موسوعة التفسير

سورةُ الشُّعَراءِ
الآيات (141-159)

ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ

غَريبُ الكَلِماتِ:

طَلْعُهَا: أي: ما يَطلُعُ منها، وهو الثَّمَرُ، سُمِّي طَلْعًا؛ لطُلوعِه كُلَّ سَنةٍ، وأصلُ (طلع): يدُلُّ على ظُهورٍ وبُروزٍ .
هَضِيمٌ: أي: يانعٌ لَيِّنٌ نَضيجٌ، والهَضيمُ: هو المتكَسِّرُ مِن لِينِه ورطوبتِه، مِن قَولِهم: هضم فلانٌ فُلانًا حَقَّه: إذا انتقَصَه، فكذلك الهَضمُ في الطَّلعِ، إنَّما هو التنَقُّصُ منه مِن رطوبتِه ولِينِه؛ إمَّا بمَسِّ الأيدي، وإمَّا بركوبِ بَعضِه بعضًا، وأصلُ (هضم): يدُلُّ على كَسْرٍ، وضَغْطٍ، وتداخُلٍ .
وَتَنْحِتُونَ: أي: تَنجُرونَ وتَصنَعونَ، والنَّحتُ: بَريُ الحجَرِ والخَشَبِ وتَسويتُهما على تقديرٍ مَخصوصٍ .
فَارِهِينَ: أي: حاذِقينَ بنَحتِها، وأصلُ (فره): يدُلُّ على أشَرٍ وحِذْقٍ .
الْمُسَحَّرِينَ: أي: الذين بُولِغَ في سِحْرِهم مرَّةً بعْدَ مرَّةٍ حتى غَلَب على عُقولِهم. وقيل: أي: مِن ذَوي السَّحْرِ، أي: الرِّئةِ، فهو كنايةٌ عن كونِه مِنَ الأناسيِّ. وأصلُ (سحر) هنا: يدُلُّ على خَدْعٍ وشِبْهِه، وعلى عُضوٍ مِنَ الأعضاءِ .
شِرْبٌ: أي: حَظٌّ ونَصيبٌ مِن الماءِ، والشُّربُ: تناوُلُ كلِّ مائعٍ، ماءً كان أو غيرَه .
فَعَقَرُوهَا: أي: فنَحَروها وقَتَلوها، وأصلُ العَقْرِ: ضَرْبُ قوائمِ البعيرِ بالسيفِ، وهو قائِمٌ، ثمَّ جُعِل النَّحرُ عقرًا؛ لأنَّ العَقْرَ سببٌ لنحرِه، وناحِرُ البعيرِ يعقِرُه ثمَّ ينحرُه، واستُعمِل العقرُ أيضًا في القتلِ والهلاكِ، وأصلُ (عقر): يدُلُّ على جَرحٍ .

المعنى الإجماليُّ:

يحكي اللهُ تعالى جانبًا مِن قصةِ صالحٍ عليه السلامُ معَ قومِه، فيقولُ: كذَّبتْ قَبيلةُ ثمودَ بجَميعِ رُسُلِ الله، إذْ قال لهم أخوهم في النَّسَبِ صالحٌ: ألَا تتَّقون اللهَ، وتخافونَ عِقابَه، إنِّي لكم رَسولٌ مِن اللهِ، أمينٌ على وَحيِه، أبَلِّغُكم إيَّاه بلا زيادةٍ ولا نُقصانٍ، فاتَّقوا عِقابَ اللهِ وسَخَطَه، وأطيعوني، وما أطلُبُ منكم على نُصحي لكم جَزاءً ولا ثوابًا؛ ما ثَوابي إلَّا على اللهِ رَبِّ العالَمينَ.
