موسوعة التفسير

سورةُ النَّملِ
الآيات (45-53)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ

غَريبُ الكَلِماتِ:

اطَّيَّرْنَا: أي: تَطَيَّرنا وتشاءَمْنا، وأَصْلُه: التَّفاؤُلُ بالطَّيْرِ، ثمَّ استُعمِلَ في كلِّ ما يُتفاءَلُ به ويُتشاءَمُ، واشتِقاقُه مِنَ الطَّيرِ، كالغُرابِ وما أشبَهَه .
طَائِرُكُمْ: أي: شُؤمُكم وحَظُّكم مِنَ الشَّرِّ .
تُفْتَنُونَ: أي: تُبتَلَوْن وتُختبَرون، وأصلُ الفَتْنِ: إدخالُ الذَّهَبِ النَّارَ لتظهَرَ جودتُه مِن رداءتِه .
رَهْطٍ: أي: أنفُسٍ، والرَّهْطُ: الجماعةُ والعِصابةُ دُونَ العَشَرةِ، وقيل: ما فوقَ العَشَرةِ إلى الأربعينَ، وأصْلُه: يدُلُّ على تجمُّعٍ في النَّاسِ وغَيرِهم .
تَقَاسَمُوا: أي: تحالَفُوا باللهِ، وحلفَ بعضُهم لبعضٍ، وأصلُه مِنَ القَسامةِ، وهي أيمانٌ تُقْسَمُ على أولياءِ المقتولِ، ثمَّ صار اسمًا لكلِّ حَلِفٍ .
لَنُبَيِّتَنَّهُ: أي: لَنَقْتُلَنَّهم ليلًا، والتَّبييتُ يُقالُ لكلِّ فِعلٍ دُبِّرَ باللَّيلِ .
مَهْلِكَ: أي: إهلاكَهم ومَوتَهم، وأصلُ الهلاكِ: السُّقوطُ .
وَمَكَرُوا مَكْرًا: المكرُ: صرْفُ الغيرِ عمَّا يَقصِدُه بحيلةٍ، أو: إيصالُ الشَّرِّ إلى الغيرِ بطريقٍ خفِيٍّ، وأصلُ المكرِ: الاحتيالُ والخِداع .
دَمَّرْنَاهُمْ: أي: أهْلَكْناهم، وأخَذْناهم بعقوبتِنا إيَّاهم، والتَّدميرُ: إدخالُ الهلاكِ على الشَّيءِ .
خَاوِيَةً: أي: خَرابًا خالِيةً قد سقَط بَعضُها على بَعضٍ، وأصلُ الخَواءِ: الخَلاءُ والسُّقوطُ .

مُشكِلُ الإعرابِ:

قولُه تعالى: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ
قولُه: أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ في محلِّ هذا المصدَرِ المؤوَّلِ أوجُهٌ؛ أحدُها: أن يكونَ منصوبًا على نزعِ الخافضِ، أي: لأنَّا دمَّرْناهم، و(كان) تامَّةٌ، و (عاقبةُ) فاعِلٌ بها، و (كيف) حالٌ. أو (كان) ناقصةٌ، و (عاقبةُ) اسمُها، و(كيف) خبَرُها. الثَّاني: أن يكونَ بدلًا مِن (عاقبة)، أي: كيف كان تدميرُنا إيَّاهم. الثَّالثُ: أن يكونَ خبَرَ مبتدأٍ محذوفٍ، أي: العاقبةُ أنَّا دمَّرْناهم. الرَّابع: أن يكونَ المصدَرُ المؤوَّلُ خبرًا لـ (كان)، والعاقِبةُ اسمها، و(كيف) في محلِّ نصبٍ حالٌ، والتَّقديرُ: فانظرُ -يا محمَّدُ- على أيِّ حالٍ كان عاقِبةُ أمرِهم تدميرَهم. وقُرئَ: إِنَّا دَمَّرْنَاهُمْ بالكسرِ على الاستِئْنافِ ، وهو تفسيرٌ للعاقبةِ .

المعنى الإجماليُّ:

يبيِّنُ اللهُ تعالى جانبًا مِن قصَّةِ صالحٍ عليه السَّلامُ مع قومِه، فيقولُ سبحانَه: لقد أرسَلْنا إلى قبيلةِ ثمودَ أخاهم ونبيَّهم صالِحًا، فأمَرَهم بعبادةِ اللهِ وحْدَه لا شَريكَ له؛ فإذا هم فريقان: مؤمِنونَ به، وكافِرون، كلٌّ منهم يختَصِمُ في شأنِ الدِّينِ، فقال لهم صالحٌ: يا قومِ، لِمَ تستعجِلونَ عذابَ اللهِ ولا تَرجُونَ رَحمتَه، هلَّا تَطلُبونَ مِن اللهِ أن يغفِرَ لكم؛ لعَلَّه يرحَمُكم؟! فقالوا له: تشاءَمنا بك وبمَن معك مِنَ المؤمِنينَ! فقال صالحٌ لهم: ما أصابَكم مِن مكروهٍ فهو مِن عندِ اللهِ بسبَبِ ذُنوبِكم، بل أنتم قومٌ مختَبَرون بالسَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ مِن رَبِّكم.
ثمَّ يحكي الله تعالى ما قابل به رؤساءُ ثَمودَ دعوةَ نبيِّهم صالحٍ عليه السَّلامُ مِن عنادٍ وإصرارٍ على التخلُّصِ منه ومِن أهلِه، فيقولُ تعالى: وكان في مدينةِ ثمودَ تِسعةُ أشخاصٍ يُفسِدونَ في الأرضِ بالكُفرِ والمعاصي، ولا يُصلِحون، فقال بعضُهم لبعضٍ: تحالَفوا باللهِ على اغتيالِ صالحٍ وأهلِه ليلًا، ثمَّ بعدَ أن نقتُلَه وأهلَه نقولُ لِمَن يطالِبُ بدَمِه: ما حضَرْنا هلاكَ صالحٍ وأهلِ بيتِه، وإنَّا لَصادِقون في ذلك!
