موسوعة التفسير

سُورةُ الدُّخَانِ
الآيات (9-16)

ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ

غَريبُ الكَلِماتِ:

فَارْتَقِبْ: أي: فانتَظِرْ، وأصلُ (رقب): يدُلُّ على انتِصابٍ لِمُراعاةِ شَيءٍ [57] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 404)، ((تفسير ابن جرير)) (21/13)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/427)، ((تفسير القرطبي)) (16/155)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 80). .
يَغْشَى: أي: يُغَطِّي ويَستُرُ، وأصلُ (غشي): يدُلُّ على تَغطيةِ شَيءٍ بشَيءٍ [58] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 40)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 75)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/425)، ((المفردات)) للراغب (ص: 607)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 56). .
أَنَّى: كَلِمةٌ يُسألُ بها عن الحالِ والمكانِ، بمعْنى: كيفَ ومِن أينَ [59] يُنظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 96)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 33). .
نَبْطِشُ: البَطْشُ: الأخذُ بعُنفٍ، وأصلُ (بطش): أخذُ الشَّيءِ بقَهرٍ وقُوَّةٍ وغَلَبةٍ [60] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/262)، ((المفردات)) للراغب (ص: 129). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالَى مُخبِرًا عن حالِ المشركينَ: ليْس المُشرِكونَ مُوقِنينَ بحَقيقةِ ما أخبَرْناهم به مِنَ الحَقِّ، بلْ هم في شَكٍّ منه، ومُشتَغِلونَ باللَّعِبِ.
ثمَّ يقولُ تعالَى مُتوعِّدًا لهم: فانتَظِرْ -يا محمَّدُ- يومًا تَأتي فيه السَّماءُ بدُخَانٍ ظاهِرٍ يُغَطِّي النَّاسَ ويَعُمُّهم، فيقولونَ: هذا عَذابٌ مُوجِعٌ مُؤلِمٌ، رَبَّنا ارفَعْ عنَّا هذا العَذابَ؛ فإنَّا مُؤمِنونَ بك إنْ كشَفْتَه عنَّا! مِن أين لأولئك الكُفَّارِ التَّذَكُّرُ والاتِّعاظُ وقدْ جاءهم رَسولٌ ظاهِرٌ، مُبِينٌ لهم الحَقَّ، ثمَّ أعرَضوا عنه وقالوا: هو مُعَلَّمٌ، علَّمَه غَيرُه القُرآنَ، وهو مَجنونٌ؟!
إنَّا كاشِفو ذلك العذابِ عنهم زَمَنًا قليلًا، لكِنَّهم عائِدونَ إلى ما كانوا عليه مِنَ الضَّلالِ.
ثمَّ هَدَّدهم اللهُ تعالَى، فقال: يوْمَ نَأخُذُ المُشرِكينَ أخْذًا شَديدًا عَنيفًا؛ إنَّا مُنتَقِمونَ منهم.

تَفسيرُ الآياتِ:

بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا قَرَّر اللهُ تعالَى رُبوبيَّتَه وأُلوهيَّتَه بما يُوجِبُ العِلمَ التَّامَّ، ويَدفَعُ الشَّكَّ؛ أخبَرَ أنَّ الكافِرينَ معَ هذا البَيانِ مُنغَمِرونَ في الشُّكوكِ والشُّبُهاتِ، غافِلونَ عَمَّا خُلِقوا له، قدِ اشتَغَلوا باللَّعِبِ الباطِلِ الذي لا يُجْدي عليهم إلَّا الضَّرَرَ [61] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:771). .
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9).
أي: ليْس المُشرِكونَ مُوقِنينَ بحَقيقةِ ما أخبَرْناهم به مِنَ الحَقِّ، وإنَّما هم مُنغمِرونَ في شَكِّهم، ومُشتَغِلونَ باللَّعِبِ بالباطِلِ عن اتِّباعِ الحَقِّ [62] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/13)، ((تفسير ابن كثير)) (7/246)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/11-12)، ((تفسير السعدي)) (ص: 772). .
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10).
أي: فانتَظِرِ -يا محمَّدُ- اليَومَ الَّذي تأتي فيه السَّماءُ بدُخَانٍ ظاهِرٍ [63] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/818)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 402)، ((تفسير ابن جرير)) (21/13، 20)، ((معاني القرآن)) للزجاج (4/424)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/13)، ((تفسير الشوكاني)) (4/654)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/285-287). قال ابن جُزَي: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ في هذا قولانِ: أحدُهما: قَولُ عليِّ بنِ أبي طالبٍ، وابنِ عبَّاسٍ: أنَّ الدُّخَانَ يكونُ قبْلَ يومِ القِيامةِ... وهو مِن أشراطِ السَّاعةِ... والثَّاني: قَولُ ابنِ مَسعودٍ: أنَّ الدُّخَانَ عِبارةٌ عمَّا أصاب قُرَيشًا حينَ دعا عليهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالجَدْبِ، فكان الرَّجُلُ يَرى دُخَانًا بيْنَه وبيْنَ السَّماءِ؛ مِن شِدَّةِ الجُوعِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/266). ممَّن اختار القَولَ الأوَّلَ: الرازيُّ، والنَّسَفيُّ، وابنُ القيِّم، وابنُ كثير، وابنُ عُثَيمين. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/657)، ((تفسير النسفي)) (3/288)، ((مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم)) للبعلي (ص: 476)، ((تفسير ابن كثير)) (7/248، 249)، ((شرح العقيدة السفارينية)) لابن عثيمين (1/466). قال ابنُ عُثَيمين: (والأقرَبُ للصَّوابِ: أنَّه دُخَانٌ يُرسِلُه اللهُ عزَّ وجَلَّ عندَ قِيامِ السَّاعةِ، فيَغشَى النَّاسَ كُلَّهم، واللهُ أعلَمُ بكَيفيَّةِ هذا الدُّخَانِ، فنحن إنَّما نَعرِفُ أنَّه دُخَانٌ، لكِنْ لا نَعرِفُ كيْف يأتي النَّاسَ ولا مِن أيْن يأتي، فهذا أمْرُه إلى اللهِ عزَّ وجَلَّ). ((شرح العقيدة السفارينية)) (1/466). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلَفِ: عليُّ بنُ أبي طالب، وأبو سَعيدٍ الخُدْري، وابنُ عمرَ، وابن عبَّاسٍ، والحسن البصريُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/17)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (10/3287)، ((تفسير الماوردي)) (5/247)، ((البسيط)) للواحدي (20/99)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/88). وممَّن اختار القولَ الثاني: مقاتلُ بن سليمان، وابنُ جَريرٍ، والزجَّاجُ، والسمرقنديُّ، ومكِّيٌّ، وجلالُ الدِّين المَحلِّي، وأبو السعود، والشَّوكانيُّ، والألوسيُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/818)، ((تفسير ابن جرير)) (21/21)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/424)، ((تفسير السمرقندي)) (3/268)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (6/4104)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 657)، ((تفسير أبي السعود)) (8/60)، ((تفسير الشوكاني (4/654)، ((تفسير الألوسي)) (13/117))، ((تفسير ابن عاشور)) (25/287). ونسَب الواحديُّ هذا القولَ إلى أكثَرِ المفَسِّرينَ. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (20/98). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ مَسعود، وأبو العاليةِ، والنَّخعي، ومجاهدٌ، والضحَّاك. يُنظر: ((تفسير مجاهد)) (ص: 597)، ((تفسير ابن جرير)) (22/16-13)، ((تفسير الماوردي)) (5/247)، ((البسيط)) للواحدي (20/98)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/89). وفي الصَّحيحَينِ عن ابنِ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه: ((أنَّ قُريشًا لَمَّا أبْطؤوا على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالإسلامِ، قال: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهم بسَبعٍ كسَبْعِ يُوسفَ. فأصابَتْهم سَنةٌ حصَتْ كُلَّ شَيءٍ حتَّى أكَلوا العِظامَ، حتى جعَلَ الرجُلُ يَنظُرُ إلى السَّماءِ فيَرى بيْنه وبيْنها مِثلَ الدُّخَانِ، قال اللهُ: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ [الدخان: 10] ، قال اللهُ: إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ [الدخان: 15] ؛ أفيُكشَفُ عنهم العذابُ يوْمَ القِيامةِ وقدْ مَضى الدُّخَانُ، ومَضَت البَطْشةُ؟!)) [البخاري (4693) واللفظ له، ومسلم (2798)]. قال ابنُ كثيرٍ: (وقدْ نقَل البُخاريُّ عن ابنِ مَسعودٍ، أنَّه فسَّر ذلك بما كان يَحصُلُ لقُريشٍ مِن شِدَّةِ الجُوعِ، بسَببِ القحْطِ الَّذي دَعا عليهم به رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فكان أحدُهم يَرى فيما بيْنه وبيْن السَّماءِ دُخَانًا مِن شِدَّةِ الجُوعِ، وهذا التَّفسيرُ غَريبٌ جدًّا، ولم يُنقَلْ مِثلُه عن أحدٍ مِن الصَّحابِة غيْرِه). ((البداية والنهاية)) (19/ 265). وقال أيضًا بعْدَ أنْ ذكَرَ أثرًا عن ابنِ عبَّاسٍ فيه تَأييدُ القولِ الأوَّلِ؛ قال: (وهكذا قوْلُ مَن وافَقَه [أي: ابنَ عبَّاسٍ] مِن الصَّحابةِ والتابعينَ أجْمَعين، مع الأحاديثِ المرفوعةِ مِن الصِّحاحِ والحِسانِ وغيْرِهما... ممَّا فيه مَقنَعٌ ودَلالةٌ ظاهرةٌ على أنَّ الدُّخَانَ مِن الآياتِ المنتظَرةِ، مع أنَّه ظاهرُ القرآنِ؛ قال اللهُ تعالَى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ أي: بيِّنٍ واضحٍ يَراه كلُّ أحدٍ. وعلى ما فسَّر به ابنُ مَسعودٍ رَضِي اللهُ عنه: إنَّما هو خَيالٌ رأَوه في أعيُنِهم مِن شِدَّةِ الجُوعِ والجهْدِ. وهكذا قولُه: يَغْشَى النَّاسَ أي: يَتغشَّاهم ويعُمُّهم، ولو كان أمرًا خياليًّا يخُصُّ أهْلَ مكَّةَ المشركين لَما قِيل فيه: يَغْشَى النَّاسَ). ((تفسير ابن كثير)) (7/ 249). وقال البيضاويُّ: (الدُّخَانُ يحتَمِلُ المَعنَيينِ). ((تفسير البيضاوي)) (5/100). وكذا قال ابنُ عطيةَ، والنوويُّ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/69)، ((شرح النووي على مسلم)) (18/27). وقال النوويُّ: (ويَحتمِلُ أنَّهما دُخَانانِ؛ للجمْعِ بيْنَ هذه الآثارِ). ((شرح النووي على مسلم)) (18/27). وقال الشوكانيُّ: (لا مُنافاةَ بيْن كَونِ هذه الآيةِ نازِلةً في الدُّخَانِ الذي كان يَتراءى لقُرَيشٍ مِن الجُوعِ، وبيْن كَونِ الدُّخَانِ مِن آياتِ السَّاعةِ وعلاماتِها وأشراطِها). ((تفسير الشوكاني)) (4/656). قال السعديُّ: (وفي الآيةِ احتمالُ أنَّ المرادَ بقولِه: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ أنَّ هذا كلَّه يكونُ يوْمَ القِيامةِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 772). ممَّن اختارَ أنَّ قَولَه: مُبِينٍ أي: بيِّنٍ ظاهرٍ: الزمخشريُّ، والرازيُّ، والنَّسفيُّ، وأبو حيَّان، وابنُ كثير، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/273)، ((تفسير الرازي)) (27/657)، ((تفسير النسفي)) (3/288)، ((تفسير أبي حيان)) (9/399)، ((تفسير ابن كثير)) (7/249)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/286). قال البقاعي: (بِدُخَانٍ مُبِينٍ أي: واضِحٍ لا لَبْسَ فيه عندَ رائيهِ، ومُبِينٍ لِما سِواه مِن الآياتِ للفَطِنِ). ((نظم الدرر)) (18/13). .