أتَظُنُّون أن تُترَكوا متنعِّمينَ في هذه الخَيراتِ آمِنينَ؛ في بَساتينَ وعُيونِ ماءٍ، وزُروعٍ ونَخلٍ ثَمَرُها لَيِّنٌ ناضِجٌ، وتَنحِتون من الجِبالِ بُيوتًا لكم حاذِقينَ بنَحتِها؟! فاتَّقوا عِقابَ اللهِ وسخَطَه وأطيعوني، ولا تُطيعوا أمرَ المُسرِفين المُتجاوِزين الحَدَّ في الكُفرِ والعِصيانِ، الذين يُفسِدون في الأرضِ ولا يُصلِحون أنفُسَهم ولا غَيرَهم.
قال قومُ صالحٍ ردًّا عليه: إنَّما أنت مِن المسحورينَ، تَهذي بكَلامٍ لا معنى له، ما أنت إلَّا بشَرٌ مِثلُنا، فأْتِ بحجَّةٍ تدُلُّ على صِحَّةِ قَولِك إن كنتَ مِن الصَّادقين حَقًّا.
فقال صالِحٌ لهم: هذه ناقةٌ جعَلَها الله لكم آيةً تدُلُّ على صِدقي، لها حَظٌّ من الماءِ في يومٍ لا تُشارِكونها فيه، ولكم حظٌّ مِن الماء في يومٍ لا تشارِكُكم هي فيه، ولا تمَسُّوا هذه الناقةَ بأذًى فيُصيبَكم عذابُ يومٍ عظيمِ الشَّدائدِ.
فما كان مِن قَومِ صالحٍ إلَّا أن ذَبَحوا النَّاقةَ فأصبَحوا نادِمينَ على فِعلِهم، فأهلَكَهم اللهُ بالعذابِ الذي حذَّرَهم إيَّاه نبيُّهم.
إنَّ في إهلاكِ قَومِ صالحٍ لَعِظةً وعِبرةً ودَلالةً على صِدقِ صالحٍ، وما كان أكثَرُ قَومِ صالحٍ مُؤمِنينَ باللهِ ورَسولِه، وإنَّ ربَّك -يا مُحمَّدُ- لهو العزيزُ القاهِرُ لأعدائِه، الرَّحيمُ بعبادِه، فلا يُعاجِلُهم بعذابِه.

تَفسيرُ الآياتِ:

كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141).
أي: كذَّبتْ قبيلةُ ثَمودَ بجَميعِ رُسُلِ اللهِ .
إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142).
أي: حينَ قال لهم صالِحٌ -وهو أخوهم في النَّسَبِ، فهم يَعرِفون صِدقَه وأمانَتَه وشَفَقتَه عليهم-: ألَا تتَّقون اللهَ، وتَحذَرونَ عِقابَه ؟
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143).
أي: إنِّي لكم رَسولٌ مِن اللهِ، أمينٌ على وَحيِه الذي بعَثَني به إليكم، فأُبلِّغُكم ما أُرسِلتُ به بلا زيادةٍ ولا نَقصٍ .
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144).
أي: فاتَّقوا سَخَطَ اللهِ وعِقابَه، وأطيعوني فيما آمُرُكم به وأنهاكم عنه .
وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145).
وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ.
أي: وما أطلُبُ منكم على نُصحي لكم أيَّ ثوابٍ وجَزاءٍ .
إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ.
أي: ما أرجو ثوابي إلَّا مِن اللهِ الخالِقِ الرازِقِ، المالِكِ المدبِّرِ لجميعِ العالَمينَ دونَ خَلقِه .
أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ (146).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ثبتَتِ الأمانةُ، وانتفَى مُوجبُ الخيانةِ؛ شرَعَ يُنكِرُ عليهم أكْلَ خَيرِه، وعبادةَ غيرِه، فقال مخوِّفًا لهم مِن سَطَواتِه، ومرغِّبًا في المزيدِ مِن خَيراتِه، مُنكِرًا عليهم إخلادَهم إلى شَهوةِ البَطنِ، واستنادَهم إلى الرَّفاهيةِ، والرِّضا بالفاني :
أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ (146).
