موسوعة التفسير

سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (87-90)

ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ

غريب الكلمات:

وَقَفَّيْنَا: أتْبَعنا وأردفنا على آثارهم، مأخوذ من القفا؛ يقال: قفوت الرجل: إذا سرت في أثره [761] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 57)، ((المفردات)) للراغب (ص: 680)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 19). .
بِرُوحِ الْقُدُسِ: جبريل عليه السلام؛ سمي بذلك لأنه يأتي بما فيه حياة القلوب، أو لأنَّه ينزل بالقدس، أي: بما يُطهر به نفوسنا من القرآن والحِكمة [762] يُنظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 369)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 19)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 85)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 484). .
غُلْفٌ: جمْع أغلف، أي: كأنها في غِلاف لا تفهم، ولا تَعقل شيئًا مما يقال، وأصل الغلف: الغشاوة وغشيان شيءٍ لشيء [763] يُنظر:  ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 57)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 353)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/390)، ((المفردات)) للراغب (ص: 612)، ((التبيان))  لابن الهائم (ص: 85). .
يَسْتَفْتِحُونَ: أي: يستنصرون باسم محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم وببعثته؛ فالاستفتاح: الاستنصار، وطلب الفتح، أي: طلب الظفر [764] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 58)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 502)، ((المفردات)) للراغب (ص: 622)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 19)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 86). .
بَغْيًا: أي: حسدًا، وأصل البغي: طلب الشيء، وجنس من الفساد، والظلم، والترفع والعلو، ومجاوزة المقدار [765] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/271)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 19)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 251 - 252). .
فَبَاؤُوا: رجعوا، وانصرفوا بذلك، واستوجبوه. ولا يُقال (باء) إِلَّا بشر، ويقال: باء بكذا إذا أقرَّ به [766] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 117)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 250-252). .

المعنى الإجمالي :

يُخبِر الله سبحانه وتعالى عن إعطائِه التوراةَ لموسى عليه السَّلام، وإرسالِه الرُّسلَ إلى بني إسرائيل مِن بعدِ موسى عليه السَّلام، وأنَّه أعطى عيسى عليه السَّلام معجزاتٍ تُظهِر صِدقَه، وتُثبت نبوَّته، كما قوَّاه وأعانه بجبريل عليه السَّلام.
ثم أنكَر سبحانه على بني إسرائيل ما صَنعوه بمَن جاءهم من الرُّسل عليهم السَّلام، فكلَّما أتاهم رسولٌ من عند الله بأحكامٍ تُخالف أهواءَهم، كذَّبوا طائفةً منهم، وقتَلوا طائفةً أخرى.
ثم إنَّهم يدَّعون كذبًا واستكبارًا أنَّ سببَ عدَمِ إيمانهم هو أنَّ الله تعالى جعَل في قلوبهم أَغطيةً؛ فلا تتمكَّن من الفَهم، ولكن الأمْر ليس كما ادَّعَوا، بل الحقيقة أنَّ الله تعالى طرَدَهم من رحمتِه؛ مجازاةً لهم على جُحودهم بآياته، وتكذيبهم لرسلِه؛ فهم لا يُقِرُّون إلَّا بشيءٍ قليلٍ ممَّا يجب عليهم الإيمانُ به.
وحين جاءَ اليهودَ القرآنُ، وفيه تصديقٌ لِمَا عندهم من التوراة، وقد كانوا قبلَ مَبعث رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ، ومجيئه بالقرآنِ يَستنصِرون على مَن يقاتلهم من المشركين بمبعثِه صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وأنَّ اليهود سيكونون معه، وسيقتلون المشركين، فلمَّا أتاهم وعرَفوه، جَحَدوا به عمدًا؛ فاستحقُّوا الطردَ من رحمة الله عزَّ وجلَّ.
فما أقبحَ ما استبدلوا به أنفسَهم! وهو الكفرُ؛ إذ اختاروه وبذَلوا أنفسَهم للنَّار؛ وذلك حسدًا منهم لرسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنْ كان من غير بني إسرائيل. فاستوجبوا بذلك غضبًا من الله؛ بسبب جُحودِهم لرِسالته صلَّى الله عليه وسلَّمَ، إضافةً إلى ما تحملوه من غضَب الله أولًا؛ بسببِ ذنوبٍ مضَتْ منهم، ولكلِّ جاحد لنبوَّة محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ عذابٌ يُهان فيه ويُذَلُّ.

