موسوعة التفسير

سورةُ الفَجْرِ
الآيات (1-14)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ

غريب الكلمات:

وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ: الشَّفعُ: هو الزَّوجُ. والوَتْرُ والوِتْرُ: هو الفَردُ، تَقولُ: كان فَرْدًا فشَفَعْتُه، فالشَّفعُ في اللُّغةِ: اثنانِ، والوتْرُ: واحدٌ، والشَّفْعُ: ضمُّ الشَّيءِ إلى مِثْلِه، وأصلُ (شفع): يدُلُّ على مُقارَنةِ الشَّيئَيْنِ [5] يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/297)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 526)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 290)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/201) و(6/84)، ((البسيط)) للواحدي (23/487)، ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 457). .
حِجْرٍ: أ ي: عَقْلٍ، وأصلُ (حجر): يدُلُّ على المنعِ، وسُمِّيَ العَقلُ حِجرًا؛ لأنَّه يَمنَعُ الإنسانَ مِن تعاطي ما لا يليقُ به مِن الأفعالِ والأقوالِ، كما يُسَمَّى عَقلًا؛ لأنَّه يَعقِلُه عن القبائِحِ [6] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/358)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/138)، ((تفسير القرطبي)) (20/43)، ((تفسير ابن كثير)) (8/394). .
الْعِمَادِ: أي: أعمدةِ بيوتِهم مِن الشَّعرِ، أو بنيانِهم، أو القُدودِ الطِّوالِ، على تشبيهِ قاماتِهم بالأعمِدةِ، وأصلُ (عمد): يدُلُّ على استقامةٍ في الشَّيءِ [7] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/365)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/137)، ((تفسير القرطبي)) (20/46)، ((تفسير ابن جزي)) (2/ 479)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 660). .
جَابُوا الصَّخْرَ: أي: قَطَعوا صَخرَ الجِبالِ، واتَّخَذوا فيها بُيُوتًا نَحَتوها مِنَ الصَّخرِ، والجَوْبُ: القَطعُ، تقولُ: جُبتُ البِلادَ أَجوبُها: إذا قطَعْتَها، ومنه الجَوابُ؛ لأنَّه يَقطَعُ السُّؤالَ، وأصلُ (جوب): يدُلُّ على خَرقِ الشَّيءِ [8] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 526)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/491)، ((المفردات)) للراغب (ص: 210)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 451)، ((تفسير الألوسي)) (15/339). .
ذِي الْأَوْتَادِ: أي: صاحِبِ البِناءِ المُحكَمِ والمُلكِ الثَّابِتِ، والعَرَبُ تَقولُ: هم في عزٍّ ثابِتِ الأوتادِ، ومُلكٍ ثابتِ الأوتادِ، يُريدونَ أنَّه دائِمٌ شَديدٌ. وقيلَ: صاحِبُ القُوَّةِ والبَطشِ والجُنودِ والجُموعِ الكثيرةِ الَّذين يُقَوُّونَ أمْرَه، ويَشُدُّونَ مُلْكَه، كما يُقَوِّي الوَتِدُ الشَّيءَ، والوَتِدُ: عُودٌ غليظٌ شيئًا، أسْفَلُه أدَقُّ مِن أعلاه، يُدَقُّ في الأرضِ لِتُشَدَّ به أطْنابُ الخَيمةِ، وأصلُ (وتد): يدُلُّ على الثَّباتِ والرُّسوخِ [9] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 377)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 371)، ((الوسيط)) للواحدي (3/541)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 326)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/14). .
سَوْطَ عَذَابٍ: أي: نَصيبَ عذابٍ أو: شِدَّتَه؛ لأنَّ السَّوطَ كان عندَهم نهايةَ ما يُعَذَّبُ به، والسَّوطُ كَلِمةٌ تقولُها العَرَبُ لكُلِّ نَوعٍ مِن أنواعِ العذابِ، وأصلُ ذلك أنَّ السَّوطَ هو عذابُهم الَّذي يُعَذِّبونَ به، فجرى لكُلِّ عذابٍ؛ إذ كان فيه عندَهم غايةُ العذابِ، وأصلُ (سوط): يدُلُّ على مُخالَطةِ الشَّيءِ الشَّيءَ [10] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/261)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 272)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/115)، ((المفردات)) للراغب (ص: 434)، ((تفسير القرطبي)) (20/49). .
لَبِالْمِرْصَادِ: أي: على طريقِ العِبادِ لا يَفوتُه أحدٌ منهم، يرصُدُ عمَلَ كُلِّ إنسانٍ؛ حتَّى يُجازيَه به، والمَرْصَدُ والمِرْصادُ: الطَّريقُ، أو: المِرْصادُ: الموضِعُ الَّذي يُرصَدُ النَّاسُ فيه، وأصلُ (رصد): يدُلُّ على التَّهَيُّؤِ لِرِقْبةِ شَيءٍ [11] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 457)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/400)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (3/745)، ((المفردات)) للراغب (ص: 355)، ((تفسير القرطبي)) (20/50). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ
إِرَمَ: بَدَلٌ مِن «عادٍ» مجرورٌ، وعلامةٌ جَرِّه الفتحةُ نيابةً عن الكسرةِ؛ لأنَّه ممنوعٌ مِن الصَّرفِ للعَلَميَّةِ والتَّأنيثِ. «ذَاتِ» : نَعتٌ لـ إِرَمَ مجرورٌ، وعلامةُ جَرِّه الكَسرةُ.
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ
الَّذِينَ: اسمٌ موصولٌ مبنيٌّ في محَلِّ جَرٍّ نَعتٌ للجَمعِ المتقَدِّمِ مِن عادٍ وثمودَ وفِرعَونَ، ويجوزُ أن يكونَ نعتًا لفِرعَونَ؛ لأنَّ المرادَ هو وقومُه، واكتفى بذِكْرِه عن ذِكْرِهم، ويجوزُ قَطْعُه عن الوَصفِ للذَّمِّ، فيكونُ مَنصوبَ المحَلِّ على إضمارِ «أذُمُّ»، أو مَرفوعَه على إضمارِ «هم» [12] يُنظَر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/781)، ((تفسير الألوسي)) (15/339)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (30/321)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/321). .

المعنى الإجمالي:

افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ مُقسِمًا بالفَجْرِ المعروفِ، وبلَيالٍ عَشْرٍ، وهي عَشْرُ ذي الحِجَّةِ، وبالشَّفعِ والوَتْرِ، وباللَّيلِ وَقتَ سَيْرِه وسَرَيانِه، فهل في قَسَمِ اللهِ بتلك الأشياءِ مَقنَعٌ وكِفايةٌ لِذي عَقلٍ ولُبٍّ؛ فيَنزَجِرَ ويَرتَدِعَ؟
ثمَّ يُخبِرُ اللهُ سبحانَه وتعالى عمَّا أنزله بالمكذِّبينَ مِن العذابِ، فيقولُ: ألَمْ تَعلَمْ -يا محمَّدُ- كيف انتَقَم رَبُّك مِن قَبيلةِ عادٍ؛ إرَمَ ذاتِ الأعمدةِ، الَّتي لم يُخلَقْ ما يُماثِلُها في سائِرِ البُلدانِ؟ وكيف انتَقَم اللهُ كذلك مِن قَبيلةِ ثمودَ الَّذين شَقُّوا الجِبالَ في وادِيهم، وصَنَعوا فيها بُيوتًا؟ وكيف انتَقَم اللهُ كذلك مِن فِرعَونَ صاحِبِ الأوتادِ؟
هؤلاء الذَّين سَلَف ذِكْرُهم مِن عادٍ وثَمودَ وفِرعونَ قد تجاوَزوا حَدَّهم في الظُّلمِ والطُّغيانِ، فأكثَروا في البِلادِ العمَلَ بالكُفْرِ والعِصيانِ؛ فأنزَلَ رَبُّك عليهم -يا محمَّدُ- عَذابَه الشَّديدَ؛ فهَلَكوا جَميعًا، إنَّ رَبَّك مُراقِبٌ لأعمالِ الطَّاغينَ المُفسِدينَ في الدُّنيا، وسيُهلِكُهم.

تفسير الآيات:

وَالْفَجْرِ (1).