ومكَرَ هؤلاءِ الرَّهطُ، فمكَرَ اللهُ بهم مَكْرًا أعظَمَ مِن مَكْرِهم، وهم لا يَشعرونَ! فانظُرْ -يا محمَّدُ- كيف كان عاقِبةُ مكرِ هؤلاء المُفسِدين مِن قومِ صالحٍ؛ أنَّا أهلَكْناهم وأهلَكْنا جميعَ قومِهم المُشرِكين، فتلك مساكِنُ ثمودَ قد صارت خَرابًا خاليةً مِن أهلِها؛ بسَبَبِ ظُلمِهم أنفُسَهم. إنَّ في ذلك لَعِبرةً وعِظةً لِقَومٍ يَعلَمونَ، وأنجَيْنا صالحًا والمؤمِنينَ به مِن قَومِه.

تَفسيرُ الآياتِ:

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ سُبحانَه قِصَّةَ موسى وداودَ وسُليمانَ -وهم مِن بني إسرائيلَ-؛ ذَكرَ قصةَ مَن هو مِن العربِ؛ يُذَكِّرُ بها قريشًا والعربَ، ويُنبِّهُهم أنَّ مَن تقدَّمَ مِن الأنبياءِ مِن العربِ كان يدعو إلى إفرادِ اللهِ تعالى بالعبادةِ؛ لِيَعلموا أنَّهم في عبادةِ الأصنامِ على ضلالةٍ، وأنَّ شأنَ الأنبياءِ -عربِهم وعجمِهم- هو الدُّعاءُ إلى عبادةِ اللهِ .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ.
أي: ولقد أرسَلْنا إلى قبيلةِ ثمودَ أخاهم في النَّسَبِ صالِحًا، فأمَرَهم بعبادةِ اللهِ وحْدَه لا شَريكَ له .
كما قال تعالى: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [هود: 61] .
فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ.
أي: فإذا قومُ صالحٍ فَريقانِ: مُؤمِنون وكافِرون، يختَصِمون في الدِّينِ، وكلٌّ يقولُ بأنَّ الحقَّ معه .
كما قال تعالى: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [الأعراف: 75، 76].
قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46).
قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ.
أي: قال صالحٌ: يا قومِ، لأيِّ شَيءٍ تَطلُبونَ عذابَ اللهِ، ولا تَطلُبونَ رحمتَه ؟!
لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.
أي: قال صالحٌ لِقَومِه: هلَّا تَطلُبونَ مِن اللهِ أن يغفِرَ لكم كُفرَكم ومعاصيَكم؛ كي يرحَمَكم ؟
قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47).
قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ.
أي: قال مُشرِكو ثمودَ لنبيِّهم صالحٍ: تشاءَمْنا بك وبمَن معك مِنَ المؤمِنينَ؛ فنحن تُصيبُنا المصائِبُ والمكارِهُ بسَبَبِكم !
قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ.
أي: فقال صالحٌ لِقَومِه: ما يُصيبُكم مِن مكروهٍ فإنَّما جاءَكم مِن عندِ اللهِ وحْدَه، ووقَعَ عليكم بإذنِه؛ بسَبَبِ ذُنوبِكم .
بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ .
أي: بل أنتم قَومٌ يَختبِرُكم ربُّكم بالسَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ، والخيرِ والشَّرِّ .
وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48).
أي: وكان في مدينةِ ثمودَ تِسعةُ أنفُسٍ يُفسِدونَ في الأرضِ بالكُفرِ والمعاصي، ولا يُصلِحونَ فيها بوجهٍ مِن الوجوهِ .
قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49).
قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ.
أي: قال التِّسعةُ المُفسِدون في الأرضِ بعضُهم لبعضٍ: تحالَفوا باللهِ وتعاهَدوا على اغتيالِ صالحٍ وأهلِه ليلًا .
ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ.
أي: ثمَّ بعدَ أن نقتُلَ صالحًا وأهلَه خُفيةً نقولُ لِقَريبِ صالحٍ الذي له حَقُّ المطالَبةِ بدَمِه : ما حضَرْنا هلاكَ صالحٍ وأهلِ بيتِه، وإنَّا لَصادِقون في ذلك !
وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50).
أي: ودبَّر التِّسعةُ المفسِدونَ تدبيرًا لِقَتلِ صالحٍ وأهلِه، ومَكَرْنا بهم مكرًا أعظَمَ مِن مَكْرِهم، وهم لا يَعلَمونَ كيفيَّةَ تدبيرِنا إهلاكَهم .
ثم شرَع تعالى في بَيانِ ما تَرتَّبَ على ما بَاشرُوه مِنَ المَكْرِ ، فقال:
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51).
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ.
أي: فانظُرْ -يا محمَّدُ- كيف كان آخِرُ أمرِ مَكرِ المُفسِدينَ مِن قَومِ صالحٍ حينَ أرادوا قَتْلَه وأهلِه .
كما قال تعالى: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ [الأعراف: 84] .
وقال سُبحانَه: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف: 103] .
وقال عزَّ وجلَّ: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ [يونس: 39] .
وقال تبارك وتعالى: فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [الزخرف: 25] .
أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ .
أي: كان عاقِبةُ مَكرِ المُفسِدينَ مِن قَومِ صالحٍ أنَّا أهلَكْناهم وأهلَكْنا جميعَ قَومِهم المُشرِكينَ .
كما قال تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ [الحجر: 83] .
وقال سُبحانَه: فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا [الشمس: 14] .
فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52).
فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا.
أي: فتلك مَساكِنُ ثمودَ قد صارت خَرابًا خاليةً مِن أهلِها؛ بسَبَبِ ظُلمِهم أنفُسَهم بشِركِهم وتكذيبِ رَسولِهم، وقَتْلِهم ناقةَ اللهِ .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ.
أي: إنَّ في ذلك لَعِبرةً وعِظةً ودَلالةً على الحَقِّ لِمَن يَعلَمونَ قُدرةَ اللهِ وحِكمَتَه وغيرَ ذلك مِنَ الحقائِقِ .
كما قال تعالى عنهم: فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [الشعراء: 158] .
وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53).
أي: وأنجَيْنا مِن سَخَطِنا وعَذابِنا صالِحًا والمؤمِنينَ به مِن قَومِه، الَّذين كانوا يَتَّقون سَخَطَ اللهِ وعذابَه، فيَتجنَّبونَ الشِّركَ والمعاصيَ، ويَعمَلونَ بطاعةِ اللهِ تعالى ويخافونَه .
كما قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ * وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ [هود: 66 - 68] .

الفَوائِدُ التَّربويَّةُ:

1- في قولِه تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ أنَّ مِن مقتضَى النُّصحِ أنْ تؤكِّدَ ما ينبغي تأكيدُه للمخاطَبِ مِن الأخبارِ المهمَّةِ؛ لِيكونَ المخاطَبُ على يقينٍ منها، ووجْهُ ذلك: أنَّ اللهَ ذَكَر أنَّه أَرْسَل إلى ثمودَ أخاهم صالحًا، وأَكَّدَ هذا الخبرَ بقَولِه: وَلَقَدْ .
2- في قَولِه تعالى: وَإِنَّا لَصَادِقُونَ دليلٌ قاطعٌ على أنَّ الكذبَ قبيحٌ عندَ الكفرةِ الَّذين لا يَعرِفون الشَّرعَ ونواهيَه، ولا يَخْطُرُ ببالِهم إلَّا أنَّهم قَصدوا قتْلَ نبيِّ اللهِ؛ ولم يَرضوا لأنفُسِهم أنْ يَكونوا كاذبِين حتَّى سَوَّوْا للصِّدقِ في خَبَرِهم حيلةً يَتفصَّون فيها عن الكذبِ .
3- قال الله تعالى: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ في هذه الآيةِ دليلٌ على أنَّه ينبغي للإنسانِ أنْ ينظُرَ ويتأمَّلَ في الأمورِ ويَعتبِرَ؛ لا سيَّما في أمورِ المكذِّبِين .
4- في قَولِه تعالى: أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ أنَّ العقوبةَ تَعُمُّ، ولكنْ كما قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ: ((إذا أراد الله بقَومٍ عذابًا، أصاب العذابُ مَن كان فيهم، ثُمَّ بُعِثوا على أعمالِهم )) ، وهذا مشاهَدٌ، سواءٌ كانتِ العقوبةُ مِنَ اللهِ -يعني: مِن فِعلِ اللهِ-، أو مِن فعلِ العبادِ؛ فيُسَلِّطُ اللهُ تعالى بعضَ عبادِه على بعضٍ؛ فيُدَمِّرُ هذا المتسَلِّطُ على الصَّالحِ والطَّالحِ، ولكنْ يُبعَثُ النَّاسُ يومَ القيامةِ على أعمالِهم ونِيَّاتِهم ، أو يُنزِلُ اللهُ تعالى كارثةً مِن عندِه -كالفيضاناتِ والرِّياحِ وغيرِها- فتُدَمِّرُ الصَّالحَ والطَّالحَ، ويومَ القيامةِ يُبعثون على نِيَّاتهم؛ ولذلك يجبُ أنْ يكونَ خوفُ الإنسانِ مِن معاصي غيرِه كخوفِه مِن معاصي نفْسِه؛ لأنَّ العقوبةَ واحدةٌ؛ إذا نزلَتْ عَمَّتْ .
5- قال تعالى: دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا فالتَّدميرُ مِن أسبابِه الظُّلْمُ، فالباءُ في قولِه: بِمَا ظَلَمُوا للسَّببيَّةِ، وفيه التَّحذيرُ مِن الظُّلمِ؛ سواءٌ كان متعدِّيًا -بظُلمِ الغيرِ-، أو لازمًا -بظُلمِ النفْسِ وحْدَها- .
6- في قَولِه تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فَضيلةُ العِلمِ، وفيه أيضًا الحَثُّ على العِلمِ؛ لأنَّه إذا ثَبَتَ فَضْلُه فمعنى ذلك أنَّ اللهَ ذَكَره لنا لِنَتعلَّمَ ، وفيه مِن الحَثِّ على مَعرفةِ أخبارِ الأُمَمِ والعِلمِ بها ما هو ظاهِرٌ؛ لأنَّ بها يتَّعِظُ النَّاسُ، وكذلك أيضًا الأخبارُ الواقعةُ في زمنِ الإنسانِ ينبغي أن يتَّخِذَ مِن حوادِثِها عِظةً وعِبرةً .
