موسوعة التفسير

سُورةُ المائِدَةِ
الآيتان (44 - 45)

ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ

غريب الكلمات:

وَالرَّبَّانِيُّونَ: جمْع ربَّانيٍّ، مَنسوبٌ إلى الرَّبِّ أو إلى الرَّبَّان، وهو الجامِعُ إلى العِلمِ والفِقهِ البَصرَ بالسِّياسةِ، والتَّدبيرَ، والقيامَ بأُمورِ الرَّعيَّة وما يُصلحُهم في دُنياهم ودِينهم، ويَشمَلُ ذلك: العَالِمَ الحَكيمَ، والفَقيهَ التَّقيَّ العابِدَ، والمُعلِّمَ المُصلِحَ، والذي يُربِّي الناسَ بصِغارِ العِلمِ قَبل كِبارِه، وأصل (ربّ): يدلُّ على إصلاحِ الشَّيءِ والقِيامِ عليه ولُزومِه، وضمِّ الشَّيءِ للشَّيءِ [868]  يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/529-531)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/381- 382)، ((المفردات)) للراغب (ص:336- 337)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 126). .
وَالْأَحْبَارُ: العُلماءُ، وهنا تَختصُّ بعُلماءِ اليهودِ من ولدِ هارون، جمْع حَبْر، وأَصْلُ (حبر): يدلُّ على الأثرِ في حُسنٍ وبهاءٍ [869]  يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 143)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/127)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 126، 151)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 408). .
اسْتُحْفِظُوا: استُودِعوا، والحِفظُ هو التَّعاهُدُ، وقلَّةُ الغَفْلة، ويُستعملُ في كلِّ تفقُّدٍ وتعهُّدٍ ورِعايةٍ، وهو نَقيضُ النِّسيانِ [870]  يُنظر: ((العين)) للخليل بن أحمد (3/198)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 144)، ((المفردات)) للراغب (ص: 244). .
فَلَا تَخْشَوُا: الخَشيةُ: خوفٌ يَشوبُه تَعظيمٌ، وهي: أشدُّ مِن الخوفِ وأَخَصُّ مِنَه؛ فهي خوفٌ مَقرونٌ بمعرفةٍ، وأكْثرُ ما تكونُ الخَشْيةُ عن عِلمٍ بالمَخوفِ منه، وهي مأخوذةٌ مِن قولِهم: شَجرةٌ خاشيةٌ: أي يابسةٌ، وأَصْلُ (خشِي): يدلُّ على خَوفٍ وذُعْر [871]  يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/184)، ((المفردات)) للراغب (ص: 283)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/508)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 82)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 428). .
قِصَاصٌ: وهو: مُقابلةُ الفِعل بمثلِه، وتتبُّع الدَّم بالقَوَدِ، كقَتْلِ القاتِل بَدلَ القَتيلِ، وأصلُ القَصِّ: تتبُّع الشَّيءِ والأَثَرِ، ومنه اشتُقَّ القِصاصُ في الجِراح؛ لأنَّه يُفعَل به مِثلُ فِعلِه بالأوَّل، فكأنَّه اقتصَّ أثَرَه [872] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/11)، ((المفردات)) للراغب (ص: 671- 672)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 26). .
كَفَّارَةٌ: الكفَّارة: ما يُغطِّي الإثمَ، وأصْل الكفر: السَّترُ والتَّغطية [873] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/191)، ((المفردات)) للراغب (ص: 717). .