تفسير الآيات:

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87).
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ.
أي: أعطى الله تعالى موسى عليه السَّلام التوراة، ومِن بعدِه أرسل أنبياءَ إلى بني إسرائيل، فأتْبع بعضهم بعضًا على منهاج موسى وشريعتِه، بإقامة التوراة، والعملِ بما فيها إلى زمَن عيسى عليه السَّلام.
كما قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ الآية [المائدة: 44] [767] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/219-220)، ((تفسير ابن كثير)) (1/321)، ((تفسير السعدي)) (ص: 58). .
وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ.
أي: أخبر تعالى أنَّه أعطَى خاتمةَ أنبياء بني إسرائيل، عيسى عليه السَّلام، معجزاتٍ تُظهر صِدقَه، وتُثبت نبوَّتَه، كإحياء الموتى، وإبراء المَرضَى، وغير ذلك [768] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/220)، ((تفسير ابن كثير)) (1/321)، ((تفسير السعدي)) (ص: 58). .
وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ.
أي: أيَّد الله تعالى عيسى عليه السَّلام بجبريل عليه السَّلام، يُقوِّيه ويُعينه [769] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/221-224). ونسَبَه ابنُ تَيميَّة لجمهور المفسِّرين، ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (17/284-285)، ((الجواب الصحيح)) لابن تَيميَّة (2/181-185)، ويُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/321). وممَّن قال من السَّلف أن روح القدس هو جبريل عليه السلام: ابن مسعود، وابن عبَّاس، وقتادة، والسُّدِّي، والضحاك، والرَّبيع، وإسماعيل بن أبي خالد، وعطية العوفي، ومحمد بن كعب القرظي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/222)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (1/168). .
كما قال تعالى: إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ [المائدة: 110] .
أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ.
أي: يُنكِر اللهُ تعالى على بني إسرائيل تعامُلَهم الشَّنيع مع رُسله وأنبيائِه عليهم السَّلام، وأنَّهم كلَّما جاءَ نبيٌّ منهم؛ ليلزمَهم بأحكام تُخالِف أهواءهم، شقَّ ذلك عليهم، فتجبَّروا وبغوا عليهم، مقدِّمين هواهم على هُداهم، فكذَّبوا طائفةً منهم، وقتَلوا طائفةً آخرين [770] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/226)، ((تفسير ابن كثير)) (1/321)، ((تفسير السعدي)) (ص: 58)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/283). .
وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88).
وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ.
أي: إنَّهم يقولون كذبًا بأنَّ الله لم يَفتحْ لهم الطريق إلى معرفة ما جاءت به الرُّسُل والأنبياءُ عليهم السَّلام، بجعْل قلوبِهم داخلةً في غِلاف وأَغطيةٍ فلا تَفهم؛ فكيف تقوم عليهم الحُجَّة [771] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/231). وقال ابن القيم: (الصحيح: قول أكثر المفسرين: إن المعنى قلوبنا لا تفقهه، ولا تفهم ما تقول... هذا هو الصواب في معنى الآية؛ لتكرر نظائره في القرآن، كقولهم: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) ((شفاء العليل)) (ص: 93). وقال السعدي: (اعتذروا عن الإيمان لِمَا دعوتهم إليه- يا أيُّها الرسول- بأنَّ قلوبهم غلف، أي: عليها غِلاف وأغطية؛ فلا تَفقَهُ ما تقول، يعني فيكون لهم- بزَعْمهم- عذرٌ لعدم العلم، وهذا كذب منهم) ((تفسير السعدي)) (ص: 58). وقال ابن عاشور: (والغُلْف بضم فسكون جمع أغلف، وهو الشديد الغلاف مشتق من غلفه: إذا جعل له غلافًا وهو الوعاء الحافظ للشيء والساتر له من وصول ما يكره له. وهذا كلام كانوا يقولونه للنبيء صلى الله عليه وسلم حين يدعوهم للإسلام قصدوا به التهكم، وقطع طمعه في إسلامهم وهو كقول المشركين: قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ) ((تفسير ابن عاشور)) (1/599). وقال الشنقيطي: (فقول اليهود في هذه الآية: قلوبنا غلف كقول كفار مكة: قلوبنا في أكنة؛ لأن الغلف جمع أغلف، وهو الذي عليه غلاف، والأكنة جمع كنان، والغلاف والكنان كلاهما بمعنى الغطاء الساتر) ((أضواء البيان)) (7 /7). ويُنظر: ((تفسير بن عثيمين-الفاتحة والبقرة)) (1/284). وممَّن ذهَب إلى ذلك من السَّلف: ابن عبَّاس-في رواية عنه-ومجاهد، وسعيد بن جُبَير، والسُّدِّي، وقَتادة-في رواية عنه-والأعمش، وابن زيد. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/228)، ((تفسير ابن أبي حاتم)). ؟!
كما قال تعالى عن المشركين: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ [فصلت: 5] .
بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ.
أي: ليس الأمرُ كما ادَّعى هؤلاء كذبًا بأنَّ الله تعالى خلَق قلوبَهم غلفًا لا تَعي، ثم أمرهم بالإيمان، وهم لا يفقهونه، كلَّا! بل حقيقة الأمر أنَّ الله تعالى قد طردَهم من رحمته؛ جزاءَ ما اختاروه لأنفسهم من الجحود بآيات الله تعالى وما جاءتْ به رُسلُه وأنبياؤه [772] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/232)، ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (7/26)، (16/12-13)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 93)، ((تفسير ابن كثير)) (1/324-325)، ((تفسير السعدي)) (ص: 58). .
فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ.
أي: إنَّهم آمنوا بشيءٍ يسيرٍ مما وجب عليهم الإيمان به، لكنه إيمانٌ لا ينفعهم؛ لأنه مغمورٌ بما كفروا به [773] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/233-235)، ((تفسير ابن عطية)) (1/177)، ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (23/85)، ((تفسير ابن كثير)) (1/325)، ((تفسير السعدي)) (ص: 58)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/18)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/284). .
وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89).
سبب النُّزول:
عن عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخٍ منهم قالوا: (فينا والله وفيهم- أي: الأنصار واليهود- نزلت هذه القصة قالوا: كنا علوناهم دهرًا في الجاهلية ونحن أهل شرك وهم أهل كتاب، فكانوا يقولون: إن نبيًّا يُبعث الآن نتبعه، قد أظل زمانه، نقتلكم معه قتْلَ عاد وإرم. فلمَّا بعث الله عزَّ وجلَّ رسوله من قريش واتبعناه كفروا به، قال الله عزَّ وجلَّ: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِه) الآية [774] أخرجه ابن إسحاق في ((سيرة ابن هشام)) (1/539)، وحسَّنه الوادعي في ((صحيح أسباب النزول)) (26).   .
وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ.
أي: لَمَّا جاء اليهودَ القرآنُ الذي أَنزله الله تعالى على محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، والمشتمِل على تصديق ما معهم من التوراة [775] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/236)، ((تفسير ابن كثير)) (1/325)، ((تفسير السعدي)) (ص: 59). وممَّن قال من السَّلف بأنَّ الكتاب هو القرآن: قَتادة، والرَّبيع. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/236)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (1/171). .
وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا.
أي: قد كانوا من قَبلِ مجيء الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّمَ بالقرآن يستنصرون بمجيئِه على أعدائهم من المشركين إذا قاتَلوهم، ويتوعَّدونهم بقتْلهم معه [776] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/236، 242)، ((تفسير القرطبي)) (2/27)، ((تفسير ابن كثير)) (1/325)، ((تفسير السعدي)) (ص: 59). وممَّن ذهب إلى نحو ما ذُكِر من السَّلف: ابن عبَّاس، وأبو العالية، وعلي الأزدي، وقَتادة، والسُّدِّي، وعطاء، مجاهد، وابن زيد. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/237)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (1/172). .
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ.
أي: لَمَّا أتاهم ما يعرفونه من الحقِّ وصِفةِ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ، تَعمَّدوا الجَحدَ به عليه الصَّلاة والسَّلام بعد قِيام الحُجَّة بنبوَّته عليهم [777] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/243)، ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تَيميَّة (1/86-87)، ((تفسير ابن كثير)) (1/327)، ((تفسير السعدي)) (ص: 59). .
فَلَعْنَةُ الله عَلَى الْكَافِرِينَ.
أي: بسبب ذلك الكُفر؛ طرَدَهم الله تعالى وأبْعَدهم من رحمتِه، وهذا الحكم يعمُّ كلَّ كافر [778] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/242-243)، ((تفسير ابن عطية)) (1/178)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/290).   .
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاؤُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90).
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ.
أي: بئس الشيءُ باعوا به أنفسَهم الكفرُ، يعني: أنَّهم اختاروا الكفرَ وأخذوه، وبذلوا أنفسهم للنَّار؛ لأنَّ اليهود علِموا صِدقَ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وأنَّ مَن كذَّبه فالنار عاقبتُه، فاختاروا الكُفر وسلَّموا أنفسهم للنار [779] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/243-249)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/173)، ((تفسير السعدي)) (ص: 59)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/290). .
بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ.
أي: إنَّ الذي حمَلهم على اختيار الكفر، حسدُهم لمن شاء الله تعالى أن يَخصَّه بفضله العظيم مِن دون عبادِه، فحسَدوا محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ على أنَّه هو الرسولُ المنتظَر؛ لأنَّه كان من ولد إسماعيل، ولم يكُن من بني إسرائيل [780] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/248)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/173-174)، ((تفسير ابن عطية)) (1/179)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/605)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/291). وممَّن قال من السَّلف بأنَّ بغيًا هنا تعني (حسدًا): أبو العالية، والرَّبيع. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/248)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (1/173). .
فَبَاؤُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ.
أي: رجَع اليهودُ مستوجبين ومستصحبين غضبًا آخَرَ من الله تعالى عليهم؛ بسبب جحودِهم رسالةَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ حسدًا منهم، إضافةً إلى الغضب الأوَّل الذي اكتسبوه لذنوبٍ سلَفتْ منهم [781] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/250-251)، ((تفسير ابن عطية)) (1/179)، ((مجموع فتاوى ابن تيمية))لابن تَيميَّة (2/108)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/292). وممَّن قال من السَّلف بأن باؤوا بمعنى استوجبوا: سعيد بن جُبير. يُنظر: ((تفسير ابن حاتم)) (1/173). .
وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ.
أي: وللجاحدين نبوَّةَ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ من الناس كلِّهم عذابٌ من الله يُهانون فيه ويُذلَّون [782] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/254)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/174)، ((تفسير ابن كثير)) (1/328). .

