موسوعة التفسير

سُورةُ التَّكويرِ
الآيات (15-29)

ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ

غريب الكلمات:

بِالْخُنَّسِ: أي: النُّجومِ الَّتي تختفي في النَّهارِ فلا تُرى، والخُنوسُ: الانقِباضُ والاستِخفاءُ، تقول: خَنَس مِن بيْنِ القَومِ، وانْخَنَسَ، أي: انقَبَض واستَخْفى، وأصلُ (خنس): يدُلُّ على استِخفاءٍ وتَسَتُّرٍ [84] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 517)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 214)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/223)، ((البسيط)) للواحدي (23/264)، ((المفردات)) للراغب (ص: 300). .
الْجَوَارِ: أي: الَّتي تَجري في فَلَكِها بسُرعةٍ، جَمعُ جاريةٍ؛ مِنَ الجَرْيِ: وهو المَرُّ السَّريعُ [85] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/152)، ((تفسير القرطبي)) (19/236)، ((تفسير الألوسي)) (15/261). .
الْكُنَّسِ: أي: النُّجومِ الَّتي تَكنِسُ -تَستَتِرُ- في أبراجِها في السَّماءِ؛ مِن: كَنَس الوَحْشُ: إذا دَخَل كِناسَه، وهو بَيتُه الَّذي يأوي إليه، وأصلُ (كنس): يدُلُّ على استِخفاءٍ [86] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 517)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 214)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/141)، ((البسيط)) للواحدي (23/264)، ((تفسير البغوي)) (5/217)، ((تفسير الألوسي)) (15/261). .
عَسْعَسَ: أي: وَلَّى وذَهَب وأدبَرَ، أو: أقبَلَ بظَلامِه، فهو مِن الأضْدادِ، وعَسْعَسَ: مقلوبٌ عن «سَعْسَعَ»: إذا مَضَى، وأصلُ (سعع): يدُلُّ على ذَهابِ الشَّيءِ [87] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 517)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 340)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/57) و(4/43)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 441)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 452). وقال الماوردي: (وأصلُه العسُّ وهو الامتلاءُ، ومنه قيل للقَدَحِ الكبيرِ: عُسٌّ؛ لامتلائِه بما فيه، فأُطلِق على إقبالِ الليلِ لابتداءِ امتلائه، وأُطلِق على إِدْبارِه لاستكمالِ امتلائِه). ((تفسير الماوردي)) (6/217). ويُنظر: ((تفسير القرطبي)) (19/239). .
تَنَفَّسَ: أي: أضاءَ وأسفَرَ وانتَشَر ضَوؤُه وامتدَّ وتتابَع، وأصلُ (نفس): يدُلُّ على خُروجِ النَّسيمِ كيف كان، مِن رِيحٍ أو غَيرِها [88] يُنظَر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 159)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/460)، ((البسيط)) للواحدي (23/271)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 337). .
مَكِينٍ: أي: وَجيهٍ عِندَ اللهِ تعالى؛ مِن: مَكُنَ مَكانةً: إذا عَلَت رُتبتُه عندَ غَيرِه، وأصلُ (مكن): يدُلُّ على الموضِعِ الحاوي للشَّيءِ [89] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 418)، ((المفردات)) للراغب (ص: 772، 773)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 441)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/156). .
بِالْأُفُقِ: أي: الأُفُقِ الأعلى مِن ناحيةِ المَشرِقِ حيثُ تَطلُعُ الشَّمسُ، والأُفُقِ: ناحِيةُ السَّماءِ، وأصلُ (أفق): يدُلُّ على تَباعُدِ ما بيْن أطرافِ الشَّيءِ واتِّساعِه [90] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/166)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/114)، ((تفسير الخازن)) (4/399). .
بِضَنِينٍ: أي: ببَخيلٍ، والضِّنَّةُ: البُخلُ بالشَّيءِ النَّفيسِ، وأصلُ (ضنن): يدُلُّ على بُخلٍ بالشَّيءِ [91] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 517)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/357)، ((المفردات)) للراغب (ص: 512)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 441)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 452). .
رَجِيمٍ: أي: مَلْعُونٍ مَطْرُودٍ، والرَّجمُ: اللَّعنُ والطَّردُ والإبعادُ، وأصلُ الرَّجمِ: الرَّميُ بالحِجارةِ [92] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/171)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/493)، ((البسيط)) للواحدي (12/565)، ((المفردات)) للراغب (ص: 346). .

المعنى الإجمالي:

رَدَّ اللهُ تعالى في هذه الآياتِ على افتراءاتِ قُرَيشٍ الذين كذَّبوا بنُبُوَّةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وزَعموا أنَّه ساحِرٌ وكاهِنٌ وشاعِرٌ ومجنونٌ، وكذَّبوا بالوَحْيِ المُنزَّلِ عليه، فأقسَمَ تعالى بالنُّجومِ العَظيمةِ الَّتي تختَفي وتَغيبُ بالنَّهارِ، والَّتي تَجري في السَّماءِ وتَكنِسُ وتَسْتَتِرُ، وأَقسَمَ باللَّيلِ إذا أقْبَلَ بظَلامِه وإذا أدبَرَ، وبالصُّبحِ إذا أقبَلَ وتَبَيَّنَ ضَوؤُه: إنَّ هذا القُرآنَ المُنزَّلَ على محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو تبليغُ رَسولٍ كَريمٍ على اللهِ تعالى، وهو جِبريلُ عليه السَّلامُ، وهو صاحِبُ قُوَّةٍ عَظيمةٍ، وله عِندَ اللهِ تعالى مكانةٌ عاليةٌ، ومَنزِلةٌ رَفيعةٌ، وهو مُطاعٌ في السَّماءِ بيْن الملائِكةِ، أَمينٌ على ما ائتَمَنَه اللهُ عليه مِن الوَحْيِ.
ثمَّ خاطَبَهم اللهُ تعالى بقَولِه: وما نَبيُّكم محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الَّذي خالَطْتُموه -يا مَعْشَرَ قُرَيشٍ- وعَرَفْتُم صِدْقَه وأمانَتَه: بمَجنونٍ كما تَزعُمونَ، ولقد رأى محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جِبْريلَ في صُورتِه الَّتي خَلَقَه اللهُ عليها، في أُفُقِ الشَّمسِ الأَعْلى مِن جِهةِ المَشرِقِ حيثُ تَطلُعُ الشَّمسُ، وتُرى الأشياءُ بوُضوحٍ.
وما محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ببَخيلٍ على النَّاسِ بالقُرآنِ، بل هو حَريصٌ على تبليغِ القُرآنِ إلى جميعِ النَّاسِ، وما هذا القُرآنُ بقَولِ شَيطانٍ مَلعونٍ مَطرودٍ مِن رَحمةِ اللهِ، مَرجومٍ بالشُّهُبِ.
ثمَّ قال تعالى موَبِّخًا لهم: فإلى أين تَذهَبونَ -أيُّها المُشرِكونَ- عن هذا القُرآنِ مع وُضوحِ الحَقِّ فيه بدَلائِلِه؟! وإلى أيِّ طَريقٍ تَعدِلونَ عنه؟!
ما هذا القُرآنُ إلَّا تذكيرٌ مِنَ اللهِ تعالى للخَلْقِ أجمعينَ؛ لِمَن شاء منهم أن يَستقيمَ على الحَقِّ، فيتَّبِعَه ويؤمِنَ به.
ثمَّ ختم اللهُ سُبحانَه هذه السُّورةَ الكريمةَ ببيانِ أنَّ مشيئتَه هي النَّافذةُ، فقال: وما تَشاؤونَ الاستقامةَ على الحَقِّ إلَّا إذا شاء اللهُ رَبُّ العالَمِينَ لكم ذلك.

تفسير الآيات:

فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15).
أي: فأُقسِمُ بالنُّجومِ العَظيمةِ الَّتي تختَفي وتَغيبُ [93] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 517)، ((الوسيط)) للواحدي (4/430)، ((تفسير الرازي)) (31/67، 68)، ((تفسير القرطبي)) (19/236)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (6/594) و (11/273)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/197). المرادُ بالخنَّسِ الجوارِ الكُنَّسِ: النُّجومُ، واختُلِف هل هي السَّبعةُ أو الخمسةُ أو جميعُ النُّجومِ. ممَّن قال: إنَّ المرادَ السَّبعةُ (الشَّمسُ والقمرُ وزُحَلُ وعُطارِدُ والمِرِّيخُ والمُشتَرِي والزُّهَرةُ): ابنُ جُزَي، والسيوطيُّ، والسعدي، ونسَبَه ابنُ عطيَّةَ للجمهورِ. يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/ 456)، ((معترك الأقران)) للسيوطي (2/167)، ((تفسير السعدي)) (ص: 912)، ((تفسير ابن عطية)) (5/443). وممَّن قال: إنَّها الخمسةُ (بدونِ الشَّمسِ والقمرِ): مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والفرَّاءُ، والرازي، والعُلَيمي، والمظهري. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/456)، ((معاني القرآن)) للفراء (3/242)، ((تفسير الرازي)) (31/68)، ((تفسير العليمي)) (7/297)، ((التفسير المظهري)) (10/207، 208). قال ابن جُزَي: (وقيل: يعني: النَّجومَ كلَّها؛ لأنَّها تَخنِسُ في جريِها، وتَكنِسُ بالنَّهارِ، أي: تسترُ، وتختفي بضَوءِ الشَّمسِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/456). قيل: معنى خَنْسِ النُّجومِ: اختِفاؤُها في النَّهارِ. وممَّن قال بهذا المعنى في الجملةِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والواحديُّ، وابن تيميَّة، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/602)، ((الوسيط)) للواحدي (4/430)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/273)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/152). وقيل: المعنى: رُجوعُها في مَجْراها. وممَّن قال بهذا المعنى: الفَرَّاءُ، وابنُ قُتَيْبةَ، واستظهره الرَّازيُّ، وذهب إليه ابنُ عثيمين. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/242)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 517)، ((تفسير الرازي)) (31/67)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 75). قال ابنُ عطية: (أقَسَم اللهُ تعالى بالخُنَّسِ الجَوارِ الكُنَّسِ، فقال جمهورُ المفَسِّرينَ: إنَّ ذلك الدَّرارِيُّ السَّبعةُ: الشَّمسُ، والقَمَرُ، وزُحَلُ، وعُطارِدُ، والمِرِّيخُ، والزُّهَرةُ، والمُشتَرِي، وقال عليُّ ابنُ أبي طالب: المرادُ الخَمسةُ دونَ الشَّمسِ والقَمَرِ؛ وذلك أنَّ هذه الكواكِبَ تَخنِسُ في جَرْيِها، أي: تتقهقَرُ فيما تَرى العَينُ... وقال عليُّ بنُ أبي طالبٍ أيضًا والحسنُ وقتادةُ: المرادُ النُّجومُ كلُّها؛ لأنَّها تخنسُ بالنَّهارِ حينَ تَخْتفي). ((تفسير ابن عطية)) (5/443). وقال الرازي: (القَولُ الأظهَرُ: أنَّ ذلك إشارةٌ إلى رُجوعِ الكواكِبِ الخَمْسةِ السَّيَّارةِ واستقامتِها، فرُجوعِها هو الخُنوسُ). ((تفسير الرازي)) (31/67، 68). وقال المظهري: (الخُنُوسُ: الرُّجوعُ مِن منتهى السَّيرِ الى مكانٍ ابتدَأَ منه، والمرادُ بها الكواكِبُ الخَمسةُ المُسمَّاةُ بالمتحَيِّرةِ، وهى: عُطارِدُ، والزُّهَرةُ، والمُشْتَرِي، والمِرِّيخُ، والزُّحَلُ؛ فإنَّها تُرى سيَّارةً مِن المغرِبِ إلى المشرِقِ، ثمَّ تَرجِعُ الى المغرِبِ، وقد تُرى ساكنةً؛ ولذلك سُمِّيَت مُتحَيِّرةً). ((التفسير المظهري)) (10/207، 208). وقال ابن جُزَي: (وقيل: يعني: بقرَ الوحشِ، فالخنسُ على هذا مِن خَنَسِ الأنفِ، والكنسُ مِن سُكْناها في كِناسِها). ((تفسير ابن جزي)) (2/456). ويُنظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (6/72). .
الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16).