أي: أتظُنُّون أنَّ اللهَ يتركُكم تتنعَّمون في هذه الخَيراتِ آمنينَ لا تخافونَ ؟!
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا كان للتَّفسيرِ بعْدَ الإجمالِ شأنٌ؛ بَيَّنَ ما أجمَلَ بقَولِه، مُذَكِّرًا لهم بنعمةِ اللهِ ليَشكُروها :
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147).
أي: في بَساتينَ وعُيونِ ماءٍ .
وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) .
أي: وفي زُروعٍ ونَخلٍ طلْعُها ليِّنٌ رَطْبٌ .
وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذَكَر اللَّطيفَ مِن أحوالِهم؛ أتبَعَه الكثيفَ مِن أفعالِهم .
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قراءةُ فَارِهِينَ أي: حاذِقينَ بنَحتِها .
2- قِراءةُ فَرِهِينَ أي: أَشِرين بَطِرينَ. وقيل: القراءتانِ بمعنًى واحدٍ .
وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149).
أي: وتَنحِتون مِنَ الجِبالِ بُيوتًا لكم حاذِقينَ بنَحتِها .
كما قال تعالى حاكيًا قَولَ صالحٍ عليه السلامُ لِقَومِه: وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا [الأعراف: 74].
وقال تعالى: وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آَمِنِينَ [الحجر: 82] .
وقال سبحانه: وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ [الفجر: 9] .
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150).
أي: فاتَّقوا سَخَطَ اللهِ وعِقابَه، وأطيعوني فيما آمُرُكم به وأنهاكم عنه؛ فقد بانَ لكم صِدقي .
وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151).
أي: ولا تَنقادوا لأمرِ المُسرِفين، الذين تمادَوا وتجاوَزوا الحَدَّ في الكُفرِ باللهِ ومَعصيتِه .
الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152).
أي: الذين يُفسِدون في الأرضِ بالكُفرِ والظُّلمِ والمعاصي والدَّعوةِ إلى ذلك، ولا يُصلِحونَ أنفُسَهم بالعَمَلِ الصَّالحِ، ولا يأمُرونَ غَيرَهم بالصَّلاحِ .
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا دعا إلى اللهِ تعالى بما لا خلَلَ فيه، فعَلِموا أنَّهم عاجِزونَ عن الطَّعنِ في شَيءٍ منه؛ عَدَلوا إلى التَّخييلِ على عُقولِ الضُّعَفاءِ .
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153).
أي: قال قومُ صالحٍ: إنَّما أنت مِن المسحورينَ الذين بُولِغَ في سِحرِهم مرَّةً بعْدَ مرَّة، فلا عقْلَ لك، وإنَّما تَهذِي بما لا مَعنى له .
مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154).
مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا.
أي: ما أنت إلَّا آدميٌّ مِثلُنا، فكيف خَصَّك اللهُ بالرِّسالةِ مِن بيْنِنا حتى نتَّبِعَك ؟!
كما قال تعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ * فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ * أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ [القمر: 23 - 25].
فَأْتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ.
أي: فأْتِ بحُجَّةٍ تدُلُّ بوُضوحٍ على صحَّةِ ما تقولُ إن كنتَ مِن الصَّادقينَ في أنَّك رَسولٌ مِن اللهِ إلينا حَقًّا .
قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155).
أي: قال صالحٌ لِقَومِه: هذه ناقةٌ جعَلَها الله لكم آيةً تدُلُّ على صِدقي، لها حَظٌّ ونَصيبٌ مِن الماءِ في يومٍ لا تُشارِكونَها فيه، ولكم حظٌّ ونَصيبٌ مِن الماء في يومٍ لا تُشارِكُكم فيه .
كما قال تعالى: قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ [الأعراف: 73] .
وقال سُبحانَه: وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ [هود: 64] .
وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156).