أي: أُقسِمُ بالفَجْرِ، وهو وقتُ ابتداءِ ظُهورِ النُّورِ في الأُفُقِ الشَّرقيِّ قبْلَ طُلوعِ الشَّمسِ [13] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/344)، ((تفسير ابن جزي)) (2/478)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 28)، ((تفسير ابن كثير)) (8/390)، ((تفسير الثعالبي)) (5/585)، ((تفسير السعدي)) (ص: 923)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/313). قال ابنُ عثيمين: (الفجر... بيْنَه وبْينَ طُلوعِ الشَّمسِ ما بيْنَ ساعةٍ واثنتَينِ وثلاثينَ دقيقةً، إلى ساعةٍ وسَبْعَ عَشْرةَ دقيقةً، ويختَلِفُ باختلافِ الفُصولِ؛ فأحيانًا تَطولُ الحِصَّةُ ما بيْن الفَجرِ وطُلوعِ الشَّمسِ، وأحيانًا تَقصُرُ حَسَبَ الفُصولِ). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 186). وقال ابن جُزَي: (أقسَمَ اللهُ تعالى بالفَجْرِ، وهو الطَّالِعُ كُلَّ يومٍ، كما أقسَمَ بالصُّبحِ. وقيل: أراد صلاةَ الفَجرِ. وقيل: أراد النَّهارَ كُلَّه. وقيل: فَجْرَ يومِ الجُمُعةِ، وقيل: فَجْرَ يومِ النَّحرِ، وقيل: فَجْرَ ذي الحِجَّةِ، ولا دليلَ على هذه التَّخصيصاتِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/478). ممَّن اختار القَولَ المذكورَ في الفَجْرِ، وأنَّه الفَجْرُ المعروفُ الطَّالِعُ كُلَّ يومٍ، وهو الصُّبحُ: السَّمَرْقَنديُّ، والواحِديُّ، والزَّمَخْشَريُّ، والرَّسْعَنيُّ، وابنُ جُزَي، وجلالُ الدِّينِ المحَلِّيُّ، والعُلَيميُّ، وأبو السُّعودِ، والشَّوكانيُّ، والألوسيُّ، والقاسميُّ، وابنُ عاشور، وابنُ عُثيمين. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/577)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1199)، ((تفسير الزمخشري)) (4/746)، ((تفسير الرسعني)) (8/607)، ((تفسير ابن جزي)) (2/478)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 806)، ((تفسير العليمي)) (7/354)، ((تفسير أبي السعود)) (9/153)، ((تفسير الشوكاني)) (5/526)، ((تفسير الألوسي)) (15/334)، ((تفسير القاسمي)) (9/464)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/312)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 186). قال الواحديُّ: (وَالْفَجْرِ قال ابنُ عَبَّاسٍ: فَجْرُ النَّهارِ. وهو روايةُ أبى نَصرٍ وأبي صالحٍ، وقَولُ عِكْرِمةَ، وزَيدِ بنِ أسلَمَ، ومحمَّدِ بنِ كَعبٍ، والأسْوَدِ بنِ يَزيدَ، قالوا: هو انفِجارُ الصُّبحِ مِن كُلِّ يومٍ). ((البسيط)) (23/483). وقال ابنُ كثيرٍ: (أمَّا الفَجْرُ فمَعروفٌ، وهو: الصُّبحُ. قاله عليٌّ، وابنُ عبَّاسٍ، ومجاهِدٌ، وعِكْرِمةُ، والسُّدِّيُّ). ((تفسير ابن كثير)) (8/390). وقال الرَّازي: (أقسَمَ اللهُ تعالى به لِما يَحصُلُ به مِن انقِضاءِ اللَّيلِ وظُهورِ الضَّوءِ، وانتِشارِ النَّاسِ وسائِرِ الحيواناتِ مِن الطَّيرِ والوُحوشِ في طَلَبِ الأرزاقِ، وذلك مُشاكِلٌ لنُشورِ الموتى مِن قُبورِهم، وفيه عِبرةٌ لِمَن تأمَّل، وهذا كقَولِه: وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ [المدثر: 34] ، وقال في مَوضِعٍ آخَرَ: وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ [التكوير: 18] ، وتمدَّحَ في آيةٍ أُخْرى بكَونِه خالِقًا له، فقال: فَالِقُ الْإِصْبَاحِ [الأنعام: 96] ). ((تفسير الرازي)) (31/148). وقيل: إنَّه (فَجرُ يَومٍ مُعَيَّنٍ، وعلى هذا القَولِ ذَكَروا وُجوهًا: الأوَّلُ: أنَّه فَجْرُ يَومِ النَّحْرِ؛ وذلك لأنَّ أمْرَ المَناسِكِ مِن خَصائِصِ مِلَّةِ إبراهيمَ، وكانت العَرَبُ لا تَدَعُ الحَجَّ، وهو يومٌ عظيمٌ يأتي الإنسانُ فيه بالقُربانِ، كأنَّ الحاجَّ يريدُ أن يتقرَّبَ بذَبْحِ نَفْسِه، فلمَّا عَجَز عن ذلك فَدى نَفْسَه بذلك القُربانِ، كما قال تعالى: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات: 107] . الثَّاني: أراد فَجْرَ ذي الحِجَّةِ؛ لأنَّه قَرَن به قَولَه: وَلَيَالٍ عَشْرٍ، ولأنَّه أوَّلُ شَهرِ هذه العِبادةِ المُعَظَّمةِ. الثَّالِثُ: المرادُ: فَجْرُ المحَرَّمِ؛ أقسَمَ به لأنَّه أوَّلُ يَومٍ مِن كُلِّ سَنةٍ، وعِندَ ذلك يحدُثُ أُمورٌ كثيرةٌ ممَّا يتكرَّرُ بالسِّنينَ؛ كالحَجِّ والصَّومِ والزَّكاةِ، واستِئنافِ الحِسابِ بشُهورِ الأهِلَّةِ). ((تفسير الرازي)) (31/148). وممَّن خَصَّص الفَجْرَ هنا بفَجرِ يومِ النَّحرِ، وهو العاشِرُ مِن شَهرِ ذي الحِجَّةِ: مقاتِلُ بنُ سُلَيْمانَ، والبِقاعيُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/687)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/21). قال ابنُ كثيرٍ: (عن مَسروقٍ، ومجاهِدٍ، ومحمَّدِ بنِ كَعبٍ: المرادُ به فَجْرُ يَومِ النَّحْرِ خاصَّةً، وهو خاتِمةُ اللَّيالي العَشْرِ). ((تفسير ابن كثير)) (8/390). وقال الواحديُّ: (قال [أي: ابنُ عَبَّاسٍ] في روايةِ العَوْفيِّ: صلاةُ الفَجْرِ. وقال في روايةِ عُثمانَ بنِ مُحَيْصِنٍ: هو فَجْرُ المحرَّمِ، وهو قَولُ قَتادةَ، قال: أقسَمَ بأوَّلِ يومٍ مِنَ المحرَّمِ تنفَجِرُ منه السَّنَةُ. وقال في روايةِ عَطاءٍ: يريدُ صَبيحةَ يَومِ النَّحْرِ. قال الضَّحَّاكُ: هو فَجْرُ ذي الحِجَّةِ). ((البسيط)) (23/484، 485). قال ابن رجب: (وعلى جميعِ هذه الأقوالِ فالعَشْرُ يَشتَمِلُ على الفَجْرِ الَّذي أقسَمَ اللهُ به). ((لطائف المعارف)) (ص: 268). .
وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2).
أي: وأُقسِمُ بلَيالٍ عَشْرٍ، وهي عَشْرُ ذي الحِجَّةِ [14] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/348)، ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/386)، ((تفسير ابن كثير)) (8/390)، ((تفسير السعدي)) (ص: 923)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 188، 189). نقل ابنُ جريرٍ إجماعَ الحُجَّةِ مِن أهلِ التَّأويلِ على أنَّها عَشرُ ذي الحِجَّةِ، ونقله الواحديُّ عن أكثَرِ المُفَسِّرينَ، وذهب إليه: ابنُ كثير، وابنُ رجبٍ ونَقَله عن جمهورِ المُفَسِّرينَ، واختاره البِقاعيُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/348)، ((الوسيط)) للواحدي (4/478)، ((تفسير ابن كثير)) (8/390)، ((لطائف المعارف)) لابن رجب (ص: 268)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/22)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/313). قال الواحِديُّ: (وَلَيَالٍ عَشْرٍ وهو عَشْرُ ذي الحِجَّةِ في قَولِ جُمهورِ المفَسِّرينَ: عِكْرِمةَ، ومُقاتِلٍ، والكَلبيِّ، ومَسروقٍ، والضَّحَّاكِ، ومجاهِدٍ، وقَتادةَ، والسُّدِّيِّ، واختيارُ الفَرَّاءِ، والزَّجَّاجِ، قالوا: هي عَشْرُ الأَضحى). ((البسيط)) (23/485، 486). ويُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/687)، ((معاني القرآن)) للفراء (3/259)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/321). وقال ابنُ رَجَبٍ: (هذا الصَّحيحُ الَّذي عليه جمهورُ المفَسِّرينَ مِن السَّلَفِ وغَيرِهم، وهو الصَّحيحُ عن ابنِ عَبَّاسٍ، رُوِيَ عنه مِن غَيرِ وَجهٍ. والرِّوايةُ عنه: «أنَّه عَشْرُ رَمَضانَ» إسنادُها ضَعيفٌ). ((لطائف المعارف)) (ص: 268). وقيل: هي العَشْرُ الأواخِرُ مِن رَمَضانَ. وممَّن ذهب إليه: ابنُ العَرَبيِّ المالِكيُّ، وابنُ عُثيمين. يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/386)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 188، 189). ويُنظر أيضًا: ((تفسير السعدي)) (ص: 923). .
وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3).