أي: الَّتي تَجري في السَّماءِ وتَسْتَتِرُ [94] يُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (5/292)، ((تفسير ابن عطية)) (5/443)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 76). والمراد بكُنوسِها: استتارُها وتواريها. وممَّن ذهب في الجملةِ إلى هذا المعنى: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والفرَّاءُ، وابنُ قُتَيْبةَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/602)، ((معاني القرآن)) للفراء (3/242)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 517). وممَّن اختار أنَّ كُنوسَها هو اختِفاؤُها واسْتِتارُها بالنَّهارِ تحتَ ضَوءِ الشَّمسِ: الرازيُّ، والبِقاعي، والعُلَيمي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/68)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/285)، ((تفسير العليمي)) (7/297)، ((تفسير السعدي)) (ص: 912). وقال الزَّجَّاج: (تَكْنِسُ: تَدخُلُ في كِنَاسِها، أي: تَغِيبُ في المواضِعِ الَّتي تَغِيبُ فيها). ((معاني القرآن وإعرابه)) (5/292). ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/273)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/153). وقال ابنُ عطيَّةَ وابنُ جُزَي: (هي تَكنِسُ في أبراجِها، أي: تستترُ). يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/443)، ((تفسير ابن جزي)) (2/456). قال الرازي: (اختلَفوا في خُنوسِ النُّجومِ وكُنوسِها على ثلاثةِ أوجُهٍ: فالقولُ الأظهَرُ: أنَّ ذلك إشارةٌ إلى رجوعِ الكواكبِ الخمسةِ السَّيَّارةِ واستِقامَتِها؛ فرُجوعُها هو الخُنوسُ، وكُنوسُها اخْتِفاؤُها تحتَ ضَوءِ الشَّمسِ، ولا شكَّ أنَّ هذه حالةٌ عجيبةٌ، وفيها أسرارٌ عظيمةٌ باهرةٌ. القولُ الثَّاني: ما رُويَ عن عليٍّ وعَطاءٍ ومُقاتلٍ وقَتادةَ: أنَّها هي جميعُ الكواكبِ، وخُنوسُها عبارةٌ عن غَيبوبتِها عن البصرِ في النَّهارِ، وكُنوسُها عبارةٌ عن ظُهورِها للبصرِ في اللَّيلِ، أي: تَظهَرُ في أماكِنِها، كالوَحشِ في كُنُسِها. والقولُ الثَّالثُ: أنَّ السَّبعةَ السَّيَّارةَ تختلِفُ مَطالِعُها ومَغارِبُها، على ما قال تعالى: فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ [المعارج: 40] ، ولا شكَّ أنَّ فيها مَطلِعًا واحدًا ومَغرِبًا واحدًا هما أقرَبُ المَطالِعِ والمَغارِبِ إلى سَمتِ رُؤوسِنا، ثمَّ إنَّها تأخُذُ في التَّباعُدِ مِن ذلك المَطلعِ إلى سائر المطالعِ طولَ السَّنةِ، ثمَّ ترجعُ إليه؛ فخُنوسُها عبارةٌ عن تَباعُدِها عن ذلك المطلِعِ، وكُنوسُها عبارةٌ عن عَودِها إليه، فهذا محتملٌ. فعلى القولِ الأوَّلِ يكونُ القسَمُ واقعًا بالخمسةِ المتحيِّرةِ، وعلى القولِ الثَّاني يكونُ القسَمُ واقعًا بجميعِ الكواكبِ، وعلى هذا الاحتمالِ الَّذي ذكَرْتُه يكونُ القسَمُ واقعًا بالسَّبعةِ السَّيَّارةِ). ((تفسير الرازي)) (31/66). وقال ابن جرير: (اختلَف أهلُ التَّأويلِ في الخُنَّسِ الجَوارِ الكُنَّسِ؛ فقال بعضُهم: هي النُّجومُ الدَّراريُّ الخَمسةُ، تَخنِسُ في مَجْراها فتَرجِعُ، وتَكنِسُ فتَستَتِرُ في بُيوتِها، كما تَكنِسُ الظِّباءُ في المغارِ... وقال آخَرونَ: هي بقَرُ الوَحشِ الَّتي تَكنِسُ في كِناسِها... وقال آخَرونَ: هي الظِّباءُ... وأَوْلى الأقوالِ في ذلك بالصَّوابِ أن يُقالَ: إنَّ اللهَ تعالى ذِكْرُه أقسَمَ بأشياءَ تَخنِسُ أحيانًا -أي: تغيبُ- وتَجري أحيانًا وتَكنِسُ أخرى، وكُنوسُها: أن تأويَ في مَكانِسِها، والمكانسُ عندَ العرَبِ هي المواضعُ الَّتي تأوي إليها بقرُ الوحشِ والظِّباءُ...، وغيرُ مُنْكَرٍ أن يُستعارَ ذلك في المواضعِ الَّتي تكونُ بها النُّجومُ مِن السَّماءِ، فإذْ كان ذلك كذلك، ولم يكُنْ في الآيةِ دَلالةٌ على أنَّ المرادَ بذلك النُّجومُ دونَ البقرِ، ولا البقرُ دونَ الظِّباءِ؛ فالصَّوابُ أن يُعَمَّ بذلك كلُّ ما كانت صِفتُه الخُنوسَ أحيانًا، والجَرْيَ أخرى، والكُنوسَ بآناتٍ، على ما وصَف جلَّ ثناؤُه مِن صِفَتِها). ((تفسير ابن جرير)) (24/152-158). .
وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17).
أي: وأُقسِمُ باللَّيلِ إذا أقبَلَ بظَلامِه، وإذا أدبَرَ [95] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/161)، ((الوسيط)) للواحدي (4/431)، ((تفسير القرطبي)) (19/238)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/273)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 76). ممَّن اختار أنَّ معنى عَسْعَسَ: أدبَر: ابنُ جرير، والسمرقنديُّ، والزمخشري، وابن عطية، وابن تيميَّة، وابن القيِّم، والشوكاني، والقاسمي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/161)، ((تفسير السمرقندي)) (3/552)، ((تفسير الزمخشري)) (4/711)، ((تفسير ابن عطية)) (5/444)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/273)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (1/118)، ((تفسير الشوكاني)) (5/472)، ((تفسير القاسمي)) (9/418)، ((تفسير السعدي)) (ص: 913). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: عليُّ بنُ أبي طالبٍ، وابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ، وقَتادةُ، والضَّحَّاكُ، ومجاهدٌ في روايةٍ عنه، وعَطاءٌ، وزَيدُ بنُ أسْلَمَ، وابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/ 159)، ((البسيط)) للواحدي (23/268)، ((تفسير ابن كثير)) (8/337). قال ابنُ القَيِّمِ: (الأكثرونَ على أنَّ «عَسْعَسَ» بمعنى: ولَّى، وذَهَب، وأدبَرَ. هذا قولُ: عليٍّ، وابنِ عبَّاسٍ وأصحابِه... ومَن رجَّحَ أنَّه إدبارُه احتجَّ بقَولِه تعالى: كَلَّا وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ [المدثر: 32- 34] ، فأقسَمَ سبحانه بإدبارِ اللَّيلِ، وإسفارِ الصُّبْحِ، وذلك نظيرُ عَسْعَسَةِ اللَّيلِ، وتنفُّس الصُّبْحِ. قالوا: والأحسَنُ أن يكونَ القَسَمُ بانصرامِ اللَّيلِ، وإقبالِ النَّهارِ عَقِيبَه مِن غَيرِ فَصْلٍ، فهذا أعظَمُ في الدَّلالةِ والعِبرةِ، بخِلافِ إقبالِ اللَّيلِ وإقبالِ النَّهارِ؛ فإنَّه لم يُعرَفِ القَسَمُ في القرآنِ بهما، ولأنَّ بيْنَهما زمنًا طويلًا، فالآيةُ في انصِرامِ هذا ومجيءِ الآخَرِ عَقيبَه بغيرِ فَصْلٍ أبلَغُ؛ فذَكَر سُبحانَه حالةَ ضَعْفِ هذا وإدبارِه، وحالةَ قوَّةِ هذا وتنفُّسِه وإقبالِه يَطرُدُ ظُلْمةَ اللَّيلِ بتنفُّسِهِ، فكُلَّما تنفَّسَ هَرَبَ اللَّيلُ وأدبَرَ بيْن يديه، وهذا هو القَولُ. واللهُ أعلَمُ). ((التبيان في أقسام القرآن)) (1/118). وحكى الفَرَّاءُ إجماعَ المفَسِّرينَ على هذا القَولِ. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/242). وقال ابنُ جُزَي: (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ يُقالُ: عَسْعَسَ: إذا كان غيرَ مُستحكِمِ الظَّلامِ؛ فقيل: ذلك في أوَّلِه، وقيل: في آخِرِه، وهذا أرجَحُ؛ لأنَّ آخِرَ اللَّيلِ أفضَلُ، ولأنَّه أعقَبَه بقَولِه: وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ أي: استطار واتَّسَع). ((تفسير ابن جزي)) (2/456). وقيل: معنى عَسْعَسَ: أقبَلَ بظَلامِه. وممَّن ذهب إليه: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسِّجِسْتانيُّ، والسَّمْعانيُّ، والخازن، وابن كثير، والبِقاعي، والعُلَيمي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/602)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 340)، ((تفسير السمعاني)) (6/ 169)، ((تفسير الخازن)) (4/399)، ((تفسير ابن كثير)) (8/337، 338)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/286)، ((تفسير العليمي)) (7/298)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 76). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، والحسَنُ البصريُّ، وعطيَّةُ العَوْفيُّ، ومجاهدٌ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير عبد الرزاق)) (3/399)، ((تفسير ابن جرير)) (24/ 161)، ((البسيط)) للواحدي (23/269)، ((تفسير ابن كثير)) (8/337). قال ابنُ كثير: (وعندي أنَّ المرادَ بقَولِه: عَسْعَسَ إذا أقبَلَ، وإن كان يصِحُّ استِعمالُه في الإدبارِ، لكِنَّ الإقبالَ هاهنا أنسَبُ، كأنَّه أقسَم تعالى باللَّيلِ وظَلامِه إذا أقبَلَ، وبالفَجْرِ وضيائِه إذا أشرَقَ، كما قال: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى [اللَّيْلِ: 1، 2]، وقال: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [الضُّحَى: 1، 2]، وقال: فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا [الْأَنْعَامِ: 96]، وغير ذلك مِن الآياتِ). ((تفسير ابن كثير)) (8/338). وقال المُبَرِّدُ -كما نقله عنه القرطبيُّ- والزَّجَّاجُ، والرَّاغبُ، وابن عجيبة: المعنيانِ (أي: أقبَلَ وأدبَرَ) يَرجِعانِ إلى شَيءٍ واحدٍ، وهو ابتداءُ الظَّلامِ في أوَّلِه، وإدبارُه في آخِرِه. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/292)، ((المفردات)) للراغب (ص: 566)، ((تفسير القرطبي)) (19/238)، ((تفسير ابن عجيبة)) (7/250). ويُنظر أيضًا: ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (4/1275). قال الزَّجَّاج: (يُقالُ: عَسْعَسَ اللَّيلُ: إذا أقبَلَ، وعَسْعَسَ: إذا أدبَرَ، والمعنيانِ يَرجِعانِ إلى شَيءٍ واحدٍ، وهو ابتداءُ الظَّلامِ في أوَّلِه، وإدبارُه في آخِرِه). ((معاني القرآن وإعرابه)) (5/292). وقال الرَّاغب: (أي: أقبَلَ وأدبَرَ، وذلك في مبدَأِ اللَّيلِ ومُنتَهاه، فالعَسْعَسةُ والعِسَاسُ: رِقَّةُ الظَّلامِ، وذلك في طرَفَيِ اللَّيلِ). ((المفردات)) (ص: 566). وقال ابنُ كثير: (قال كثيرٌ مِن عُلَماءِ الأُصولِ: إنَّ لَفظةَ «عَسعَسَ» تُستعمَلُ في الإقبالِ والإدبارِ على وَجهِ الاشتراكِ؛ فعلى هذا يَصِحُّ أن يُرادَ كُلٌّ منهما. والله أعلم). ((تفسير ابن كثير)) (8/338). وذكر ابنُ عاشور أنَّه أُتيَ بهذا الفعلِ لأنَّه يفيدُ حالَينِ صالحينِ للقسَمِ به فيهما؛ فهُما مِن مَظاهِرِ القدرةِ. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/154). .
وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18).
أي: وأُقسِمُ بالصُّبحِ إذا أقبَلَ وتَبَيَّنَ ضَوؤُه [96] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/162)، ((تفسير القرطبي)) (19/240)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/274)، ((تفسير ابن كثير)) (8/338)، ((تفسير السعدي)) (ص: 913). قال البِقاعي: (وَالصُّبْحِ أي: الَّذي هو أعدَلُ أوقاتِ النَّهارِ إِذَا تَنَفَّسَ أي: أضاء وأقبَلَ رَوْحُه ونَسيمُه، وأُنسُه ونَعيمُه، واتَّسَع نُورُه، وانفرج به عن اللَّيلِ دَيجورُه [أي: ظَلامُه]). ((نظم الدرر)) (21/287). .
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر المُقسَمَ به؛ أتْبَعَه بذِكْرِ المُقسَمِ عليه [97] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/69). .
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19).
