِ عليه- هو: أنَّ السُّؤالَ قِسمانِ: سؤالُ تَوبيخٍ وتقريعٍ، وأداتُه غالبًا: (لِمَ)، وسؤالُ استخبارٍ واستعلامٍ، وأداتُه غالبًا: (هَل)، فالـمُثبَتُ هو سؤالُ التَّوبيخِ والتَّقريعِ، والمنفيُّ هو سُؤالُ الاستخبارِ والاستعلامِ، وجهُ دلالةِ القرآنِ على هذا: أنَّ سؤالَه لهم المنصوصَ في كُلِّه توبيخٌ وتقريعٌ، كقوله: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ [الصافات: 24-25] ، وقوله: أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ [الطور: 15]، وكقوله: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ [الملك: 8] ، إلى غيرِ ذلك مِنَ الآياتِ.
الثاني: أنَّ في القيامةِ مواقِفَ مُتعدِّدةً؛ ففي بعضِها يُسألونَ، وفي بعضها لا يُسألونَ.
الثالث: أنَّ إثباتَ السُّؤالِ مَحمولٌ على السُّؤالِ عَنِ التَّوحيدِ، وتَصديقِ الرُّسلِ، وعدمَ السُّؤالِ مَحمولٌ على ما يستلزِمُه الإقرارُ بالنُّبوَّاتِ مِن شرائِعِ الدِّينِ وفُروعِه [573] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) للشنقيطي (ص: 100). ويُنظر أيضًا: ((تفسير القرطبي)) (10/60-61)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 300). ، وقيل غير ذلك [574] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/201)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/28). .
4- قولُ الله تعالى: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ التعبيرُ عنهم بوصفِ المُستَهزِئينَ إيماءٌ إلى أنَّه كفاه استهزاءَهم، وهو أقَلُّ أنواعِ الأذَى، فكفايتُه ما هو أشَدُّ مِن الاستهزاءِ مِن الأذَى، مَفهومٌ بطريقِ الأحْرَى [575] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/89). .
5- في كفايةِ اللهِ لِرَسولِه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أعداءَه، وعِصمتِه له من النَّاسِ، آيةٌ لنبُوَّتِه؛ وذلك لأنَّه تصديقٌ لِقَولِه تعالى: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر: 94-96] فهذا إخبارٌ مِن الله بأنَّه يكفيه المُشرِكينَ المُستَهزِئينَ، وأخبَرَ أنَّه يكفيه أهلَ الكِتابِ بقَولِه تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: 136- 137] فأخبَرَه اللهُ أنَّه يكفيه هؤلاءِ المُشَاقِّينَ له مِن أهلِ الكتابِ، وأخبَرَه أنَّه يَعصِمُه مِن جميعِ النَّاسِ بقَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] فهذا خبَرٌ عامٌّ بأنَّ اللهَ يَعصِمُه من جميعِ النَّاسِ، فكُلٌّ مِن هذه الأخبارِ الثلاثةِ العامَّةِ قد وقَع كما أخبَرَ [576] يُنظر: ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (6/273). .
6- مِن سُنَّةِ الله أنَّ مَن لم يُمكِنِ المؤمِنونَ أن يُعَذِّبوه مِن الذين يُؤذُونَ اللهَ ورَسولَه؛ فإنَّ اللهَ سُبحانَه ينتَقِمُ منه لرَسولِه ويكفيه إيَّاه؛ كما قال سُبحانه: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ [577] يُنظر: ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (ص: 164). .
7- قَولُ الله تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ أخَذ بعضُهم منه أنَّ هذا الموضِعَ محَلُّ سَجدةٍ [578] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص:161). قال الشنقيطي: (ولأجلِ كونِ المرادِ بالسجودِ الصلاةَ لم يكنْ هذا الموضعُ محلَّ سجدةٍ عندَ جمهورِ العلماءِ، خلافًا لمن زعَم أنَّه موضعُ سجودٍ). ((أضواء البيان)) (2/322).  .
8- في قَولِه تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ أَمَر اللهُ تعالى بتسبيحِه بحَمدِه بعدَ أن قال: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ لأنَّ المقامَ هنا مقامٌ يَحتاجُ إلى تنزيهِ الربِّ- عزَّ وجلَّ- وحَمْدِه، مِن هذه الضَّائقةِ التي تُصيبُ النَّبِيَّ- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- مِن قُرَيشٍ، يعني: نَزِّهْه عن كلِّ ما لا يليقُ به، واعلمْ أنَّ الذي أجراه اللهُ- جلَّ وعلا- فهو في غايةِ الحكمةِ وفي غايةِ الرَّحمةِ، مما يُحمَدُ عليه عزَّ وجلَّ [579] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (2/417). .