أي: وأُقسِمُ بالشَّفعِ، وأُقسِمُ بالوَتْرِ [15] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/259)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 526)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1199)، ((تفسير أبي حيان)) (10/470)، ((تفسير ابن كثير)) (8/391)، ((تفسير الشوكاني)) (5/527). قال الزمخشري: (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ: إمَّا الأشياءُ كُلُّها شَفْعُها ووَتْرُها، وإمَّا شَفعُ هذه اللَّيالي ووَتْرُها، ويجوزُ أن يكونَ شَفعُها يومَ النَّحرِ، ووَتْرُها يومَ عَرَفةَ؛ لأنَّه تاسِعُ أيَّامِها، وذاك عاشِرُها). ((تفسير الزمخشري)) (4/746). وممَّن ذهب إلى القَولِ الأوَّلِ -أي: أنَّ الشَّفعَ والوَتْرَ يَعُمُّ كلَّ الأشياءِ شَفْعَها ووَتْرَها-: ابنُ جريرٍ، والشَّوكانيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/355)، ((تفسير الشوكاني)) (5/527). وممَّن قال بنَحوِ هذا القَولِ مِنَ السَّلَفِ، وأنَّ المرادَ القَسَمُ بالخَلقِ، فكُلُّ شَيءٍ خَلَق اللهُ شَفْعٌ ووَتْرٌ: مجاهِدٌ، والحَسَنُ، وابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/352)، ((تفسير الثعلبي)) (10/193). قال ابنُ جَريرٍ: (والصَّوابُ مِنَ القَولِ في ذلك أن يُقالَ: إنَّ اللهَ تعالى ذِكْرُه أقسَمَ بالشَّفْعِ والوَتْرِ، ولم يَخْصُصْ نَوعًا مِن الشَّفْعِ ولا مِنَ الوَتْرِ دُونَ نَوعٍ بخَبَرٍ ولا عَقلٍ، فكُلُّ شَفعٍ ووَتْرٍ فهو ممَّا أقسَمَ به، ممَّا قال أهلُ التَّأويلِ إنَّه داخِلٌ في قَسَمِه هذا؛ لعُمومِ قَسَمِه بذلك). ((تفسير ابن جرير)) (24/355، 356). وممَّن ذهب إلى أنَّ المرادَ بالشَّفْعِ يَومُ النَّحرِ، وبالوَتْرِ يَومُ عَرَفةَ: الفرَّاءُ، وابنُ قُتَيْبةَ، والزَّجَّاجُ، والهَرَويُّ، والواحِديُّ ونَسَبَه لجُمهورِ المفَسِّرينَ. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/259)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 526)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/321)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (3/1014)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1199)، ((البسيط)) للواحدي (23/490). وممَّن قال بهذا القَولِ مِنَ السَّلَفِ: ابنُ عَبَّاسٍ في رِوايةٍ عنه، وعِكْرِمةُ، والضَّحَّاكُ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/349). وقيل: الشَّفْعُ هو الخَلْقُ، والوَتْرُ هو اللهُ. وممَّن اختاره: الكرمانيُّ، والعُلَيميُّ، والقاسميُّ. يُنظر: ((تفسير الكرماني)) (2/1337)، ((تفسير العليمي)) (7/354)، ((تفسير القاسمي)) (9/465). وقال البِقاعيُّ: (وَالشَّفْعِ أي: لِمَن تعَجَّل في يومَينِ وَالْوَتْرِ أي: لِمن أتَمَّ. قاله ابنُ الزُّبَيرِ). ((نظم الدرر)) (22/22). وقيل غيرُ ذلك في معنى الشَّفعِ والوتْرِ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/438). قال ابنُ رجبٍ: (وقد قيلَ في الشَّفْعِ والوتْرِ أقوالٌ كثيرةٌ، وأكثَرُها لا يَخرُجُ عن أن يكونَ العَشْرُ أو بَعْضُه مُشتَمِلًا على الشَّفْعِ والوَتْرِ أو أحَدِهما). ((لطائف المعارف)) (ص: 268). وقال ابنُ القَيِّمِ: (ذَكَر سُبحانَه مِن جُملةِ هذه الأقسامِ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ؛ إذ هذه الشَّعائِرُ المعَظَّمةُ منها شَفعٌ ومنها وَتْرٌ في الأمكِنةِ والأزمِنةِ والأعمالِ) وذَكَر الشَّفعَ منها والوتْرَ، ثمَّ قال: (وروى مجاهِدٌ عن ابنِ عَبَّاسٍ: الوترُ: آدَمُ، وشُفِعَ بزَوْجَتِه حَوَّاءَ. وقال في روايةٍ أخرى: الشَّفعُ: آدَمُ وحَوَّاءُ، والوترُ: اللهُ وَحْدَه. وعنه روايةٌ ثالِثةٌ: الشَّفعُ: يَومُ النَّحرِ، والوترُ: اليومُ الثَّالِثُ. وقال عِمْرانُ بنُ حُصَينٍ وقَتادةُ: الشَّفعُ والوترُ: هي الصَّلاةُ... وقال عَطيَّةُ العَوْفيُّ: الشَّفعُ: الخَلْقُ، قال اللهُ تعالى: وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا [النبأ: 8]، والوَتْرُ: هو اللهُ. وهذا قَولُ الحَكَمِ، قال: كُلُّ شَيءٍ شَفْعٌ، واللهُ وَتْرٌ. وقال أبو صالحٍ: خلَقَ اللهُ مِن كُلِّ شَيءٍ زَوْجَينِ اثنَينِ، واللهُ وَتْرٌ واحِدٌ. وهذا قَولُ مجاهِدٍ ومَسروقٍ. وقال الحسَنُ: الشَّفعُ والوترُ: العَدَدُ كُلُّه مِن شَفعٍ ووَترٍ. وقال ابنُ زَيدٍ: الشَّفعُ والوترُ: الخَلْقُ كُلُّه مِن شَفعٍ ووَترٍ. وقال مقاتِلٌ: الشَّفْعُ: الأيَّامُ واللَّيالي، والوَترُ: اليَومُ الَّذي لا لَيلةَ بَعْدَه، وهو يومُ القيامةِ). ثمَّ قال ابنُ القَيِّمِ: (وذُكِرَت أقوالٌ أُخَرُ هذه أصولُها، ومدارُها كلِّها على قولَينِ: أحَدُهما: أنَّ الشَّفْعَ والوتْرَ نَوعانِ للمخلوقاتِ والمأموراتِ. والثَّاني: أنَّ الوَتْرَ الخالِقُ، والشَّفْعَ المخلوقُ، وعلى هذا القَولِ فيكونُ قد جَمَع في القَسَمِ بيْنَ الخالِقِ والمخلوقِ). ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 30) فما بَعْدَها. .
وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4).
أي: وأُقسِمُ باللَّيلِ وَقتَ سَيْرِه وسَرَيانِه [16] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/356)، ((الوسيط)) للواحدي (4/480)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 30، 31)، ((تفسير ابن كثير)) (8/393، 394)، ((تفسير السعدي)) (ص: 923)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/315)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 190). ممَّن اختار أنَّ المرادَ باللَّيلِ: العُمومُ، أي: كُلُّ ليلةٍ، دُونَ تَخصيصٍ بلَيلةٍ مُعَيَّنةٍ: ابنُ جريرٍ، والزَّجَّاجُ، والواحِديُّ ونَسَبه للأكثَرينَ، وابنُ الجوزيِّ، والرَّسْعَنيُّ، والقُرْطبيُّ، وابنُ جُزَي، والخازِنُ، والشَّوكانيُّ، والسعديُّ، وابنُ عاشور، وابنُ عُثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/ 356)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/321)، ((الوسيط)) للواحدي (4/480)، ((البسيط)) للواحدي (23/495)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/439)، ((تفسير الرسعني)) (8/611)، ((تفسير القرطبي)) (20/42)، ((تفسير ابن جزي)) (2/478)، ((تفسير الخازن)) (4/424)، ((تفسير الشوكاني)) (5/528)، ((تفسير السعدي)) (ص: 923)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/315)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 190). قال الرَّازيُّ: (أكثَرُ المفَسِّرينَ على أنَّه ليس المرادُ منه ليلةً مخصوصةً، بل العُمومُ، بدليلِ قَولِه: وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ). ((تفسير الرازي)) (31/150). وقيل: المرادُ باللَّيلِ هنا لَيلةُ الأضْحى. وممَّن ذهب إلى هذا: مقاتِلُ بنُ سُلَيمانَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/687). وقال ابنُ عَطِيَّةَ: (قال مجاهِدٌ وعِكْرِمةُ والكَلبيُّ: أراد بهذا لَيلةَ جَمعٍ [أي: ليلةَ مُزدَلِفةَ]؛ لأنَّه يُسْرى فيها). ((تفسير ابن عطية)) (5/477). ويُنظر: ((البسيط)) للواحدي (23/495). وقيل: المرادُ: ليلةُ النَّفرِ إذا خرَج الحاجُّ إلى بلَدِه. وممَّن ذهب إلى هذا: البِقاعيُّ، قال: (وَاللَّيْلِ أي: مِن لَيلةِ النَّفْرِ إِذَا يَسْرِ أي: يَنقضي كما ينقضي لَيلُ الدُّنيا وظلامُ ظُلمِها، فيَخلُفُه الفَجْرُ ويسري فيه الَّذين آبُوا إلى اللهِ راجِعينَ إلى ديارِهم بعدَ حَطِّ أوزارِهم، وقد رجع آخِرُ القَسَمِ على أوَّلِه). ((نظم الدرر)) (22/22، 23). قال ابنُ الجوزيِّ: (وفي قولِه عزَّ وجلَّ: وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ قَولانِ: أحَدُهما: أنَّ الفِعلَ له، فيه قولانِ: أحَدُهما: إذا يَسري ذاهبًا، قاله الجُمهورُ، وهو اختيارُ الزَّجَّاجِ. والثَّاني: إذا يَسْري مُقبِلًا، قاله قتادةُ. والقَولُ الثَّاني: أنَّ الفِعلَ لغَيرِه، والمعنى: إذا يُسْرى فيه، كما يقالُ: لَيلٌ نائمٌ، أي: يُنامُ فيه، قاله الأخفَشُ، وابنُ قُتَيبةَ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/439). ويُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/321)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 526)، ((تفسير الثعلبي)) (10/195). وقال ابنُ كثيرٍ: (قَولُه: وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ قال العَوْفيُّ عن ابنِ عبَّاسٍ: أي: إذا ذهب. وقال عَبدُ اللهِ ابنُ الزُّبَيرِ: وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ حتَّى يُذهِبَ بَعْضُه بَعضًا. وقال مجاهِدٌ، وأبو العاليةِ، وقتادةُ، ومالِكٌ عن زَيدِ بنِ أسلَمَ وابنِ زَيدٍ: وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ إذا سار. وهذا يمكِنُ حَمْلُه على ما قاله ابنُ عَبَّاسٍ، أي: ذهب. ويحتَمِلُ أن يكونَ المرادُ: إذا سار، أي: أقبَلَ. وقد يُقالُ: إنَّ هذا أنسَبُ؛ لأنَّه في مقابلةِ قَولِه: وَالْفَجْرِ؛ فإنَّ الفَجْرَ هو إقبالُ النَّهارِ وإدبارُ اللَّيلِ، فإذا حُمِلَ قَولُه: وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ على إقبالِه، كان قَسَمًا بإقبالِ اللَّيلِ وإدبارِ النَّهارِ، وبالعَكْسِ، كقَولِه: وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ [التكوير:17، 18]، وكذا قال الضَّحَّاكُ: وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ أي: يجري). ((تفسير ابن كثير)) (8/393). .
هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5).
أي: هل في قَسَمِ اللهِ بتلك الأشياءِ مَقنَعٌ وكِفايةٌ لِذي عَقلٍ ولُبٍّ؛ فيَنزَجِرَ ويَرتَدِعَ؟ فإنَّ مَنْ كان كذلك عَلِمَ أنَّ ما أقسَمَ اللهُ به أمورٌ عَظيمةٌ فيها عجائِبُ ودلائِلُ على الحَقِّ، فيتفَكَّرُ فيها، ويعتَبِرُ بها [17] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/358)، ((الوسيط)) للواحدي (4/481)، ((تفسير ابن عطية)) (5/477)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/436)، ((تفسير السعدي)) (ص: 923). قال ابنُ القيِّم: (لَمَّا تضَمَّن هذا القَسَمُ ما جاء به إبراهيمُ ومحمَّدٌ صلَّى اللهُ عليهما وسلَّم، كان في ذلك ما دَلَّ على المقسَمِ عليه؛ ولهذا عقَّب القَسَمَ بقَولِه تعالى: هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ؛ فإنَّ عَظَمةَ هذا المقسَمِ به يُعرَفُ بالنُّبُوَّةِ، وذلك يحتاجُ إلى حِجْرٍ يَحجُرُ صاحِبَه عن الغَفلةِ واتِّباعِ الهوى، ويحمِلُه على اتِّباعِ الرُّسُلِ؛ لئلَّا يُصيبَه ما أصاب مَن كَذَّبَ الرُّسُلَ؛ كعادٍ وفِرعَونَ وثمودَ). ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 32). قيل: جوابُ القَسَمِ قَولُه تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر: 14]. وممَّن ذهب إلى هذا: الواحديُّ، وضعَّفه ابنُ القيِّم. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/481)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 28). قال الزمخشري: (المقسَمُ عليه محذوفٌ، وهو: لَيُعَذَّبُنَّ. يدُلُّ عليه قوله: أَلَمْ تَرَ إلى قَولِه: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ). ((تفسير الزمخشري)) (4/747). وقال السعدي: (الظَّاهِرُ أنَّ المُقسَمَ به هو المقسَمُ عليه، وذلك جائِزٌ مُستعمَلٌ إذا كان أمرًا ظاهِرًا مُهِمًّا، وهو كذلك في هذا الموضِعِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 923). .