الفوائد التربويَّة:

1- أنَّ المستكبِر يُعاقَب بنقيض حاله؛ لقوله تعالى: عَذَابٌ مُهِينٌ؛ فعُوقِبوا بما يَليق بذنوبهم؛ وعلى هذا جرَتْ سُنَّة الله سبحانه وتعالى في خَلْقه [783] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/296). .
2- أنَّ القلوب بفِطرتها ليست غلفاءَ؛ لقوله تعالى: بَلْ لَعَنَهُمْ اللهُ، وهذا الإضراب للإبطال، يعني: ليست القلوب غَلفاءَ لا تقبل الحقَّ، لكنْ هناك شيء آخَر هو الذي منَع من وصول الحقِّ؛ وهو لَعْنُ الله إيَّاهم؛ بسبب كُفرِهم [784] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/288). .
3- أنَّ العلم من أعظمِ نِعم الله عزَّ وجلَّ؛ لقوله تعالى: أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ [785] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/294). .
4- أنَّ العقوبات تَتراكم بحسَبِ الذُّنوب؛ جزاءً وفاقًا؛ لقوله تعالى: فَبَاؤُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ [786] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/296). .

الفوائد العلميَّة واللَّطائف :

1- أن مَن بعد موسى مِن الرُّسل مِن بني إسرائيل تبَعٌ له؛ لقوله تعالى: وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ [787] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/285). .
2- أنَّ من جملة تسخير الملائكة للخلْق أنَّهم يُؤيِّدون مَن أمَرَهم الله تعالى بتأييده، كما قال تعالى: وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [788] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/286). .