9- قولُ الله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ فيه سؤالٌ: أيُّ فائدةٍ لهذا التوقيتِ، مع أنَّ كُلَّ أحدٍ يعلَمُ أنَّه إذا مات سقَطَت عنه العباداتُ؟
الجوابُ: المرادُ منه: واعبُدْ رَبَّك في زمانِ حَياتِك، ولا تُخْلِ لحظةً مِن لحظاتِ الحياةِ عن هذه العبادةِ [580] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (19/166). .
10- ظنَّ طائفةٌ مِن ضُلَّالِ المتصَوِّفةِ أنَّ غايةَ العباداتِ هو حصولُ المعرفةِ، فإذا حصلَت سقطَت العباداتُ! وقد يحتَجُّ بعضُهم بقولِه تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ويزعمون أنَّ اليقينَ هو المعرفةُ، وهذا خطأٌ بإجماعِ المسلمين: أهلِ التَّفسيرِ وغيرِهم؛ فإنَّ المسلمين متَّفِقون على أنَّ وجوبَ العباداتِ- كالصَّلواتِ الخَمسِ ونحوِها- وتحريمَ المحَرَّماتِ- كالفواحِشِ والمظالمِ- لا يزالُ واجبًا على كلِّ أحدٍ ما دام عقلُه حاضرًا، ولو بلَغ ما بلَغ؛ وأنَّ الصَّلواتِ لا تسقُطُ عن أحدٍ قَطُّ إلَّا عن الحائِضِ والنُّفَساءِ أو مَن زال عقلُه [581]  يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (3/270). .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ
- قولُه: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ مَوقِعُ الواوِ في صَدْرِ هذه الجُملةِ بَديعٌ؛ فهذه الجُملةُ صالِحةٌ لأنْ تكونَ تَذييلًا لِقَصَصِ الأُمَمِ المُعذَّبةِ ببَيانِ أنَّ ما أصابهم قد استحَقُّوه؛ فهو مِن عدْلِ اللهِ بالجَزاءِ على الأعمالِ بما يُناسِبُها، ولأنْ تكونَ تَصديرًا للجُملةِ الَّتي بعدَها، وهي جُملةُ: وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ [582] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/74). .
- وتَفريعُ قولِه: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ على قولِه تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ باعتبارِ المعنى الكِنائيِّ له، وهو أنَّ الجَزاءَ على أعمالِهم مَوكولٌ إلى اللهِ تعالى؛ فلذلك أمَرَ نَبِيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالإعراضِ عن أذاهم، وسُوءِ تَلقِّيهم للدَّعوةِ [583] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/77). .
- وفي هذه الآيةِ ضَرْبٌ مِن رَدِّ العجُزِ على الصَّدرِ [584] رَدُّ العَجُز على الصَّدر: هو جَعْلُ أحدِ اللَّفظين المُكرَّرين- المتَّفقَينِ في اللَّفظِ والمعنَى، أو المُتجانسَينِ المُتفقَينِ في اللَّفظِ دون المعنى، أو المُلحقَينِ بهما، بأنْ جمَعَهما اشتقاقٌ أو شبهُه- في أوَّلِ الكلام، ثم إعادةُ ذلك في آخِرِ الكلامِ، كقوله تعالى: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [الأحزاب: 37] ، وقوله تعالى: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا [نوح: 10] ، وهو مِن جِهاتِ الحُسنِ في الكَلامِ. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 430)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 333)، ((علوم البلاغة)) للميداني (ص: 358). ؛ إذ كان قد وقَعَ الاستدلالُ على المُكذِّبينَ بالبعثِ بخَلْقِ السَّمواتِ والأرضِ عندَ قولِه: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ * وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا... الآياتِ [الحجر: 14-16] ، وخُتِمَت بآيةِ: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ [الحجر: 23] إلى قولِه تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ [سورة الحجر: 25]، وانتقَلَ هُنالك إلى التَّذكيرِ بخَلْقِ آدمَ عليه السَّلامُ وما فيه مِن العِبَرِ، ثمَّ إلى سَوْقِ قِصَصِ الأُمَمِ الَّتي عَقِبَت عُصورَ الخِلقةِ الأُولى؛ فآنَ الأوانُ للعودِ إلى حيث افترَقَ طَريقُ النَّظمِ، حيث ذكَرَ خَلْقَ السَّمواتِ ودِلالتَه على البَعثِ بقولِه تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ الآياتِ؛ فجاءت على وِزانِ قولِه تعالى: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا... الآياتِ [الحجر: 16] ؛ فإنَّ ذلك خَلْقٌ بَديعٌ، وزِيدَ هنا أنَّ ذلك خُلِقَ بالحقِّ، وكان قولُه تعالى: وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فذلكةً لقولِه تعالى: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ إلى وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [سورة الحجر: 25]؛ فعاد سِياقُ الكلامِ إلى حيثُ فارَقَ مَهْيَعَه [585] المَهْيَعُ: الطَّريقُ الواسِعُ الواضِحُ. يُنظر: ((القاموس المحيط)) للفيروزابادي (ص: 765). ؛ ولذلك تخلَّصَ إلى ذِكْرِ القُرآنِ بقولِه: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي [سورة الحجر: 87]، النَّاظِر إلى قولِه تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [586] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/77). [الحجر: 9] .
2- قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ
- جُملةُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ في مَوقِعِ التَّعليلِ للأمْرِ بالصَّفحِ عنهم، أي: لأنَّ في الصَّفحِ عنهم مَصلحةً لك ولهم يعلَمُها ربُّك؛ فمصلحةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الصَّفحِ هي كَمالُ أخلاقِه، ومَصلحتُهم في الصَّفحِ رَجاءُ إيمانِهم [587] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/78). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيث عدَلَ إلى إِنَّ رَبَّكَ دونَ (إنَّ اللهَ)؛ للإشارةِ إلى أنَّ الَّذي هو ربُّه ومُدبِّرُ أمْرِه لا يأمُرُه إلَّا بما فيه صَلاحُه، ولا يُقدِّرُ إلَّا ما فيه خيرُه [588] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/78). .
- وأتَى بصِفَةِ المُبالغةِ الْخَلاَّقُ؛ لكثرةِ ما خلَقَ، أو الخَلَّاقُ مَن شاء لِما شاء مِن سَعادةٍ أو شَقاوةٍ [589] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/493). .
3- قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ
- قولُه: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ اعتراضٌ بينَ جُملةِ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ وجُملةِ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ؛ أتبعَ التَّسليةَ والوعدَ بالمِنَّةِ؛ ليُذَكِّرَ اللهُ نَبِيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالنِّعمةِ العظيمةِ، فيطمَئِنَّ بأنَّه كما أحسَنَ إليه بالنِّعمِ الحاصِلةِ، فهو مُنْجِزُه الوُعودَ الصَّادقةَ، وفي هذا الامتنانِ تَعريضٌ بالرَّدِّ على المُكذِّبينَ، وهو ناظِرٌ إلى قولِه: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر: 6] إلى قولِه تعالى: وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] ، وهذا افتتاحُ غرَضٍ مِن التَّنويهِ بالقُرآنِ، والتَّحقيرِ لعَيشِ المُشركينَ [590] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/79). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ أُوثِرَ هنا فِعْلُ آتَيْنَاكَ دونَ (أوحَيْنا) أو (أنزَلْنا)؛ لأنَّ الإعطاءَ أظهَرُ في الإكرامِ والمِنَّةِ [591] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/79). .
4- قوله تعالى: لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ استئنافٌ بَيانيٌّ لِمَا يُثيرُه المقصودُ مِن قولِه تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ، ومِن تَساؤلٍ يَجيشُ في النَّفسِ عن الإملاءِ للمُكذِّبينَ في النِّعمةِ والتَّرفِ، مع ما رُمِقوا به مِن الغَضبِ والوعيدِ؛ فكانت جُملةُ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ... بَيانًا لِمَا يَختلِجُ في نفْسِ السَّامعِ مِن ذلك؛ ولكونِها بهذه المَثابةِ فُصِلَت عن الَّتي قبْلَها- أي: لم تُعْطَفْ عليها- فَصْلَ البَيانِ عن المُبيَّنِ؛ فإنَّ الجُملةَ الَّتي وقَعَت قبْلَها بمنزِلةِ التَّمهيدِ لها، والإجمالِ لمَضمونِها؛ ولذلك لم تُعْطَفْ هذه الجُملةُ؛ لأنَّها تكونُ حينئذٍ مُجرَّدَ نهيٍ لا اتِّصالَ له بما قبْلَه، كما عُطِفَت نَظيرتُها في قولِه تعالى في سُورةِ طه: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى * وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [طه: 129- 131] ؛ فلمَّا فُصِلَت الجُملةُ هنا، فُهِمَ أنَّ الجُملةَ الَّتي قبْلَها مَقصودةُ التَّمهيدِ بهذه الجُملةِ، ولو عُطِفَت هذه لَمَا فُهِمَ هذا المعنى البَديعُ مِن النَّظمِ [592] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/81). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الزمخشري- مع الحاشية)) (2/588 - 589). .