عن حُذَيفةَ بنِ أَسِيدٍ الغِفاريِّ رَضِيَ الله عنه، قال: ((اطَّلعَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علينا ونحن نَتذاكَرُ، فقال: ما تَذاكرونَ؟ قالوا: نَذكُرُ السَّاعةَ. قال: إنَّها لنْ تقومَ حتَّى تَرَونَ [64] قال العُكبري: (في هذا الحديثِ: «حتَّى تَرَونَ» بالنونِ، ولا وجهَ له؛ لأنَّ «حتى» بمعنى: إلى أنْ). ((إعراب ما يشكل من ألفاظ الحديث)) (ص: 74). قبْلَها عَشْرَ آياتٍ، فذكَرَ الدُّخَانَ، والدَّجَّالَ، والدَّابَّةَ، وطُلوعَ الشَّمسِ مِن مَغرِبِها، ونُزولَ عِيسى بنِ مَريمَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ويَأجوجَ ومَأجوجَ، وثَلاثةَ خُسوفٍ: خَسفٌ بالمَشرِقِ، وخَسفٌ بالمَغرِبِ، وخَسفٌ بجَزيرةِ العَرَبِ، وآخِرُ ذلك نارٌ تَخرُجُ مِنَ اليَمَنِ تَطرُدُ النَّاسَ إلى مَحشَرِهم )) [65] رواه مسلم (2901). .
يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11).
يَغْشَى النَّاسَ.
أي: يُغَطِّي ذلك الدُّخَانُ النَّاسَ ويَعُمُّهم [66] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/70)، ((تفسير القرطبي)) (16/131-132)، ((تفسير ابن كثير)) (7/249-250). قال القرطبيُّ: (يَغْشَى النَّاسَ في مَوضعِ الصِّفةِ للدُّخَانِ، فإنْ كان قدْ مَضى -على ما قال ابنُ مَسعودٍ- فهو خاصٌّ بالمشركين مِن أهلِ مكَّةَ، وإنْ كان مِن أشراطِ السَّاعةِ فهو عامٌّ). ((تفسير القرطبي)) (16/ 131). .
هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ.
أي: فيَقولون: هذا عَذابٌ مُوجِعٌ شَديدُ الإيلامِ [67] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/70)، ((تفسير ابن جزي)) (2/267)، ((تفسير ابن كثير)) (7/250). ممَّن اختار أنَّ هذا مِن كلامِ النَّاسِ، كأنَّ تقديرَ الكلامِ: يَقولون: هذا عَذابٌ أليمٌ: ابنُ جريرٍ، والزَّجاج، ومكيٌّ، والزمخشريُّ، وابنُ عطية، والنَّسفيُّ، وابنُ جزي، وأبو السُّعود. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/21)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/425)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6727)، ((تفسير الزمخشري)) (4/273)، ((تفسير ابن عطية)) (5/70)، ((تفسير النسفي)) (3/288)، ((تفسير ابن جزي)) (2/267)، ((تفسير أبي السعود)) (8/60). قال ابن جُزَي: (وهذا أظهرُ؛ لأنَّ ما بعْدَه مِن كَلامِهم باتِّفاقٍ، فيكونُ الكلامُ مُتناسقًا). ((تفسير ابن جزي)) (2/267). وقيل: قائِلُ هذه العِبارةِ: هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ هو اللهُ تعالَى. وممَّن قال بهذا: القرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/132). وقال ابنُ كَثير: (يُقال لهم ذلك تَقريعًا وتَوبيخًا، كقَولِه تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [الطور: 13، 14]، أو يقولُ بَعضُهم لبعضٍ ذلك). ((تفسير ابن كثير)) (7/250). وقال القرطبيُّ: (هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ... مَن قال: إنَّ الدُّخَانَ قدْ مَضى، فقولُه: هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ حِكايةُ حالٍ ماضيةٍ، ومَن جعَله مُستقبَلًا فهو حِكايةُ حالٍ آتيةٍ. وقيل: هَذَا بمعنى: ذلك. وقيل: أي يقولُ الناسُ لذلك الدُّخَانِ: هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ. وقيل: هو إخبارٌ عن دُنوِّ الأمرِ، كما تقولُ: هذا الشِّتاءُ فأعِدَّ له). ((تفسير القرطبي)) (16/132). .
كما قال اللهُ تعالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ * أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [يوسف: 105 - 107].
رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12).
أي: يقولُ الكافِرونَ حينَ يُصيبُهم ذلك: يا رَبَّنا، ارفَعْ عنَّا عَذابَك؛ فإنَّا مُؤمِنونَ بك إنْ كشَفْتَ عنَّا هذا العَذابَ [68] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/132)، ((تفسير ابن كثير)) (7/250)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/14-15). قال ابنُ عاشور: (جميعُ المفَسِّرين على أنَّها حِكايةُ قَولِ الذين يَغْشاهم العذابُ، بتَقديرِ: يقولونَ: ربَّنا اكشِفْ عنَّا العذابَ). ((تفسير ابن عاشور)) (25/289). !
أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13).
أي: كيْفَ يَتسَنَّى للكُفَّارِ التَّذكُّرُ والاتِّعاظُ عندَ حُلولِ ذلك العَذابِ بهم، والحالُ أنَّه قدْ جاءهم رَسولٌ ظاهِرٌ غايةَ الظُّهورِ أنَّه رَسولٌ مِن اللهِ، مُظهِرٌ لهم الحَقَّ مِن عِندِه تعالَى [69] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/22)، ((تفسير ابن عطية)) (5/70)، ((تفسير القرطبي)) (16/132)، ((تفسير ابن كثير)) (7/250)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/15-16)، ((تفسير الشوكاني)) (4/654). قال ابنُ عاشور: (أَنَّى اسمُ استِفهامٍ أصلُه استِفهامٌ عن أمكِنةِ حُصولِ الشَّيءِ، ويَتوسَّعونَ فيها فيَجعَلونَها استِفهامًا عن الأحوالِ بمعنى «كيف»، بتَنزيلِ الأحوالِ مَنزِلةَ ظُروفٍ في مكانٍ، كما هنا، بقَرينةِ قَولِه: وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ. والمعنى: مِن أيْن تَحصُلُ لهم الذِّكْرى؟!). ((تفسير ابن عاشور)) (25/291). وقَولُه تعالى: مُبِينٌ اسمُ فاعِلٍ؛ إمَّا مِن (أَبانَ) المُتَعَدِّي، أي: مُبِينٌ لَهُم ما به يتَذَكَّرون، أو مِن (أَبانَ) القاصِرِ الَّذي هو بمَعنَى (بان)، أي: بيِّنٌ ظاهِرٌ. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/291). ممَّن اختار في الجُملةِ أنَّ مُبِينٌ بمعنى: بيِّنُ الرِّسالةِ، وظاهِرُ الصِّدقِ: البَغويُّ، وابنُ الجوزي، وابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/176)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/89)، ((تفسير ابن كثير)) (7/250). وممَّن اختار في الجُملةِ أنَّ مُبِينٌ بمعنى: أنَّه يُبَيِّنُ لهم الحَقَّ وكُلَّ شيءٍ يَحتاجونَ إليه مِن أمرِ الدِّينِ والدُّنيا: القرطبيُّ، والعُلَيمي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/132)، ((تفسير العليمي)) (6/246)، ((تفسير الشوكاني)) (4/654). وممَّن جمَع بيْن المعنيينِ السَّابِقَينِ: البقاعي؛ فقال: (رَسُولٌ مُبِينٌ أي: ظاهِرٌ غايةَ الظُّهورِ أنَّه رَسولُنا، ومُوضِحٌ غايةَ الإيضاحِ لِما جاء به عنَّا بما أظهَرَ مِن الآياتِ). ((نظم الدرر)) (18/16)، ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/291). ؟!
ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14).
أي: ثمَّ أعرَضَ الكُفَّارُ عن الرَّسولِ، وقالوا: هو مُعلَّمٌ علَّمه أحدٌ هذا القُرآنَ، ثمَّ هو مجنونٌ وليْس رَسولًا كما يَدَّعي [70] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/22)، ((الوسيط)) للواحدي (4/87)، ((تفسير القرطبي)) (16/133). !
كما قال الله تبارك  وتعالَى: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر: 6] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل: 103] .
وقال سُبحانَه: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان: 4، 5].
وقال عزَّ وجلَّ: أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ [المؤمنون: 70].
وقال تعالَى: وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ [القلم: 51] .
إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15).
أي: إنَّا كاشِفو العذابِ عنكم وَقتًا قليلًا، ولكِنَّ عَودتَكم -أيُّها المُشرِكونَ- إلى ما كنتُم عليه مِن الضَّلالِ بعْدَ كَشْفِ العَذابِ عنكم: أمرٌ ثابِتٌ مُؤَكَّدٌ [71] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/23)، ((الوسيط)) للواحدي (4/87)، ((تفسير القرطبي)) (16/133)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/17)، ((تفسير الشوكاني)) (4/655). قال ابنُ الجوْزي: (وفي العذابِ قَولانِ: أحَدُهما: الضُّرُّ الذي نَزَل بهم، كُشِفَ بالخِصْبِ. هذا على قَولِ ابنِ مَسعودٍ. قال مُقاتِلٌ: كَشَفَه إِلى يومِ بَدرٍ. والثَّاني: أنَّه الدُّخَانُ. قاله قتادةُ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/89). قال الشوكانيُّ: (إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا أي: إنَّا نَكشِفُه عنهم كَشْفًا قليلًا، أو زَمانًا قليلًا). ((تفسير الشوكاني)) (4/655). !
يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16).
