موسوعة التفسير

سورة الفاتحة
الآيات (1-7)

ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭕ ﭛ ﭜ ﭚ ﭞ ﭟ ﭠ ﭝ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭡ ﭧ ﭨ ﭩ ﭦ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭪ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ

المعنى الإجمالي:

يخبر الله تعالى عباده بأنَّ الحمد الكامل مستحقٌّ له وحده، ويرشدهم بما أخبر إلى أن يُثنوا عليه، ويمجِّدوه، ويَحمَدوه بجميع المحامِد التي لا يستحقُّها إلَّا هو، ذو الرَّحمة والمُلك، كما يُرشدهم سبحانَه إلى إفرادِه بالعبادة والاستعانة، وطلبِ الهِداية منه وحْده للطَّريق الواضحة التي لا اعوجاجَ فيها؛ طريق الذين أنعم الله عليهم، لا طريق اليهود المغضوب عليهم، ولا طريق النَّصارى الضالِّين.

غريب الكلمات:

رَبِّ: الرَّب: السيِّد، والمالِك، والمصلِح، والصَّاحب، والمربِّي، والخالِق، والمعبود، وأصله: إصلاح الشيء والقيام عليه [22] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/381)، ((المفردات)) للراغب (ص: 336)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 44)،  ((الكليات)) للكفوي (ص: 465). .
الصِّراط: الطَّريق [23] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 38)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 310)،  ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/349)، ((المفردات)) للراغب (ص: 483). .

مشكل الإعراب:

1- قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ: (إيَّا) ضمير نصْب منفصل، مبني على السكون في محل نصب، مفعول به مقدَّم لـ(نعبد)، ولو تأخَّر عن عاملِه لاتَّصل به، فقيل: نعبدك، والكاف حرف خطاب لا محلَّ له، وقيل: الكاف هو الضمير، و(إيَّا) جيء بها؛ لتعتمد عليها الكاف [24] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/69)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/7)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (1/59). .
2- قوله: غَيرِ: مجرورٌ على البَدل مِن (الذين)، أو على النَّعت لهم، باعتبار (الذين) نكرة؛ لأنَّ (غير) في الأصل نكرة وإن أُضيفت إلى معرفة؛ لأنَّها لا تدلُّ على شيء معيَّن. ومَن قرأ (غيرَ) بالنصب؛ فهي إمَّا حال، أو منصوب على إضمار (أعْني) [25] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/72)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (1/ 71). .

تفسير الآيات:

الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ (1).
هذا خبرٌ من الله عزَّ وجلَّ فيه حمدَ نفسه الكريمة، وفي ضمنه إرشادٌ لعبادِه بأن يحمدوه سبحانه وتعالى [26] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/139-141)، ((تفسير ابن كثير)) (1/135). .
الْحَمْدُ لله.
أي: جميعُ المحامد للمعبود تبارك وتعالى، لا يستحقُّها إلَّا هو وحده سبحانه، وهو حمدٌ دائم ومستمر.
والحَمْدُ: هو وصفُ المحمود سبحانه بالكَمال، مع محبَّته، وتعظيمِه جلَّ وعلا [27] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/121، 124، 138)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/65)، ((تفسير ابن عطية)) (1/66)، ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (14/12)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (3/9)، ((تفسير ابن كثير)) (1/131)، ((تفسير السعدي)) (ص: 39)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/9). .
و(الله): اسمٌ ثابتٌ له سبحانه، يتضمَّن صِفةَ الألوهيَّة له عزَّ وجلَّ [28] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (١/٣٤)، ((تفسير السعدي)) (٥/٢٩٨). . ومعناه: المألوه، أي: المعبود [29] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/121)، (1/124)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/64)، ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (14/12)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/32)، ((تفسير السعدي)) (ص: 39)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة))  (1/9). وممن قال بهذا من السلف: ابن عباس. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/121). .
رَبِّ العالمين.
أي: هو السيِّد، والمالِك، والمدبِّر لجميع العالَمين، وهم كلُّ مَن سِوى اللهِ تعالى، مِن جميع أصناف المخلوقاتِ في كلِّ مكانٍ وزمان [30] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/142-145)، ((تفسير ابن كثير)) (1/131). وممن قال من السلف في معنى قوله تعالى الْعَالَمِينَ بنحو ما ذُكر: ابن عباس، وسعيد بن جبير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/145). .
كما قال تعالى: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ [الشعراء: 23-28] .
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا جاء وصْفُ الله سبحانه نَفْسَه بالرُّبوبيَّة، التي تَعني أنَّه السيِّد، المالك، المعبود الذي له مطلق التصرُّف في عِباده، والتي قد يُفهم منها معنى الجبروت والقهر؛ جاء وصفُه بالرَّحمة بعدها؛ لينبسطَ أملُ العبد في العفو إنْ زلَّ، ويَقْوَى رجاؤه إنْ هفَا [31] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (1/35). .
وأيضًا لما وصف الله تعالى نفسه بالربوبية بيَّن أن تربيته تعالى للعالمين ليست لحاجة به إليهم، كجلْب منفعة، أو دفْع مضرة، وإنما هي لعموم رحمته وشمول إحسانه [32] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (1/43). .
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2).
هما اسمانِ مشتقَّان من الرَّحمة على وجه المبالَغة، ورحمن أشدُّ مبالغةً من رَحيم؛ وذلك لأنَّ (رحمن) على وزن فعلان، وهذه الصيغة تفيد الكثرة والسعة [33] يُنظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (مادة: رحم)، ((تفسير ابن كثير)) (1/124، 126)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/5). ، فالرَّحْمَن: ذو الرَّحمة الواسِعة لجميع خلقه، والرَّحِيم: ذو رحمةٍ خاصَّة، يختصُّ بها عبادَه المؤمنين [34] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/127-128)، ((تفسير القرطبي)) (1/150)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/5). ((تفسير ابن عثيمين -الفاتحة والبقرة)) (1/5). وممن قال بهذا من السلف: الضحاك، والعرزمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/126)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (1/28). .
قال الله تعالى: يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ [العنكبوت: 21] ، وقال سبحانه: وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب: 43] .
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (3).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لما وصف تعالى نفسه بالرَّحمة، وكان هذا قد يؤدِّي بالعبد إلى غلَبة الرَّجاء عليه؛ نبَّه بصفة الملْك ليوم الدِّين؛ ليكون العبد من عمله على وَجَل، وليعلمَ أنَّ لعمله يومًا تظهر له فيه ثمرته من خيرٍ وشر [35] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (1/40). .
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (3).
القراءات ذات الأثر في التفسير:
في قوله تعالى: مَالِكِ قِراءتان:
1- مالِك بالألف مَدًّا، وهو: المتصرِّف بالفِعل في الأشياء المملوكةِ له [36] قرأ بها: عاصمٌ، والكِسائيُّ، ويَعْقوب، وخَلَف. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (1/271). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((تفسير ابن جرير)) (1/150)، ((تفسير ابن كثير)) (1/133-134). .
2- مَلِك بغير ألف قَصْرًا، وهو: المتصرِّف بالقول أمرًا ونهيًا في مَن هو مَلِكٌ عليهم [37] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (1/271). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((تفسير ابن جرير)) (1/150)، ((تفسير ابن كثير)) (1/133-134). .
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (3).
أي: إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ هو المتصرِّف في جميع خلْقِه بالقول والفِعل [38] يُنظر: ((تفسير الراغب الأصفهاني)) (1/56)، ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (6/262)، ((تفسير ابن كثير)) (1/133)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/91)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/12). .
كما قال تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لله [الانفطار: 17-19].