7- في قَولِه تعالى: وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ الحَثُّ على الإيمانِ والتقوى؛ لأنَّ كلَّ إنسانٍ عاقلٍ ينبغي له أنْ يَسلُكَ أسبابَ النجاةِ، فيكونُ في الإخبارِ عن نجاتِهم الحَثُّ على السَّببِ الذي به نَجَوا، فقولُه: وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا حُكْمٌ مُعَلَّقٌ بوصفٍ، والحكمُ إذا عُلِّقَ بوصفٍ دَلَّ ذلك على عِلِّيَّةِ هذا الوصفِ وتأثيرِه في الحكمِ .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أنَّه يصِحُّ إطلاقُ الأُخُوَّةِ النَّسَبيَّةِ بينَ المسلمِ والكافرِ، فلا يُقالُ: إذا انتَفَتِ الأخوَّةُ الإيمانيَّةُ انتفتِ الأُخوةُ النَّسَبيَّةُ، بل إذا انتفَى أحدُهما يبقَى الآخَرُ .
2- في قَولِه تعالى: فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ أنَّ كلَّ مُتَصَدٍّ للدَّعوةِ إلى اللهِ فلا بُدَّ أنْ يَجِدَ خصومًا؛ لأنَّه إذا كانت الدَّعوةُ في ابتدائِها مع مَن جاء بها وهو الرَّسولُ صلَّى الله عليه وسلَّمَ تُلاقي ذلك؛ فما بالُك بانتهائِها ؟!
3- قولُه تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ فيه الخِصاُم لإظهارِ الحقِّ، كقوله تعالى: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الحج: 19] . والخِصامُ لإظهارِ الحقِّ أكرِمْ به مِن خِصامٍ؛ يُثبَتُ به الحقُّ، ويُدحَضُ به الباطلُ، وهو إحسانٌ إلى المخاصَمِ بإنقاذِه مِنَ النَّارِ .
4- في قَولِه تعالى: قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أنَّ الاستغفارَ سببٌ لرفعِ العُقوبةِ وجلْبِ الرَّحمةِ، وقد قال نوحٌ لقَومِه: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح: 10 - 12] ، وهذه رحمةٌ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ نتيجةَ الاستِغفارِ .
5- في قَولِه تعالى: قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ إثباتُ الحِكمةِ للهِ تعالى؛ لِقَولِه: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ، فالرَّحمةُ لها سببٌ، وكونُ اللهِ تبارك وتعالى يَقْرِنُ أفعالَه بأسبابِها يدُلُّ على كمالِ الحكمةِ؛ لأنَّ مَن يَفعلُ أفعالًا عُنجُهِيَّةً ليس لها أسبابٌ، فهذا سفيهٌ، لكنَّ عليه أنْ يَربِطَ الأفعالَ بأسبابِها .
6- قَولُهم حينَ أُصيبوا بالجَدبِ والقَحطِ: اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ، مع أنَّ هذا الأمرَ مِن اللهِ سُبحانَه وتعالى، وليس بأسبابِ النَّبِيِّ، فيه بيانُ مَسلَكِ المكذِّبينَ للرُّسُلِ؛ أنَّهم يَسلُكونَ مَسالِكَ التَّشبيهِ والتَّمويهِ؛ وهكذا أهلُ الباطلِ يُشَبِّهونَ ويُلَبِّسونَ على النَّاسِ بمثلِ هذه الأمورِ .
7- في قَولِه تعالى: قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ أنَّه مِن الحكمةِ أنْ يُرَدَّ الباطِلُ بالحقِّ بدونِ سكوتٍ، وأنَّه ينبغي أنْ يكونَ الرَّدُّ مِن جنسِ الإيرادِ؛ فهنا تطيَّروا بصالحٍ ومَن معه، فبيَّن أنَّ طِيَرَتَهم وشُؤمَهم بسبَبِ أعمالِهم؛ ولذا قال: طَائِرُكُمْ، فاللَّفظُ مِثلُ اللَّفظِ، فينبغي أنْ يكونَ الجوابُ مِثلَ الإيرادِ، ويتحرَّى المجيبُ حتَّى اللَّفظَ، وأيضًا ينبغي لِمَن رَدَّ على غيرِه أو أبطلَ قولَه أنْ يأتيَ بأمرٍ لا جِدالَ فيه؛ لأنَّ صالحًا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لو قال: هذا الجدبُ ليس مِنِّي، وأنا ما أتيتُ بسببِه، وما أشَبهَ ذلك؛ لكان هذا فيه مجالٌ للأخذِ والرَّدِّ، ولكنْ ينبغي أنْ يختارَ المجيبُ الجوابَ الذي لا كلامَ بعْدَه .
8- في قَولِه تعالى: قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أنَّ المصائبَ التي تُصيبُ الإنسانَ إنَّما هي مِن اللهِ تعالى، ولا يُنافي هذا قولَه تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: 30] ، ولا قولَه: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الروم: 41] ؛ لأنَّ نِسبةَ هذه الأمورِ إلى اللهِ نِسبةُ خَلْقٍ وإيجادٍ، ونِسبتَها إلى المخلوقِ نِسبةُ تسبُّبٍ، فهي تُضافُ إلى النَّاسِ إضافةَ الشَّيءِ إلى سببِه، وتُضافُ إلى اللهِ سُبحانه وتعالى إضافةَ المخلوقِ إلى خالقِه، وعلى هذا يَزولُ إشكالُ كثيرٍ مِن الآياتِ الَّتي ظاهرُها التَّعارُضُ في هذا البابِ .
9- قال الله تعالى: قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ القَسَمُ باللهِ يدُلُّ على أنَّهم كانوا يَعتَرِفون باللهِ، ولكنَّهم يُشرِكونَ به الآلهةَ .