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6).
أي: ألم تَعلَمْ -يا محمَّدُ- كيف انتَقَم رَبُّك مِن قَبيلةِ عادٍ [18] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/361)، ((تفسير القرطبي)) (20/44)، ((تفسير ابن كثير)) (8/394). قال ابن عطية: (عادٌ قبيلةٌ، لا خِلافَ في ذلك). ((تفسير ابن عطية)) (5/477). ممَّن اختار القولَ المذكورَ في المخاطَبِ، وأنَّ الخِطابَ للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم-: ابنُ جرير، والنسفي، والخلوتي. ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/361)، ((تفسير النسفي)) (3/638)، ((تفسير الخلوتي)) (10/422). وقال القرطبي، والخازن، والشربيني: الخِطابُ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، لكنَّ المرادَ به العمومُ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (20/44) ((تفسير الخازن)) (4/424)، ((تفسير الشربيني)) (4/530). وقال ابن عثيمين: (الخِطابُ هنا لكُلِّ مَن يُوَجَّهُ إليه هذا الكِتابُ العزيزُ، وهم البَشَرُ كُلُّهم، بل والجِنُّ أيضًا. ألم تَرَ أيُّها المخاطَبُ). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 190). وقال الشوكاني: (الخطابُ للنبيِّ، أو لكلِّ مَن يصلحُ له). ((تفسير الشوكاني)) (5/529). ممَّن اختار القَولَ المذكورَ، وأنَّ الرُّؤيةَ هنا بمعنى العِلْمِ: السَّمرقندي، والنَّسفي، والخازنُ، والكوراني، وأبو السُّعودِ، والقِنَّوْجي، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/578)، ((تفسير النسفي)) (3/638)، ((تفسير الخازن)) (4/424)، ((تفسير الكوراني)) (ص: 384)، ((تفسير أبي السعود)) (9/154)، ((تفسير القِنَّوْجي)) (15/220)، ((تفسير القاسمي)) (9/466). وقال الخازن: (قوله عزَّ وجلَّ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ أي: ألم تعلَمْ، وإنَّما أُطلِق لفظُ الرُّؤيةِ على العِلمِ؛ لأنَّ أخبارَ عادٍ وثمودَ وفِرعونَ كانت معلومةً عندَهم). ((تفسير الخازن)) (4/424). وجوَّز ابنُ عاشور أنْ تكونَ الرُّؤيةُ بَصَرِيَّةً، والمعنَى: ألم تَرَ آثارَ ما فَعَل رَبُّكَ بعادٍ. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/318). ؟!
كما قال تعالى: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ [الحاقة: 6 - 8].
إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7).
أي: إرمَ ذاتِ الأعمدةِ [19] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/364-366)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1200)،  ((تفسير ابن جزي)) (2/479)، ((تفسير ابن كثير)) (8/394)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 191). قيل: إِرَمَ: هي اسمُ القبيلةِ كُلِّها. وممَّن ذهب إلى هذا: الزمخشريُّ، والعُلَيمي، والقاسمي، والسعدي، وابن عاشور، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/747)، ((تفسير العليمي)) (7/356)، ((تفسير القاسمي)) (9/466)، ((تفسير السعدي)) (ص: 923)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/318)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 191). وذكر ابنُ عَطِيَّةَ أنَّ ممَّا يؤيِّدُ أنَّ إِرَمَ القَبيلةُ بعَينِها: قولَ اليهودِ للعَرَبِ: (سيَخرُجُ فينا نَبيٌّ نتَّبِعُه نَقْتُلُكم معه قَتْلَ عادِ إِرَمَ)، فهذا يقتضي أنَّها قبيلةٌ، وذكَرَ أنَّه يتَّجِه على مَن قرأ بِعَادٍ * إِرَمَ أن يكون إِرَمَ أبًا لعادٍ أو جَدًّا غلب اسمُه على القبيلةِ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/478). وممَّن قال: إنَّ إرَمَ هو جَدُّ عادٍ: ابنُ إسحاقَ، والزَّمخشريُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((سيرة ابن هشام)) (1/7)، ((تفسير الزمخشري)) (4/747)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/318). قال الزَّمخشريُّ: (قيل لعَقِبِ عادِ بنِ عَوْصِ بنِ إرَمَ بنِ سامِ بنِ نوحٍ: عادٌ، كما يقالُ لبنى هاشِمٍ: هاشِمٌ. ثمَّ قيل للأوَّلينَ منهم عادٌ الأُولى وإرَمُ؛ تَسميةً لهم باسْمِ جَدِّهم). ((تفسير الزمخشري)) (4/747). وقال السَّمعانيُّ: (قَولُه تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ هو أبو عادٍ؛ لأنَّهم قالوا: هو عادُ ابنُ إرِمَ بنِ عوصِ بنِ سامِ بنِ نوحٍ). ((تفسير السمعاني)) (6/219). وقال الشِّنقيطيُّ: (عادُ بنُ إرَمَ، وقيل: ابنُ عَوصِ بنِ إرَمَ. فهو مِن أولادِ إرَمَ. وإرَمُ: اسمُ رَجُلٍ تُسَمَّى به القبيلةُ، وعادٌ مِن ذرِّيَّتِه؛ ولذا قال: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، ثمَّ أبدَلَ منها فقال: إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ). ((العذب النمير)) (3/475). وقيل: إِرَمَ: هي اسمُ قبيلةٍ مِن عادٍ. وممَّن ذهب إلى هذا: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/687)، ((تفسير ابن جرير)) (24/364). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن كثير)) (8/395). وقال ابنُ عطيَّةَ: (قال جُمهورُ المفَسِّرينَ: إِرَمُ مدينةٌ لهم عظيمةٌ كانت على وَجْهِ الدَّهْرِ باليَمَنِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/477). وقيل غَيرُ ذلك. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (5/249)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/439). وذَاتِ الْعِمَادِ: قيل: معناها: ذاتُ الأعمِدةِ السَّيَّارةِ الَّتي يَنصِبونَ بها خيامَهم أثناءَ تنقُّلِهم. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ جريرٍ، وابنُ كثيرٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/366)، ((تفسير ابن كثير)) (8/394). وممَّن قال بنَحوِ هذا القَولِ مِنَ السَّلَفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، ومجاهِدٌ في روايةٍ عنه، وقتادةُ، والكَلبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/365)، ((البسيط)) للواحدي (23/501)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/440)، ((تفسير ابن كثير)) (8/395). وقيل: المرادُ: ذاتُ الطُّولِ؛ لأنَّ قَومَ عادٍ كانوا طِوالَ القامةِ. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: مقاتِلُ بنُ سُلَيمانَ، وأبو عُبَيدةَ، والزَّجَّاجُ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/687)، ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/297)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/322). وممَّن قال بهذا القَولِ مِنَ السَّلَفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، ومجاهِدٌ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/365)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/440)، ((تفسير ابن كثير)) (8/395). وقيل: المرادُ: ذاتُ القُوَّةِ والشِّدَّةِ. وممَّن ذهب إليه: السعديُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 923)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/319). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الماوردي)) (6/268). ومِمَّن قال بهذا القَولِ مِنَ السَّلَفِ: الضَّحَّاكُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/366)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/440). والأقوالُ الثَّلاثةُ السَّابِقةُ في ذَاتِ الْعِمَادِ بِناءً على أنَّ إرَمَ قبيلةٌ. وقال البِقاعيُّ: (الْعِمَادِ أي: البناءِ العالي الثَّابِتِ بالأعمِدةِ الَّتي لم يكُنْ في هذه الدَّارِ مِثْلُها). ((نظم الدرر)) (22/27). ويُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 191). وممَّن قال بنَحْوِ هذا القَولِ مِنَ السَّلَفِ: ابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/366)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/440). وهذا القَولُ بناءً على أنَّ إرَمَ مدينةٌ. قال ابنُ جُزَي: (مَن قال: إِرَمُ: قَبيلةٌ، قال: العِمادُ أعمِدَةُ بُنيانِهم، أو أعمِدةُ بُيوتِهم مِنَ الشَّعَرِ؛ لأنَّهم كانوا أهلَ عَمودٍ، وقال ابنُ عَبَّاسٍ: ذلك كنايةٌ عن طُولِ أبدانِهم. ومَن قال: إِرَمُ: مَدينةٌ، فالعِمادُ الحِجارةُ الَّتي بُنِيَت بها، وقيل: القُصورُ والأبراجُ). ((تفسير ابن جزي)) (2/479). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/478)، ((تفسير الرازي)) (31/153). وقال الرَّسْعَنيُّ: (إنْ قُلْنا: إنَّ إرَمَ تَسميةٌ لعادٍ باسمِ جَدِّهم... وأنَّه عَطْفُ بيانٍ، كان قَولُه: ذَاتِ الْعِمَادِ وَصْفًا لهم بالطُّولِ المُفرِطِ...، وإنْ قُلْنا: إنَّ إرَمَ اسْمُ بَلْدَتِهم -وهو قَولُ كَثيرٍ مِنَ المفَسِّرينَ- كان قَولُه: ذَاتِ الْعِمَادِ صِفةً لبَلْدَتِهم، على معنى: ذاتِ الأساطينِ، أو ذاتِ البناءِ الرَّفيعِ، وقد اختلَفوا فيها؛ فقال سَعيدُ بنُ المسَيِّبِ وعِكْرِمةُ وغَيرُهما: هي دِمَشْقُ. وقال محمَّدُ بنُ كَعبٍ: الإسكَنْدريَّةُ. وقيل: هي المدينةُ الَّتي بناها شدَّادُ بنُ عادٍ). ((تفسير الرسعني)) (8/611). قال ابنُ كثيرٍ: (ومَن زعم أنَّ المرادَ بقَولِه: إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ مدينةٌ إمَّا دِمَشْقُ...، أو إسكَنْدريَّة... أو غيرُهما، ففيه نظَرٌ؛ فإنَّه كيف يلتَئِمُ الكلامُ على هذا: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ إن جعل ذلك بدلًا أو عَطْفَ بيانٍ؟! فإنَّه لا يتَّسِقُ الكلامُ حينَئذٍ. ثمَّ المرادُ إنَّما هو الإخبارُ عن إهلاكِ القَبيلةِ المُسَمَّاةِ بعادٍ، وما أحَلَّ اللهُ بهم مِن بأسِه الَّذي لا يُرَدُّ، لا أنَّ المرادَ الإخبارُ عن مدينةٍ أو إقليمٍ!). ((تفسير ابن كثير)) (8/395). .