وكما قال سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [مريم: 40] .
وقال أيضًا: لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ لله الوَاحِدِ القَهَّارِ  [غافر: 16] .
يَوْمِ الدِّينِ.
أي: يوم الجَزاء والحِساب [39] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/157-158)، ((تفسير ابن كثير)) (1/134). .
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (4).
أي: قولوا: إيَّاك نَعبُد وإيَّاك نستعين [40] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/139-140). .
والمعنى: لا نعبُد إلَّا أنت، متذلِّلين لكَ وحْدَك لا شريكَ لك، ولا نستعين إلَّا بك وحْدَك لا شريكَ لك [41] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/159، 160، 166)، ((تفسير ابن كثير)) (1/134-135). .
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (5).
مناسبة الآية لما قبلها:
لما ذُكِرَت العبادة والاستعانة بالله تعالى وحده، جاء سؤال الهداية إلى الطريق الواضح؛ فبالهداية إليه تصح العبادة، فمن لم يهتد إلى السبيل الموصلة لمقصوده لا يصحُّ له بلوغ مقصده [42] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (1/48). .
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (5).
أي: قولوا: اهدِنا الصِّراطَ المستقيم [43] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/176-177)، ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (7/528)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/189). .
والمعنى: دُلَّنا على الطَّريق الواضِح الذي لا اعوجاجَ فيه، ووفِّقنا لسلوكه، وثبِّتنا عليه [44] قال ابن جرير: (أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعًا على أن الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه) ((تفسير ابن جرير)) (1/170). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/170، 171، 176)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/9)، ((تفسير ابن كثير)) (1/137، 140)، ((تفسير السعدي)) (ص: 39). .
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ (6).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا كان في الآية السابقة طلبُ الهِداية إلى أشرفِ طَريق، ناسَب ذلك سؤالَ أَحسنِ رفيقٍ [45] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (1/45). ، فقال تعالى:
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ.
أي: طريق الذين أَنعمَ الله تعالى عليهم بالهِداية إلى الصِّراط المستقيم، وهم الذين علِموا الحقَّ وعمِلوا به؛ امتثالًا لِمَا أمَر الله عزَّ وجلَّ، واجتنابًا لِمَا نهى عنه سبحانَه، بإخلاصٍ لله تعالى، ومتابعةٍ للرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم، وهم المذكورون في قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا  [النساء: 69] [46] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/176-180)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 89)، ((تفسير ابن عطية)) (1/74)، ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (10/107)، ((تفسير ابن كثير)) (1/137، 140)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/191)، ((تفسير السعدي)) (ص: 39)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/16، 17). .
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7).
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ.
أي: إنَّ مِن صفات الذين أَنعم الله تعالى عليهم، أنَّهم ليسوا كاليهود، ومَن سلَك طريقتَهم في ترْك العمل بالحقِّ بعد معرفته [47] قال ابنُ أبي حاتم: (لا أعلمُ بين المفسِّرين في هذا الحرْف اختلافًا) ((تفسير ابن أبي حاتم)) (1/31). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/185)، ((تفسير الماوردي)) (1/61)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/70) ((تفسير ابن عطية)) (1/76)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/78)، ((تفسير ابن كثير)) (1/140)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/195). .
فأخصُّ أوصاف اليهود، الغضبُ، كما قال الله تعالى فيهم: مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ [المائدة: 60] ، وقال سبحانه أيضًا: فَبَاؤُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ [البقرة: 90] .
وعن عَديِّ بن حاتمٍ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((المغضوب عليهم: اليهود)) [48] رواه أحمد (4/378) (19400)، وابن حبان (16/183) (7206)، والطبراني (17/100) (237). قال الهيثميُّ في ((مجمع الزوائد)) (6/210): رجاله رجال الصَّحيح، غير عبَّاد بن حُبَيش، وهو ثِقة، وحسَّن إسنادَه ابن حجر في ((فتح الباري)) (8/9)، وصحَّحه بمجموع طرقه الألبانيُّ في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (3263). .
ولا الضَّالِّينَ.
أي: إنَّ من صِفات الذين أنعمَ الله تعالى عليهم، أنَّهم ليسوا كالنَّصارى، ومَن سلك طريقتَهم ممَّن جهِلوا الحقَّ، فعبَدوا الله تعالى بغير عِلم [49] قال ابنُ أبي حاتم: (لا أعلم بين المفسِّرين في هذا الحَرْف اختلافًا) ((تفسير ابن أبي حاتم)) (1/31). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/193-194)، ((تفسير الماوردي)) (1/61)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/78)، ((تفسير ابن كثير)) (1/140، 141). .
فأخصُّ أوصاف النصارى الضلال، كما قال سبحانه: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة: 77] .
وعن عديِّ بن حاتم رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ولا الضالين: النَّصارى)) [50] رواه أحمد (4/378) (19400)، وابن حبان (16/183) (7206)، والطبراني (17/100) (237). قال الهيثميُّ في ((مجمع الزوائد)) (6/210): رجاله رجالُ الصَّحيح غير عبَّاد بن حُبَيش وهو ثِقة، وحسَّن إسنادَه ابن حجر في ((فتح الباري)) (8/9)، وصحَّحه بمجموع طُرقه الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (3263). .