أي: ولا تمَسُّوا النَّاقةَ بأيِّ أذًى كائِنًا ما كان؛ فإنَّكم إن فعلتُم يُصيبُكم مِنَ اللهِ عذابُ يومٍ عظيمِ الأهوالِ .
كما قال تعالى حاكيًا قَولَ صالحٍ لِقَومِه: وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الأعراف: 73] .
فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157).
أي: فقتَلَ قَومُ صالحٍ النَّاقةَ، فأصبَحوا نادِمينَ على ذلك حينَ أيقَنوا بالعَذابِ .
فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158).
فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ .
أي: فأهلَكَهم اللهُ بالعذابِ الذي توعَّدَهم به نبيُّهم .
كما قال تعالى: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ [الأعراف: 77، 78].
وقال تعالى: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ [هود: 67].
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً .
مُناسَبتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا كان في النَّاقةِ وفي حُلولِ مخايلِ العذابِ أعظَمُ دليلٍ على صِدْقِ الرَّسولِ الدَّاعي إلى اللهِ؛ قال :
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً .
أي: إنَّ في إهلاكِ قَومِ صالحٍ لَعِظةً، وعِبرةً، ودَلالةً على صِدقِ رَسولِه .
وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ.
أي: ولم يكُنْ أكثَرُ قَومِ صالحٍ مُؤمِنينَ .
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا كان رُبَّما تُوُهِّمَ أنَّه سُبحانَه غيرُ متَّصِفٍ بالعِزَّة؛ لعدَمِ قَسْرِهم على الإيمانِ، أو بالرَّحمةِ؛ لإهلاكِهم- قال :
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159).
أي: وإنَّ رَبَّك -يا مُحمَّدُ- لهو العزيزُ القاهِرُ الغالِبُ، المنتَقِمُ مِن أعدائِه، الرَّحيمُ بعبادِه، فلا يعاجِلُهم بعَذابِه، ومِن رحمتِه أنَّه يُرسِلُ رُسُلًا، ويُنزِلُ معهم ما يُبَيِّنُ به ما يُرضيه وما يُسخِطُه، فلا يُهلِكُ قومًا إلَّا بعْدَ إعذارِهم، ومِن رحمتِه أنَّه يُنجِّي أتْباعَ رُسُلِه .

الفَوائِدُ التَّربويَّةُ:

1- قال الله تعالى: أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ ... في هذه الآية دَلالةٌ على عِظَمِ نِعمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وأنَّها تستوجِبُ الشُّكرَ العظيمَ للهِ سُبحانَه وتعالى، وأنَّه هو مُعطي الأمانِ وآخِذُه؛ لِقَولِه: آَمِنِينَ ، ففي تذكيرِهم بنعمةِ الله عليهم بما مكَّن لهم مِن خَيراتٍ حَثٌّ على العملِ لاستبقاءِ تلك النِّعَمِ؛ بأنْ يَشكروا اللهَ عليها .
2- في قَولِه تعالى: فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ تَسليةٌ لكلِّ داعيةٍ إذا دعا إلى حَقٍّ، فقُوبِل بإعراضٍ ورفْضٍ لِما معه مِن الحقِّ، وأنَّ الواجبَ عليه أن يَصبِرَ، وأن يقولَ: جرَى للأنبياءِ مِثلُ هذا وأشدُّ، وهم أشرفُ عندَ اللهِ مِنِّي .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قال تعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ثَمودُ قد كذَّبوا المرسَلينَ؛ لأنَّهم كذَّبوا صالحًا، وكذَّبوا هودًا؛ لأنَّ صالحًا وعَظَهم بِعَادٍ في قولِه: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ [الأعراف: 74] ، وبتكذيبِهم كذَّبوا بنوحٍ أيضًا؛ لأنَّ هودًا ذَكَّرَ قومَه بمصيرِ قومِ نوحٍ في آيةِ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الأعراف: 69] .