10- قال الله تعالى: قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ دلَّتْ هذه الآيةُ الكريمةُ على أنَّ نبيَّ الله صالحًا -عليه وعلى نبيِّنا الصَّلاةُ والسَّلامُ- نفَعَه اللهُ بنُصرةِ وليِّه، أي: أوليائِه؛ لأنَّه مُضافٌ إلى معرفةٍ، ووجْهُ نُصرتِهم له: أنَّ التِّسعةَ المذكورينَ في قَولِه تعالى: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ تحالفُوا باللهِ أن يَقتلوه ليلًا ويقتلوا أهلَه معه، ثُمَّ يقولوا لأوليائِه وعصَبتِه: مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ أي: ولا مَهلِكَه هو، وهذا يدُلُّ على أنَّهم لا يَقدِرونَ أن يقتُلوه علَنًا؛ لِنُصرةِ أوليائِه له، وإنكارُهم شهودَ مَهلِكِ أهلِه دليلٌ على خَوفِهم من أوليائِه .
11- قولهم: مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ فيه أنَّ البَيِّنةَ على المدَّعِي واليمينَ على مَن أنكَرَ؛ لأنَّه لولا أنَّ هذا القَولَ يُبَرِّئُهم ما صَحَّ أنْ يَتَّفِقوا على اتِّخاذِه حُجَّةً؛ يقتُلونه ويقولون: مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ، فلمَّا اتَّفَقوا على هذا دلَّ على أنَّ الإنكارَ يُبَرَّأُ به المدَّعَى عليه !
12- في قَولِه تعالى: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ وَصْفُ اللهِ تعالى بالمَكرِ، لكنَّه ليس على سَبيلِ الإطلاقِ، بل على سَبيلِ التَّقييدِ، فيُقالُ مثلًا: هو ماكِرٌ بأعدائِه أو بمن يَستحِقُّ المكرَ، أو ما أشبَهَ ذلك مِمَّا يجعَلُ المَكْرَ صفةَ كمالٍ؛ لأنَّ المكرَ ليس بصِفةِ كَمالٍ على الإطلاقِ، ولا بصِفةِ نَقصٍ على الإطلاقِ ؛ فإنَّه إيصالُ الشَّرِّ إلى الغَيرِ بطَريقٍ خَفيٍّ، وكذلك الكَيدُ والمخادعةُ، ولكِنَّه نوعانِ؛ قَبيحٌ: وهو إيصالُ ذلك لِمن لا يستحِقُّه، وحَسَنٌ: وهو إيصالُه إلى مُستحِقِّه عقوبةً له؛ فالأوَّلُ مَذمومٌ، والثَّاني ممدوحٌ، والرَّبُّ تعالى إنَّما يَفعلُ مِن ذلك ما يُحمَدُ عليه عدلًا منه وحِكمةً، وهو تعالى يأخُذُ الظَّالِمَ والفاجِرَ مِن حيثُ لا يحتَسِبُ، لا كما يفعَلُ الظَّلَمةُ بعبادِه .
13- في قَولِه تعالى: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ أنَّ العقوباتِ إنَّما تأتي بأسبابٍ مِن المرءِ، حيثُ جَعَل هذا التَّدميرَ عاقبةَ مَكْرِهم .
14- في قَولِه تعالى: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا دَليلٌ على أنَّ الظُّلمَ يُورِثُ أهلَه الهلاكَ، ويُعقِبُ ديارَهم الخَرابَ ؛ فالله تعالى لَمَّا خَصَّ عمَلَهم بوصفِ الظُّلمِ مِن بينِ عِدَّةِ أحوالٍ يشتَمِلُ عليها كُفرُهم -كالفسادِ-؛ كان ذلك إشارةً إلى أنَّ لِلظُّلْمِ أثرًا في خرابِ بلادِهم، وهذا معنى ما رُوِيَ عن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهما أنَّه قال: (أجِدُ في كتابِ اللهِ أنَّ الظُّلمَ يُخرِبُ البيوتَ، وتلا: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا) .
15- في قَولِه تعالى: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ الرَّدُّ على مَن يُنكِرون الحِكمةَ، مِثلُ الجهميَّةِ .
16- بيانُ عدلِ اللهِ سبحانه وتعالى؛ حيث أهلكَ مَن يَستحِقُّ الإهلاكَ، وأنجَى مَن يَستحِقُّ الإنجاءَ؛ لقوله: وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ هذا مَثَلٌ ثالثٌ ضَرَبه اللهُ لحالِ المُشركينَ مع المُؤمنينَ، وجعَلَه تَسليةً لرَسولِه صلَّى الله عليه وسلَّمَ بأنَّ له أُسوةً بالرُّسلِ والأنبياءِ مِن قبْلِه .
- قولُه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ عطْفٌ على قولِه تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا [النمل: 15] ، وهو مَسوقٌ لِمَا سِيقَ هو له مِن تقريرِ أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يُلقَّى القرآنَ مِن لَدُنْ حكيمٍ عليمٍ؛ فإنَّ هذه القصَّةَ أيضًا مِن جُملةِ القرآنِ الكريمِ الَّذي لُقِّيَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ .
- واللَّامُ في (لَقَدْ) جَوابُ قَسمٍ مَحذوفٍ، أيْ: وباللهِ لقدْ أرْسَلْنا، ولامُ القَسَمِ هذه لتَأكيدِ الإرسالِ باعتبارِ ما اتَّصلَ به مِن بَقيَّةِ الخبرِ؛ فإمَّا أنْ يكونَ التَّأكيدُ لِمُجرَّدِ الاهتمامِ، وإمَّا أنْ يُبْنَى على تَنزيلِ المُخاطَبينَ مَنزلةَ مَن يَتردَّدُ فيما تَضمَّنَه الخبرُ مِن تَكذيبِ قَومِه إيَّاهُ، واستِخفافِهم بوَعيدِ ربِّهم على لِسانِه .