- قولُه: لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ... يَحتمِلُ أنْ يكونَ في هذا النَّهيِ كِنايةٌ عن قِلَّةِ الاكتراثِ بهم، وعن تَوعُّدِهم بأنْ سيحُلَّ بهم ما يُثيرُ الحُزْنَ لهم، وكِنايةٌ عن رَحمةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالنَّاسِ، ولمَّا كان هذا النَّهيُ يَتضمَّنُ شِدَّةَ قلْبٍ وغِلظةً؛ لا جرَمَ اعترَضَه بالأمرِ بالرِّفقِ للمُؤمنينَ بقولِه: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وهو اعتراضٌ مُرادٌ منه الاحتراسُ [593] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/82 - 83). .
- وعلى القولِ بتَعليقِ قولِه: كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ بقولِه: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ، فوجْهُ تَوسُّطِ قولِه: لَا تَمُدَّنَّ... إلى آخرِه بينهما: أنَّه لمَّا كان ذلك تَسليةً لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن تَكذيبِهم وعَداوتِهم، اعْتُرِضَ بما هو مَدَدٌ لمَعنى التَّسليةِ؛ مِن النَّهيِ عن الالتفاتِ إلى دُنياهم، والتَّأسُّفِ على كُفرِهم، ومِن الأمرِ بأنْ يُقْبِلَ بمَجامِعِه على المُؤمنينَ [594] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/590)، ((تفسير أبي حيان)) (6/495)، ((تفسير أبي السعود)) (5/89). .
- وقولُه: لَا تَمُدَّنَّ أبلغُ مِن (لَا تَنْظُرَنَّ)؛ لأنَّ الَّذي يَمُدُّ بصرَه، إنَّما يَحمِلُه على ذلك حِرْصٌ مُقترِنٌ، والَّذي ينظُرُ قد لا يكونُ ذلك معَه [595] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (11/262). .
- قولُه: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال في سُورةِ الشُّعراءِ: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 215] ؛ فزِيدَ قولُه: لِمَنِ اتَّبَعَكَ ومَقصودُ الآيتَينِ واحدٌ؛ ووَجْهُ ذلك: أنَّه لمَّا لم يتقدَّمْ آيةَ الحِجْرِ تَخصيصٌ بمَدْعُوٍّ بل تقدَّمُها خِطابُه عليه السَّلامُ بالتَّأنيسِ والتَّسليةِ عمَّن أعرَضَ، والرِّفقِ بمَن آمَنَ، فقال تعالى: وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ولم يَحتَجْ هنا إلى زِيادةٍ. وأمَّا آيةُ الشُّعراءِ، فلمَّا تقدَّمَ قولُه تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] ، والإنذارُ يَستصحِبُ التَّخويفَ والاستعلاءَ على مَن يُخاطَبُ به؛ أتبعَ ذلك تَعَالى- تَلطُّفًا وإنعامًا على مَن آمَنَ مِن عَشيرتِه عليه السَّلامُ وغيرِه- بقولِه: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 215] ؛ فقيل هنا: لِمَنِ اتَّبَعَكَ؛ ليكونَ أَنَصَّ في تَعميمِ المُؤمنينَ مُطلقًا مِن العشيرةِ وغيرِهم [596] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/292-293). .