بلاغة الآيات:

1- قوله: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى فيه تأكيدٌ بالقَسَم؛ والتَّصدير بالجملة القَسَميَّة؛ لإظهار كمالِ الاعتناءِ بموسى عليه السلام وإيتائِه الكِتاب وإرساله [789] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (1/126)، ((تفسير القاسمي)) (1/347). .
2- في قوله: فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ
تقديم المفعول (فريقًا) في الموضعيْن؛ ليدلَّ على التَّفصيل، وللاهتمامِ وتشويقِ السَّامعِ إلى ما فعَلوا بهم، وتوخِّيًا لرؤوس الآي [790] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (1/483). .
بدأ بالتَّكذيب كَذَّبْتُمْ قبل القَتْل تَقْتُلُونَ؛ لأنَّه أوَّل ما يفعلونه من الشر، ولأنَّه الأمر المُشترَك بين الفريقين: المُكذَّب والمقتول [791] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (1/483). .
الإتيان بالمضارع في تَقْتُلُونَ في غاية الفصاحة؛ إذ هو لبيان فظاعة هذا الأمر، ولاستحضاره في النفوس وتصويره في القلوب، أو للإعلام بأنَّ الأمر مستمرٌّ؛ ففيه إشارةٌ لليهود الذين في زمَن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم؛ لأنَّهم أرادوا قتْله عليه الصَّلاة والسَّلام، لولا أنَّ الله تعالى عَصمَه منهم [792] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/162)، ((تفسير البيضاوي)) (1/93)، ((تفسير أبي حيان)) (1/483)،  ((تفسير ابن عادل)) (2/268). ، فقد قالت عائشة رضي الله عنها: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه: يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلتُ بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم )) [793] أخرجه البزار (115)، والحاكم (4393)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (20209)، ورواه البخاري (4428) معلقًا بصيغة الجزم. قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ، وصححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (7929) . .
وفيه كذلك مراعاة لفواصِل الآيات [794] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (1/483)، ((تفسير ابن عادل)) (2/268). .
3- في قوله: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ التفاتِ من الخطاب الذي في أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ واسْتَكْبَرْتُمْ وكَذَّبْتُمْ وتَقْتُلُونَ إلى الغَيْبة في قوله: وَقَالُوا؛ إشعارًا بإبعادهم عن رُتبة الخِطاب؛ لِمَا فُصِّل من مخازيهم الموجبةِ للإعراض عنهم [795] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (1/127)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/599). .
4- في قوله: فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ حُذفت صفة (قليلًا)؛ لدلالة الفعل عليها، والتقدير (فإيمانًا قليلًا). ومَا صِلة؛ أُتيَ بها للتأكيد والمبالَغة في التقليل [796] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (1/600). .
5- في قوله: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ وجَاءكُمْ رَسُولٌ تنكير (كتاب) و(رسول)؛ للتفخيم، وتعظيمًا لشأنه [797] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (1/135)، ((دليل البلاغة القرآنية)) للدبل (ص: 126). .
6- قوله: عَلَى الْكافِرِينَ فيه وضْعٌ للظاهر موضعَ المُضمَر -على اعتبار الألف واللام للعهد-؛ وذلك للتسجيل عليهم بالكُفر، وللدَّلالة على أنَّ اللَّعنة لحقتْهم بسبب كُفرهم، ولبيان أنَّ هذا الحُكم يعُمُّ كلَّ كافر [798] يُنظر: ((الدر المصون)) للسَّمين الحلبي (1/507)، ((تفسير أبي السعود)) (1/129)، ((دليل البلاغة القرآنية)) للدبل (ص: 126). .
7- قوله: وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ فيه وضْعٌ للظاهر موضعَ المضمر؛ إشعارًا بعِلَّة كون العذاب المهين لهم، وأنَّه هو الكفر، ولو قيل: (ولهم عذاب مهين)، لم يكُن في ذلك تنبيهٌ على العِلَّة. وأيضًا لبيان أنَّ هذا العذابَ يَشمل كلَّ كافر [799] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (1/494)، ((الدر المصون)) للسَّمين الحلبي (1/517)، ((تفسير أبي السعود)) (1/129)، ((تفسير القاسمي)) (1/351). .