كما قال الله تعالى: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [الشعراء: 128-129] .
الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8).
أي: الَّتي لم يُخلَقْ ما يُماثِلُها في سائِرِ البُلدانِ [20] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/367)، ((تفسير القرطبي)) (20/46)، ((تفسير ابن كثير)) (8/395)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/27)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/319)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 191). قال الماوَرْديُّ: (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ فيه وجهانِ: أحَدُهما: لم يُخلَقْ مِثلُ مَدينتِهم ذاتِ العِمادِ في البِلادِ... الثَّاني: لم يُخلَقْ مِثلُ قَومِ عادٍ في البلادِ؛ لطُولِهم وشِدَّتِهم). ((تفسير الماوردي)) (6/268). قال ابنُ كثيرٍ: (وقَولُه: الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ أعاد ابنُ زَيدٍ الضَّميرَ على العِمادِ؛ لارتفاعِها، وقال: بَنَوا عُمُدًا بالأحقافِ لم يُخلَقْ مِثْلُها في البِلادِ). ((تفسير ابن كثير)) (8/395). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/367، 368). واختار ابنُ جُزَي أنَّها صِفةٌ للمدينةِ، قال: (وهذا أظهَرُ؛ لِقَولِه: فِي الْبِلَادِ، ولأنَّها كانت أحسَنَ مَدائِنِ الدُّنيا). ((تفسير ابن جزي)) (2/479). وممَّن ذهب إلى الوَجْهِ الثَّاني -أي: أنَّ الضَّميرَ في قَولِه: مِثْلُهَا يعودُ إلى القبيلةِ-: ابنُ جَريرٍ، والقُرطبيُّ، وابنُ كثيرٍ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/367)، ((تفسير القرطبي)) (20/46)، ((تفسير ابن كثير)) (8/395)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/319). وممَّن قال بنَحوِ هذا القَولِ مِنَ السَّلَفِ: قَتادةُ، والحسَنُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/367)، ((تفسير الماوردي)) (6/268). قال القُرطبيُّ: (الضَّميرُ في مِثْلُهَا يرجِعُ إلى القبيلةِ... وعليه الأكثَرُ). ((تفسير القرطبي)) (20/46). قال ابنُ كثيرٍ: (أمَّا قتادةُ وابنُ جَريرٍ فأعادا الضَّميرَ على القَبيلةِ، أي: لم يُخلَقْ مِثلُ تلك القبيلةِ في البلادِ، يعني: في زَمانِهم، وهذا القَولُ هو الصَّوابُ. وقَولُ ابنِ زَيدٍ ومَن ذَهَب مَذْهَبَه ضَعيفٌ؛ لأنَّه لو كان أراد ذلك لَقال: الَّتي لم يُعمَلْ مِثْلُها في البلادِ، وإنَّما قال: لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ). ((تفسير ابن كثير)) (8/395). وممَّن ذهب إلى كِلا الوجهَينِ: البِقاعيُّ، فقال: (مِثْلُهَا يصِحُّ أن يعودَ الضَّميرُ على «عادٍ» باعتبارِ القبيلةِ، وعلى «إِرَمَ» باعتبارِ البَلدةِ، وأوضَحَ هذا بقَولِه مُعَمِّمًا للأرضِ كُلِّها: فِي الْبِلَادِ أي: في بِنائِها ومَرافِقِها وثِمارِها، وتَقسيمِ مِياهِها وأنهارِها، وطِيبِ أرْضِها وحُسْنِ أطيارِها، وما اجتَمَع بها ممَّا يفوتُ الحَصرَ ويُعجِزُ القُوَى؛ ولا مِثْلُ أهلِها الَّذين بَنَوها؛ في قُوَّةِ أبدانِهم، وعَظيمِ شأنِهم، وغَيرِ ذلك مِن أُمورِهم). ((نظم الدرر)) (22/27، 28). .
وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بدَأَ بأولئك -لأنَّ أمْرَهم كان أعجَبَ، وقِصَّتَهم أنزَهُ وأغرَبُ-، ثَنَّى بأقرَبِ الأُمَمِ إليهم زمانًا، وأشبَهِهم بهم شأنًا، فقال [21] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/29). :
وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9).
أي: ألمْ تَرَ -يا محمَّدُ- كيف انتَقَم اللهُ كذلك مِن قَبيلةِ ثَمودَ الَّذين شَقُّوا الجِبالَ في وادِيهم، وصَنَعوا فيها بُيوتًا [22] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/368)، ((تفسير ابن عطية)) (5/478)، ((تفسير القرطبي)) (20/47)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/17)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/320). ؟
كما قال تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [الأعراف: 74] .
وقال سُبحانَه: وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ [الشعراء: 149] .
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر القَبيلتَينِ مِنَ العَرَبِ، ذكَرَ بَعضَ مَن جاوَرَهم مِن طُغاةِ العَجَمِ؛ لِما في قِصَّتِهم مِن العُتُوِّ والجَبَروتِ، مع ما حَوَتْه مِن الغرائِبِ وخوارِقِ العَجائِبِ؛ فقال [23] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/30). :
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10).
أي: ألم تَرَ -يا محمَّدُ- كيف انتَقَم اللهُ كذلك مِن فِرعَونَ صاحِبِ الأوتادِ [24] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/370-373)، ((تفسير ابن كثير)) (8/397)، ((تفسير السعدي)) (ص: 923)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/321)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 194). قيل: المرادُ بالأوتادِ: الجنودُ. وممَّن ذهب إليه: النسفيُّ، والخازن، والسعدي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير النسفي)) (3/639)، ((تفسير الخازن)) (4/425)، ((تفسير السعدي)) (ص: 923)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 194). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الماوردي)) (6/ 269). ومِمَّن قال بهذا القَولِ مِنَ السَّلَفِ: ابنُ عبَّاسٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/371)، ((تفسير الثعلبي)) (10/197). قال الخازِنُ: (سُمِّيَ بذلك؛ لكَثرِة جُنودِه، وكَثرةِ مَضارِبِهم وخِيامِهم الَّتي كانوا يَضرِبونَها إذا نَزَلوا). ((تفسير الخازن)) (4/425). وقيل: الأوتادُ هي الأهراماتُ المعروفةُ في مِصرَ. وممَّن ذهب إلى هذا القول: المراغي، وابن عاشور، والشعراوي، وعطية سالم. يُنظر: ((تفسير المراغي)) (30/144)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/321)، ((تفسير الشعراوي)) (7/4328)، ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/525). وقيل: المرادُ: الأوتادُ المعروفةُ سواءٌ مِن خَشَبٍ أو حديدٍ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/373). وممَّن قال في الجُملةِ بهذا القَولِ مِنَ السَّلَفِ: مجاهِدٌ، وقَتادةُ، وأبو رافِعٍ، وسَعيدُ بنُ جُبَيرٍ، والحَسَنُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/371)، ((تفسير الثعلبي)) (10/197)، ((تفسير الماوردي)) (6/269). قال ابنُ جرير: (أَولى هذه الأقوالِ عندي بالصَّوابِ قَولُ مَن قال: عُنِيَ بذلك: الأوتادُ الَّتي تُوتَدُ مِن خَشَبٍ كانت أو حديدٍ؛ لأنَّ ذلك هو المعروفُ مِن معاني الأوتادِ، ووُصِفَ بذلك؛ لأنَّه إمَّا أن يكونَ كان يُعَذِّبُ النَّاسَ بها، كما قال أبو رافعٍ وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ، وإمَّا أن يكونَ كان يُلعَبُ له بها [كما قال قَتادةُ]). ((تفسير ابن جرير)) (24/373). وقال البِقاعي: (ذِي الْأَوْتَادِ أي: الَّذي ثبَّتَ مُلْكَه تَثبيتَ مَن يَظُنُّ أنَّه لا يَزولُ بالعساكِرِ والجنودِ وغَيرِهم مِن كُلِّ ما يَظُنُّ أنَّه يَشُدُّ أمْرَه؛ مِنَ الجنَّاتِ والعُيونِ والزُّروعِ والمقاماتِ الكريمةِ؛ فصارت له اليَدُ المبسوطةُ في المُلْكِ). ((نظم الدرر)) (22/30). ؟
كما قال تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ [ص: 12].
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11).
أي: هؤلاء الَّذين سَلَف ذِكْرُهم -عادٌ وثَمودُ وفِرعونُ- قد تجاوَزوا حَدَّهم في الظُّلمِ والطُّغيانِ [25] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/373)، ((الوسيط)) للواحدي (4/482)، ((تفسير القرطبي)) (20/49)، ((تفسير ابن كثير)) (8/397)، ((تفسير السعدي)) (ص: 923)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 194). .
فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12).
أي: فأكثَروا في البِلادِ العمَلَ بالكُفْرِ والعِصيانِ، والظُّلمِ والعُدْوانِ [26] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/373)، ((تفسير القرطبي)) (20/49)، ((تفسير السعدي)) (ص: 923). .
فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان ذلك مُوجِبًا للعَذابِ؛ سَبَّبَ عنه قَولَه تعالى [27] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/30). :
فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13).
أي: فأنزَلَ رَبُّك عليهم -يا محمَّدُ- عَذابَه الشَّديدَ؛ فهَلَكوا جَميعًا [28] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/373)، ((تفسير القرطبي)) (20/49)، ((تفسير ابن كثير)) (8/397)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/31)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/322). وقال ابنُ عثيمين: (الخِطابُ هنا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم، أو لكُلِّ مَن يتوجَّهُ إليه الخِطابُ). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 195). .
كما قال تعالى: فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت: 40] .
وقال سُبحانَه: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [محمد: 10] .
وقال عزَّ وجَلَّ: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ * وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ * فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً [الحاقة: 5 -10] .
إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14).