- وقُدِّم الجارُّ والمجرورُ إِلَى ثَمُودَ على المفعولِ صَالِحًا؛ لأنَّ ما حَلَّ بالقومِ أهَمُّ ذِكْرًا في هذا المَقامِ؛ فالمجرورُ هنا هو مَحلُّ العِبرةِ، وأمَّا المفعولُ فهو مَحلُّ التَّسليةِ، والتَّسليةُ غرَضٌ تَبَعِيٌّ .
- قولُه: فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ فيه العطْفُ بالفاءِ الَّتي تَقْتَضي التَّعقيبَ لا المُهلةَ؛ فكان المعنى: أنَّهم بادَرُوا بالاختصامِ، مُتعقِّبًا دُعاءَ صالحٍ إيَّاهم إلى عِبادةِ اللهِ .
- والإتيانُ بحَرفِ المُفاجأةِ (إِذَا) كِنايةٌ عن كَونِ انقسامِهم غَيرَ مَرْضِيٍّ، فكأنَّه غيرُ مُترقَّبٍ؛ ولذلك لم يَقَعِ التَّعرُّضُ لإنكارِ كَونِ أكثرِهم كافرينَ؛ إشارةً إلى أنَّ مُجرَّدَ بَقاءِ الكُفرِ فيهم كافٍ في قُبْحِ فِعلِهم، وحالُهم هذا مُساوٍ لحالِ قُريشٍ تُجاهَ الرِّسالةِ المُحمَّديَّةِ .
- وأُوثِرَ يَخْتَصِمُونَ على (يَختصمانِ) -وإنْ كان مِن حيث التَّثنيةُ جائزًا فَصيحًا-؛ لِمُناسَبةِ الفواصلِ .
2- قولُه تعالى: قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لَمَّا كان الاختصامُ بيْن الفريقينِ في شأْنِ صالحٍ ابتِداءً؛ جِيءَ بجَوابِ صالحٍ عمَّا تَضمَّنَه اختِصامُهم مِن مُحاوَلتِهم إفحامَه بطَلَبِ نُزولِ العذابِ، فمَقولُ صالحٍ هذا ليس هو ابتداءَ دَعوتِه؛ فإنَّه تقدَّمَ قولُه: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ [النمل: 45] ، ولكنَّه جوابٌ عمَّا تَضمَّنَه اختِصامُهم معه؛ ولذلك جاءت جُملةُ قَالَ يَا قَوْمِ مَفْصولةً غيرَ مَعطوفةٍ؛ جرْيًا على طريقةِ المُحاوَرةِ؛ لأنَّها حِكايةُ جَوابٍ عمَّا تَضمَّنَه اختصامُهم .
- والاستفهامُ في قولِه: لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ إنكارٌ لِأخْذِهم بجانبِ العذابِ دونَ جانبِ الرَّحمةِ ، وظاهرُ هذا الاستفهامِ أنَّه استفهامٌ عن عِلَّةِ اسْتِعجالِهم، وإنَّما هو استفهامٌ عن المَعلولِ؛ كِنايةً عن انتفاءِ ما حقُّه أنْ يكونَ سببًا لاستِعجالِ العذابِ؛ فالإنكارُ مُتوجِّهٌ لِلاستعجالِ لا لِعِلَّتِه .
- قولُه: لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ يجوزُ أنْ يكونَ المُرادُ بـ (السَّيِّئةِ) الحالةَ السَّيِّئةَ في مُعامَلتِهم إيَّاهُ بتَكذيبِهم إيَّاهُ، والمُرادُ بـ(الحَسَنةِ) ضِدَّ ذلك، أي: تَصديقَهم لِمَا جاء به؛ فالاستِعجالُ المُبادَرةُ، والباءُ للمُلابَسةِ، ومَفعولُ تَسْتَعْجِلُونَ مَحذوفٌ، تَقديرُه: تَسْتَعجلونَني مُتلبِّسينَ بسَيِّئةِ التَّكذيبِ. ويجوزُ أنْ يكونَ المُرادُ بـ(السَّيِّئةِ) الحالةَ السَّيِّئةِ الَّتي يَترقَّبون حُلولَها، وهي: ما سألوا مِن تَعجيلِ العذابِ المَحْكيِّ عنهم في سُورةِ (الأعرافِ) في قولِه: ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف: 77] ، وبـ (الحَسَنةِ) ضِدَّ ذلك، أي: حالةَ سَلامتِهم مِن حُلولِ العذابِ؛ فـ (السَّيِّئةُ) مفعولُ تَسْتَعْجِلُونَ، والباءُ مَزيدةٌ؛ لتَأكيدِ اللُّصوقِ، مِثلَ ما في قولِه تعالى: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة: 6] ، والمعنى: إنكارُ جَعْلِهم تأخيرَ العذابِ أمارةً على كذِبِ الوعيدِ به، وأنَّ الأَولى بهم أنْ يَجْعَلوا امتدادَ السَّلامةِ أمارةً على إمهالِ اللهِ إيَّاهم، فيَتَّقُوا حُلولَ العذابِ، أي: لِمَ تَبْقَونَ على التَّكذيبِ مُنتظرينَ حُلولَ العذابِ، وكان الأجدرُ بكم أنْ تُبادِرُوا بالتَّصديقِ مُنتظرينَ عَدَمَ حُلولِ العذابِ بالمرَّةِ. وعلى كِلَا الوجهَينِ فجوابُ صالحٍ عليه السَّلامُ إيَّاهم جارٍ على الأُسلوبِ الحكيمِ بجَعْلِ يَقينِهم بكَذِبِه مَحمولًا على تَردُّدِهم بيْنَ صِدْقِه وكَذِبِه .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث اقتُصِرَ هنا على مُراجَعةِ صالحٍ قومَه في شأْنِ غُرورِهم بظَنِّهم أنَّ تأخُّرَ العذابِ أَمارةٌ على كَذِبِ الَّذي تَوعَّدَهم به؛ فإنَّهم قالوا -كما حُكِيَ عنهم في سُورةِ (الأعرافِ)-: ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف: 77] ؛ لأنَّ الغرَضَ هنا مَوعظةُ قُريشٍ في قولِهم: فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال: 32] بحالِ ثَمودَ المُساوي لحالِهم؛ لِيَعلَموا أنَّ عاقبةَ ذلك مُماثِلةٌ لِعاقبةِ ثَمودَ لِتَماثُلِ الحالينِ؛ قال تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [العنكبوت: 53] .