أي: إنَّ مَنْ يُنزِلُ هذا القُرآنَ على محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَسولٌ مِن عندِ اللهِ تعالى، حَسَنُ الخَلْقِ والأخلاقِ، وهو جِبريلُ عليه السَّلامُ [98] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/163)، ((تفسير ابن عطية)) (5/444)، ((تفسير القرطبي)) (19/240)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (2/137)، ((تفسير ابن كثير)) (8/338)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/288)، ((تفسير السعدي)) (ص: 913)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 76). قال القرطبي: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ هذا جوابُ القَسَمِ). ((تفسير القرطبي)) (19/240). .
كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: 192 - 195].
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20).
أي: وهو صاحِبُ قُوَّةٍ عَظيمةٍ، وله عِندَ اللهِ تعالى مكانةٌ عاليةٌ، ومَنزِلةٌ رَفيعةٌ [99] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/163)، ((تفسير القرطبي)) (19/240)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 122)، ((تفسير ابن كثير)) (8/338)، ((تفسير السعدي)) (ص: 913)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 77). .
كما قال تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم: 5] .
مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21).
أي: وهو مُطاعٌ في السَّماءِ عندَ الملائِكةِ، أَمينٌ على ما ائتَمَنَه اللهُ عليه، ومِن ذلك تبليغُه الوَحْيَ إلى أنبيائِه دونَ زيادةٍ أو نَقصٍ [100] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/164)، ((تفسير القرطبي)) (19/240)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/128)، ((تفسير ابن كثير)) (8/339)، ((تفسير السعدي)) (ص: 913)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 78). قال الشوكاني: (ثَمَّ أَمِينٍ... ثَمَّ ظرفُ مكانٍ للبعيدِ، والعاملُ فيه مُطَاعٍ أوْ ما بعدَه، والمعنَى: أنَّه مُطاعٌ في السَّمَواتِ أوْ أمينٌ فيها، أيْ: مُؤْتَمَنٌ على الوحيِ وغيرِه). ((تفسير الشوكاني)) (5/473). .
وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
بَعدَ أنْ أَثنى اللهُ تعالى على القُرآنِ بأنَّه قَولُ رَسولٍ مُرسَلٍ مِن اللهِ، وكان قد تَضَمَّنَ ذلك ثَناءً على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّه صادِقٌ فيما بَلَّغَه عن اللهِ تعالى؛ أَعقَبَه بإبْطالِ بُهْتانِ المُشرِكين فيما اختَلَقوه عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن قَولِهم: مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ [الدخان: 14] ، وقَولِهم: أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [101] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/157). [سبأ: 8] .
وأيضًا لَمَّا ذَكَر فَضْلَ الرَّسولِ المَلَكيِّ الَّذي جاء بالقُرآنِ؛ ذَكَر فَضْلَ الرَّسولِ البَشَريِّ الَّذي نَزَل عليه القُرآنُ، ودعا إليه النَّاسَ، فقال [102] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 913). :
وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22).
أي: وما نَبيُّكم محمَّدٌ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يا أهلَ مكَّةَ، الَّذي خالَطْتُموه وعَرَفْتُم صِدْقَه وأمانَتَه: بمَجنونٍ كما تَزعُمونَ [103] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/165)، ((تفسير القرطبي)) (19/240)، ((تفسير ابن كثير)) (8/339)، ((تفسير السعدي)) (ص: 913)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/158)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 80). قال ابنُ عطيَّة: (أجمَع المفَسِّرونَ على أنَّ قَولَه: وَمَا صَاحِبُكُمْ يُرادُ به محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم). ((تفسير ابن عطية)) (5/444). !
كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [الأعراف: 184] .
وقال الله سُبحانَه: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ [سبأ: 46] .
وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ المُشرِكين كانوا إذا بَلَغَهم أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُخبِرُ أنَّه نَزَلَ عليه جِبريلُ بالوَحيِ مِن وَقتِ غارِ حِراءَ فما بعْدَه، استَهزَؤُوا وقالوا: إنَّ ذلك الَّذي يَتَراءى له هو جِنِّيٌّ! فكَذَّبَهم اللهُ بنَفيِ الجُنونِ عنه، ثمَّ بتَحقيقِ أنَّه إنَّما رأى جِبريلَ القَويَّ الأَمينَ [104] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/159). .
وأيضًا لَمَّا كان المجنونُ لا يُثبِتُ ما يَسمَعُه ولا ما يُبصِرُه حَقَّ الإثباتِ، فكان التَّقديرُ بعْدَ هذا النَّفيِ: «فلقد سَمِعَ مِن رَسولِنا إليه ما أُرسِلَ به حَقَّ السَّمْعِ، ما التبَسَ عليه فيه حَقٌّ بباطِلٍ»؛ عَطَف عليه الإخبارَ برِفعةِ شَأنِه في رُؤيةِ ما لم يَرَه غَيرُه، وأمانتِه، وجُودِه؛ فقال [105] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/292). :
وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23).
أي: ولقد رأى محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جِبْريلَ في صُورتِه الَّتي خَلَقَه اللهُ عليها، وذلك في السَّماءِ مِن جِهةِ المَشرِقِ حيثُ تَطلُعُ الشَّمسُ، وتُرى الأشياءُ بوُضوحٍ [106] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/166)، ((تفسير الزمخشري)) (4/713)، ((تفسير القرطبي)) (19/241)، ((تفسير ابن كثير)) (8/339). قال الواحدي: (يعني: رأى محمَّدٌ جِبريلَ عليهما السَّلامُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ يعني: حيثُ تَطلُعُ الشَّمسُ، في قَولِ الجَميعِ). ((البسيط)) (23/276). وقال ابنُ عاشور: (الأُفُقُ: الفَضاءُ الَّذي يَبْدو للعَينِ مِن الكُرَةِ الهوائيَّةِ بيْن طَرَفَي مَطلَعِ الشَّمسِ ومَغرِبِها، مِن حيثُ يَلوحُ ضَوءُ الفَجرِ ويَبدو شَفَقُ الغُروبِ، وهو يلوحُ كأنَّه قُبَّةٌ زَرقاءُ، والمعنى: رآه ما بيْن السَّماءِ والأرضِ. والْمُبِينِ: وَصفُ الأُفُقِ، أي: للأُفُقِ الواضِحِ البَيِّنِ، والمقصودُ مِن هذا الوَصفِ نَعتُ الأفُقِ الَّذي تَراءى منه جِبريلُ للنَّبيِّ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ بأنَّه أفُقٌ واضِحٌ بَيِّنٌ، لا تَشتَبِهُ فيه المرئيَّاتُ، ولا يُتخَيَّلُ فيه الخَيالُ). ((تفسير ابن عاشور)) (30/ 159). .
كما قال تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [النجم: 5 - 15] .
وعن ابنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رأى جِبْريلَ له سِتُّمِئةِ جَناحٍ !)) [107] رواه البخاريُّ (3232)، ومسلمٌ (174) واللَّفظُ له. .
وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا انتَفَى ما يُظَنُّ مِن لَبسِ السَّمعِ وزَيغِ البصَرِ، لم يَبْقَ إلَّا ما يتعَلَّقُ بالتَّأديةِ؛ فنفى ما يُتوَهَّمُ مِن ذلك [108] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/293). .
وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24).
القِراءاتُ ذاتُ الأَثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ: بِظَنِينٍ بالظَّاءِ، مِن الظِّنَّةِ، وهي التُّهْمةُ، أي: ليس محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمتَّهَمٍ فيما يُخبِرُهم به عن اللهِ، بل هو ثِقةٌ صادِقٌ في ذلك [109] قرأَ بها ابنُ كثيرٍ، وأبو عَمرٍو، والكِسائيُّ، ورُوَيسٌ عن يَعقوبَ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/398، 399). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((تفسير ابن جرير)) (24/167)، ((الحجة)) لابن خالويه (ص: 364)، ((معاني القراءات)) للأزهري (3/124). .
2- قِراءةُ: بِضَنِينٍ بالضَّادِ، مِن الضَّنِّ، وهو البُخلُ، أي: ليس محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ببَخيلٍ عليهم بالوَحْيِ، بل هو يُعَلِّمُهم ما عَلَّمَه اللهُ تعالى مِن القُرآنِ، ويُبَلِّغُهم إيَّاه [110] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/399). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((تفسير ابن جرير)) (24/167)، ((الحجة)) لابن خالويه (ص: 364)، ((معاني القراءات)) للأزهري (3/124). .
وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24).
أي: وما محمَّدٌ ببَخيلٍ على النَّاسِ بالقُرآنِ، ولا يَمتَنِعُ مِن إخبارِهم به، بل هو حَريصٌ على تبليغِ القُرآنِ إلى جميعِ النَّاسِ [111] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/170)، ((الوسيط)) للواحدي (4/432)، ((تفسير القرطبي)) (19/242)، ((تفسير البيضاوي)) (5/290، 291)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/ 274)، ((تفسير ابن كثير)) (8/339)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 80). قال ابنُ القَيِّم: (أجمَعَ المفَسِّرون على أنَّ الْغَيْبِ هاهنا: القُرآنُ والوَحْيُ، وقال الفَرَّاءُ: يقولُ تعالى: يأتيه غَيبُ السَّماءِ، وهو مَنفوسٌ فيه، فلا يَضِنُّ به عليكم. وهذا معنًى حَسَنٌ جدًّا؛ فإنَّ عادةَ النُّفوسِ الشُّحُّ بالشَّيءِ النَّفيسِ، ولا سيَّما عمَّن لا يَعرِفُ قَدْرَه، ويَذُمُّه، ويَذُمُّ مَن هو عِندَه، ومع هذا فهذا الرَّسولُ لا يَبخَلُ عليكم بالوَحْيِ الَّذي هو أنفَسُ شَيءٍ وأجَلُّه. وقال أبو عليٍّ الفارسيُّ: المعنى: يأتيه الغَيبُ فيُبَيِّنُه ويُخبِرُ به ويُظهِرُه، ولا يَكتُمُه كما يَكتُمُ الكاهِنُ ما عندَه ويُخْفيه حتَّى يأخُذَ عليه حُلْوانًا. وفيه معنًى آخَرُ: وهو أنَّه على ثِقةٍ مِن الغَيبِ الَّذي يُخبِرُ به، فلا يخافُ أن يَنتَقِضَ ويَظهَرَ الأمرُ بخِلافِ ما أخبَرَ به، كما يَقَعُ للكُهَّانِ وغَيرِهم ممَّن يُخبِرُ بالغَيبِ؛ فإنَّ كَذِبَهم أضعافُ صِدْقِهم، وإذا أخبَرَ أحَدُهم بخبَرٍ لم يكُنْ على ثقةٍ منه، بل هو خائِفٌ مِن ظُهورِ كَذِبِه، فإقدامُ هذا الرَّسولِ على الإخبارِ بهذا الغَيبِ العَظيمِ -الَّذي هو أعظَمُ الغَيبِ- واثِقًا به، مقيمًا عليه، مُبْديًا له في كُلِّ مَجمَعٍ ومُعِيدًا، مُنادِيًا به على صِدْقِه، مُجلِبًا به على أعدائِه: مِن أعظَمِ الأدِلَّةِ على صِدْقِه). ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 124، 125). ويُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/242)، ((الحجة للقراء السبعة)) للفارسي (6/381). .
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر جَلالةَ كِتابِه وفَضْلَه بذِكْرِ الرَّسُولَينِ الكَريمَينِ -اللَّذَينِ وصلَ الكتابُ إلى النَّاسِ على أيدِيهما، وأثنى اللهُ عليهما بما أثنى؛ دفَعَ عنه كُلَّ آفةٍ ونَقصٍ ممَّا يَقدَحُ في صِدْقِه، فقال [112] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 913). :
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25).
أي: وما هذا القُرآنُ بقَولِ شَيطانٍ مَلعونٍ مَطرودٍ مِن رَحمةِ اللهِ، مَرجومٍ بالشُّهُبِ [113] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/171)، ((تفسير ابن عطية)) (5/444)، ((تفسير القرطبي)) (19/242)، ((تفسير أبي حيان)) (10/419)، ((تفسير ابن كثير)) (8/339)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/294)، ((تفسير السعدي)) (ص: 913). قال ابن عطية: (رَجِيمٍ معناه: مرجومٌ مبعدٌ بالكواكبِ واللَّعنةِ وغيرِ ذلك). ((تفسير ابن عطية)) (5/444). وقال البِقاعي: (رَجِيمٍ أي: مرجومٌ باللَّعنِ وغيرِه مِن الشُّهبِ؛ لأجْلِ استراقِ السَّمعِ، مطرودٌ عن ذلك). ((نظم الدرر)) (21/294). .
كما قال تعالى: وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشعراء: 210 - 212] .
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا لم يَدَعْ وَجهًا يُلَبَّسُ به على مَن لا يَعرِفُ حالَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ سَبَّبَ عنه قَولَه مُوَبِّخًا مُنكِرًا [114] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/294). :
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26).