2- في قَولِه تعالى: أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ دَليلٌ على عدمِ البقاءِ في حالِ الرَّفاهيةِ عقابًا لِمَن التَزَموا شِرْكَهم، أي: إنَّه لا يمكِنُ أنْ يُترَكوا بدونِ رُسُلٍ وشُكْرٍ للنِّعمةِ .
3- قَولُه تعالى: آَمِنِينَ فيه عِظَمُ نِعمةِ الأمنِ؛ فإنَّ نعمةَ الأمنِ قد تقابِلُ نعمةَ الشِّبَعِ والرِّيِّ .
4- قولُه تعالى: وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ ... فيه بيانُ قوَّةِ قومِ صالحٍ؛ إذ بَلَغوا مِن القوَّةِ أنْ كانوا يَنحِتونَ بيوتَهم في الجِبالِ، وأيُّ قوةٍ بعدُ ؟!
5- قَولُ الله تعالى: وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ فيه دَليلٌ على دِقَّةِ قَومِ صالحٍ في العَمَلِ، والحِذقِ في الهندسةِ؛ لأنَّ (فارهين) بمعنى حاذِقينَ .
6- في قَولِه تعالى: فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ سؤالٌ: لِمَ أخَذَهم العذابُ وقد نَدِموا؟
جوابُه مِن وجهَينِ:
الأولُ: أنَّه لم يكن نَدَمُهم نَدَمَ التائبينَ، لكنْ نَدَمُ الخائفينَ مِن العذابِ العاجلِ.
الثاني: أنَّ الندمَ، وإنْ كان نَدَمَ التَّائبينَ، ولكنْ كان ذلك في غيرِ وقتِ التوبةِ، بل عندَ معاينةِ العذابِ؛ قال تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ ... الآية [النساء: 18] .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قوله تعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ استئنافُ تَعدادٍ وتكريرٍ .
2- قولُه تعالى: أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ
- يجوزُ أنْ يكونَ هذا القولُ إنكارًا ونفْيًا لِأَنْ يُترَكُوا مُخَلَّدِينَ في نَعيمِهم لا يُزالونَ عنه، وأنْ يكونَ تَذكيرًا بالنِّعمةِ في تَخليةِ اللهِ إيَّاهم وما يتنعَّمونَ فيه مِنَ الجنَّاتِ وغيرِ ذلك، مع الأمنِ والدَّعَةِ . وقيل: تَخويفٌ لهم؛ بمعنى: أَتَطمعونَ أنْ تُقَرُّوا في النِّعَمِ على معاصيكُم؟ وقيل: أَتُتْرَكُونَ استفهامٌ في معنى التوبيخِ .
- ونُزِّلَ حالُهم مَنزلةَ مَن يظُنُّ الخُلودَ، ودوامَ النعمةِ؛ فخاطبَهم بالاستفهامِ الإنكاريِّ التوبيخيِّ أَتُتْرَكُونَ  ...، وهو في المعنى إنكارٌ على ظنِّهم ذلك، وسلَّطَ الإنكارَ على فِعلِ التَّرْكِ؛ لأنَّ ترْكَهم على تلك النِّعَمِ لا يكونُ؛ فكان إنكارُ حُصولِه مُستلزِمًا إنكارَ اعتقادِه، وهذا الكلامُ تعليلٌ للإنكارِ الذي في قولِه: أَلَا تَتَّقُونَ؛ لأنَّ الإنكارَ عليهم دوامَ حالِهم يَقْتضي أنَّهم مُفارِقونَ هذه الحياةَ، وصائرونَ إلى اللهِ .
- وقولُه: هَاهُنَا إشارةٌ إلى بِلادِهم، أي: في جَميعِ ما تُشاهِدونَه، وهذا إيجازٌ بَديعٌ .