الفوائد التربويَّة:

1- أنَّه لما كان أوَّلُ السُّورة مشتملًا على الحمد لله، وتمجيده، والثناء عليه، وآخرُها مشتملًا على الذمِّ للمعرضين عن الإيمان به، والإقرار بطاعته- دلَّ ذلك على أنَّ مَطلع الخيرات، وعُنوان السعادات، هو الإقبالُ على الله عزَّ وجلَّ، ومطلعَ الآفات، ورأس المخالفات، هو الإعراضُ عنه سبحانه، والبعدُ عن طاعته [52] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (1/13). .
2- أنَّ الله تعالى مستحقٌّ للحَمدِ الكامِل، ومختصٌّ به من جميع الوجوه؛ ولذا ينبغي على العبد أن يستشعرَ بأنَّ كلَّ قضاءٍ لله تعالى، فهو محمودٌ عليه جلَّ وعلا [53] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/10). .
3- أنَّ رُبوبية الله عزَّ وجلَّ مبنيَّةٌ على الرحمة الواسعة للخَلق الواصلة؛ لأنَّه تعالى لما قال: ربِّ العَالَمِينَ كأنَّ سائلًا يسأل: (ما نوعُ هذه الربوبية؟ هل هي ربوبيَّة أخْذ، وانتقام؛ أو ربوبيَّة رحْمة، وإنعام؟) فقال تعالى: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [54] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/11). .
4- أنَّ في قوله: مالِكِ يَومِ الدِّين حثَّ الإنسانِ على أنْ يعملَ لذلك اليوم الذي يُدان فيه العاملون [55] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/12). .
5- قوله تعالى: إيَّاكَ نَعبُدُ تبرؤ من الشرك، وقوله: وإيَّاكَ نَستعينُ تبرؤ من الحول والقوة، وتفويض إلى الله عز وجل. وهذا المعنى في غير آية من القرآن، كما قال تعالى: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [هود: 123] قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا [ الملك: 29] رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمل: 9] ؛ لذا قال بعض السلف: الفاتحة سرُّ القرآن، وسرُّها هذه الكلمة: إيَّاكَ نَعبُدُ وإيَّاكَ نَستعينُ [56] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/134). .
6- تربية المسلم على اللُّجوء إلى الله عزَّ وجلَّ، ومِن ذلك استعانتُه به على العبادة، ودعاؤه دومًا أن يَهديَه الصِّراطَ المستقيم [57] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/16). .

الفوائد العلميَّة واللَّطائف:

1- في قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة: 2] ، تقديم وصْفِ الله تعالى بالألوهيَّة على وصفه بالربوبية؛ وهذا إمَّا لأنَّ (الله) هو الاسمُ العَلَم الخاصُّ به، والذي تتبعه جميع الأسماء؛ وإمَّا لأنَّ الذين جاءتهم الرُّسُل يُنكرون الألوهيَّة فقط؛ ولأن اسم الله تعالى دالٌّ على كونه مألوهًا معبودًا، تؤلِّهه الخلائق محبَّةً وتعظيمًا وخضوعًا، وفزعًا إليه في الحوائج والنَّوائب، وذلك مستلزمٌ لكمال ربوبيَّته ورحمته [58] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/56)، ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/10). .
2- في قوله تعالى: يَوْمِ الدِّينِ إثباتُ البَعث والجزاء [59] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/13). .
3- إيثار ذِكر إلهيته سبحانه وربوبيته ورحمته وملكه في أوَّل الفاتحة على ذكر سائر الصِّفات؛ لأن هذه الصفات الأربع مستلزمة لجميع صفات كماله عزَّ وجلَّ [60] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/56). .
4- في قوله عزَّ وجلَّ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ تفصيلٌ بعد إجمال؛ فقولُه تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ مُجمَل، وقوله تعالى: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مفصَّل. وفائدتُه: أنَّ النفسَ إذا جاء المُجمَل تترقَّب، وتتشوَّف للتفصيل والبيان، فإذا جاء التفصيلُ ورَد على نفسٍ مستعدَّة لقَبوله، متشوِّفة إليه [61] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/19). .
5- إسنادُ النِّعمة إلى الله تعالى وحْدَه في هِداية الَّذين أنعم عليهم؛ لأنَّها فضلٌ محضٌ من الله [62] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/19). .
6- قدَّم المغضوب عليهم على الضالِّين؛ لأنَّهم أشدُّ مخالفةً للحقِّ من الضالِّين؛ فإنَّ المخالف عن علم يصعُب رجوعُه، بخلاف المخالِف عن جهل [63] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/20). ، ولأنَّ أخص الموصوفين بـالمَغضُوبِ عَلَيهِمْ هم اليهود وأخص الموصوفين بـالضَّالِّينَ هم النصارى واليهود سابقون على النصارى في الزمن [64] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/33).

بلاغة الآيات:

1- حُسن الافتتاح، وبراعة المطلَع والاستهلال لكتاب الله عزَّ وجلَّ بهذه السُّورة العظيمة، التي اشتملتْ على مقاصِد هذا الكتاب كلِّه، كما افتتح السُّورة نفسَها بجوامع الحَمْد والشُّكر والثَّناء؛ فإن كان أولها بسم الله الرحمن الرحيم- على قول مَن عدَّها منها- فناهيك بذلك حسنًا؛ إذ كان مطلعها، مفتتحًا باسم الله، وإن كان أولها الحمد لله؛ فحمد الله والثناء عليه بما هو أهله، ووصفه بما له من الصِّفات العليَّة أحسنُ ما افتتح به الكلام                      [1] يُنظر: ((تفسير أبي   حيان)) (1/152).     .
2- قوله: الْحَمْدُ لله جملة اسمية، وهي تدلُّ على ديمومة الحمْد واستمراره وثباتِه            [2] يُنظر: ((إعراب   القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/16).     . والألف واللام في الْحَمْدُ للاستغراق            [3] الاستغراق: في   اللغة الاستِيعابُ، والإحاطة والشُّمول. واصطلاحًا: هو استيفاء شيء بتمام أجزائه   وأفراده، بحيث لا يخرج عنه شيءٌ. ومن أدواته المشهورة: اللَّام الجنسية أو   الحقيقيَّة. والاستغراق قِسمان: حقيقي، وعرفي، فالحقيقي: أن تراد حقيقة الشيء   الشائعة في الأفراد، دون النظر إلى الدَّلالة على عُمومٍ أو خصوص، ولا يصحُّ أنْ   يُستعمل بدلَ اللام كلمة (كلّ)، مثل قوله: وَجَعَلْنَا مِنَ   المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الآية: 30]؛ فالمراد   حقيقة الماء وماهيته، وليس كُلَّ أنواع الماء. والقرينَةُ هي الواقعُ المشاهد.   والاستغراق العرفي: أن تُراد الحقيقة في ضِمن جميع الأفراد التي يتناولها اللفظُ   بحسب العُرْف، ومنه: قوله: وَخُلِقَ الإنسان   ضَعِيفاً [الآية: 28]، أي: وخُلق كلُّ فرد   من أفراد جنس الإِنسان ضعيفًا، والواقع يشهد لإِرادة هذا الاستغراق. يُنظر:   ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (2/31)، ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 24)،   ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/437 - 438)، ((مفاتيح   التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 118).     ، فتعمُّ كلَّ أنواع الحمد. وقيل: لتعريفِ الجنسِ، ومعناه: الإشارة إلى ما يَعرِف كلُّ أحدٌ أنَّه هو الحمد            [4] يُنظر: ((تفسير   الزمخشري)) (1/35-36)، ((تفسير البيضاوي)) (1/27)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي   (1/37)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/159-160).       .
واللام في قوله: لله تُفيد: الاستحقاق            [5] اللام الواقعة بين   ذات وذات من شأنها أن تُملَك، تكون للمِلك، كالدار لزيد؛ فإنْ أُضيفت إلى مَن لا   يملك، فاللام للاختصاص، كالمِفتاح للدار، وأمَّا اللام الواقعة بين معنًى وذات فهي   للاستحقاق، كالحمد لله، وبعضُهم يستغني بالاختصاص عن ذِكر الملك والاستحقاق.   يُنظر: ((مغني اللبيب)) لابن هشام (ص: 275). ((الكليات)) للكفوي (ص: 780)، ((همع   الهوامع)) للسيوطي (2/451).     ، والاختصاص، أي: الحمد كله مستحقٌّ لله تعالى، وخاصٌّ به سبحانه دون مَن سواه            [6] يُنظر: ((تفسير أبي   حيان)) (1/130، 152)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/160).     .
3- في قوله: مَـلِكِ يَوْمِ الدِّينِ تخصيص اليوم بالإضافة؛ إمَّا لتعظيمه وتهويله، أو لتفرُّده تعالى بنفوذ الأمر فيه، وانقطاع العلائق بين الملَّاك والأملاك حينئذٍ بالكليَّة            [7] يُنظر: ((تفسير أبي   السعود)) (1/16).     .
4- في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ نواحٍ بلاغيَّة عديدة