أي: فإلى أين تَذهَبونَ -أيُّها المُشرِكونَ- عن هذا القُرآنِ مع وُضوحِ الحَقِّ فيه بدَلائِلِه؟ وإلى أيِّ طَريقٍ تَعدِلونَ عنه [115] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/171)، ((تفسير السمعاني)) (6/170)، ((تفسير القرطبي)) (19/243)، ((تفسير أبي حيان)) (10/419). قال ابنُ كثير: (أي: فأين تَذهَبُ عُقولُكم في تكذيبِكم بهذا القُرآنِ مع ظُهورِه ووُضوحِه، وبيانِ كَونِه جاء مِن عندِ اللهِ عزَّ وجَلَّ؟!). ((تفسير ابن كثير)) (8/340). وقال السعدي: (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ أي: كيف يَخطُرُ هذا ببالِكم؟ وأين عَزَبَت عنكم أذهانُكم حتَّى جعَلْتُم الحَقَّ الَّذي هو في أعلى دَرَجاتِ الصِّدقِ بمَنزِلةِ الكَذِبِ الَّذي هو أنزَلُ ما يكونُ، وأرذَلُ وأسفَلُ الباطِلِ؟! هل هذا إلَّا مِن انقِلابِ الحقائِقِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 913). ؟
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
بعْدَ أنْ أَفاقَهم مِن ضَلالتِهم؛ أَرشَدَهم إلى حَقيقةِ القُرآنِ بقولِه [116] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/165). :
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27).
أي: ما هذا القُرآنُ إلَّا تذكيرٌ مِنَ اللهِ تعالى لجَميعِ الإنسِ والجِنِّ، فيتَّعِظونَ به ويَعتَبِرونَ وينتَفِعونَ [117] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/171)، ((الوسيط)) للواحدي (4/432)، ((تفسير القرطبي)) (19/243)، ((تفسير ابن كثير)) (8/340)، ((تفسير السعدي)) (ص: 913)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/165). ممَّن اختار في الجملةِ أنَّ معنى ذِكْرٌ أي: تَذكِرةٌ وعِظَةٌ وزَجْرٌ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والسمرقنديُّ، والواحدي، والقرطبي، وابن كثير. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/605)، ((تفسير ابن جرير)) (24/171)، ((تفسير السمرقندي)) (3/553)، ((الوسيط)) للواحدي (4/432)، ((تفسير القرطبي)) (19/243)، ((تفسير ابن كثير)) (8/340). قال السعدي: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ يتذَكَّرونَ به رَبَّهم، وما لَه مِن صِفاتِ الكَمالِ، وما يُنَزَّهُ عنه مِن النَّقائِصِ والرَّذائِلِ [والأمثالِ]، ويتذَكَّرونَ به الأوامِرَ والنَّواهيَ وحُكْمَها، ويتذكَّرونَ به الأحكامَ القَدَريَّةَ والشَّرعيَّةَ والجَزائيَّةَ، وبالجُملةِ يتذكَّرون به مَصالِحَ الدَّارَينِ، ويَنالونَ بالعَمَلِ به السَّعادَتينِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 913). وقال ابنُ عاشور: (والذِّكْرُ اسمٌ يجمَعُ معانيَ الدُّعاءِ والوَعظِ بحُسنِ الأعمالِ، والزَّجْرِ عن الباطِلِ وعن الضَّلالِ، أي: ما القرآنُ إلَّا تذكيٌر لجميعِ النَّاسِ، يَنتَفِعونَ به في صلاحِ اعتِقادِهم، وطاعةِ اللهِ رَبِّهم، وتهذيبِ أخلاقِهم، وآدابِ بَعضِهم مع بعضٍ، والمحافَظةِ على حُقوقِهم، ودَوامِ انتظامِ جماعتِهم، وكيف يُعامِلونَ غَيرَهم مِن الأُمَمِ الَّذين لم يتَّبِعوه). ((تفسير ابن عاشور)) (30/165). وقيل: قَولُه: ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ، أي: شَرَفٌ لهم، يَشْرُفُ قَدْرُهم به، ويَصيرون أئمَّةً يُقتدَى بهم، ويُختَلَفُ إليهم؛ ليُتعَلَّمَ منهم. يُنظر: ((تفسير الماتريدي)) (10/439). وقال البِقاعي: (ما هُوَ أي: القُرآنُ الَّذي أتاكم به إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ أي: شَرَفٌ للخَلْقِ كُلِّهم مِنَ الِجنِّ والإنسِ والملائكةِ، ومَوعِظةٌ بَليغةٌ عَظيمةٌ لهم). ((نظم الدرر)) (21/295). .
لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28).
أي: وذلك إنَّما يكونُ لِمَن شاء منكم أن يَستقيمَ على الحَقِّ، فيتَّبِعَه ويؤمِنَ به، وأمَّا مَن لا يُريدُ ذلك فلن ينتَفِعَ بالقُرآنِ [118] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/171)، ((الوسيط)) للواحدي (4/432)، ((تفسير القرطبي)) (19/243)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 81). .
كما قال تعالى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2].
وقال سُبحانَه: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [فصلت: 44] .
وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29).
أي: وما تَشاؤونَ الاسْتِقامةَ على الحَقِّ إلَّا إذا شاء الخالِقُ المالِكُ المدَبِّرُ ذلك لكم [119] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/172)، ((معاني القرآن)) للزجاج (5/293، 294)، ((الوسيط)) للواحدي (4/432)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/296). .
كما قال تعالى: وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة: 213] .
وقال سُبحانَه: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [يونس: 100] .
وقال الله تبارك وتعالى: فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [المدثر: 55-56] .
وقال تعالى: إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الإنسان: 29 - 31] .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ أنَّ الوِلايةَ لها رُكنانِ: القُوَّةُ والأمانةُ، وكما قال تعالى: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ [القصص: 26] ، وقال صاحِبُ مِصرَ ليوسُفَ عليه السَّلامُ: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ [120] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/253). [يوسف: 54] .
2- قَولُه تعالى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ بدَلٌ مِن لِلْعَالَمِينَ، والتَّقديرُ: «إنْ هو إلَّا ذِكرٌ لِمَن شاء منكم أن يَستقيمَ»، وفائدةُ هذا الإبدالِ: أنَّ الَّذين شاؤوا الاستِقامةَ بالدُّخولِ في الإسلامِ هم المنتَفِعونَ بالذِّكْرِ، فكأنَّه لم يُوعَظْ به غَيرُهم، والمعنى: أنَّ القرآنَ إنَّما ينتَفِعُ به مَن شاء أن يَستقيمَ [121] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/71). .
3- قال اللهُ تعالى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ الاستِقامةُ هي الاعتِدالُ، ولا عَدْلَ أقوَمُ مِن عَدلِ اللهِ عزَّ وجَلَّ في شريعتِه. وفي الشَّرائعِ السَّابِقةِ كانت الشَّرائِعُ تُناسِبُ حالَ الأُمَمِ زمانًا ومكانًا وحالًا، وبعدَ بَعْثةِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كانت شريعتُه تناسِبُ الأُمَّةَ الَّتي بُعِثَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليها مِن أوَّلِ بَعْثتِه إلى نهايةِ الدُّنيا؛ ولهذا كان مِن العباراتِ المعروفةِ: «إنَّ الدِّينَ الإسلاميَّ صالحٌ لكُلِّ زمانٍ ومكانٍ وحالٍ»، لو تمسَّك النَّاسُ به لَأصلَحَ اللهُ الخَلْقَ [122] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 84). .
4- قال اللهُ تعالى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ضِدُّ الاستقامةِ انحِرافانِ: انحِرافٌ إلى جانِبِ الإفراطِ والغُلُوِّ، وانحرافٌ إلى جانِبِ التَّفريطِ والتَّقصيرِ؛ ولهذا كان النَّاسُ في دِينِ اللهِ عزَّ وجَلَّ ثلاثةَ أشكالٍ: طرَفانِ ووَسَطٌ؛ طَرَفٌ غالٍ مُبالِغٌ مُتنَطِّعٌ مُتعَنِّتٌ، وطَرَفٌ آخَرُ مُفَرِّطٌ مُقَصِّرٌ مُهمِلٌ. الثَّالِثُ: وَسَطٌ بيْن الإفراطِ والتَّفريطِ، مستقيمٌ على دينِ اللهِ، هذا هو الَّذي يُحمَدُ، أمَّا الأوَّلُ الغالي، والثَّاني الجافي؛ فكِلاهما هالِكٌ [123] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 85). .
5- قال اللهُ تعالى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ أي: مَن أراد الهِدايةَ فعليه بهذا القُرآنِ؛ فإنَّه مَنجاةٌ له وهِدايةٌ، ولا هِدايةَ فيما سِواه [124] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/340). .
6- في قَولِه تعالى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هاتان الآيَتانِ مُتضَمِّنتانِ إثباتَ الشَّرعِ والقَدَرِ، والأسبابِ والمُسَبَّباتِ، وفِعلِ العبدِ واستِنادِه إلى فِعْلِ الرَّبِّ، ولكُلٍّ منهما عُبوديَّةٌ مختَصٌّ بها؛ فعُبوديَّةُ الآيةِ الأُولى: الاجتِهادُ واستِفراغُ الوُسعِ، والاختيارُ والسَّعيُ. وعُبوديَّةُ الثَّانيةِ: الاستعانةُ باللهِ والتَّوكُّلُ عليه واللَّجَأُ إليه، واستِنزالُ التَّوفيقِ والعَونِ منه، والعِلمُ بأنَّ العبدَ لا يمكِنُه أنْ يشاءَ ولا يَفْعَلَ حتَّى يَجعَلَه اللهُ كذلك. وقَولُه: رَبُّ الْعَالَمِينَ يَنْتَظِمُ ذلك كلَّه ويَتضَمَّنُه، فمَن عَطَّلَ أحدَ الأمْرَينِ فقد جَحَدَ كَمالَ الرُّبوبيَّةِ وعَطَّلَها [125] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 132). .
7- قال تعالى: رَبُّ الْعَالَمِينَ أي: الموجِدُ لهم والمالِكُ، والمحسِنُ إليهم، والمرَبِّي لهم، وهو أعلَمُ بهم منهم؛ فمِن أجْلِ ذلك لا يَقدِرونَ إلَّا على ما قَدَّرَهم عليه، ويجِبُ على كُلٍّ منهم طاعتُه، والإقبالُ بالكُلِّيَّةِ عليه سبحانه وتعالى، وشُكْرُه؛ اسْتِمْطارًا للزِّيادةِ [126] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/296). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قولُه تعالى: فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ حصَلَ مِن مَجموعِ الأَوصافِ الثَّلاثِ ما يُشبِهُ اللُّغزَ، يُحسَبُ به أنَّ المَوصوفاتِ ظِباءٌ أو وُحوشٌ؛ لأنَّ تلك الصِّفاتِ حَقائِقُها مِن أحوالِ الوُحوشِ. والألغازُ طَريقةٌ مُستَملَحةٌ عندَ بُلَغاءِ العَرَبِ، وهي عَزيزةٌ في كَلامِهم [127] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/153). .
2- قال اللهُ تعالى: فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ هنا يُقسِمُ بحالاتِ الكواكِبِ في ظُهورِها واختِفائِها وجَرَيانِها، وبـ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ، وهما أثَرانِ مِن آثارِ الشَّمسِ في غُروبِها وشُروقِها، والمُقسَمُ عليه: هو أنَّ القُرآنَ قَولُ رَسولٍ كَريمٍ، كأنَّه يقولُ: إنَّ القُرآنَ المقسَمَ عليه: حالُه في الثُّبوتِ والظُّهورِ، وحالُ النَّاسِ معه؛ كحالِ هذه الكواكِبِ الثَّوابِتِ لديكم في ظُهورِها تارةً، واختفائِها أُخرى، وكحالِ اللَّيلِ والصُّبحِ؛ فهو عِندَ أناسٍ مَوضِعُ ثِقةٍ وهِدايةٍ، كالصُّبحِ في إسفارِه، قُلوبُهم مُتفَتِّحةٌ إليه، وعُقولُهم مُهتَدِيةٌ به؛ فهو لهم رُوحٌ ونُورٌ، وعندَ أُناسٍ مُظلِمةٌ أمامَه قُلوبُهم، عُمْيٌ عنه بصائِرُهم، وفي آذانِهم وَقْرٌ، وهو عليهم عَمًى، وأناسٌ تارةً وتارةً، كالنُّجومِ أحيانًا وأحيانًا، تارةً ينقَدِحُ نُورُه في قُلوبِهم، فتَظهَرُ مَعالِمُه فيَسيرونَ معه، وتارةً يَغيبُ عنهم نورُه، فتَخنِسُ عنه عُقولُهم وتَكنِسُ دُونَه قُلوبُهم، كما قال تعالى عنهم: كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا [البقرة: 20] ، وليس بعيدًا أن يُقالَ: إنَّه مِن وَجهٍ آخَرَ؛ تُعتَبَرُ النُّجومُ كالكُتُبِ السَّابِقةِ، مضى عليها الظُّهورُ في حينِها والخَفاءُ بَعْدَها، وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ: هو ظلامُ الجاهِليَّةِ، وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ: يُقابِلُه ظُهورُ الإسلامِ، وأنَّه سيَنتشِرُ انتِشارَ ضَوءِ النَّهارِ، ولا تقوى قوَّةٌ قَطُّ على حَجْبِه، وسيَعُمُّ الآفاقَ كُلَّها مهما وَقَفوا دُونَه: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [128] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/444). قال عطية سالم بعدَ إيرادِ ما سبق: (وقد يكونُ في هذا الإيرادِ غرابةٌ على بعضِ النَّاسِ، ولا سيَّما وأنِّي لم أقِفْ على بحثٍ مُستَقِلٍّ فيه، ولا توجيهٍ يُشيرُ إليه، ولكِنْ مع التَّتَبُّعِ وجَدْتُ اطِّرادَه في مواضِعَ متعَدِّدةٍ، وجديرٌ بأن يُفرَدَ برِسالةٍ). [الصف: 8] .