- وقولُه: آَمِنِينَ حالٌ مُبيِّنةٌ لبَعضِ ما أجْمَله قولُه: فِي مَا هَاهُنَا؛ وذلك تَنبيهٌ على نِعمةٍ عَظيمةٍ لا يَدُلُّ عليها اسمُ الإشارةِ؛ لأنَّها لا يُشارُ إليها، وهي نعمةُ الأمنِ التي هي مِن أعظمِ النِّعَمِ، ولا يُتذَوَّقُ طعمُ النِّعَمِ الأُخرى إلَّا بها .
3- قولُه تعالى: فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
- قولُه: أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ  إجمالٌ، ثمَّ تفصيلٌ في قولِه:    فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ؛ فالتفصيلُ واردٌ على المبالَغةِ في التنبيهِ على نِعَمِ اللهِ تعالى .
4- قولُه تعالى: وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ
- جاء قولُه: وَنَخْلٍ بعْدَ قولِهِ: فِي جَنَّاتٍ، وإنْ كانتِ الجنَّةُ تتناوَلُ النخلَ أوَّلَ شيءٍ، ويُطلِقونَ الجنَّةَ ولا يُريدونَ بها إلَّا النخلَ؛ فأفرَدَ وَنَخْلٍ بالذِّكْرِ بعْدَ اندراجِه في لفظِ جَنَّاتٍ؛ تَنبيهًا على انفرادِه عن شَجرِ الجنَّةِ بفضلِه، أو أرادَ بـ جَنَّاتٍ غيرَ النخلِ مِنَ الشَّجرِ؛ لأنَّ اللَّفظَ صالحٌ لهذه الإرادةِ، ثمَّ عطَفَ عليه وَنَخْلٍ . وقيل: خُصَّ النَّخلُ بالذِّكرِ مع أنَّه ممَّا تشملُه الجنَّاتُ؛ لقَصدِ بيانِ جَودتِه بأنَّ طَلْعَه هَضيمٌ .
5- قولُه تعالى: وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ
- قولُه: وَتَنْحِتُونَ عَطْفٌ على آَمِنِينَ -أي: وناحِتِينَ- عَبَّرَ عنه بصِيغةِ المضارعِ؛ لاستِحضارِ الحالةِ في نَحتِهم بُيوتًا مِنَ الجبالِ .
6- قولُه تعالى: الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ
- أفاد قولُه: وَلَا يُصْلِحُونَ أنَّ فسادَهم فَسادٌ مُصْمَتٌ ليس معه شيءٌ مِنَ الصَّلاحِ، كما تَكونُ حالُ بعضِ المفسدينَ مخلوطةً ببعضِ الصَّلاحِ ؛ فالتركيبُ مِن بابِ الطَّرْدِ والعَكسِ، وفائدتُه: التوكيدُ والمبالَغةُ ؛ فإنَّه لَمَّا كانتْ دَلالةُ قولِه: يُفْسِدُونَ دَلالةَ المطلَقِ، أتَى بقولِه: وَلَا يُصْلِحُونَ؛ فنفى عنهُمُ الصَّلاحَ، وهو نفْيٌ لمطلَقِ الصَّلاحِ؛ فيَلْزَمُ منه نفيُ الصلاحِ كائنًا ما كان؛ فلا يحصُلُ منهم صلاحٌ الْبَتَّةَ .
- وأيضًا قولُه: الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وصْفٌ موضِّحٌ لإسرافِهم؛ ولذلك عُطِفَ وَلَا يُصْلِحُونَ على يُفْسِدُونَ؛ لبيانِ خُلوصِ إفسادِهم عن مُخالَطةِ الإصلاحِ .
- وكذلك وَصَفَهم بأنَّهم يُفسِدونَ في الأرضِ؛ فالإسرافُ مَنوطٌ بالفسادِ، وعطْفُ وَلَا يُصْلِحُونَ على جُملةِ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ تأكيدٌ لوقوعِ الشيءِ بنفْيِ ضدِّه؛ فكأنَّه قيل: الذينَ إنَّما هم مُفسِدونَ في الأرضِ، فعُدِلَ عن صِيغةِ القصْرِ؛ لِئَلَّا يحتملَ أنَّه قصْرُ مُبالَغةٍ؛ لأنَّ نفيَ الإصلاحِ عنهم يؤكِّدُ إثباتَ الإفسادِ لهم؛ فيتقرَّرُ ذلك في الذِّهْنِ، ويتأكَّدُ معنى إفسادِهم بنفْيِ ضدِّه .