أي: إنَّ رَبَّك -يا محمَّدُ- مُراقِبٌ لأعمالِ الطَّاغينَ المُفسِدينَ في الدُّنيا، ومُطَّلِعٌ على أفعالِهم، وسامِعٌ لأقوالِهم؛ حتَّى يأخُذَهم ويُهلِكَهم [29] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/374)، ((تفسير القرطبي)) (20/50)، ((تفسير ابن كثير)) (8/397)، ((حاشية الخفاجي)) (8/357)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/323). .
كما قال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ [الحج: 48] .

الفوائد التربوية:

1- قَولُه تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ فَهِمَ منه بعضُ أهلِ العلمِ التَّحذيرَ مِنَ التَّطاوُلِ في البُنيانِ، والتَّفاخُرِ والتَّعاظُمِ بتَشييدِ الحِجارةِ [30] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/393)، ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 287). .
2- في قَولِه تعالى: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ تنبيهٌ وتقريعٌ لِمَن بعدَهم ألَّا يَعْمَلوا بمِثْلِ عَمَلِهم، فيَنزِلَ بهم ما أُنزِلَ بأولئك مع بأسِهم وشِدَّتِهم وعَدَدِهم، وأموالِهم الَّتي أنفَقوها في ذاتِ العِمَادِ -على قولٍ-، وما فعلَتْه ثمودُ بجَوبِ الصَّخرِ بالوادِ، وفِرعَونُ ذو الأوتادِ؛ فاعِلُ أفاعيلِه الهائلةِ المنكَرةِ: كيف أفناهم وأبادَهم، ومحا آثارَهم، وجعلَهم عِبرةً للمُعتَبِرينَ، وعِظَةً للمُتَّعِظينَ [31] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/516). ؟!
3- في قَولِه تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ أنَّه لا مَلجَأَ وَلا مَهرَبَ مِنَ اللهِ إلَّا إليه [32] يُنظر: ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (3/76). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- تضَمَّنتْ هذه السُّورةُ ذَمَّ مَنِ اغتَرَّ بقُوَّتِه وسُلطانِه ومالِه، وهم هؤلاء الأُمَمُ الثَّلاثةُ: قَومُ عادٍ اغتَرُّوا بقوَّتِهم، وثمودُ اغتَرُّوا بجنَّاتِهم وعُيونِهم وزُروعِهم وبَساتينِهم، وقومُ فِرعونَ اغتَرُّوا بالمالِ والرِّياسةِ؛ فصارتْ عاقِبتُهم إلى ما قَصَّ اللهُ علينا، وهذا شأنُه دائمًا مع كلِّ مَنِ اغتَرَّ بشَيءٍ مِن ذلك؛ لا بُدَّ أنْ يُفسِدَه عليه، ويَسلُبَه إيَّاه [33] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 33). .
2- في قَولِه تعالى: وَلَيَالٍ عَشْرٍ استُدِلَّ به على أنَّ اللَّياليَ سابِقةٌ الأيَّامَ [34] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/387)، ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 287). .
3- قَولُه تعالى: إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ هذا الوَصفُ البَليغُ صريحٌ بألفاظِه ومعانيه في أنَّه وَصفٌ لحَضارةٍ عُمرانيَّةٍ لا نظيرَ لها؛ فالعِمادُ لا تكونُ إلَّا في القُصورِ والأبنيةِ الباذِخةِ، والمدُنِ المخَطَّطةِ على نظامٍ مُحكَمٍ [35] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 396). . وذلك على قول في تفسيرِ ذَاتِ الْعِمَادِ.
4- في قَولِه تعالى: الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ -مع أنَّ الَّذي صَنَعَها الآدَميُّ- دليلٌ على أنَّ الآدَميَّ قد يُوصَفُ بالخَلْقِ، فيقالُ: خَلَقَ كذا، ومنه قولُ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في المصَوِّرينَ: ((يُقالُ لهم: أحْيُوا ما خَلَقْتُم)) [36] أخرجه البخاريُّ (2105)، ومسلمٌ (2107) من حديث عائشةَ رضيَ الله عنها. ، لكِنَّ الخَلْقَ الَّذي يُنسَبُ للمَخلوقِ ليس هو الخَلْقَ المنسوبَ إلى اللهِ تعالى؛ الخَلقُ المنسوبُ إلى اللهِ إيجادٌ بَعْدَ عَدَمٍ، وتحويلٌ وتغييرٌ، أمَّا الخَلقُ المنسوبُ لغَيرِ اللهِ فهو مجرَّدُ تحويلٍ وتغييرٍ [37] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 191). . وذلك على قولٍ في تفسيرِ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ.
5- قولُه: الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ الطُّغيانُ: شِدَّةُ العِصيانِ والظُّلمِ، ومعْنى طُغيانِهم في البِلادِ أنَّ كلَّ أُمَّةٍ مِن هؤلاء طَغَوا في بَلَدِهم [38] وقال ابن جرير: (وقولُه: فِي الْبِلَادِ الَّتي كانوا فيها). ((تفسير ابن جرير)) (24/373). ، ولَمَّا كان بَلَدُهم مِن جُملةِ البلادِ -أي: أراضي الأقوامِ- كان طُغيانُهم في بَلَدِهم قد أوقَعَ الطُّغيانَ في البلادِ؛ لأنَّ فَسادَ البعضِ آيلٌ إلى فَسادِ الجَميعِ بسَنِّ سَننِ السُّوءِ، ولذلك تَسبَّبَ عليه مِن قولِه: الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ قولُه: فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ؛ لأنَّ الطُّغيانَ يُجرِّئُ صاحبَه على دَحْضِ حُقوقِ النَّاسِ، فهو مِن جِهةٍ يكونُ قُدوةَ سُوءٍ لأمثالِه ومَلَئِه، فكلُّ واحدٍ منهم يَطْغى على مَن هو دونَه، وذلك فَسادٌ عَظيمٌ؛ لأنَّ به اختلالَ الشَّرائعِ الإلهيَّةِ والقَوانينِ الوَضعيَّةِ الصَّالحةِ، وهو مِن جِهةٍ أُخرى يُثيرُ الحَفائظَ والضَّغائنَ في المَطغيِّ عليه مِن الرَّعيَّةِ، فيُضمِرون السُّوءَ للطَّاغينَ، وتَنْطوي نُفوسُهم على كَراهيةِ وُلاةِ الأُمورِ وتَربُّصِ الدَّوائرِ بهم، فيَكونون لهم أعداءً غيرَ مُخلِصي الضَّمائرِ، ويكونُ رِجالُ الدَّولةِ مُتوجِّسينَ منهم خِيفةً، فيَظنُّون بهم السُّوءَ في كلِّ حالٍ ويَحذَرونهم، فتَتوزَّعُ قُوَّةُ الأُمَّةِ على أفرادِها عِوَضَ أنْ تتَّحِدَ على أعدائِها، فتُصبِحُ للأُمَّةِ أعداءٌ في الخارجٌ وأعداءٌ في الدَّاخلِ، وذلك يُفْضي إلى فَسادٍ عَظيمٍ؛ فلا جَرَمَ كان الطُّغيانُ سَببًا لكَثرةِ الفسادِ [39] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/321). .
6- قال تعالى: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ وذِكرُ السَّوطِ إشارةٌ إلى أنَّ ما أحلَّه بهم في الدُّنيا مِن العَذابِ العظيمِ بالقِياسِ إلى ما أعَدَّ لهم في الآخرةِ كالسَّوطِ إذا قِيسَ إلى سائرِ ما يُعذَّبُ به؛ لأنَّه يَقْتضي مِن التَّكرارِ والتَّردادِ ما لا يَقْتضيهِ السَّيفُ ولا غيرُه [40] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/748)، ((تفسير البيضاوي)) (5/310)، ((تفسير أبي حيان)) (10/473)، ((تفسير أبي السعود)) (9/155)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/471). .

بلاغة الآيات :

1- قولُه تعالَى: وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ
- القَسَمُ بهذهِ الأزمانِ مِن حيثُ إنَّ بَعضَها دَلائلُ بَديعِ صُنْعِ اللهِ وسَعةِ قُدرتِه فيما أوجَدَ مِن نِظامٍ يُظاهِرُ بَعضُه بَعضًا؛ مِن ذلك وقْتُ الفجرِ الجامعِ بيْن انتهاءِ ظُلمةِ اللَّيلِ وابتداءِ نُورِ النَّهارِ، ووَقتُ اللَّيلِ الَّذي تَمحَّضَت فيه الظُّلمةُ، وهي مع ذلك أوقاتٌ لأفعالٍ مِن البِرِّ وعِبادةِ اللهِ وحْدَه، مِثل اللَّيالي العَشْرِ، واللَّيالي الشَّفعِ، واللَّيالي الوتْرِ، والمَقصودُ مِن هذا القسَمِ تَحقيقُ المُقسَمِ عليه؛ لأنَّ القسَمَ في الكلامِ مِن طُرقِ تَأكيدِ الخبَرِ؛ إذِ القسَمُ إشهادُ المُقسِمِ ربَّه على ما تَضمَّنه كَلامُه، وقسَمُ اللهِ تعالَى مُتمحِّضٌ لقصْدِ التَّأكيدِ، والكلامُ مُوَجَّهٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كما دلَّ عليه قولُه: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ [الفجر: 6] ، وقولُه: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر: 14] ؛ ولذلك فالقَسَمُ تَعريضٌ بتَحقيقِ حُصولِ المُقسَمِ عليه بالنِّسبةِ للمُنكِرين. وأيضًا المَقصدُ مِن تَطويلِ القسَمِ بأشْياءَ: التَّشويقُ إلى المُقسَمِ عليه [41] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/312). .
- والتَّعريفُ في (الْفَجْرِ) تَعريفُ الجِنسِ، وهو الأظهرُ؛ لمُناسَبةِ عطْفِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ. ويَجوزُ أنْ يُرادَ فجْرٌ مُعيَّنٌ؛ فقِيل: أُريدَ وقْتُ صَلاةِ الصُّبحِ مِن كلِّ يومٍ، وقيل: فجْرُ يومِ النَّحرِ، وهو الفجرُ الَّذي يكونُ فيه الحَجيجُ بالمُزدلفةِ، فيَكونُ تَعريفُ (الْفَجْرِ) تَعريفَ العهْدِ [42] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/469، 470)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/313). .