ففيه تقديمٌ وتأخير؛ حيث قدَّم المفعول به في قوله (إِيَّاكَ)، وهو يُفيد القصرَ            [8]   القصر: في اصطلاح البلاغيِّين هو تخصيصُ شيء بشيء وحصره فيه،   ويُسمَّى الأمر الأول:  مقصورًا، والثاني: مقصورًا عليه، مثل: إنما   زيد قائم، و: ما ضربت إلَّا زيدًا. وينقسم إلى قصر حقيقي، وقصر إضافي: فالحقيقي:   أن يكون جميع ما سوى المقصور عليه، مثل: لا إله إلا الله. والإضافي: أن يكون   المقصور عنه شيئًا خاصًّا يراد بالقصر بيان عدم صحة ما تصوره بشأنه، أو ادعاه   المقصود بالكلام، أو إزالة شكه وتردده، إذا كان الكلام كله منحصرًا في دائرة خاصة؛   فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنما هو قصرٌ بالإضافة إلى موضوع خاصٍّ يدور حول   احتمالين أو أكثر من احتمالات محصورة بعدد خاص، ويستدلُّ عليها بالقرائن. مثل:   قوله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ   إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ   [آل عمران: 144] . يُنظر: ((التعريفات)) للجرجاني (1/175-176)، ((الإيضاح في علوم   البلاغة)) للقزويني (1/118).      والاختصاص، أي: لا نعبُد غيرَك، ولا نستعين بسواك، وهو أيضًا للتَّعظيم والاهتمام؛ لأنَّ العرب تقدِّم الأهم            [9] يُنظر: ((تفسير   الزمخشري)) (1/39)، ((تفسير الرازي)) (1/208)، ((تفسير أبي حيان)) (1/141).     .
وقُدِّمت العبادة على الاستعانة؛ لأن العبادة من أسباب حصول الإعانة وإجابة الحاجة، وأيضًا لكون العبادةِ هي المقصودة والغاية من الخلق، والاستعانة وسيلةٌ إليها، ولتتوافق رؤوس الآي            [10] يُنظر: ((تفسير   الزمخشري - حاشية ابن المنير)) (1/39-40)، ((تفسير البيضاوي)) (1/29)، ((تفسير أبي   حيان)) (1/142-143).      قال ابن القيم: (وتقديم   العبادة على الاستعانة في الفاتحة من باب تقديم الغايات على الوسائل،   إذ العبادة غاية العباد التي خلقوا لها، والاستعانة وسيلة إليها، ولأن إِيَّاكَ نَعْبُدُ   متعلق بألوهيته واسمه الله وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ متعلق بربوبيته واسمه الرب فقدَّم إِيَّاكَ نَعْبُدُ   على إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ كما قدَّم اسم الله على الربِّ في أول السورة،   ولأنَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ قسم الربِّ، فكان من الشطر الأول، الذي هو ثناء على   الله تعالى؛ لكونه أولى به، وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قسم العبد، فكان من الشطر الذي له، وهو اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ إلى آخر السورة). ((مدارج السالكين)) (1/75).       .
وفيه التفات            [11] الالتفات: هو   نقْل الكلام من أسلوب إلى أسلوب آخَر؛ تطريةً واستدرارًا للسامع، وتجديدًا لنشاطه،   وصيانة لخاطره من الملال والضجر بدوام الأسلوب الواحد على سمعه،   كالانتقال الخطاب إلى الغيبة، أو تغيير ضمير المتكلم نفسه تارة بجعله تاءً   على جهة الإخبار عن نفسه، وتارةً يجعله كافًا، فيجعل نفسه مخاطبًا، وتارة يجعله   هاءً، فيقيم نفسه مقامَ الغائب. وشرطه أن يكون الضمير في  المتنقل إليه   عائدًا في نفس الأمر إلى الملتفِّ عنه، وللمتكلم والخطاب والغيبة مقامات، والمشهور   أن الالتفات هو الانتقال من أحدها إلى الآخر بعد التعبير بالأول. وهذا النوع قد   يختص مواقعه بلطائف معان قلما تتضح إلا لأفراد بلغائهم أو للحذاق المهرة في هذا   الفن والعلماء النحارير. يُنظر: ((البرهان)) للزركشي (3/314)، ((مفتاح العلوم))   للسكاكي (ص: 200 - 201).      من ضمير الغَيبة إلى ضمير الخِطاب، ولو جرى الكلام على الأصل لقال: إياه نعبد، وهذا التفنُّن في الكلام والعدول من أسلوب إلى آخر من عادة العرب؛ لأنَّ فيه تحسينًا للكلام، وتنشيطًا للسامع، وإيقاظًا له؛ فيكون أكثرَ إصغاءً للكلام، وقد تختصُّ مواقعه بفوائد أخرى غير هذه، ومنها هنا: أنَّ الخطاب فيه استحضار للقُرب من الله تعالى، فكأنه لَمَّا أثنى على الله عز وجل، اقترب وحضَر بين يديه سبحانه            [12] يُنظر: ((تفسير   البيضاوي)) (1/29)، ((تفسير أبي حيان)) (1/153)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي   (1/57)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/16).     .
وفيه تَكرار إِيَّاكَ، وهذا التَّكرار؛ لأنَّ الفِعلين مختلفان، فاحتاج كلُّ واحدٍ منهما إلى تأكيد واهتمام، فتَكراره للتأكيد على تَخصيصِه تعالى بكلِّ واحدة من العبادة والاستعانة، وإبراز الاستلذاذِ بالمناجاة والخِطاب            [13] يُنظر: ((تفسير ابن   عطية)) (1/72)، ((تفسير أبي السعود)) (1/17).     .