أي: يومَ نَأخُذُ المُشرِكينَ بقُوَّةٍ وأخذٍ عَنيفٍ شَديدٍ؛ إنَّا مُنتَقِمونَ منهم [72] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/25)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/18)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/294). قال الماورديُّ: (البَطشةُ الكُبرى هي العُقوبةُ الكُبرى، وفيها قولانِ: أحدُهما: القَتلُ بالسَّيفِ يومَ بَدرٍ. قاله ابنُ مَسعودٍ، وأُبَيُّ بن كعبٍ، ومجاهدٌ، والضَّحَّاك. الثاني: عذابُ جَهنَّمَ يومَ القِيامةِ. قاله ابنُ عبَّاسٍ، والحسَنُ. ويحتَمِلُ ثالثًا: أنَّها قِيامُ السَّاعةِ؛ لأنَّها خاتِمةُ بَطَشاتِه في الدُّنيا). ((تفسير الماوردي)) (5/248). ممَّن ذهَب إلى أنَّ المرادَ: يومُ بدرٍ: مُقاتلُ بن سليمان، وابنُ جرير، والخازن، والشوكانيُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/819)، ((تفسير ابن جرير)) (21/25)، ((تفسير الخازن)) (4/117)، ((تفسير الشوكاني)) (4/656)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/293). ونسَبه الثَّعلبيُّ والبغويُّ إلى أكثرِ العلماءِ. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (8/351)، ((تفسير البغوي)) (4/176). ممَّن ذهَب إلى أنَّ ذلك اليومَ هو يومُ القِيامةِ: السمعانيُّ، والرازيُّ، وابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/124)، ((تفسير الرازي)) (27/658)، ((تفسير ابن كثير)) (7/251). قال ابنُ كثير: (فسَّرَ ذلك ابنُ مسعودٍ بيومِ بَدرٍ، وهذا قولُ جماعةٍ ممَّن وافَق ابنَ مَسعودٍ على تفسيرِه... وهو محتَمِلٌ، والظَّاهِرُ أنَّ ذلك يومُ القِيامةِ، وإنْ كان يومُ بدرٍ يومَ بطشةٍ أيضًا). ((تفسير ابن كثير)) (7/251). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ :

1- قولُه تعالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ من الحِكمةِ في نُزولِه ليْلًا: أنَّ اللَّيلَ زمانُ المناجاةِ، ومَهْبطُ النَّفحاتِ، ومَشهَدُ التَّنزُّلاتِ، ومظهرُ التَّجليَّاتِ، ومَوردُ الكراماتِ. وفي اللَّيلِ فَراغُ القُلوبِ بذِكرِ حَضرةِ المحبوبِ، فهو أطيَبُ مِن النَّهارِ عندَ المقرَّبِين والأبرارِ [73] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص:234). .
2- قَولُ اللهِ تعالَى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ * أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ فيه الإشارةُ إلى أنَّ الدُّخَانَ مِن أشراطِ السَّاعةِ الكُبْرى [74] يُنظر: ((روح البيان)) للخلوتي (8/401). ، على أحدِ القولينِ في التفسيرِ.
3- قوله: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ هذه هي طَبيعةُ البشَرِ؛ إذا همْ وقَعوا في شِدَّةٍ -أيًّا كانتْ- أنْ يَعِدوا بالتَّوبةِ والإقلاعِ عمَّا هم فيه، ولكنَّ النُّفوسَ الشِّرِّيرةَ لا تتَّجِهُ إلى فِعلِ الخيرِ، ولا تَفعَلُ ما تَتقرَّبُ به إلى ربِّها، انتظارًا لِمَثوبتِه، ورَجاءً في غُفرانِه ورَحمتِه [75] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (25/123). .
4- قوله: إِنَّكُمْ عَائِدُونَ فيه تَنبيهٌ على أنَّهم لا يُوفُون بعَهْدِهم، وأنَّهم في حالِ العجْزِ يَتضرَّعون إلى اللهِ تعالَى، فإذا زال الخَوفُ عادوا إلى الكُفْرِ والتَّقليدِ لمذاهبِ الأسلافِ [76] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/658). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ
- قولُه: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ حَرفُ بَلْ للإضرابِ الإبطاليِّ، وهو ردٌّ لكَونِهِم مُوقِنينَ ومُقِرِّينَ بأنَّه رَبُّ السَّمواتِ والأَرضِ وما بيْنهُما؛ فإنَّ إقرارَهم غَيرُ صادِرٍ عن عِلمٍ ويَقينٍ ثابِتٍ، بلْ هو كالعَدَمِ؛ لأنَّهم خَلَطوه بالشَّكِّ واللَّعِبِ، فارتَفَعتْ عنه خاصِّيَّةُ اليَقينِ والإقرارِ الَّتي هي الجَرْيُ على مُوجَبِ العِلمِ؛ فإنَّ العِلمَ إذا لم يَجُرَّ صاحِبَه على العَمَلِ به، وتَجدِيدِ مُلاحَظَتِه؛ تَطَرَّقَ إليه الذُّهولُ ثُمَّ النِّسيانُ، فضَعُفَ حتَّى صار شَكًّا؛ لانْحِجابِ الأدِلَّةِ الَّتي يَرسُخُ بها في النَّفسِ، أي: هم شَاكُّون في وَحدانِيَّةِ اللهِ تَعالَى. وقِيلَ: إضرابٌ عن مَحذوفٍ؛ كأنَّه قال: فلَيسُوا بمُوقِنين، بلْ هم في شَكٍّ بِحَسَبِ ضَمائِرِهم [77] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/272)، ((تفسير البيضاوي)) (5/100)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/284، 285)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/119). .
- قولُه: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ لِفَرْطِ عِنادِهم وعَدمِ إيقانِهم، الْتَفَت مِن الخِطابِ في قولِه تعالَى: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ إلى الغَيبةِ، فبَعَّدَهم وطَرَدهم؛ إيذانًا بأنَّهم مع إيقانِهم ذلك مُنَزَّلُون مَنزِلَةَ الشَّاكِّين، حيثُ لم يَعمَلُوا بمُوجَبِه، وخَلَطوا مع اليَقينِ الهُزْءَ واللَّعِبَ [78] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/200). .
- قولُه: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ فيه الإتيانُ بحَرفِ الظَّرفِيَّةِ (في)؛ للدَّلالَةِ على شِدَّةِ تَمَكُّنِ الشَّكِّ مِن نُفوسِهِم حتَّى كأنَّه ظَرفٌ مُحيطٌ بهِم لا يَجِدون عنه مَخرَجًا، أي: لا يُفارِقُهم الشَّكُّ [79] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/285). .