3- في قَولِه تعالى: فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ مُناسَبةٌ بيْن ذِكْرِ هذه الآياتِ العُلْويَّةِ الأُفُقيَّةِ مع الرَّسولِ الَّذي أُقْسِمَ على أنَّه قولُه، وهو جِبريلُ؛ لأنَّ جِبريلَ عندَ اللهِ عزَّ وجَلَّ [129] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 79). .
4- الصُّبحُ هو الفَجْرُ، كما قال تعالى: وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ، وقال: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ [130] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن رجب (5/29). [هود: 81] .
5- قال تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وفي التَّعبيرِ عن جِبريلَ بوَصفِ رَسولٍ إيماءٌ إلى أنَّ القولَ الَّذي يُبَلِّغُه هو رِسالةٌ مِن اللهِ، مأمورٌ بإبلاغِها كما هيَ [131] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/155). .
6- في قَولِه -تعالى- عن جِبريلَ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وفي الآيةِ الثَّانيةِ عن محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ [الحاقة: 40-41] أنَّ الرَّسولَ يُطْلَقُ على البَشَرِ والمَلَكِ، بخِلافِ النَّبيِّ؛ فإنَّه لا يُطْلَقُ إلَّا على البَشَرِ، فيكونُ الرَّسولُ أَعَمَّ مِن حيثُ مُتَعَلَّقُه، يعني: يكونُ للبَشَرِ والملائِكةِ [132] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 154). .
7- في قَولِه تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ نُسِبَ القَولُ إلى الرَّسولِ؛ لأنَّ القَولَ الصَّادِرَ إليك عن رَسولٍ يُبَلِّغُه إليك عن مُرسِلٍ له: يَصِحُّ أن تَنسُبَه إليه تارةً، وإلى رَسولِه تارةً، وكِلاهما صَحيحٌ [133] يُنظر: ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (4/305). ، وقد ظَنَّ بَعضُ الغالِطينَ أنَّ إضافتَه إلى الرَّسولِ تقتضي أنَّه أنشَأَ حُروفَه، وهذا خَطَأٌ؛ لأنَّه لو كان جبريلُ أو محمَّدٌ هو الَّذي أنشأَ لَفْظَه ونَظْمَه، امتنَعَ أن يكونَ الآخَرُ الَّذي أنشأ ذلك، فلمَّا أضافه إلى هذا تارةً، وإلى هذا تارةً؛ عُلِمَ أنَّه أضافه إليه لأنَّه بَلَّغَه وأدَّاه، لا لأنَّه أنشأه وابتدَأَه لا لَفْظَه ولا معناه؛ ولهذا قال: لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ولم يقُلْ: لَقَولُ مَلَكٍ ولا نَبيٍّ، فذَكَر ذلك بلَفظِ الرَّسولِ؛ ليُبَيِّنَ أنَّه يُبَلِّغُ عن غَيرِه، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [134] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (6/541، 542). [المائدة: 67] .
8- في هذه الآياتِ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ أقسَمَ اللهُ عزَّ وجَلَّ على أنَّ هذا القُرآنَ قَولُ هذا الرَّسولِ الكريمِ الملَكِيِّ جِبريلَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وفي آيةٍ أُخرى بَيَّن اللهُ سُبحانَه وتعالى وأقسَمَ أنَّ هذا القُرآنَ قَولُ رَسولٍ كريمٍ بَشَريٍّ، في قَولِه تعالى: فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ [الحاقة: 38 - 41] ، فكيف يَصِفُ اللهُ القرآنَ بأنَّه قَولُ الرَّسولِ البَشَريِّ والرَّسولِ المَلَكِيِّ؟
الجوابُ: نعَمْ، الرَّسولُ المَلَكِيُّ بَلَّغَه إلى الرَّسولِ البَشَريِّ، والرَّسولُ البَشَريُّ بَلَّغَه إلى الأُمَّةِ، فصار قَولَ جبريلَ بالنِّيابةِ، وقَولَ محمَّدٍ بالنِّيابةِ، والقائلُ الأوَّلُ هو اللهُ عزَّ وجلَّ؛ فالقرآنُ قولُ اللهِ حقيقةً، وقولُ جبريلَ باعتبارِ أنَّه بَلَّغَه لمحمَّدٍ، وقولُ محمَّدٍ باعتبارِ أنَّه بَلَّغَه إلى الأُمَّةِ [135] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 78). .
9- في قَولِه تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وُصِفَ الرَّسولُ المَلَكِيُّ في هذه السُّورةِ بأنَّه كَريمٌ، قَوِيٌّ، مَكِينٌ عندَ الرَّبِّ تعالى، مُطاعٌ في السَّمَواتِ، أمينٌ، فهذه خَمسُ صِفاتٍ تتضَمَّنُ تزكيةَ سَنَدِ القُرآنِ، وأنَّه سَماعُ محمَّدٍ مِن جبريلَ، وسماعُ جبريلَ مِن ربِّ العالَمينَ، فناهيك بهذا السَّنَدِ عُلُوًّا وجَلالةً! تَوَلَّى اللهُ سُبحانَه بنَفْسِه تزكيتَه [136] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 120). .
10- في قَولِه -تعالى- عن جِبريلَ: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ تنبيهٌ على أُمورٍ:
أحدُها: أنَّه بقُوَّتِه يَمنعُ الشَّياطينَ أنْ تَدنوَ مِن القُرآنِ، وأنْ يَنالوا منه شَيئًا، وأنْ يَزيدوا فيه أو يَنْقُصوا منه، بل إذا رآه الشَّيطانُ هَرَبَ منه، ولَمْ يَقْرَبْه.
الثَّاني: أنَّه مُوالٍ لهذا الرَّسولِ الَّذي كَذَّبْتُموه، ومُعاضِدٌ له، ومُوَادٌّ له وناصِرٌ، كما قال تعالى: وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم: 4] ، ومَن كان هذا القويُّ وليَّه ومِن أنصارِه وأعوانِه، ومُعَلِّمَه: فهو المَهْديُّ المنصورُ، واللهُ هاديه وناصِرُه.
الثَّالثُ: أنَّ مَن عادى هذا الرَّسولَ فقد عادى صاحِبَه ووليَّه جِبريلَ، ومَن عادى ذا القُوَّةِ والشِّدَّةِ فهو عُرْضَةٌ للهَلاكِ.
الرَّابعُ: أنَّه قادِرٌ على تنفيذِ ما أُمِرَ به لقُوَّتِه، فلا يَعْجِزُ عن ذلك، مُؤَدٍّ له كما أُمِرَ به لأمانتِه، فهو القَوِيُّ الأمينُ، وأحدُكم إذا انتَدبَ غيرَه في أمْرٍ مِن الأُمورِ لرِسالةٍ أو وِلايةٍ أو وَكالةٍ أو غَيرِها فإنَّما يَنتَدِبُ لها القَويَّ عليه، الأمينَ على فِعْلِه، وإنْ كان ذلك الأمرُ مِن أهمِّ الأُمورِ عندَه انتَدبَ له قَوِيًّا أمينًا مُعَظَّمًا ذا مكانةٍ عندَه، مُطاعًا في النَّاسِ، كما وَصَفَ اللهُ عبْدَه جبريلَ بهذه الصِّفاتِ، وهذا يدُلُّ على عَظَمةِ شأنِ المُرْسِلِ والرَّسولِ والرِّسالةِ والمُرْسَلِ إليه؛ حيثُ انتَدبَ له الكريمَ القويَّ المكِينَ عندَه، المطاعَ في الملأِ الأعلى، الأمينَ حقَّ الأمينِ؛ فإنَّ الملوكَ لا تُرسِلُ في مُهِمَّاتِها إلَّا الأشرافَ ذَوِي الأقدارِ والرُّتَبِ العاليةِ [137] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 121). .
11- في قَولِه تعالى: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ أنَّ جِبريلَ له مَكانةٌ ووَجاهةٌ عِندَه سُبحانَه، وهو أقربُ الملائكةِ إليه [138] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 122). .
12- في قَولِه تعالى: عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ إشارةٌ إلى عُلُوِّ مَنزلةِ جبريلَ؛ إذْ كان قَريبًا مِن ذي العَرْشِ سُبحانَه [139] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 122). .
13- في قَولِه -تعالى- عن جبريلَ: مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ إشارةٌ إلى أنَّ جنودَ جبريلَ وأعوانَه يُطيعونَه إذا نَدَبَهم لنَصرِ صاحبِه وخَليلِه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [140] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 122). .
14- في قَولِه تعالى: مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ إشارةٌ إلى أنَّ هذا الَّذي تُكَذِّبونَه وتُعادونَه سيَصيرُ مُطاعًا في الأرضِ، كما أنَّ جِبريلَ مُطاعٌ في السَّماءِ، وأنَّ كلًّا مِن الرَّسولَينِ مُطاعٌ في مَحَلِّه وقَومِه [141] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 122). .
15- قال اللهُ تعالى: مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ هذا عَظيمٌ جدًّا؛ أنَّ الرَّبَّ عزَّ وجَلَّ يُزَكِّي عَبْدَه ورَسولَه المَلَكيَّ جِبريلَ كما زكَّى عَبْدَه ورَسولَه البَشَريَّ مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بقَولِه: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [142] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/339). [التكوير: 22] .
16- في قَولِه تعالى: مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ تعظيمٌ لجبريلَ بأنَّه بمَنزِلةِ الملوكِ المُطاعِينَ في قَومِهم، فلَمْ يَنْتَدِبْ لهذا الأمرِ العظيمِ إلَّا مِثلَ هذا المَلَكِ المُطاعِ [143] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 122). .
17- قال تعالى: أَمِينٍ وَصْفُ جبريلَ بالأمانةِ؛ إشارةٌ إلى حفْظِه ما حُمِّلَه، وأدائِه له على وَجْهِه [144] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 123). .
18- لَمَّا كان جِبرائيلُ هو الَّذي جاء بالرِّسالةِ، وهو صاحِبُ الوَحيِ، وهو غَيبٌ عن النَّاسِ، لم يَرَوه بأبصارِهم، ولم يَسمَعوا كلامَه بآذانِهم، وزَعَم زاعِمونَ أنَّ الَّذي يأتيه شيطانٌ يُعَلِّمُه ما يقولُ، أو أنَّه إنَّما يُعَلِّمُه إيَّاه بعضُ الإنسِ- أخبَرَ اللهُ العِبادَ عن الرَّسولِ الَّذي جاء به، ونعَتَه أحسَنَ النَّعتِ، وبَيَّن حالَه أحسَنَ البَيانِ، وذلك كُلُّه إنَّما هو تشريفٌ لمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ونَفْيٌ عنه ما زعموه، وتقريرٌ للرِّسالةِ؛ إذ كان هو صاحِبَه الَّذي يأتي بالوَحيِ، فقال: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، أي: أنَّ الرَّسولَ البَشَريَّ لم يَنطِقْ به مِن عِندِ نَفْسِه، وإنَّما هو مُبَلِّغٌ يقولُ ما قِيلَ له؛ فكان في اسمِ الرَّسولِ إشارةٌ إلى مَحْضِ التَّوَسُّطِ والسِّعايةِ، ثمَّ وَصَفَه بالصِّفاتِ الَّتي تَنفي كلَّ عَيبٍ؛ مِنَ القُوَّةِ والمُكْنةِ والأمانةِ، والقُرْبِ مِنَ اللهِ سُبحانَه، فلمَّا استقَرَّ حالُ الرَّسولِ الملَكيِّ بَيَّن أنَّه مِن جِهتِه، وأنَّه لا يجيءُ إلَّا بالخيرِ، وكان الرَّسولُ البَشَريُّ معلومًا ظاهِرُه عِندَهم، وهو الَّذي يُبَلِّغُهم الرِّسالةَ، ولولاه لَمَا أطاقُوا الأخْذَ عن الرَّسولِ الملَكِيِّ [145] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/389). .