- قولُه: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ القَصرُ المُستفادُ مِن ضَميرِ الفَصلِ أَنَا، ومِن تَعريفِ الجُزأينِ (النَّذيرُ- المُبينُ): قَصْرُ قَلْبٍ [597] القصر: في اصطِلاح البلاغيِّين هو تخصيصُ شيءٍ بشيء وحصرُه فيه، ويُسمَّى الأمر الأول: مَقصورًا، والثاني: مقصورًا عليه، مثل: إنَّما زيد قائم، و: ما ضربتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسم إلى قصرٍ حقيقي، وقصرٍ إضافي، وادِّعائي، وقَصْرِ قَلْب؛ وقصْرُ القَلب: أن يَقلِب المتكلِّمُ فيه حُكمَ السامعِ، كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زيدٌ، لمن يَعتقدُ أنَّ شاعرًا في قبيلة معيَّنة أو طرَف معيَّن، لكنَّه يقول: ما زيدٌ هناك بشاعرٍ. وللقصرِ طُرُقٌ كثيرة؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناء، والقصر بـ(إنَّما)، والقصرُ بتقديم ما حَقُّه التأخير، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118)، و(3/6)، ((التعريفات)) للجرجاني (1/175-176)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167- 168)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ، أي: لستُ كما تحسِبونَ أنَّكم تَغيظونَني بعدَمِ إيمانِكم؛ فإنِّي نَذيرٌ مُبينٌ غيرُ مُتقايضٍ معكم لتَحصيلِ إيمانِكم [598] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/83). .
5- قوله تعالى: كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ
- حَرفُ عَلَى في قولِه: عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ بمعنى لامِ التَّعليلِ، ولفظُ الْمُقْتَسِمِينَ افتعالٌ مِن (قسَّمَ)؛ إذا جعَلَ شيئًا أقسامًا، وصِيغَةُ الافتعالِ هنا تَقْتضي تكلُّفَ الفعْلِ [599] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/84 -86). .
- ومعنى الْمُقْتَسِمِينَ- على أحدِ أوجهِ التفسير-: المُقتسِمونَ القُرآنَ، وهذا هو معنى جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ؛ فكان ثاني الوصْفَينِ بَيانًا لأوَّلِهما، وإنَّما اختلَفَتِ العِبارتانِ للتَّفنُّنِ [600] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/84 -86). .
6- قوله تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ
- قولُه: فَوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ فيه مِن التَّشديدِ وتأكيدِ الوعيدِ ما لا يَخْفى، والفاءُ لتَرتيبِ الوَعيدِ على أعمالِهم الَّتي ذُكِرَ بعضُها [601] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/92). ، فالفاءُ للتَّفريعِ، وهذا تَفريعٌ على ما سبَقَ مِن قولِه تعالى: وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ، والواوُ للقسَمِ، والمَقصودُ بالقسَمِ تَأكيدُ الخبرِ، وليس الرَّسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم ممَّن يشُكُّ في صِدْقِ هذا الوعيدِ، ولكنَّ التَّأكيدَ مُتسلِّطٌ على ما في الخبرِ مِن تَهديدِ مُعادِ ضَميرِ النَّصبِ في لَنَسْأَلَنَّهُمْ [602] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/78). .
- وفي التَّعرُّضِ لوَصْفِ الرُّبوبيَّةِ مُضافًا إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في قولِه: فَوَرَبِّكَ: إظهارُ اللُّطْفِ به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ [603] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/92). ، وفيه إيماءٌ إلى أنَّ في السُّؤالِ المُقْسَمِ عليه حَظًّا مِن التَّنويهِ به، وهو سُؤالُ اللهِ المُكذِّبينَ عن تَكذيبِهم إيَّاه سُؤالَ رَبٍّ يغضَبُ لرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [604] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/78). ، ويجوزُ أنْ يكونَ السُّؤالُ كِنايةً عنِ الجَزاءِ، وعَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ عامٌّ في جَميعِ الأعمالِ [605] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/590)، ((تفسير أبي حيان)) (6/497). .
7- قولُه تعالى: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ
- قولُه: فَاصْدَعْ تَفريعٌ على جُملةِ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي بصَريحِه وكِنايتِه عنِ التَّسليةِ على ما يُلاقيه مِن تَكذيبِ قَومِه، وقَصدُ شُمولِ الأمْرِ كلَّ ما أُمِرَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بتَبليغِه هو نُكتةُ حَذفِ مُتعلِّقِ قولِه: تُؤْمَرُ؛ فلم يُصَرِّحْ بنحوِ (بتَبليغِه) أو (بالأمْرِ به) أو (بالدَّعوةِ إليه)، وهو إيجازٌ بَديعٌ [606] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/88). .
8- قولُه تعالى: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ
- قولُه: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ تَعليلٌ للأمْرِ بالإعلانِ بما أُمِرَ به؛ فإنَّ اختفاءَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بدارِ الأرقَمِ كان بأمْرٍ مِن اللهِ تعالى؛ لحِكمةٍ علِمَها اللهُ، أهمُّها تَعدُّدُ الدَّاخلينَ في الإسلامِ في تلك المُدَّةِ، بحيث يَغتاظُ المُشركونَ مِن وَفرةِ الدَّاخلينَ في الدِّينِ مع أنَّ دَعوتَه مَخفيَّةٌ، ثمَّ إنَّ اللهَ أمَرَ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بإعلانِ دَعوتِه لحكمةٍ أعلى تهيَّأَ اعتبارُها في علْمِه تعالى [607] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/89). .