- قولُه: وَلَيَالٍ عَشْرٍ جاءتْ (ليالٍ) مُنكَّرةً مِن بيْن ما أُقسِمَ به؛ لأنَّها لَيالٍ مَخصوصةٌ مِن بيْن جِنسِ اللَّيالي، العَشرُ بَعضٌ منها، فالتَّنكيرُ للتَّقليلِ. أو مَخصوصةٌ بفَضيلةٍ ليست لغَيرِها، فالتَّنكيرُ للتَّفخيمِ والتَّهويلِ. ولم تُعرَّفْ بلامِ العهْدِ، مع أنَّها ليالٍ مَعلومةٌ مَعهودةٌ؛ لأنَّ اللَّياليَ لو عُرِّفَت احتاجَتْ -لِما يُرادُ مِن اختصاصِها بالفضيلةِ- إلى مَزيدِ انضمامِ قَرينةٍ خارجيَّةٍ، بخِلافِ التَّنكيرِ؛ فإنَّ دَلالتَه على الفَضيلةِ بنفْسِه؛ لأنَّه مَوضوعٌ له مُستقِلٌّ به، ولأنَّها لو عُرِّفَت لم تَتميَّزْ عن المَذكوراتِ فيما قُصِدَ منها، وانخَرَطَت في سِلْكِها، ولو خُصِّصت منها بشَيءٍ مِن غيرِ تَغييرٍ لدَخَلَ في حدِّ اللُّغزِ [43] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/746)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/417، 418)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 610). .
- وقيل: عرَّف الفَجرَ باللَّامِ؛ إذْ كلُّ أحدٍ يَعرِفُه، ونكَّر اللَّياليَ العَشرَ؛ لأنَّها إنَّما تُعرَفُ بالعِلمِ، وفي تَعريفِ الفَجرِ ما يدُلُّ على شُهرتِه، وأنَّه الفَجرُ الَّذي يَعرِفُه كلُّ أحدٍ ولا يَجهَلُه [44] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 31). .
- قولُه: وَلَيَالٍ عَشْرٍ هي لَيالٍ مَعلومةٌ للسَّامعينَ، مَوصوفةٌ بأنَّها عَشْرٌ، واستُغنِيَ عن تَعريفِها بتَوصيفِها بعشْرٍ، وإذ قد وُصِفَت بهذا العدَدِ تعيَّن أنَّها عشْرٌ مُتتابِعةٌ [45] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/309)، ((تفسير أبي السعود)) (9/153)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/313). .
- ومُناسَبةُ عطْفِ (لَيَالٍ عَشْرٍ) على (الْفَجْرِ): أنَّ الفجْرَ وقْتُ انتهاءِ اللَّيلِ، فبيْنَه وبيْنَ اللَّيلِ جامعُ المُضادَّةِ، واللَّيلُ مَظهَرٌ مِن مَظاهرِ القُدرةِ الإلهيَّةِ، فلمَّا أُرِيدَ عطْفُه على الفجْرِ بقولِه: وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ، خُصَّت قبْلَ ذِكرِه بالذِّكرِ ليالٍ مُبارَكةٌ؛ إذ هي مِن أفرادِ اللَّيلِ [46] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/313). .
- قولُه: وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ الشَّفعُ: ما يكونُ ثانيًا لغَيرِه، والوتْرُ: الشَّيءُ المُفرَدُ، قيل: الوِترُ يومُ عَرَفةَ والشَّفعُ يومُ النَّحرِ، وهما صِفتانِ لمَحذوفٍ -أي: اليومِ؛ ذلك لأنَّ يومَ النَّحرِ عاشِرُ ذي الحَجَّةِ. ومُناسَبةُ الابتداءِ بالشَّفعِ أنَّه اليومُ العاشِرُ، فناسَبَ قولَه: وَلَيَالٍ عَشْرٍ، وعلى هذا التَّفسيرِ فذِكرُ الشَّفعِ والوتْرِ تَخصيصٌ لهذينِ اليومَينِ بالذِّكرِ للاهتِمامِ، بعْدَ شُمولِ اللَّيالي العشْرِ لهما [47] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/314). .
- قولُه: وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ عطْفٌ على وَلَيَالٍ عَشْرٍ عطْفَ الأعمِّ على الأخصِّ، أو عطْفٌ على (الفَجْرِ) بجامِعِ التَّضادِّ. وأُقسِمَ به؛ لِما أنَّه مَظهَرٌ مِن مَظاهرِ قُدرةِ اللهِ وبَديعِ حِكمتِه [48] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/315). .
- قولُه: وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ [49] قَولُه يَسْرِ قُرِئَت بإثباتِ الياءِ وحَذْفِها؛ لأنَّها فاصِلةٌ، والفواصِلُ يجوزُ حَذْفُ الياءاتِ منها، وتدُلُّ عليها الكَسَراتُ. والعَرَبُ قد تحذِفُ الياءَ، وتكتفي بكَسْرِ ما قَبْلَها. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/378)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (2/125)، ((البسيط)) للواحدي (23/496). ، أي: إذا يَمْضي، كقولِه: وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ [المدثر: 33] ، والتَّقييدُ بذلك؛ لِما في التَّعاقُبِ مِن وُضوحِ الدَّلالةِ وقوَّتِها على كَمالِ القُدرةِ ووُفورِ النِّعمةِ؛ فالتَّقييدُ تَتميمٌ لمَعنى القُدرةِ أو النِّعمةِ [50] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/309)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/419)، ((تفسير أبي السعود)) (9/153). ؛ فمعْنى (يَسْري): يَمْضي سائرًا في الظَّلامِ، أي: إذا انْقَضى منه جُزءٌ كَثيرٌ، شُبِّهَ تقَضِّي اللَّيلِ في ظَلامِه بسَيرِ السَّائرِ في الظَّلامِ، وهو السُّرَى، كما شُبِّهَ في قولِه: إِذْ أَدْبَرَ [المدثر: 33] ، وقال: وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [الضحى: 2] ، أي: تَمكَّنَ ظَلامُه واشتَدَّ. وتَقييدُ اللَّيلِ بظَرْفِ إِذَا يَسْرِ؛ لأنَّه وقْتُ تَمكُّنِ ظُلمةِ اللَّيلِ، فحِينَئذٍ يكونُ النَّاسُ أخَذوا حَظَّهم مِن النَّومِ فاسْتَطاعوا التَّهجُّدَ [51] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/315). .
2- قولُه تعالَى: هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ جُملةٌ مُعترِضةٌ بيْن القسَمِ وما بعْدَه مِن جَوابِه، أو دَليلُ جَوابِه [52] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/316). .
- والاستِفهامُ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ تَحقيقٌ وتَقريرٌ لفَخامةِ شَأنِ المُقسَمِ بها، وكَونِها أُمورًا جَليلةً حَقيقةً بالإعظامِ والإجلالِ عندَ أربابِ العُقولِ، وتَنبيهٌ على أنَّ الإقسامَ بها أمْرٌ مُعتَدٌّ به، خَليقٌ بأنْ يؤَكَّدَ بهِ الإخبارُ [53] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/747)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/421)، ((تفسير أبي حيان)) (10/471)، ((تفسير أبي السعود)) (9/153)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/316)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/468). .
- وتَنكيرُ قَسَمٌ للتَّعظيمِ، أي: قسَمٌ كافٍ ومُقنِعٌ للمُقسَمِ له إذا كان عاقلًا أنْ يَتدبَّرَ بعَقْلِه؛ فالمعْنى: هلْ في ذلك تَحقيقٌ لِما أُقسِمَ عليه للسَّامعِ المَوصوفِ بأنَّه صاحبُ حِجرٍ [54] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/316). ؟
- واللَّامُ في قولِه: لِذِي حِجْرٍ لامُ التَّعليلِ، أي: قسَمٌ لأجْلِ ذي عقْلٍ يَمنَعُه مِن المُكابَرةِ، فيَعلَم أنَّ المقسِمَ بهذا القسَمِ صادقٌ فيما أقسَمَ عليه [55] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/317). .
- وما في اسْمِ الإشارةِ (ذلكَ) مِن معْنى البُعدِ؛ للإيذانِ بعُلوِّ رُتبةِ المُشارِ إليهِ، وبُعْدِ مَنزلتِه في الشَّرفِ والفضْلِ، أيْ: هلْ فيما ذُكِرَ مِن الأشياءِ قسَمٌ -أيْ: مُقسَمٌ بهِ- لِذِي حِجرٍ يَراهُ حقيقًا بأنْ يُقسَمَ بهِ إجلالًا وتَعظيمًا؟ والمرادُ تحقيقُ أنَّ الكلَّ كذلكَ، وإنَّما أُوثِرتْ هذه الطَّريقةُ هَضْمًا للخلْقِ، وإيذانًا بظُهورِ الأمرِ [56] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/154). .
3- قولُه تعالَى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ وقَفَ المُخاطَبَ على مَصارعِ الأُمَمِ الكافرةِ الماضيةِ مَقصودًا بذلك تَوعُّدُ قُريشٍ، ونصْبُ المَثَلِ لها [57] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/471). .
- قولُه: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إمَّا دَليلُ الجَوابِ؛ إذ يدُلُّ على أنَّ المقسَمَ عليه مِن جِنسِ ما فُعِلَ بهذه الأُمَمِ الثَّلاثِ، وهو الاستئصالُ الدَّالُّ عليه قولُه: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ، فتَقديرُ الجَوابِ: لَيَصُبَّنَّ ربُّك على مُكذِّبيك سَوطَ عَذابٍ كما صبَّ على عادٍ وثَمودَ وفِرعونَ. وإمَّا تَمهيدٌ للجوابِ ومُقدِّمةٌ له، إنْ جُعِلَ الجوابُ قولَه: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ. وما بيْنه وبيْن الآياتِ السَّابقةِ اعتراضٌ جُعِلَ كمُقدِّمةٍ لجَوابِ القسَمِ، والمعْنى: إنَّ ربَّك لَبالمِرصادِ للمُكذِّبين، لا يَخْفى عليه أمْرُهم، فيَكون تَثبيتًا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فالاستِفهامُ أَلَمْ تَرَ ... تَقريريٌّ، والمُخاطَبُ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَثبيتًا له، ووَعْدًا بالنَّصرِ، وتَعريضًا للمُعانِدين بالإنذارِ بمِثلِه؛ فإنَّ ما فُعِلَ بهذه الأُمَمِ الثَّلاثِ مَوعظةٌ وإنذارٌ للقَومِ الذين فَعَلوا مِثلَ فِعلِهم مِن تَكذيبِ رُسلِ اللهِ، قُصِدَ منه تَقريبُ وُقوعِ ذلك وتَوقُّع حُلولِه؛ لأنَّ التَّذكيرَ بالنَّظائرِ واستحضارَ الأمثالِ يُقرِّبُ إلى الأذهانِ الأمرَ الغريبَ الوُقوعِ، فهذه العِبَرُ جُزئيَّاتٌ مِن مَضمونِ جَوابِ القسَمِ، فإنْ كان مَحذوفًا فذِكرُها دَليلُه، وإنْ كان الجوابُ قولَه: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ كان تَقديمُها على الجوابِ زِيادةً في التَّشويقِ إلى تَلَقِّيه، وإيذانًا بجِنسِ الجوابِ مِن قَبْلِ ذِكرِه؛ ليَحصُلَ بعْدَ ذِكرِه مَزيدُ تَقرُّرِه في الأذهانِ [58] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/747)، ((تفسير البيضاوي)) (5/309)، ((تفسير أبي حيان)) (10/471)، ((تفسير أبي السعود)) (9/154)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/317، 318). .