19- قال عزَّ وجَلَّ: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ. في قَولِه تعالى: صَاحِبُكُمْ إشارةٌ إلى أنَّه قد صَحِبَكم سِنينَ قبْلَ ذلك، ولا سابِقةَ له بما تقولونَ فيه وتَرمُونَه مِن الجُنونِ والسِّحْرِ وغيرِ ذلك! وأنَّه لولا سابِقتُه وصُحبتُه إيَّاكم لَمَا استَطَعْتُم الأخْذَ عنه، أَلَا تَسمَعُه يقولُ: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا [الأنعام: 9] [146] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/389، 390). ؛ ففيه تنبيهٌ على نِعْمتِه على البَشَرِ وإحسانِه إليهم؛ إذْ بَعَثَ إليهم مَن يَصحَبُهم ويَصحَبونَه بَشَرًا مِثْلَهم؛ فإنَّهم لا يُطيقونَ الأخذَ عن المَلَكِ [147] يُنظر: ((الرد على المنطقيين)) لابن تيمية (ص: 539). .
20- قال تعالى: وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ الظَّاهِرُ -واللهُ أعلَمُ- أنَّ هذه السُّورةَ نزَلَت قبْلَ ليلةِ الإسراءِ؛ لأنَّه لم يَذكُرْ فيها إلَّا هذه الرُّؤيةَ، وهي الأُولى، وأمَّا الثَّانيةُ وهي المذكورةُ في قَولِه: وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى [النجم: 13 - 16] ، فتلك إنَّما ذُكِرَت في سُورةِ «النَّجْمِ»، وقد نزَلَت بَعْدَ سُورةِ «الإسراءِ» [148] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/339). .
21- في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ أنَّ جِبريلَ مَلَكٌ موجودٌ في الخارجِ، يُرى بالعِيانِ، ويُدْرِكُه البصَرُ، لا كما يقولُ المتفلسِفةُ ومَن قَلَّدَهم: إنَّه العَقلُ الفَعَّالُ، وإنَّه ليس ممَّا يُدْرَكُ بالبصَرِ! وحقيقتُه عِندَهم أنَّه خيالٌ موجودٌ في الأذهانِ لا في الأعيانِ! وهذا ممَّا خالَفوا به جميعَ الرُّسُلِ وأتْباعَهم، وخَرَجوا به عن جَميعِ المِلَلِ؛ ولهذا كان تقريرُ رؤيةِ النَّبيِّ لجبريلَ أهمَّ مِن تقريرِ رؤيتِه لربِّه تعالى؛ فإنَّ رؤيتَه لجِبريلَ هي أصلُ الإيمانِ الَّذي لا يَتِمُّ إلَّا باعتِقادِها، ومَن أنْكَرَها كَفَرَ قَطْعًا، وأمَّا رؤيتُه لربِّه تعالى فغايتُها أنْ تكونَ مَسألةَ نزاعٍ لا يَكْفُرُ جاحِدُها بالاتِّفاقِ، فنحن إلى تقريرِ رؤيتِه لجِبريلَ أحوَجُ مِنَّا إلى تقريرِ رؤيتِه لربِّه تعالى، وإنْ كانت رُؤيةُ الرَّبِّ أعظَمَ مِن رُؤيةِ جِبريلَ ومَن دُونَه؛ فإنَّ النُّبُوَّةَ لا يَتوقَّفُ ثُبوتُها عليها البَتَّةَ [149] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 123). .
22- قال تعالَى: وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ وُصِف الأُفُقُ الَّذي تَراءى منه جِبريلُ للنَّبيِّ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ بأنَّه أُفُقٌ واضِحٌ بَيِّنٌ لا تَشتبِهُ فيه المَرئيَّاتُ، ولا يُتخيَّلُ فيه الخَيالُ، وجُعِلَتْ تلك الصِّفةُ عَلامةً على أنَّ المَرئيَّ مَلَكٌ وليس بخَيالٍ؛ لأنَّ الأخْيِلةَ الَّتي يَتخيَّلُها المَجانينُ إنَّما يَتخيَّلُونها على الأرضِ تابِعةً لهم، على ما تَعوَّدوه مِن وَقتِ الصِّحَّةِ [150] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/159، 160). .
23- قوله تعالى: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ هذا إبْطالٌ لقَولِ المُشرِكينَ في الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّه كاهِنٌ؛ فإنَّهم كانوا يَزعُمون أنَّ الكُهَّانَ تأْتِيهم الشَّياطينُ بأخبارِ الغَيبِ، قال تعالى: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [الحاقة: 41-42] ، وقال: وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ [الشعراء: 210-211] ، وقال: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشعراء: 221-222] ، وهُم كانوا يَزعُمون أنَّ الكاهِنَ يَتَلقَّى عن شَيطانِه، ويُسَمُّون شَيطانَه رَئِيًّا [151] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/164). .
24- قال اللهُ تعالى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ إنَّ الَّذينَ لم يَشاؤوا أنْ يَسْتَقيموا هم الكافِرونَ بالقرآنِ، وهم المَسوقُ لهم الكلامُ، ويُلْحَقُ بهم على مَقاديرَ مُتفاوِتةٍ كلُّ مَن فَرَّط في الاهتداءِ بشَيءٍ مِن القرآنِ مِن المسلمينَ؛ فإنَّه ما شاءَ أنْ يستقيمَ لِمَا فَرَطَ منه في أحوالٍ أو أزمانٍ أو أمكنةٍ، وفي هذه الآيةِ إشارةٌ بَيِّنةٌ على أنَّ مِنَ الخَطَأِ أن يُوزَنَ حالُ الدِّينِ الإسلاميِّ بمِيزانِ أحوالِ بَعضِ المُسلِمينَ أو مُعظَمِهم، كما يَفعَلُه بَعضُ أهلِ الأنظارِ القاصِرةِ مِنَ الغَربيِّينَ وغَيرِهم؛ إذ يَجعَلونَ وِجهةَ نَظَرِهم التَّأمُّلَ في حالةِ الأُمَمِ الإسلاميَّةِ، ويَستَخلِصونَ مِن استقرائِها أحكامًا كُلِّيَّةً يَجعَلونَها قَضايا لفَلْسفَتِهم في كُنْهِ الدِّيانةِ الإسلاميَّةِ [152] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/166، 167). !
25- في قَولِه تعالى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أنَّ الأسبابَ لا تَسْتَقِلُّ بالتَّأثيرِ في مُسَبَّباتِها [153] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (4/208). .
26- في قَولِه تعالى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أنَّ ما كان مِن فِعْلِ المخلوقِ فهو بمشيئةِ اللهِ [154] يُنظر: ((شرح الأربعين النووية)) لابن عثيمين (ص: 67). .
27- في قَولِه تعالى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أنَّ مشيئةَ الإنسانِ تابعةٌ لمشيئةِ اللهِ عزَّ وجلَّ [155] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (5/219). .
28- في قَولِه تعالى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أنَّ العبدَ فاعلٌ حقيقةً، وله مَشيئةٌ وقُدرةٌ [156] يُنظر: ((مجموعة الرسائل والمسائل)) لابن تيمية (5/142). .
29- قَولُه تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لا يَدُلُّ على أنَّ العبدَ ليس بفاعِلٍ لفِعْلِه الاختياريِّ، ولا أنَّه ليس بقادرٍ عليه، ولا أنَّه ليس بمُريدٍ، بل يدُلُّ على أنَّه لا يَشاؤُه إلَّا أنْ يشاءَ اللهُ، وهذه الآيةُ ردٌّ على الطَّائِفتَينِ: المُجْبرةِ الجَهميَّةِ، والمُعتَزِلةِ القَدَرِيَّةِ؛ فإنَّه تعالى قال: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ فأَثْبَتَ للعَبدِ مشيئةً وفِعلًا، ثُمَّ قال: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فبَيَّنَ أنَّ مَشيئةَ العبدِ مُعَلَّقةٌ بمشيئةِ اللهِ، والأُولى ردٌّ على الجَبْريَّةِ، وهذه رَدٌّ على القَدَرِيَّةِ الَّذين يقولون: قد يشاءُ العَبدُ ما لا يَشاؤه اللهُ! كما يقولون: إنَّ اللهَ يشاءُ ما لا يَشاؤونَ [157] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/488). ! فدَلَّت الآيةُ على أنَّ مَشيئتَه سُبحانَه نافِذةٌ لا يُمكِنُ أن تُعارَضَ أو تُمانَعَ، ففي هذه الآيةِ وأمثالِها رَدٌّ على هاتَينِ الفِرقتَينِ؛ لأنَّه أثبَتَ لهم مَشيئةً، لكِنْ بخَلْقِه لا بخَلْقِهم [158] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 282)، ((تفسير السعدي)) (ص: 914). .
30- قال اللهُ تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَمَّا وَصَف نَفْسَه سُبحانَه بأنَّه لا يَخرُجُ شَيءٌ عن أَمْرِه، أتْبَعَ ذلك الوَصْفَ بما هو كالعِلَّةِ لذلك، فقال تعالى: رَبُّ الْعَالَمِينَ [159] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/296). .
31- قولُه تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ في هذه الآيةِ، وآيةِ سورةِ الإنسانِ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الإنسان: 29-30] إفْصاحٌ عن شَرَفِ أهلِ الاستِقامةِ بِكَونِهم بمَحَلِّ العِنايةِ مِن رَبِّهم؛ إذْ شاءَ لهم الاستِقامةَ، وهَيَّأَهم لها [160] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/168). .

بلاغة الآيات :

1- قولُه تعالَى: فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ
- قولُه: فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الفاءُ لتَفريعِ القَسَمِ وجَوابِه على الكَلامِ السَّابقِ؛ للإشارةِ إلى أنَّ ما تَقدَّمَ مِن الكَلامِ هو بمَنزِلةِ التَّمهيدِ لِما بعْدَ الفاءِ؛ فإنَّ الكَلامَ السَّابقَ أفادَ تَحقيقَ وُقوعِ البَعثِ والجَزاءِ، وهم قدْ أنكَروه، وكَذَّبوا القُرآنَ الَّذي أنذَرَهم به، فلمَّا قُضِيَ حَقُّ الإنذارِ به، وذُكِرَ أشْراطُه، فُرِّعَ عنه تَصديقُ القُرآنِ الَّذي أنذَرَهم به، وأنَّه مُوحًى به مِن عِندِ اللهِ؛ فالتَّفريعُ هنا تَفريعُ معنًى وتَفريعُ ذِكرٍ معًا [161] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/152). .
- قولُه: فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ القَسَمُ هنا مُرادٌ به تأكيدُ الخَبَرِ وتَحقيقُه، وأُدمِجَ فيه أَوصافُ الأشياءِ المُقسَمِ بها؛ للدَّلالةِ على تَمامِ قُدرةِ اللهِ تعالَى [162] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/152). .
- و(الْخُنَّسِ): جَمعُ خانِسةٍ؛ وهي الَّتي تَخنِسُ، أي: تَختَفي. و(الجَواري): جَمعُ جارِيةٍ؛ وهي الَّتي تَجري، أي: تَسيرُ سَيرًا حَثيثًا. و(الْكُنَّسِ): جَمعُ كانِسةٍ، يُقالُ: كَنَسَ الظَّبْيُ، إذا دَخَلَ كِناسَه (بكَسرِ الكافِ)؛ وهو البَيتُ الَّذي يَتَّخِذُه للمَبيتِ. وهذه الصِّفاتُ المُرادُ بمَوصوفاتِها: الكَواكِبُ، وُصِفْنَ بذلك؛ لأنَّها تَكونُ في النَّهارِ مُختفِيةً عن الأنظارِ، فشُبِّهَتْ بالوَحشيَّةِ المُختفِيةِ في شَجَرٍ ونَحوِه، فقيلَ: (الْخُنَّسِ)، وهو مِن بَديعِ التَّشبيهِ؛ لأنَّ الخُنوسَ اختِفاءُ الوَحشِ عن أنظارِ الصَّيَّادينَ ونَحوِهم دُون سُكونٍ في كِناسٍ، وكذلك الكَواكِبُ؛ لأنَّها لا تُرى في النَّهارِ لغَلَبةِ شُعاعِ الشَّمسِ على أُفُقِها، وهي مع ذلك مَوجودةٌ في مَطالِعِها، وشَبَّهَ ما يَبدو للأنظارِ مِن تَنقُّلِها في سَمْتِ النَّاظِرين للأُفُقِ -باعتِبارِ اختلافِ ما يُسامِتُها مِن جُزءٍ مِن الكُرةِ الأرضيَّةِ- بخُرُوجِ الوَحشِ، فشُبِّهَتْ حالةُ بُدُوِّها بعْدَ احتِجابِها مع كَونِها كالمُتحَرِّكةِ بحالةِ الوَحْشِ تَجري بعدَ خُنوسِها تَشبيهَ التَّمثيلِ، وهو يَقتَضي أنَّها صارَتْ مَرئِيَّةً؛ فَلذلك عَقَّبَ بعْدَ ذلك بوَصفِها بالكُنَّسِ، أي: عندَ غُروبِها، تَشبيهًا لغُروبِها بدُخولِ الظَّبْيِ أو البَقَرةِ الوَحشِيَّةِ كِناسَها بعدَ الانْتِشارِ والجَريِ؛ فشُبِّهَ طُلوعُ الكوكبِ بخُروجِ الوَحشيَّةِ مِن كِناسِها، وشُبِّهَ تَنقُّلُ مَرآها للنَّاظرِ بجَرْيِ الوَحشيَّةِ عندَ خُروجِها مِن كِناسِها صَباحًا، وشُبِّهَ غُروبُها بعدَ سَيْرِها بكُنوسِ الوَحشيَّةِ في كِناسِها، وهو تَشبيهٌ بَديعٌ [163] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/152، 153). .