- وتَأكيدُ الخبرِ بـ (إنَّ) لتَحقيقِه؛ اهتمامًا بشَأنِه، لا للشَّكِّ في تَحقُّقِه [608] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/89). .
- والتَّعريفُ في الْمسْتَهْزِئِينَ للجِنْسِ، فيفيدُ العُمومَ [609] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/89). .
9- قوله تعالى: الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
- قولُه: الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وصَفَهم بالَّذين يجْعَلونَ مع اللهِ إلهًا آخَرَ؛ للتَّشويهِ بحالِهم، ولتَسليةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتَهوينًا للخَطْبِ عليه بإعلامِه أنَّهم ما اقْتَصروا على الافتراءِ عليه؛ فقدِ افتَرَوا على اللهِ، ولم يقتَصِروا على الاستهزاءِ به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، بل اجْتَرؤوا على العظيمةِ الَّتي هي الإشراكُ باللهِ سُبحانَه [610] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/92)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/90). .
- وأتَتْ صِيغَةُ المُضارعِ يَجْعَلُونَ؛ للإشارةِ إلى أنَّهم مُستمرُّونَ على ذلك مُجدِّدونَ له [611] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/90). .
- وفُرِّعَ على الأمرينِ الوعيدُ بقولِه تعالى: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ، وحُذِفَ مَفعولُ يَعْلَمُونَ؛ لدَلالةِ المَقامِ عليه، أي: فسوفَ يَعْلمونَ جَزاءَ بُهتانِهم [612] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/90). .
10- قوله تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ
- قولُه: وَلَقَدْ نَعْلَمُ فيه تَحليةُ الجُملةِ بالتَّأكيدِ؛ لإفادةِ تَحقيقِ ما تتضمَّنُه مِن التَّسليةِ، وليس المُخاطَبُ ممَّن يُداخِلُه الشَّكُّ في خَبرِ اللهِ تعالى، ولكنَّ التَّحقيقَ في قولِه: وَلَقَدْ كِنايةٌ عنِ الاهتمامِ بالمُخْبَرِ، وأنَّه بمَحَلِّ العِنايةِ مِن اللهِ [613] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/93)، ((تفسير ابن عاشور)) (14/91). .
- وصِيغَةُ الاستقبالِ نَعْلَمُ؛ لإفادةِ استمرارِ العلْمِ حسَبَ استمرارِ مُتعلَّقِه باستمرارِ ما يُوجِبُه مِن أقوالِ الكَفرةِ [614] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/93). .
11- قولُه تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ فُرِّعَ على جُملةِ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أمْرُه بتَسبيحِ اللهِ تعالى وتَنزيهِه، على أنَّ التَّسبيحَ قد يُستعمَلُ في مَعناه الكِنائيِّ مع معناه الأصلِيِّ؛ فيُفيدُ الإنكارَ على المُشركينَ فيما يقولونَ، أي: فاقتصِرْ في دَفعِهم على إنكارِ كَلامِهم، والباءُ في بِحَمْدِ رَبِّكَ للمُصاحَبَةِ، والتَّقديرُ: فسبِّحْ ربَّك بحَمدِه؛ فحُذِفَ مِن الأوَّلِ لدَلالةِ الثَّاني [615] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/91). .
- وقولُه: وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ أبلَغُ في الاتِّصافِ بالسُّجودِ مِن: (وَكُنْ ساجدًا) [616] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/91). .
12- قوله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ
- قولُه: وَاعْبُدْ رَبَّكَ فيه إيثارُ الإظهارِ بالعُنوانِ السَّالِفِ آنفًا رَبِّكَ-حيث لم يقُلْ: (واعبُدْه)-؛ لتَأكيدِ ما سبَقَ مِن إظهارِ اللُّطفِ به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، والإشعارِ بعِلَّةِ الأمْرِ بالعِبادةِ [617] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/93). .
- قولُه: يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ فيه إسنادُ الإتيانِ إلى اليقينِ الَّذي هو الموتُ؛ للإيذانِ بأنَّه مُتوجِّهٌ إلى الحيِّ، طالبٌ للوُصولِ إليه [618] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/93). .