- والرُّؤيةُ في أَلَمْ تَرَ يَجوزُ أنْ تكونَ رُؤيةً عِلْميَّةً تَشبيهًا للعِلمِ اليَقينيِّ بالرُّؤيةِ في الوُضوحِ والانكشافِ؛ لأنَّ أخبارَ هذه الأُمَمِ شائعةٌ مَضروبةٌ بها المَثَلُ، فكأنَّها مُشاهَدةٌ، فتَكونَ (كيف) استِفهامًا مُعلِّقًا فِعلَ الرُّؤيةِ عن العمَلِ في مَفعولَينِ. ويَجوزُ أنْ تكونَ الرُّؤيةُ بَصَريَّةً، والمعْنى: ألمْ تَرَ آثارَ ما فَعَلَ ربُّك بعادٍ؟ وتكونَ (كيف) اسمًا مُجرَّدًا عن الاستفهامِ في مَحلِّ نصْبٍ على المَفعوليَّةِ لفِعلِ الرُّؤيةِ البَصَريَّةِ [59] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/154)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/318)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/469). .
- وعُدِلَ عن اسمِ الجَلالةِ إلى التَّعريفِ بإضافةِ (ربّ) إلى ضَميرِ المخاطَبِ في قولِه: فَعَلَ رَبُّكَ؛ لِما في وصْفِ (ربّ) مِن الإشعارِ بالوِلايةِ والتَّأييدِ، ولِما تُؤذِنُ به إضافتُه إلى ضَميرِ المُخاطَبِ مِن إعزازِه وتَشريفِه [60] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/318). .
- وقد ابتُدِئَت المَوعظةُ بذِكرِ عادٍ وثَمودَ؛ لشُهرتِهما بيْن المُخاطَبينَ، وذُكِرَ بعْدَهما قَومُ فِرعونَ؛ لشُهرةِ رِسالةِ مُوسى عليه السَّلامُ إلى فِرعونَ بيْن أهلِ الكتابِ ببِلادِ العرَبِ وهم يُحدِّثون العرَبَ عنها [61] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/318). .
- وقولُه: إِرَمَ عطْفُ بَيانٍ لـ (عَادٍ) على تَقديرِ مُضافٍ، أي: سِبْطِ إِرَمَ، أو أهْلِ إِرَمَ؛ للإشارةِ إلى أنَّ المُرادَ بـ (عادٍ) القَبيلةُ الَّتي جَدُّها الأدْنى هو عادُ ابنُ عَوصِ بنِ إرَمَ -وذلك على قولٍ-، وهم عادٌ الموصوفةُ بالأُولى في قولهِ تعالَى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى [النجم: 50] ؛ لئلَّا يُتوهَّمَ أنَّ المُتحدَّثَ عنهم قَبيلةٌ أُخرى تُسمَّى عادًا أيضًا، كانت تَنزِلُ مكَّةَ مع العَماليقِ، يُقال: إنَّهم بَقيَّةٌ مِن عادٍ الأُولى، فعادٌ وإرَمُ اسمانِ لقَبيلةِ عادٍ الأُولى [62] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/747)، ((تفسير البيضاوي)) (5/309)، ((تفسير أبي السعود)) (9/154)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/318)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/ 469). .
- والعِمادُ: عُودٌ غَليظٌ طَويلٌ يُقامُ عليه البيتُ يُركَزُ في الأرضِ تُقامُ عليه أثوابُ الخَيمةِ أو القُبَّةِ، ويُسمَّى دِعامةً، وهو هنا مُعبَّرٌ به عن القوَّةِ؛ تَشبيهًا للقَبيلةِ القوَّيةِ بالبيتِ ذي العِمادِ، فوُصِفَت عادٌ بـ ذَاتِ الْعِمَادِ؛ لقُوَّتِها وشِدَّتِها، أي: قدْ أهلَكَ اللهُ قومًا هم أشدُّ مِن القومِ الَّذين كذَّبوك [63] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/319). . وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
- ولامُ التَّعريفِ في الْبِلَادِ قيل: إنَّها للاستغراقِ العُرفيِّ، أي: في بلدانِ العرَبِ وقَبائلِهم [64] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/319). .
4- قولُه تعالَى: وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ
- مُنِعَ (ثَمود) مِن الصَّرفِ؛ لأنَّ المُرادَ به الأُمَّةُ المَعروفةُ، ووُصِفَ باسمِ الموصولِ لجمْعِ المذكَّرِ في قولِه: الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ دونَ أنْ يقولَ: الَّتي جابَتِ الصَّخرَ، بتَأويلِ القومِ، فلمَّا وَصَفَ عَدَلَ عن تَأنيثِه؛ تَفنُّنًا في الأسلوبِ [65] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/320). .
5- قولُه تعالَى: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ
- قولُه: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ التَّعبيرُ عن إنزالِ العَذابِ بالصَّبِّ؛ للإيذانِ بكَثرتِه واستِمرارِه وتَتابُعِه؛ فإنَّه عبارةٌ عن إراقةِ شَيءٍ مائعٍ أو جارٍ مَجراهُ في السَّيلانِ، كالرَّملِ والحُبوبِ، وإفراغِه بشِدَّةٍ وكَثرةٍ واستمرارٍ [66] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/155)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/322). .
- وإضافةُ سَوْطَ إلى عَذَابٍ قيل: هي مِن إضافةِ الصِّفةِ إلى الموصوفِ، أي: صَبَّ عليهم عَذابًا سَوطًا، أي: كالسَّوطِ في سُرعةِ الإصابةِ، فهو تَشبيهٌ بَليغٌ [67] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/322). .
- وقدْ ذَكَرَ تعالى -هاهنا- قِصَّةَ ثلاثِ فِرَقٍ مِن الكُفَّارِ المتقدِّمين -وهي: عادٌ، وثمودُ، وقومُ فِرعونَ- على سَبيلِ الإجمالِ، حيثُ قال: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ولم يُبيِّنْ كَيفيَّةَ ذلك العذابِ، وذَكَرَ في سُورةِ (الحاقَّةِ) بَيانَ ما أُبهِمَ في هذه السُّورةِ، فقال: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ إلى قولِه: وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ [الحاقة: 1 - 9] الآيةَ [68] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/152). . وكلٌّ مُناسِبٌ في مَوضعِه.
- قولُه: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ تَذييلٌ وتَعليلٌ لإصابتِهم بسَوطِ عَذابٍ إذا قُدِّرَ جَوابُ القسَمِ مَحذوفًا، ويجوزُ أنْ تكونَ جَوابَ القسَمِ، فعلى كونِ الجُملةِ تَذييلًا تكونُ تَعليلًا لجُملةِ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ؛ تَثبيتًا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّ اللهَ يَنصُرُ رُسلَه، وتَصريحًا للمُعاندينَ بما عرَّضَ لهم به مِن تَوقُّعِ مُعامَلتِه إيَّاهم بمِثلِ ما عامَلَ به المُكذِّبين الأوَّلينَ، كما يُنْبِئُ عنه التَّعرُّضُ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ مع الإضافةِ إلى ضَميرِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، أي: إنَّ اللهَ بالمِرصادِ لكلِّ طاغٍ مُفسِدٍ، وعلى كَونِها جَوابَ القسَمِ تكونُ كِنايةً عن تَسليطِ العَذابِ على المشْرِكين؛ إذ لا يُرادُ مِن الرَّصدِ إلَّا دفْعُ المُعتدي مِن عدُوٍّ ونحْوِه، وهو المقسَمُ عليه، وما قبْلَه اعتراضًا تَفنُّنًا في نظْمِ الكلامِ؛ إذ قُدِّمَ على المقصودِ بالقسَمِ ما هو استدلالٌ عليه وتَنظيرٌ بما سبَقَ مِن عِقابِ أمثالِهِم مِن الأُمَمِ مِن قَولِه: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إلخ، وهو أُسلوبٌ مِن أساليبِ الخَطابةِ؛ إذ يُجعَلُ البَيانُ والتَّنظيرُ بمَنزلةِ المُقدِّمةِ، ويُجعَلُ الغرَضُ المَقصودُ بمَنزلةِ النَّتيجةِ والعِلَّةِ إذا كان الكلامُ صالحًا للاعتبارَينِ، مع قصْدِ الاهتمامِ بالمُقدَّمِ والمُبادَرةِ به [69] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/156)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/322، 323). .
- والعُدولُ عن ضَميرِ المُتكلِّمِ أو اسمِ الجَلالةِ إلى (ربك) في قولِه: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ، وقولِه: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ: إيماءٌ إلى أنَّ فاعلَ ذلك ربُّه الَّذي شأْنُه أنْ يَنتصِرَ له؛ فهو مُؤمِّلٌ بأنْ يُعذِّبَ الَّذين كذَّبوه انتصارًا له انتصارَ المَولى لوَليِّه [70] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/323). .
- وتَعريفُ (المِرْصاد) تَعريفُ الجِنسِ، وهو يُفيدُ عُمومَ المُتعلَّقِ، أي: بالمِرصادِ لكلِّ فاعلٍ [71] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/323). .
- قولُه: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ كِنايةٌ عن مُجازاةِ كلِّ عاملٍ بما عَمِلَه وما يَعمَلُه؛ إذ لا يُقصَدُ الرَّصْدُ إلَّا للجَزاءِ على العُدوانِ، وفيما يُفيدُه مِن التَّعليلِ إيماءٌ إلى أنَّ اللهَ لم يَظلِمْهم فيما أصابَهُم به [72] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/323). .