- وفي قَولِه: فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ احتِباكٌ [164] الاحْتِباك: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لِدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخِرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القُرآنِ وعناصِرِ إعجازِه، وهو مِن ألْطَفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). ؛ ذِكْرُ خُنوسِ الكواكِبِ وكُنوسِها أوَّلًا يُفهِمُ ظُهورَها ثانيًا، وذِكْرُ اللَّيلِ ثانيًا يُفهِمُ حَذْفَ النَّهارِ أوَّلًا [165] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/286). .
2- قولُه تعالَى: وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ
- قولُه: وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ عُطِفَ القَسَمُ باللَّيلِ على القَسَمِ بالكَواكِبِ؛ لمُناسَبةِ جَرَيانِ الكَواكِبِ في اللَّيلِ، ولأنَّ تَعاقُبَ اللَّيلِ والنَّهارِ مِن أجَلِّ مَظاهِرِ الحِكمةِ الإلَهيَّةِ في هذا العالَمِ [166] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/154). .
- الفعلُ (عَسْعَسَ) مِن الأضْدادِ؛ يُقالُ: عَسْعَسَ، إذا أَقبَلَ ظَلامُه، وعَسْعَسَ، إذا أَدبَرَ ظَلامُه؛ وبذلك يَكونُ إيثارُ هذا الفِعلِ لإفادَتِه كِلا حالَينِ صالِحَينِ للقَسَمِ به فِيهما؛ لأنَّهما مِن مَظاهِرِ القُدرةِ؛ إذ يَعقُبُ الظَّلامَ الضِّياءُ، ثمَّ يَعقُبُ الضِّياءَ الظَّلامُ، وهذا إيجازٌ [167] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/154). .
- قولُه: وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ عُطِفَ على القَسَمِ باللَّيلِ القسَمُ بالصُّبحِ حِينَ تَنفُّسِه -أي: انشِقاقِ ضَوئِه-؛ لمُناسَبةِ ذِكرِ اللَّيلِ، ولأنَّ تَنفُّسَ الصُّبحِ مِن مَظاهِرِ بَديعِ النِّظامِ الَّذي جَعَلَه اللهُ في هذا العالَمِ [168] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/154). .
3- قولُه تعالَى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ
- ضَميرُ إِنَّهُ عائدٌ إلى القُرآنِ، ولم يَسبِقْ له ذِكرٌ، ولكنَّه مَعلومٌ مِن المقامِ في سِياقِ الإخبارِ بوُقوعِ البَعثِ؛ فإنَّه ممَّا أخبَرَهم به القرآنُ، وكذَّبوا بالقرآنِ مِن أجْلِ ذلك [169] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/154). .
- والرَّسولُ الكريمُ يُرادَ به: جِبريلُ عليْه السَّلامُ؛ وُصِفَ جِبريلُ برَسولٍ؛ لأنَّه مُرسَلٌ مِن اللهِ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالقُرآنِ. وإضافة (قَوْل) إلى (رَسُولٍ) لأَدْنى مُلابَسةٍ؛ لأنَّ جِبريلَ يُبَلِّغُ ألْفاظَ القُرآنِ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيَحكِيها كما أَمَرَه اللهُ تعالَى، فهو قائِلُها؛ أي: صادِرةٌ منه ألْفاظُها [170] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/154، 155). .
- واستُطرِدَ في خِلالِ الثَّناءِ على القُرآنِ الثَّناءُ على المَلَكِ المُرسَلِ به؛ تَنويهًا بالقُرآنِ، فإجراءُ أَوصافِ الثَّناءِ على رَسُولٍ للتَّنويهِ به أيضًا، وللكِنايةِ على أنَّ ما نَزَل به صِدقٌ؛ لأنَّ كَمالَ القائلِ يدُلُّ على صِدقِ القَولِ [171] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/155). .
- ووُصِفَ جِبريلُ بقولِه: مَكِينٍ، وخُصَّ مِن أوصافِ اللهِ ذِي الْعَرْشِ؛ ليَدُلَّ على عِظَمِ مَنزلةِ جِبريلَ عندَ اللهِ ومَكانتِه؛ لأنَّ حالَ الشَّخصِ يَتفاوَتُ بتَفاوُتِ حالِ مَن له عندَه المنزِلةُ [172] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/712)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/316)، ((تفسير أبي حيان)) (10/418). . وأيضًا عُدِلَ عن اسمِ الجَلالةِ إلى ذِي الْعَرْشِ؛ لتَمثيلِ حالِ جِبريلَ ومَكانَتِه عندَ اللهِ بحالةِ الأميرِ الماضي في تَنفيذِ أمرِ المَلِكِ، وهو بمَحَلِّ الكَرامةِ لَدَيْه [173] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/156). .
- وتَوسيطُ قولِه: عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ بيْنَ ذِي قُوَّةٍ ومَكِينٍ؛ ليَتَنازَعَه كِلَا الوَصفَينِ على وَجْهِ الإيجازِ [174] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/156). .
- وفي إجْراءِ تِلك الصِّفاتِ على جِبريلَ في هذا المَقامِ إدْماجٌ [175] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرَضًا في غرَضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ؛ فهو مِن أفانينِ البَلاغةِ، ويكونُ مرادُ البليغِ غَرَضينِ فيَقرِنُ الغرضَ المَسوقَ له الكلامُ بالغرضِ الثَّاني، وفيه تَظهرُ مَقدرةُ البليغِ؛ إذ يأتي بذلك الاقترانِ بدونِ خروجٍ عن غَرَضِه المسوقِ له الكلامُ ولا تَكلُّفٍ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمِّنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70]؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ. وقيل: أُدمِجتِ المبالَغةُ في المطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه تعالى بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواهُ- مُبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفِرادِ بالحَمْدِ. يُنظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 449)، ((خِزانة الأدب)) لابن حِجَّةَ الحَمَوي (2/484)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((البلاغة العربية)) لعبدالرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). لتَعظيمِ الرَّسولِ، وأنَّه بَلَغ مِن المَكانةِ وعُلُوِّ المَنزِلةِ عندَ ذي العَرشِ أنْ جعَلَ السَّفيرَ بيْنَه وبيْنَه مِثلَ هذا المَلَكِ المُقرَّبِ المُطاعِ الأَمينِ [176] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/319). .
4- قولُه تعالَى: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ عَطفٌ على جُملةِ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [التكوير: 19] ؛ فهو داخِلٌ في خَبَرِ القَسَمِ جَوابًا ثانِيًا عن القَسَمِ، والمَعنى: وما هو (أي: القُرآنُ) بقَولِ مَجنونٍ -كَما تَزعُمون-، فأَبطَلَ قولَهم إبْطالًا مُؤكَّدًا ومُؤيَّدًا؛ فتأْكيدُه بالقَسَمِ وبزِيادةِ (الباء) بعْدَ النَّفيِ، وتأييدُه بما أومَأَ إليه وصْفُه بأنَّ الَّذي بلَّغَه صاحِبُهم؛ فإنَّ وصْفَ (صاحِب) كِنايةٌ عن كَونِهم يَعلَمون خُلُقَه وعَقلَه، ويَعلَمون أنَّه ليس بمَجنونٍ؛ إذْ شأْنُ الصَّاحِبِ ألَّا تَخفَى دَقائقُ أحوالِه على أصحابِه، والمَعنى: نَفيُ أنْ يَكونَ القُرآنُ مِن وَساوِسِ المَجانينِ؛ فسَلامةُ مُبَلِّغِه مِن الجُنونِ تَقتَضي سَلامةَ قولِه عن أنْ يَكونَ وَسوَسةً [177] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/157). .
- قولُه: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ التَّعرُّضُ لعُنوانِ المصاحَبةِ؛ للتَّلويحِ بإحاطَتِهم بتَفاصيلِ أحوالِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ خُبْرًا، وعِلمِهم بنَزاهتِه عليه السَّلامُ عمَّا نَسَبوه إليْه بالكُلِّيَّةِ، فالعُدولُ عن اسمِ النَّبيِّ العَلَمِ إلى صَاحِبُكُمْ؛ لِما يُؤْذِنُ به صَاحِبُكُمْ مِن كَونِهم على عِلمٍ بأَحوالِه [178] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/118)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/159). .
- وتَسمِيةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَجنونًا في قولِه: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ جاءَ على المُشاكَلةِ [179] المُشاكَلةُ: هي ذِكرُ الشَّيءِ بغيرِ لَفظِه؛ لِوُقوعِه في صُحبتِه، كقولِه تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى: 40] ، فالجزاءُ عن السَّيِّئةِ في الحقيقةِ غيرُ سيِّئةٍ، والأصلُ: وجزاءُ سيِّئةٍ عقوبةٌ مِثلُها. يُنظر: ((خزانة الأدب)) للحموي (2/252)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 309)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 171، 172). وإطْباقِ الجَوابِ على ما سُمِعَ مِن كُفَّارِ مكَّةَ، ويُؤيِّدُه أنَّ قولَه: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ جَوابُ القَسَمِ -وذلك على قولٍ-، أي: أُقسِمُ بهذه الأشياءِ أنَّ القُرآنَ نَزَلَ به جِبريلُ، وأنَّ صاحِبَكم ليس بمَجنونٍ؛ لأنَّهم قالوا: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [180] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/318). [الحجر: 6] .
5- قولُه تعالَى: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ
- قولُه: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ الضَّنينُ هو: البَخيلُ، أي: وما صاحِبُكم بِبَخيلٍ، أي: بِما يُوحَى إليه، وما يُخبِرُ به عن الأُمورِ الغَيْبيَّةِ طَلبًا للانتِفاعِ بما يُخبِرُ به، بحَيثُ لا يُنبِّئُكم عنه إلَّا بعِوَضٍ تُعْطونه، وذلك كِنايةٌ عن نَفيِ أن يكونَ كاهِنًا أو عرَّافًا يَتَلقَّى الأخبارَ عن الجِنِّ؛ إذ كان المُشرِكون يَترَدَّدون على الكُهَّانِ، فأَقامَ لهم الفَرْقَ بيْنَ حالِ الكُهَّانِ وحالِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالإشارةِ إلى أنَّ النَّبيَّ لا يَسألُهم عِوَضًا عمَّا يُخبِرُهم به، وأنَّ الكاهِنَ يأخُذُ على ما يُخبِرُ به ما يُسَمُّونه حُلْوانًا، فيكونُ هذا المعنى مِن قَبيلِ قولِه تعالَى: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الفرقان: 57] ، قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا [الأنعام: 90] ، ونحوِ ذلكَ، ويَتعلَّقُ عَلَى الْغَيْبِ بقولِه: بِضَنِينٍ، وحرْفُ (على) على هذا الوجْهِ بمعْنى الباءِ، مِثل قولِه تعالَى: حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [الأعراف: 105] ، أي: حَقيقٌ بي، أو لتَضمينِ (ضَنِين) معْنى حَريصٍ، والحرْصُ: شِدَّةُ البخلِ، أي: وما محمَّدٌ بكاتمٍ شيئًا مِن الغَيبِ، فما أخبَرَكم به فهو عَينُ ما أوحَيْناهُ إليه. وقد يكونُ البَخيلُ على هذا كِنايةً عن كاتِمٍ، وهو كِنايةٌ بمَرتَبةٍ أُخْرى عن عدَمِ التَّغييرِ، والمَعنى: وما صاحِبُكم بكاتِمٍ شَيئًا مِن الغَيبِ، أي: ما أَخبَرَكم به فهو الحَقُّ [181] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/162، 163). .