- وجُملَةُ يَلْعَبُونَ حالٌ مِن الضَّميرِ هُمْ، أي: اشتَغَلوا عن النَّظَرِ في الأَدِلَّةِ الَّتي تُزيلُ الشَّكَّ عنهم، وتَجعَلُهم مُهتَدِينَ، بالهُزْءِ واللَّعِبِ في تَلَقِّي دَعوَةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ؛ فكان انغِماسُهم في الشَّكِّ مُقارِنًا لحالِهم مِن اللَّعِبِ. ولهذِه الجُملَةِ الحالِيَّةِ مَوقِعٌ عَظيمٌ؛ إذ بها أُفيدَ أنَّ الشَّكَّ حامِلٌ لهم على الهُزْءِ واللَّعِبِ، وأنَّ الشُّغُلَ باللَّعِب يَزيدُ الشَّكَّ فيهم رُسوخًا، بخِلافِ ما لو قِيلَ: بلْ هم في شَكٍّ ولَعِبٍ؛ فتَفَطَّنْ [80] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/285). .
2- قولُه تعالَى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ تَفريعٌ على جُملَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ [الدخان: 9] ، قُصِدَ مِنهُ وَعْدُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بانتِقامِ اللهِ مِن مُكَذِّبيه، ووَعيدُ المُشرِكينَ على جُحودِهم بدَلائلِ الوَحدانِيَّةِ وصِدْقِ الرَّسولِ، وعُكوفِهم على اللَّعِبِ، أي: الاستِهزاءِ بالقُرآنِ والرَّسولِ، وذَكَر له مُخَوِّفاتٍ للمُشرِكين لإعدادِهم للإيمانِ، وبَطْشَةَ انتِقامٍ مِن أَئِمَّتِهِم تَستَأصِلُهم؛ فالفَاءُ في قَولِه تَعالَى: فَارْتَقِبْ لتَرتيبِ الارتِقابِ أو الأمْرِ به على ما قَبْلَها؛ فإنَّ كوْنَهم في شَكٍّ مِمَّا يُوجِبُ ذلكَ حَتْمًا، أي: فانتَظِرْ لَهُم يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ، أي: يوْمَ شِدَّةٍ ومَجَاعةٍ؛ فإنَّ الجائعَ يَرَى بيْنَه وبيْنَ السَّماءِ كهَيئَةِ الدُّخَانِ؛ إمَّا لضَعفِ بَصَرهِ، أو لأَنَّ في عامِ القَحطِ يُظلِمُ الهَواءُ لقِلَّةِ الأَمطارِ وكَثرَةِ الغُبارِ، أو لأنَّ العَرَبَ تُسَمِّي الشَّرَّ الغالِبَ دُخَانًا [81] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/59، 60)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/285). . وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
- قولُه: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ الخِطابُ في فَارْتَقِبْ للنَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، والأَمرُ مُستَعمَلٌ في التَّثبيتِ [82] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/285). .
- وقدِ الْتَفَتَ إلى حَبيبِه صَلَواتُ اللهِ عليه مُسَلِّيًا له، وإقناطًا مِن إيمانِهِم بقَولِه: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ؛ فقابَلَ إنزالَ الكِتابِ بإنزالِ العِقابِ مِن السَّماءِ؛ يعني: إنزالُ الكِتابِ رَحمَةٌ لهم، وحِين أَعرَضُوا عنه انتَظِرْ إنزالَ العَذابِ [83] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/200). .
- والارتِقابُ: افتِعالٌ مِن رَقَبَه؛ إذا انتَظَره، وإنَّما يَكونُ الانتِظارُ عندَ قُربِ حُصولِ الشَّيءِ المُنتَظَرِ، وفِعلُ (ارتَقِبْ) يَقتَضِي بصَريحِه أنَّ إتيانَ السَّماءِ بدُخانٍ لم يَكُن حاصِلًا في نُزولِ هذه الآيَةِ، ويَقتَضي كِنايَةً عن اقتِرابِ وُقوعِه كما يُرتَقَب الجَائي مِن مَكانٍ قَريبٍ [84] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/285). .
- والفعلُ (ارتَقِبْ) مُتعَدٍّ، ولكنَّه قُصِرَ هنا تَهويلًا؛ لذَهابِ الوَهمِ في مَفعولِه كلَّ مَذهَبٍ [85] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/13). . وهذا بناءً على أنَّ يَوْمَ ظرفٌ، وليس مفعولًا به.
- وفي قولِه: تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ أَسنَدَ (العَذابَ) إلى (السَّماءِ)، وإنْ كان هو الفاعِلَ حَقيقَةً؛ ليَكُونَ على وِزَانِ قَولِه: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] ، وقولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((والشَّرُّ ليْس إليكَ )) [86] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/200). والحديث أخرجه مسلم (771). . وقِيلَ: لأنَّ السَّماءَ مَكانُه حينَ يَتَصاعَدُ في جَوِّ السَّماءِ أو حِينَ يَلوحُ للأَنظارِ منها [87] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/100)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/286). .
3- قولُه تعالَى: يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ
- قولُه: هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ يَجوزُ أنْ يَكُونَ إخبارًا مِن جانِبِ اللهِ تعالَى تَعجيبًا منه، كما في قَولِه تعالَى في قِصَّةِ الذَّبيحِ: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ [الصافات: 106] . ويَحتَمِلُ أنْ يَكونَ ذلك مِن قَولِ النَّاسِ الَّذِين يَغشاهُمُ العَذابُ بتَقديرِ: يَقولُون: هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [88] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/70)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/289). .