7- قولُه: قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ قولُه: مِنَ الْمُسَحَّرِينَ أبلَغُ في الاتِّصافِ بالتَّسحيرِ مِن أنْ يُقالَ: (إنَّما أنتَ مُسَحَّرٌ) .
8- قولُه تعالى: مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
- لَمَّا تَضمَّنَ قولُهم: إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ تكذيبَهم إيَّاهُ، أيَّدوا تكذيبَه بأنَّه بشَرٌ مِثْلُهم، وذلك -في زعْمِهم- يُنافي أنْ يكونَ رسولًا مِنَ اللهِ؛ لأنَّ الرسولَ -في زعْمِهم- لا يكونُ إلَّا مَخلوقًا خارقًا للعادةِ؛ كأنْ يكونَ ملَكًا أو جِنِّيًّا؛ فجُملةُ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا في حُكْمِ التأكيدِ بجُملةِ إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ باعتبارِ مَضمونِ الجُملتَينِ .
- قولُه تعالَى في قصَّةِ صالحٍ عليه السلامُ: مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ، حيثُ قالَه فيها بلا «واوٍ»، وقالَه في قصَّةِ شُعيبٍ عليه السلامُ بـ «واوٍ»؛ لأنَّه هُنا بَدَلٌ ممَّا قبْلَه، وهناك مَعطوفٌ على ما قبْلَه، وخُصَّتِ الأُولى بالبَدلِ؛ لأنَّ صالحًا قَلَّلَ في الخِطاب؛ِ فقَلَّلوا في الجوابِ، وأكْثَرَ شُعيبٌ في الخِطابِ؛ فأَكْثَروا في الجوابِ .
- قولُه: فَأْتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فرَّعوا على تَكذيبِه المطالَبةَ بأنْ يأتيَ بآيةٍ على صِدقِه، أي: أنْ يأتيَ بخارقِ عادةٍ يدُلُّ على أنَّ اللهَ صدَّقَه في دعوَى الرِّسالةِ عنه، وفَرَضوا صِدقَه بحرفِ (إن) الشرطيَّةِ الغالبِ استعمالُها في الشَّكِّ .
9- قولُه تعالى: قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ في الكلامِ إيجازٌ بالحَذفِ، تقديرُه: قال: آتِي بها، قالوا: ما هي؟ قال: هذه ناقةٌ... .
10- قولُه تعالى: وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ
- قولُه: عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ إنَّما عَظُمَ اليومُ لحُلولِ العذابِ فيه، ووَصْفُ اليومِ به أبلَغُ مِن وَصْفِ العذابِ؛ لأنَّ الوقتَ إذا عَظُمَ بسببِه كان موقِعُه مِنَ العِظَمِ أشدَّ؛ فهو مِن بابِ الكِنايةِ .
11- قولُه تعالى: فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ
- قولُه: فَعَقَرُوهَا أُسنِدَ العَقْرُ إلى كُلِّهم؛ لأنَّ عاقِرَها إنَّما عقَرَها برِضاهُم ورأيِهم؛ ولذلك عمَّهُمُ العذابُ .
- والفاءُ في ? فَصيحةٌ، أي: فعقَروها؛ فَرَأَوُا العذابَ فنَدِموا، فأخَذَهُمُ العذابُ .
12- قولُه تعالى: فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ
- عطَفَ قولَه: فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ بفاءِ التَّعقيبِ على نَادِمِينَ؛ لأنَّ العذابَ قد حَلَّ بهم سَريعًا .