- قولُه: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ عَطفٌ على إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [التكوير: 19] ، وهذا رُجوعٌ إلى ما أقسَمَ عليه مِن أنَّ القُرآنَ قولُ رَسولٍ كَريمٍ، بعدَ أنِ استُطرِدَ بيْنَهما بتلك المُستَطْرَداتِ الدَّالَّةِ على زِيادةِ كَمالِ هذا القَولِ بقُدُسيَّةِ مَصدَرِه، ومَكانةِ حامِلِه عندَ اللهِ، وصِدقِ مُتلَقِّيه منه عن رُؤْيةٍ مُحقَّقةٍ لا تَخيُّلَ فيها؛ فكان التَّخلُّصُ إلى العَوْدِ لتَنزيهِ القُرآنِ بمُناسَبةِ ذِكرِ الغَيبِ في قولِه تعالَى: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ [التكوير: 24] ؛ فإنَّ القُرآنَ مِن أَمرِ الغَيبِ الَّذي أُوحيَ به إلى مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفيه كَثيرٌ مِن الأخبارِ عن أُمورِ الغَيبِ؛ الجَنَّةِ، والنَّارِ، ونَحوِ ذلك [182] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/163). .
- ورَجِيمٍ فعيلٌ بمعنَى مفعولٍ، أي: مَرجومٍ، والمرجومُ: المُبعَدُ الَّذي يَتباعَدُ النَّاسُ مِن شَرِّه، فإذا أقبَلَ عليهم رجَموه، فهو وصْفٌ كاشفٌ [183] الصِّفةُ الكاشفةُ: هي الَّتي تُبيِّنُ الواقعَ، ولا تُقيِّدُ المَوصوفَ؛ لأنَّ الصِّفاتِ منها صِفةٌ مقيِّدةٌ تُخرِجُ ما سِواه، ومنها صفةٌ كاشِفةٌ تبيِّنُ حقيقةَ أمرِه، فهي خبرٌ عن المَوصوفِ عندَ التَّحقيقِ، تبيِّنُ ماهيَّةَ الشَّيءِ بأن تكونَ وصفًا لازمًا مختصًّا به. والصِّفةُ إذا كان لها مفهومٌ فهي مقيِّدةٌ، وإن لم يكن لها مفهومٌ فهي كاشِفةٌ، أي: مبيِّنةٌ للحقيقةِ، مثالُ ذلك: قولُه تعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون: 117] ، فقولُه: لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ صفةٌ كاشفةٌ، ولا مفهومَ مخالفةٍ له، فلا يصحُّ لأحدٍ أن يقولَ: أمَّا مَن عبَدَ معه إلهًا آخَرَ له بُرهانٌ به فلا مانعَ مِن ذلك! لاستِحالةِ وُجودِ بُرهانٍ على عبادةِ إلهٍ آخَرَ معه، فقولُه: لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ وصفٌ مطابقٌ للواقعِ؛ لأنَّهم يَدْعون معه غيرَه بلا بُرهانٍ، فذِكْرُ الوصفِ لموافقتِه الواقِعَ، لا لإخراجِ المفهومِ عن حُكمِ المنطوقِ. ومِن ذلك قولُه تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [البقرة: 61] ، وقولُه: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 33] . يُنظر: ((الكليات)) للكفوي (ص: 545)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/364، 365)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشعراء)) (ص: 27)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (8/ 299، 314)، ((دراسات أصولية في القرآن الكريم)) للحفناوي (ص: 22). للشَّيطانِ؛ لأنَّه لا يكونُ إلَّا مُتبَرَّأً منه [184] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/164). .
6- قولُه تعالَى: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ مُعتَرِضٌ بيْنَ جُملةِ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ [التكوير: 25] وقولِه: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ [التكوير: 27] ، و(الفاء) لتَفريعِ التَّوبيخِ والتَّعجيزِ على الحُججِ المُتقدِّمةِ المُثبِتةِ أنَّ القُرآنَ لا يَجوزُ أنْ يَكونَ كَلامَ كاهِنٍ، وأنَّه وَحيٌ مِن اللهِ بواسِطةِ المَلَكِ [185] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/119)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/164). .
- و(أَيْنَ): اسمُ استِفهامٍ عن المَكانِ، وهو استِفهامٌ إنْكاريٌّ عن مَكانِ ذَهابِهم، أي: طَريقِ ضَلالِهم [186] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/713)، ((تفسير البيضاوي)) (5/291)، ((تفسير أبي حيان)) (10/419)، ((تفسير أبي السعود)) (9/119)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/164). .
ويَجوزُ أنْ يَكونَ الاستِفهامُ هنا مستَعمَلًا في التَّعجيزِ عن طَلَبِ طَريقٍ يَسلُكونه إلى مَقصدِهم مِن الطَّعنِ في القُرآنِ، والمَعنى: أنَّه قد سُدَّتْ عليْكم طُرُقُ بُهْتانِكم؛ إذِ اتَّضحَ بالحُجَّةِ الدَّامِغةِ بُطلانُ ادِّعائِكم أنَّ القُرآنَ كَلامُ مَجنونٍ، أو كَلامُ كاهِنٍ، فمَاذا تَدَّعون بعدَ ذلك [187] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/164، 165). ؟!
- وقد أُرسِلَتْ جُملةُ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ مَثلًا، ولعلَّه مِن مُبتَكَراتِ القُرآنِ. ووُجِدَ في كَلامِ بَعضِهم: أين يذهَبُ بك؟ لِمَن كان في خَطأٍ وعَمايةٍ [188] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/165). .
7- قولُه تعالَى: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ
- قوله: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ هذه الجُملةُ تَتنزَّلُ مَنزِلةَ المُؤكِّدةِ لجُملةِ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ [التكوير: 25] ؛ ولذلك جُرِّدَتْ عن العاطِفِ؛ ذلك أنَّ القَصْرَ المُستَفادَ مِن النَّفيِ والاستِثْناءِ في قولِه: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ يُفيدُ قَصْرَ القُرآنِ على صِفةِ الذِّكرِ، أي: لا غَيرَ ذلك، وهو قَصْرٌ إضافيٌّ [189] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يَتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144]. والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقَصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكة الميداني (1/525). قُصِدَ منه إبْطالُ أنْ يَكونَ قولَ شاعِرٍ، أو قولَ كاهِنٍ، أو قولَ مَجنونٍ، فمِن جُملةِ ما أَفادَه القَصْرُ نَفيُ أنْ يَكونَ قولَ شيطانٍ رَجيمٍ، وبذلك كان فيه تأْكيدٌ لجُملةِ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ [190] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/165). .
- فإنْ قِيل: القرآنُ يَشتمِلُ على أحاديثِ الأنبياءِ والأُمَمِ، وهو أيضًا مُعجِزةٌ لمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكيف قُصِرَ على كَونِه ذِكرًا؟
فالجوابُ: أنَّ القصْرَ هنا إضافيٌّ، والقصرُ الإضافيُّ لا يُقصَدُ منه إلَّا تَخصيصُ الصِّفةِ بالمَوصوفِ بالنِّسْبةِ إلى صِفةٍ أُخْرى خاصَّةٍ. ويجوزُ أنْ يكونَ القَصْرُ حَقيقيًّا [191] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يَتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144]. والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقَصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكة الميداني (1/525). مُفيدًا قَصْرَ القُرآنِ على الذِّكرِ دُونَ غَيرِ ذلك مِن الصِّفاتِ؛ فإنَّ ما اشتَمَلَ عليْه مِن القَصصِ والأخبارِ مَقصودٌ به المَوعِظةُ والعِبرةُ، وأمَّا إعْجازُه فله مَدخلٌ عَظيمٌ في التَّذْكيرِ؛ لأنَّ إعْجازَه دَليلٌ على أنَّه ليس بكَلامٍ مِن صُنْعِ البشَرِ، وإذا عُلِمَ ذلك وَقَعَ اليَقينُ بأنَّه حَقٌّ [192] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/165، 166). .
- وقولُه: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ بَدَلٌ مِن لِلْعَالَمِينَ بَدَلَ بَعضٍ مِن كُلٍّ، وأُعيدَ مع البَدَلِ حرفُ الجَرِّ العامِلُ مِثله في المُبدَلِ منه لتأْكيدِ العامِلِ [193] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/166). . وأُبدِلَ مِن (العالَمينَ) قولُه: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ؛ لِأنَّهم المُنتَفِعون بالتَّذْكيرِ [194] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/713)، ((تفسير البيضاوي)) (5/291)، ((تفسير أبي السعود)) (9/119). .
- والخِطابُ في قولِه: مِنْكُمْ للَّذين خُوطِبوا بقَولِه: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ [التكوير: 26] ، وإذا كان القُرآنُ ذِكرًا لهم، وهم مِن جُملةِ العالَمينَ، كان ذِكْرُ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ مِن بَقيَّةِ العالَمينَ أيضًا بحُكْمِ قِياسِ المُساواةِ؛ فَفي الكَلامِ كِنايةٌ عن ذلك [195] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/166). .
- قولُه: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ في مَفهومِ الصِّلةِ تَعْريضٌ بأنَّ الَّذين لم يَتذَكَّروا بالقُرآنِ ما حالَ بيْنَهم وبيْنَ التَّذكُّرِ به إلَّا أنَّهم لم يَشاؤُوا أنْ يَستَقيموا، بل رَضُوا لأنفُسِهم بالاعْوِجاجِ -أي: سُوءِ العَملِ والاعتِقادِ-؛ ليَعلَمَ السَّامِعون أنَّ دَوامَ أولئك على الضَّلالِ ليس لقُصورِ القُرآنِ عن هَديِهم، بل لأنَّهم أَبَوا أنْ يَهتَدوا به؛ إمَّا للمُكابَرةِ فقد كانوا يَقولون: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ [فصلت: 5] ، وإمَّا للإعْراضِ عن تَلقِّيه؛ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [196] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/166). [فصلت: 26] .
8- قولُه تعالَى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَجوزُ أنْ تكونَ تَذْييلًا [197] التَّذييل: هو أن يُذَيِّلَ المتكلِّمُ كلامَه بعْدَ تمامِ معناهُ بجملةٍ تحقِّقُ ما قبْلَها، وذلك على ضربَينِ: ضرْبٍ لا يَزيدُ على المعنى الأوَّلِ، وإنَّما يؤكِّدُه ويحقِّقُه. وضرْبٍ يُخرِجُه المتكلِّمُ مخرجَ المثلِ السَّائرِ؛ ليشتهرَ المعنى؛ لكثرةِ دوَرانِه على الألسِنةِ. يُنظر: ((البديع)) لأسامة بن منقذ (ص: 125)، ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 387)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (4/179، 180)، ((البلاغة العربية)) لحبنكة (2/86- 88). أو اعْتِراضًا في آخِرِ الكَلامِ. ويَجوزُ أنْ تكونَ حالًا؛ والمَقصودُ التَّكْميلُ والاحْتِراسُ [198] الاحتِراسُ: هو التَّحرُّزُ مِن الشَّيءِ والتَّحفُّظُ منه، وهو نوعٌ مِن أنواعِ إطنابِ الزِّيادةِ، وهو أن يكونَ الكلامُ محتملًا لشَيءٍ بعيدٍ، فيُؤتى بكلامٍ يَدفعُ ذلك الاحتمالَ. أو الإتيانُ في كلامٍ يوهِمُ خلافَ المقصودِ بما يَدفَعُ ذلك الوهمَ، ويُسمِّيه بعضُهم: التَّكميلَ. يُنظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 245)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (3/208)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/64)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/251)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 49). في مَعنى لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ، أي: ولِمَن شاءَ له ذلك مِن العالَمينَ [199] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/167). .
- وفي قولِه: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ تَقدَّمَ في آخِرِ سُورةِ (الإنسانِ) قولُه تعالَى: إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الإنسان: 29-30] ، والفَرْقُ بيْنَهما: أنَّ في هذه الآيةِ وُصِفَ اللهُ تعالَى بـ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وهو مُفيدٌ التَّعليلَ لارْتِباطِ مَشيئةِ مَن شاءَ الاستِقامةَ مِن العالَمينَ لِمَشيئةِ اللهِ؛ ذلك لأنَّه رَبُّ العالَمينَ؛ فهو الخالِقُ فيهم دَواعيَ المَشيئةِ، وأسبابَ حُصولِها المُتَسلْسِلةَ، وهو الَّذي أرشَدَهم للاستِقامةِ على الحَقِّ، وبهذا الوَصفِ ظهَرَ مَزيدُ الاتِّصالِ بيْنَ مَشيئةِ النَّاسِ الاستِقامةَ بالقُرآنِ، وبيْنَ كَونِ القُرآنِ ذِكرًا للعالَمينَ. وأمَّا آيةُ سُورةِ (الإنسانِ) فقد ذُيِّلَتْ بقَولِه: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الإنسان: 30] ، أي: فهو بعِلمِه وحِكمتِه يَنوطُ مَشيئتَه لهم الاستِقامةَ بمَواضِعِ صَلاحِيَتِهم لها، فيُفيدُ أنَّ مَن لم يَشأْ أنْ يَتَّخِذَ إلى رَبِّه سَبيلًا قد حَرَمَه اللهُ تعالى مِن مَشيئتِه الخَيرَ بعِلمِه وحِكمتِه، كِنايةً عن شَقائِهم [200] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/167). .