- والإشارَةُ في قَولِه: هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ إلى الدُّخَانِ المَذكُورِ آنِفًا، عُدِلَ عن استِحْضارِه بالإضمارِ وأنْ يُقالَ: هو عَذابٌ أَليمٌ، إلى استِحْضارِهِ بالإشارةِ؛ لتَنْزيلِه مَنزِلَةَ الحاضِرِ المُشاهَدِ؛ تَهويلًا لأمْرِه، كما تَقولُ: هذا الشِّتاءُ قادِمٌ، فأَعِدَّ له [89] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/289). .
4- قولُه تعالَى: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ هذه جُملَةٌ مُعترِضَةٌ بيْن جُملَةِ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الدخان: 11] وجُملَةِ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى [الدخان: 13] ؛ فهي مَقولُ قَولٍ مَحذوفٍ، وهي مَحمولةٌ على أنَّها حِكايةُ قَولِ الَّذين يَغشَاهُم العَذابُ بتَقديرِ: يَقولُون: ربَّنا اكشِفْ عنَّا العَذابَ، أي: هو وَعدٌ صادِرٌ مِن النَّاسِ الَّذين يَغشاهُمُ العَذابُ بأنَّهُم يُؤمِنونَ إنْ كُشِفَ عَنهُم العَذابُ [90] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/289، 290). .
- وأُسلوبُ الكَلامِ جارٍ على أنَّ جُملَةَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ تَعليلٌ لطَلَبِ كَشْفِ العَذابِ عنهم؛ لِمَا يَقتَضِيه ظاهِرُ استِعمالِ حَرفِ (إنَّ) مِن مَعنَى الإخبارِ دُونَ الوَعدِ، ومِن التَّعليلِ دُونَ التَّأكيدِ، ولِمَا يَقتَضيه اسمُ الفاعِلِ في زَمَنِ الحالِ دُونَ الاستِقبَالِ، ولأنَّ سِياقَه خِطابٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بتَرَقُّبِ إعانَةِ اللهِ إيَّاهُ على المُشرِكين؛ كما كان يَدعُو: ((أَعِنِّي عَلَيهِم بِسَبْعٍ كسَبعِ يُوسُفَ )) [91] أخرجه البخاريُّ (4774) واللفظ له، ومسلمٌ (2798)، من حديثِ ابنِ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه. ؛ فمُقتَضَى المَقامِ تَأْمينُه مِن أنْ يُصيبَ العَذابُ المُسلِمينَ وفيهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم [92] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/290). .
5- قولُه تعالَى: أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ تَكذيبٌ لوَعدِهم، ورَدٌّ لكَلامِهم واستِدعائِهمُ الكَشفَ، وتَكذيبٌ لَهُم في الوَعدِ بالإيمانِ المُنبِئِ عن التَّذَكُّرِ والاتِّعاظِ بما اعتراهُم مِن الدَّاهِيَةِ [93] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/273)، ((تفسير البيضاوي)) (5/100)، ((تفسير أبي حيان)) (9/400)، ((تفسير أبي السعود)) (8/60)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/291). .
ويَجوزُ أن تَكونَ جُملَةً مُستَأنَفَةً ناشِئَةً عن قَولِه: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ [الدخان: 9] ، وهي كالنَّتيجَةِ لها؛ لأنَّهُم إذا كانوا في شكٍّ يَلعَبون، فقدْ صَارُوا بُعَداءَ عن الذِّكرَى. والاستِفهامُ مُستَعمَلٌ في الإنكارِ والإحالَةِ، أي: كيْفَ يَتَذَكَّرون وهم في شكٍّ يَلعَبون وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ فتَوَلَّوْا عنه وطَعَنوا فيه؟! [94] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/291).
- ومُبِينٌ اسمُ فاعِلٍ؛ إمَّا مِن (أَبانَ) المُتَعَدِّي، وحُذِف مَفعولُه لدَلالَةِ الذِّكرَى عليه، أي: مُبِينٌ لَهُم ما به يتَذَكَّرون. ويَجوزُ أن يَكونَ مِن (أَبانَ) القاصِرِ الَّذي هو بمَعنَى (بان)، أي: رَسولٌ ظاهِرٌ، أي: ظاهِرَةٌ رِسالَتُه عن اللهِ بما تَوَفَّرَ معها مِن دَلائلِ صِدْقِه. وإيثارُ (مُبِينٍ) بتَخفيفِ الياءِ على (مُبَيِّنٍ) بالتَّشديدِ مِن نُكَتِ الإعجازِ؛ ليُفِيدَ المَعنَيَينِ [95] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/291). .
6- قولُه تعالَى: ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ
- حرفُ (ثمَّ) للتَّراخِي الرُّتَبِيِّ، وهو تَرَقٍّ مِن مُفادِ قَولِه: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ [الدخان: 9] الَّذي اتَّصَلَت به جُملَةٌ كَانَتْ جُملَةُ وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ مِن مُتَعَلَّقَاتِها؛ فالمَعنَى: وقدْ جَاءَهُم رَسولٌ فشَكُّوا في رِسالَتِه، ثُمَّ تَوَلَّوا عنه وطَعَنوا فيه؛ فالتَّوَلِّي والطَّعنُ حَصَلَا عِندَ حُصولِ الشَّكِّ واللَّعِبِ؛ ولذلك كانتْ (ثُمَّ) للتَّراخِي الرُّتَبِيِّ لا لِتَراخِي الزَّمانِ، ومَعنَى التَّراخِي الرُّتَبِيِّ هنا: أنَّ التَّوَلِّيَ والبُهتانَ أفظَعُ مِن الشَّكِّ واللَّعِبِ [96] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/291، 292). .
- ولَمَّا كانتِ الفِطَرُ الأُولى داعيةً إلى الإقبالِ على الحقِّ، نازعةً إلى الانقطاعِ إلى اللهِ، والعُكوفِ ببابِه، واللَّجاءِ إلى جَنابِه، إلَّا بجهْدٍ مِن النَّفْسِ في النُّفورِ، وعِلاجِ دَواعي الثُّبورِ -أشار إلى ذلك بالتَّعبيرِ بصِيغةِ التَّفعُّلِ، فقال: تَوَلَّوْا عَنْهُ [97] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/16). .