- قولُه: لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ في هذا التَّحضيضِ تَنبيهٌ على الخطأِ منهم في استِعجالِ العُقوبةِ، وتَجْهيلٌ لهم في اعتقادِهم .
3- قولُه تعالى: قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ هذا مِن مُحاوَرتِهم مع صالحٍ؛ فلذلك فُصِلَ عمَّا قبْلَه، ولم يُعطَفْ فِعلَا القولِ، وجاء على سَننِ حِكايةِ أقوالِ المُحاوَراتِ .
- قولُه: قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ عبَّر عمَّا حلَّ بهم بقولِه: طَائِرُكُمْ؛ مُشاكَلةً لقولِهم: اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ، ومُخاطَبةً لهم بما يَفهَمون لإصلاحِ اعتقادِهم؛ بقَرينةِ قَولِهم: اطَّيَّرْنَا بِكَ .
- قولُه: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ إضرابٌ مِن بَيانِ طائرِهم الَّذي هو مَبدَأُ ما يَحِيقُ بهم إلى ذِكْرِ ما هو الدَّاعي إليه .
- وفي قولِه: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ صِيغَ الإخبارُ عنهم بأنَّهم مَفتونونَ بتَقديمِ المُسنَدِ إليه أَنْتُمْ على الخبرِ الفِعليِّ تُفْتَنُونَ؛ لِتَقوِّي الحُكْمِ بذلك، وصِيغَ المُسنَدُ فِعلًا مُضارِعًا؛ لِدَلالتِه على تَجدُّدِ الفُتونِ واستِمرارِه. وغلَّبَ جانبَ الخِطابِ في قولِه: تُفْتَنُونَ على جانبِ الغَيبةِ -مع أنَّ كِلَيْهما مُقْتضى الظَّاهرِ-؛ تَرجيحًا لِجانبِ الخِطابِ؛ لأنَّه أدَلُّ مِن الغَيبةِ .
4- قولُه تعالى: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ فيه مِن البلاغةِ ما يُعرَفُ بالتَّمامِ أو التَّتميمِ ؛ فإنَّ قولَه: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ شأْنُهم الإفسادُ البحْتُ، ولكنَّ قولَه: يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ لا يَدفَعُ أنْ يَندُرَ منهم أو مِن أحدِهم بعضُ الصَّلاحِ؛ فتَمَّمَ الكلامَ بقولِه: وَلَا يُصْلِحُونَ دَفْعًا لتلك النُّدرةِ أنْ تَقَعَ، أو أنْ يُخالِجَ بعضَ الأذهانِ شَكٌّ في أنَّها سَتقَعُ، وبذلك قطَعَ كلَّ رَجاءٍ في إصلاحِ أمْرِهم وحُسْنِ حالِهم .
5- قوله تعالى: قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ
- قولُه: قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ... استئنافٌ ببَيانِ بعضِ ما فَعَلوا مِن الفسادِ . وقِيل: إنَّ قَالُوا صِفةٌ لـ تِسْعَةُ، أو خبرٌ ثانٍ لـ (كَانَ)، أو هو الخبرُ لـ (كَانَ)، وفِي الْمَدِينَةِ مُتعلِّقٌ بـ (كَانَ) ظَرفًا لَغْوًا ، ولا يَحسُنُ جَعلُ الجُملةِ استئنافًا؛ لأنَّها المقصودُ مِن القصَّةِ، والمعنى: قال بعضُهم لبعضٍ .
- قولُه: مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ، أي: ما حضَرْنا هلاكَهم، على أن مَهْلِكَ مصدرٌ كمَرجِع، أو مكانَ هلاكِهم على أنَّه للمكانِ، أو زمانَ هلاكِهم على أنَّه لِلزَّمانِ. والمرادُ: نفْيُ شُهودِ الهلاكِ الواقعِ فيه، واختاروا نفْيَ شهودِ مَهلكِ أهلِه على نفْيِ قتْلِهم إيَّاهُم؛ قصدًا لِلمُبالَغةِ، كأنَّهم قالوا: ما شَهِدْنا ذلك فضلًا عن أن نتَولَّى إهلاكَهم. ويُعلَمُ مِن ذلك نفْيُ قتْلِهم صالحًا عليه السَّلامُ أيضًا؛ لأنَّ مَن لم يَقتُلْ أتباعَه كيف يَقتُلُه ؟! وقيل: في الكلامِ حَذْفُ مَعطوفٍ، يَدُلُّ عليه ما قبْلَه، والتَّقديرُ: ما شَهِدْنا مَهلِكَ أهْلِه ومَهْلِكَهُ، ودلَّ عليه قولُهم: لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث لم يُذْكَرْ هذا الجزءُ مِن قصَّةِ ثَمودَ في غيرِ هذه السُّورةِ، ولعلَّ سَببَ ذِكْرِه هنا: أنَّ نُزولَ هذه السُّورةِ كان في وقْتٍ تآمَرَ فيه المُشركونَ على الإيقاعِ بالنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وهو التَّآمُرُ الَّذي حكاهُ اللهُ في قولِه: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال: 30]؛ فضرَبَ اللهُ لهم مَثَلًا بتَآمُرِ الرَّهطِ مِن قَومِ صالحٍ عليه ومَكْرِهم، وكيف كان عاقبةُ مَكْرِهم؛ ولذلك تَرى بيْن الآيتَينِ تَشابُهًا، وتَرى تَكريرَ ذِكْرِ مَكْرِهم ومَكْرِ اللهِ بهم، وذِكْرِ أنَّ في قِصَّتِهم آيةً لِقَومٍ يَعْلَمون .