والمجيء بنون الجَمْع في قوله نَعْبُدُ ونَسْتَعِينُ؛ قيل لأنَّ المقام لَمَّا كان عظيمًا لم يستقلَّ به الواحد؛ استقصارًا لنفسه، واستصغارًا لها، فالمجيءُ بالنون لقصد التواضُع لا لتعظيم النَّفْس، وقيل: يجوز أن تكون للتعظيم، كأنه قيل للعبد: إذا كنت في العبادة فأنت شريف، وجاهك عريض، فقل: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، وإذا كنت خارج العبادة فلا تقل: نحن ولا فعلنا وغير ذلك            [14] يُنظر: ((تفسير   الرازي)) (1/212)، ((تفسير الشوكاني)) (1/27)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي   الدين درويش (1/17).     ، وقيل: لأنَّ المقام مقام عبودية وافتقار إلى الربِّ تعالى، وإقرار بالفاقة إلى عبوديته واستعانته وهدايته. أي: نحن معاشر عبيدك مُقرُّون لك بالعبودية، وهذا كما يقول العبد للملك المعظَّم شأنه: نحن عبيدك ومماليكك، وتحت طاعتك، ولا نخالف أمرك؛ فيكون هذا أحسنَ وأعظمَ موقعًا عند الملك من أن يقول: أنا عبدك ومملوكك؛ ولهذا لو قال: أنا وحدي مملوكك، استدعى مقته، فإذا قال: أنا وكل مَن في البلد مماليكك وعبيدك وجند لك، كان أعظمَ وأفخمَ؛ لأنَّ ذلك يتضمَّن أن عبيدك كثيرٌ جدًّا، وأنا واحد منهم، وكلنا مشتركون في عبوديتك والاستعانة بكَ، وطلب الهداية منك            [15] يُنظر: ((بدائع   الفوائد)) لابن القيِّم (2/39).     .
5- في قوله: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ
اهِدْنا فِعل أمر، لكن المقصود به الالتِماس والدُّعاء، لا حقيقةَ الأمر؛ لأنَّه طلبٌ من الأدنى - وهو المخلوق - إلى الأعْلى - وهو الخالِقُ سبحانه            [16] يُنظر: ((الدر   المصون)) للسمين الحلبي (1/61)، ((دليل البلاغة القرآنية)) للدبل (ص: 13).     .
تعدية الفِعل اهِدْنا بنفسِه، وعدَم تعديته بحَرْف الجَرِّ في قولِه سبحانه: اهْدِنا الصِّراطَ المستقيمَ؛ لأجلِ أن يتضمَّن طلبُ الهداية: هِدايةَ العِلم، وهداية التَّوفيق            [17] يُنظر: ((تفسير ابن   عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/16).     .
6- في قوله: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ
تصريحٌ بعد إبهام، وتفصيلٌ بعد إجمال، وفائدتُه تشويق النَّفس، وتهيئتها؛ لتتلقَّى التفسير والتفصيل، فيكون أعونَ على الفَهم، وهذا الأسلوب له من الفائدة مثل ما للتوكيد المعنوي، وأيضًا فيه تقرير حقيقة هذا الصراط، وتحقيق مفهومه في نفوسهم، فيحصل مفهومه مرتين: فيحصل له من الفائدة ما يحصُل بالتوكيد اللفظي            [18] يُنظر: ((تفسير أبي   حيان)) (1/153)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/192).     .
وفيه أيضًا توكيدٌ؛ إذ صِرَاطَ الَّذِينَ... بدلٌ من الصِّراطَ المستقيمَ؛ والبدل على نيَّة تَكْرار العامل، كأنَّه قال: اهدِنا الصِّراط المستقيم، اهدِنا صراطَ الذين...، ففيه تثنيةٌ وتكرير، وإشعارٌ بأنَّ الطريق المستقيم بيانُه وتفسيرُه: صراط المسلمين؛ ليكونَ ذلك شهادةً لصراط المسلمين بالاستقامةِ على أبلغ وجهٍ وآكدِه، ويجوز أن يكون صِراَطَ الَّذِينَ عَطفَ بيان، وفائدتُه حينئذٍ الإيضاح            [19] يُنظر: ((تفسير أبي   السعود))، (1/18)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/192).     !
7- في قوله: غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ بعد قوله: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ التفات أيضًا، حيث صرَّح بالخِطاب عند ذِكر النِّعمة، ثم قال: غير المغضوب عليهم، فزَوَى لفظ الغضب عن الله تعالى؛ أدبًا ولُطفًا، وهذا غايةُ ما يصل إليه البيان            [20] يُنظر: ((البرهان))   للزركشي، (3/322)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/17).     .
8- في قوله: رَبِّ العَالَمِينَ يَوْمِ الدِّينِ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ وَلَا الضَّالِّينَ، وقوله: الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تناسُب الفواصِل، وتوافُق رُؤوس الآي، وهو من حسن الكلام، وممَّا تتشنَّف به الأسماع، وقدْ حسُن لاختلافِ الفِقرات في مَعانيها، مع اتِّفاقها في حُروفها الأخيرة            [21] يُنظر: ((البرهان))   للزركشي (1/78).     .