- قولُه: وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ وَصَفوه مرَّةً بأنَّه يُعَلِّمُه غَيرُه، ووَصَفوه مرَّةً بالجُنونِ، تَنقُّلًا في البُهتانِ، أو وَصَفَه فَريقٌ بِهَذا وفَريقٌ بذلك؛ فالقَولُ مُوَزَّعٌ بيْن أَصحابِ ضَميرِ (قَالُوا) أو بيْنَ أَوقاتِ القائِلِين، ولا يَصِحُّ أن يَكُونَ قَولًا واحِدًا في وَقتٍ واحِدٍ؛ لأنَّ المَجنونَ لا يَكونُ مُعَلَّمًا ولا يَتأَثَّرُ بالتَّعليمِ [98] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/292). .
7- قولُه تعالَى: إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ جَوابٌ مِن جِهَتِه تعالَى عن قولِهم: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ بطَريقِ الالتِفاتِ إلى الخِطابِ؛ لِمَزيدِ التَّوبيخِ والتَّهديدِ، وما بيْنَهما اعتِراضٌ، أي: إنَّا نَكشِفُ العذابَ المَعهودَ عنكم كَشْفًا قَليلًا أو زَمانًا قليلًا؛ إنَّكُم تَعودُون إثْرَ ذلك إلى ما كُنتُم عليه مِن العُتُوِّ والإصرارِ على الكُفرِ، وتَنسَون هذه الحالَةَ. أو هو إعلامٌ للنَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ بأنْ يُكشَفَ العذابُ المتَوَعَّدُ به المُشرِكون مُدَّةً؛ فيَعودُون إلى ما كانوا فيه [99] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/61)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/292). ، وهذا على قولٍ في التَّفسيرِ.
- وفائدةُ التَّقييدِ بقولِه: قَلِيلًا الدَّلالةُ على زِيادةِ خُبثِهم؛ لأنَّهم إذا عادوا قبْلَ تَمامِ الانكشافِ، كانوا بَعْدَه أسْرعَ إلى العوْدِ [100] يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (8/413). . وهذا على قَولٍ في التَّفسيرِ.
- وجُملَةُ إِنَّكُمْ عَائِدُونَ مُستَأنَفةٌ استِئنافًا بَيانِيًّا؛ لأنَّهم إذا سَمِعوا إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا تَطَلَّعوا إلى ما سَيَكونُ بعْدَ كَشفِه، وتَطَلَّعَ المُؤمِنون إلى ما تَصيرُ إليه حالُ المُشرِكينَ بعْدَ كَشفِ العَذابِ: هل يُقلِعُون عن الطَّعنِ؟ فكان قَولُه: إِنَّكُمْ عَائِدُونَ مُبَيِّنًا لِمَا يَتَسَاءَلونَ عنه [101] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/293). . وهذا على قَولٍ في التَّفسيرِ.
- ولَمَّا كانوا قدْ أكَّدوا الإخبارَ بإيمانِهم -وهو باطِلٌ- أكَّدَ سُبحانَه الإخبارَ بكَذِبِهم، ومَن أصدَقُ منه سُبحانه قِيلًا، فقال تَحقيقًا لقولِه تعالَى: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام: 28] : إِنَّكُمْ عَائِدُونَ [102] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/17). .
- وصِيغةُ الفاعلِ في كَاشِفُوا ، وعَائِدُونَ؛ للدَّلالةِ على تَحَقُّقِهما لا مَحالَةَ في المُستَقبَلِ، ولقدْ وَقَعَ كِلاهُما، حيثُ كَشَف اللهُ تعالَى العذابَ بدُعاءِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عَلَيه وسَلَّمَ؛ فمَا لَبِثُوا أنْ عادُوا إلى ما كانُوا عليه مِن العُتُوِّ والعِنادِ، فعَاودَهَم القَحطُ كَمالَ سَبعِ سِنينَ [103] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/61)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/293). ، وهذا على قولٍ في التَّفسيرِ.
8- قولُه تعالَى: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ الجُملةُ مُستأنَفةٌ استِئنافًا بَيانِيًّا ناشِئًا عن قَولِه: إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ [الدخان: 15] ؛ فإنَّ السَّامِعَ يُثارُ في نَفسِه سُؤالٌ عن جَزائِهم حيثُ يَعودُون إلى التَّوَلِّي والطَّعنِ؛ فأُجيبَ بأنَّ الانتِقامَ منهم هو البَطشَةُ الكُبرَى، وهي الانتِقامُ التَّامُّ، ولأجْلِ هذا التَّطَلُّعِ والتَّساؤُلِ أُكِّدَ الخبَرُ بحَرْفِ التَّأكيدِ (إنَّ) دَفعًا للتَّرَدُّدِ [104] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/293). .
- وأصلُ تَركيبِ الجُملَةِ: (إنَّا مُنتَقِمون يوْمَ نَبطِشُ البَطشَةَ الكُبرَى)؛ فـ يَوْمَ مَنصوبٌ على المَفعولِ فيه لاسمِ الفاعِلِ، وهو مُنْتَقِمُونَ، وتَقَدُّمُه على عامِلِه للاهتِمامِ به؛ لتَهويلِه [105] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/293). .
- ودلَّتِ الجُملةُ الاسميَّةُ إِنَّا مُنْتَقِمُونَ على أنَّ الانتقامَ صِفَةٌ ثابِتَةٌ لم نَزَلْ نَفعَلُها بأعدائِنا؛ لِنَسُرَّ أضدادَهم مِن أوليائِنا [106] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/18). .