6- قوله تعالى: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ
- قولُه: وَمَكَرُوا مَكْرًا سمَّى اللهُ تآمُرَهم مَكْرًا؛ لأنَّه كان تَدبيرَ ضُرٍّ في خَفاءٍ، وأُكِّدَ مَكْرُهم بالمفعولِ المُطلَقِ مَكْرًا؛ للدَّلالةِ على قُوَّتِه في جِنْسِ المَكرِ. وتَنوينُه -أي: تَنكيرُه- للتَّعظيمِ .
- وفي قولِه: وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ أُكِّدَ مَكْرُ اللهِ وعُظِّمَ كما أُكِّدَ مَكْرُهم وعُظِّمَ، وذلك بما يُناسِبُ جِنسَه؛ فإنَّ عذابَ اللهِ لا يُدانِيه عذابُ النَّاسِ، فعَظيمُه أعظَمُ مِن كلِّ ما يُقدِّرُه النَّاسُ .
7- قولُه تعالى: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ
- قولُه: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ في اقتِرانِه بفاءِ التَّفريعِ: إيماءٌ إلى أنَّ الاعتبارَ بمَكْرِ اللهِ بهم هو المقصودُ مِن سَوقِ القصَّةِ؛ تَعريضًا بأنَّ عاقبةَ أمْرِه مع قُريشٍ أنْ يَكُفَّ عنه كَيْدَهم ويَنصُرَه عليهم، وفي ذلك تَسليةٌ له على ما يُلاقِيه مِن قَومِه .
- وعلى قِراءةِ الجمهورِ: أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ -بكسْرِ الهمزةِ- فتكونُ الجُملةُ مُستأنَفةً استئنافًا بَيانيًّا لِمَا يُثيرُه الاستفهامُ في قولِه: كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ مِن سُؤالٍ عن هذه الكيفيَّةِ. والتَّأكيدُ للاهتمامِ بالخبرِ. وعلى قِراءةِ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ -بفتْحِ الهمزةِ- فيكونُ المصدرُ (تَدْميرهم) بدَلًا مِن عَاقِبَةُ، والتَّأكيدُ أيضًا للاهتمامِ .
- وضَميرُ الغَيبةِ في دَمَّرْنَاهُمْ للرَّهطِ، وعُطِفَ (قَوْمَهُمْ) عليهم؛ لِمُوافَقةِ الجزاءِ للمَجْزِيِّ عليه؛ لأنَّهم مَكَروا بصالحٍ وأهْلِه، فدمَّرَهُم اللهُ وقَومَهم .
8- قوله تعالى: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
- قولُه: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا جُملةٌ مُقرِّرةٌ لِمَا قبْلَها .
- قولُه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ جُملةٌ مُعترِضةٌ بيْنَ الجُمَلِ المُتعاطِفةِ ، وفيها تَعريضٌ بأنَّ المُشركينَ الَّذين سِيقَتْ إليهم هذه الموعظةُ إنْ لم يَتَّعِظوا بها فهُمْ قومٌ لا يَعْلَمون .
- وفي ذِكْرِ لفظِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ دُونَ أن يُقالَ: لِلَّذِينَ يَعلمون، أو: للعالِمينَ: إيماءٌ إلى أنَّ مَن يَعتبِرُ بهذه الآيةِ مُتمكِّنٌ في العِلمِ، والعِلمُ سَجِيَّةٌ فيه، حتَّى كأنَّه مِن صِفَتِه القوميَّةِ التي تميِّزُه عن قومٍ آخَرينَ .
9- قولُه تعالى: وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ
- زِيادةُ فِعلِ الكونِ في قولِه: وَكَانُوا يَتَّقُونَ؛ للدَّلالةِ على أنَّهم مُتمكِّنونَ مِن التَّقوى .
- وفي قولِه: وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث قالهُ في سُورةِ (فصِّلَت): وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [فصلت: 18] ، و(نجَّينا) و(أَنجَينا) بمعنًى واحدٍ، وخُصَّتْ هذه السُّورةُ بـ (أَنْجَيْنَا)؛ لِمُوافقتِه لِمَا بعدَه، وهو: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ [النمل: 57] ، وبعدَه: وَأَمْطَرْنَا [النمل: 58] وَأَنْزَلَ [النمل: 60] ، فَأَنْبَتْنَا [النمل: 60] ، كلُّه على لَفْظِ (أَفْعَل)، وخُصَّ ما في (حم فُصِّلت) بـ (نَجَّيْنَا)؛ لِمُوافَقتِه ما قبْلَه: وَزَيَّنَّا [فصلت: 12] ، وبعْدَه: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ [فصلت: 25] ، وكلُّه على لَفْظِ (فَعَّلْنا) .