المعنى الإجمالي:

يُخبرُ تعالى أنَّه أنزلَ التوراةَ مشتملةً على الهُدى والنُّور؛ يَحكمُ بها بين اليهود أنبياؤُهم الذين استَسلموا وخضَعوا للهِ تعالى، ويَحكُمُ بها أيضًا بينهم الربَّانيُّون والأحبار؛ وذلك لِكَونِهم مستأمَنينَ على كتابِ الله، مأمورينَ بتبليغِه، وشهداءَ عليه، ثم نهى اللهُ علماءَ اليهودِ أنْ يخافوا من النَّاسِ في تنفيذِ أحكامِه، بل يخافونه وحْدَه، ونهاهم عن أنْ يتركوا الحُكمَ بما في كتابِه مِن أجْلِ مَتاعِ الدُّنيا القليلِ الزائل، وأخبر أنَّ مَن لم يَحكُم بما أنْزَلَه تعالى فأولئك هم الكافِرون.
ثمَّ بيَّن تعالى أنَّه فرَض على اليهودِ في التَّوراة القصاصَ بأنْ تُقتَلَ النفسُ إذا قَتَلتْ نفسًا أخرى عَمْدًا بغير حقٍّ، وكذا العينُ مقابلَ العينِ، والأنفُ مقابلَ الأنفِ، والأذنُ مقابلَ الأُذُنِ، والسِّنُّ مقابلَ السِّنِّ، كما فرَض القِصاصَ في الجُرُوح؛ فللمجروحِ أن يقتصَّ بالمِثل ممَّن جرَحَه ظُلمًا، فمَن تنازَلَ عن حقِّه من القِصاصِ فيما سبَق فعَفَا عمَّن تَعدَّى عليه، فسيُكفِّر اللهُ ذنوبَه جزاءَ عَفْوِه عنه، وأخبَر تعالى أنَّ مَن لم يَحكُمْ بما أنزَلَه فأولئك هم الظَّالِمون.

تفسير الآيتين:

إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44).
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ.
مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:
لَمَّا وصَف اللهُ عزَّ وجلَّ التوراةَ بأنَّ فيها حُكمَه سُبحانَه في قوله: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ وتضمَّن ذلك مدْحَ التَّوراةِ؛ صرَّح بذلك هنا، فأثْنى عليها وعلى الحاكمينَ بها، تأكيدًا لذمِّ اليهودِ في الإعراضِ عمَّا دعَتْ إليه مِن أصلٍ وفرعٍ، وتحذيرًا من مِثل حالِهم [874] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (6/144). ((تفسير ابن عاشور)) (6/207). ، فقال:
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ.
أي: نحنُ نزَّلنا التوراةَ على موسى عليه السَّلامُ، وفيها ما يَهدي إلى الحقِّ، وما يُستضاءُ به في ظُلماتِ الشَّهوات والشُّبهاتِ [875] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/449)، ((تفسير السعدي)) (ص: 232)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/424). .
يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا.
أي: يَحكُمُ بحُكمِ التوراةِ الأنبياءُ الكِرامُ سادةُ الأنامِ عليهم السَّلامُ، الذين استَسلَموا للهِ تعالى ظاهرًا وباطنًا، فيَحكُمون بها بينَ اليهودِ، لا يَخرُجون عن حُكْمِها، ولا يُبدِّلونها ولا يُحرِّفونها [876] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/117)، ((تفسير السعدي)) (ص: 232)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/424- 425). .
وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ.
أي: ويَحكُمُ بالتَّوراةِ وأحكامِها أيضًا الرَّبَّانيُّونَ (وهم العلماءُ الحكماءُ العُبَّاد، الذين يُربُّون الناسَ بصغارِ العلمِ قبلَ كبارِه)، والأحبارُ (وهم العلماءُ الكبارُ ذَوو العلمِ الواسِع، المُحْكِمُون لعِلْمِهم)؛ وذلك لأنَّ اللهَ تعالى جعَلَهم أُمَناءَ على كِتابِه؛ استودَعهم إيَّاه، وأمَرَهم أن يُظْهِروه ويَعملوا به، وأوجب عليهم حِفظَه من الزِّيادةِ والنُّقصانِ والكِتمان [877] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/451- 454)، ((تفسير ابن كثير)) (3/117)، ((تفسير السعدي)) (ص: 232- 233)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/425- 426). .
وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ.
أي: شُهداءَ على أنَّه كتابُ الله، نزَل من عندِ اللهِ، وفيه حُكمُ الله، وهم مؤتَمَنون على تبليغِه، وحِفظِه من التَّبديلِ والتَّحريفِ والكِتمان، ومِن ذلك الحُكمُ برجْمِ الزاني المُحصَن، وإثباتُ أنَّ محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ هو الرسولُ المنتظَر المذكور في التوراةِ [878] يُنظر: ((التفسير الوسيط)) للواحدي (2/190)، ((تفسير القرطبي)) (6/189)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/209- 210)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/426، 431). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ من السَّلفِ ابن عباس في رواية عنه. ينظر: ((زاد المسير)) لابن الجوزي (1/552). .
فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ.
مُناسَبَتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا قرَّرَ فيما سبَقَ أنَّ النبيِّين والربَّانيِّين والأحبارَ كانوا قائمينَ بإمضاءِ أحكامِ التَّوراةِ من غيرِ مبالاةٍ؛ خاطَب اليهودَ الذين كانوا في عصْر النبيِّ صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّمَ، ومنَعَهم مِنَ التَّحريفِ والتَّغييرِ [879] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (7/349). ، فقال:
فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ.
أي: فما دُمتُم قدِ استُحْفِظْتُم على كتابِ اللهِ تعالى- يا علماءَ اليهودِ [880] هذا اختيارُ ابنِ جريرٍ في ((تفسيره)) (8/455)، والواحديِّ في ((التفسير الوسيط)) (2/190)، وابنِ عطيةَ في ((تفسيره)) (2/196) أنَّ الخطابَ لعلماءِ اليهودِ. وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ من السَّلفِ: ابنُ عباس رضي الله عنهما. ينظر: ((زاد المسير)) (1/552). وذكَر ابنُ عطيَّة أنَّه يحتمل أنْ يكون قولُه: فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ إلى آخِرِ الآيةِ خِطابًا لأمَّة محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم. وذهَب ابنُ عاشور إلى جواز أن يكون الخطابُ بقوله: فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ ليهودِ زمان نزولِ الآية، والفاء للتفريع عمَّا حُكي عن فِعل سَلف الأنبياء والمؤمنين؛ ليكونوا قدوةً لخلَفهم من الفَريقين، وتكون الجملةُ على هذا الوجه معترضةً، وذهب أيضًا إلى جواز أن يكونَ الخطاب للنبيِّين والربانيِّين والأحبار؛ فهي على تقديرِ القول، أي: قلنا لهم: فلا تَخشَوُا الناس. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/210) - فلا تَخشَوُا النَّاسَ في تنفيذِ حُكمي وإمضائِه عليهم؛ فإنَّهم لا يَقدِرون على ضرِّكم ولا نَفعِكم إلَّا بإذني؛ فإنَّ الحفيظَ على الشَّيءِ، الأمينَ حقَّ الأمانةِ لا يَخشى أحدًا في القيامِ بوجهِ أمانتِه، ولكنَّه يَخشى الذي استأمنَه، فلا تُخِلُّوا بها استرضاءً لأهواءِ النَّاس- ككِتمانِ حُكم الرَّجمِ، الذي حَكَم به اللهُ تعالى في التوراةِ على الزاني المحصَن وتبديلِه بغيره، وكِتمانِ صِفةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- ولكنِ اخْشَوني دون كلِّ أحدٍ مِن خَلقي، واقصُروا أنظارَكم على رِضاي؛ فإنَّ النفعَ والضرَّ بيدي، وخافوا عِقابي على كِتمانكم أو تبديلِكم ما استُحْفِظْتُم مِن كتابي [881] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/455)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/210)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/427). .
وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا.
أي: ولا تَتركوا الحُكمَ بآياتِ كتابي- أيُّها العلماءُ- فتكتموا الحقَّ، وتُظهِروا الباطلَ؛ لأجْلِ متاعٍ قليلٍ، وعِوَضٍ خسيس- كطلب بقاءِ جاهٍ وسيادةٍ، أو طَلبِ مال يُبذَل رِشوةً [882] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/455)، ((تفسير السعدي)) (ص: 233)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/427). .
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ.
مُناسَبَتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا منَعَهم مِن خَشيةِ النَّاس، وأن يشتَرُوا بآياتِه ثمنًا قليلًا؛ أتْبعَه بالوعيدِ الشَّديدِ [883] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (7/349). .
سبَبُ النُّزولِ:
عن البَراءِ بن عازبٍ رضِيَ اللهُ عنه، قال: ((مُرَّ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بيهوديٍّ محمَّمًا مجلودًا، فدَعاهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: هكَذا تَجِدون حدَّ الزاني في كِتابِكم؟ قالوا: نعَم، فدَعا رجلًا من عُلمائِهم، فقال: أَنشُدُك باللهِ الذي أنزلَ التوراةَ على موسى، أهكذا تَجِدون حدَّ الزَّاني في كتابِكُم؟ قال: لا، ولولا أنَّك نَشدْتَنِي بهذا لم أُخْبِرْكَ؛ نجدُه الرَّجمَ، ولكنَّهُ كثُرَ في أشرافِنا، فكنَّا إذا أخَذْنا الشَّريفَ تركْناهُ، وإذا أخَذْنا الضعيفَ أقَمْنا عليهِ الحدَّ! قلنا: تَعالَوْا فلنجتمعْ على شيءٍ نُقيمُه على الشَّريفِ والوَضيعِ، فجعَلْنا التَّحميمَ والجلْدَ مكانَ الرجمِ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: اللهمَّ إنِّي أولُ مَن أحيا أمْركَ إذْ أماتوهُ، فأمرَ بهِ فرُجِمَ، فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إلى قولِه: إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ، يقول: ائتوا محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فإنْ أمَرَكم بالتَّحميمِ والجَلدِ فخُذوه، وإنْ أَفتاكم بالرَّجمِ فاحْذروا، فأنزل اللهُ تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ في الكُفارِ كلُّها )) [884] رواه مسلم (1700). .
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ.
أي: إنَّ الذين لم يَحكُموا بما أَنزلَ اللهُ تعالى في كِتابِه من اليهودِ وغيرِهم، فبدَّلوا حُكمَه، وكتَموا الحقَّ الذي أنزلَه في كتابِه، وحَكَموا بالباطل؛ هؤلاءِ همُ الكافرونَ [885] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/456، 468)، ((تفسير السعدي)) (ص: 233)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة المائدة)) (1/427). والحُكم بغير ما أَنزل اللهُ قدْ يكونُ كفرًا أكبر يُخرجُ من المِلَّة في بعضِ الأحوالِ، ككراهيةِ حُكمِ الله تعالى، أو ظَنِّ أنَّ حُكمَ غيرِه مِثلُه أو أحسنُ منه، أو اعتقادِ أنَّ حُكمَ اللهِ تعالى غيرُ صالحٍ في في بَعضِ الأزمانِ كزَمانِنا هذا، أو استبدالِ قَوانينَ وأنظمةٍ عامَّة بحُكمِ اللهِ تعالى، تخالف حكمَ الله؛ فتحلُّ ما حرَّم الله وتحرِّم ما أحلَّ الله، هذا مع تحقُّقِ وجودِ شُروطِ التكفيرِ وانتفاءِ موانعِه، وقد يكونُ في أحوالٍ أخرى كُفْرًا أصغر لا يُخرِجُ مِن الملَّة، كمَن يَحكُم في قضيةٍ معيَّنة بخلافِ حُكمِ اللهِ تعالى لشهوةٍ أو رِشوةٍ، فيكونُ كبيرةً من كَبائرِ الذُّنوبِ. ينظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/346)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/258-259). قال السعديُّ: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزلَ اللَّهُ من الحقِّ المبين، وحَكَم بالباطلِ الذي يعلمه؛ لغرضٍ من أغراضِه الفاسدة فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ فالحكمُ بغير ما أنزل الله مِن أعمال أهل الكُفر، وقد يكون كُفرًا يَنقُل عن الملَّة، وذلك إذا اعتقَد حِلَّه وجوازَه، وقد يكون كبيرةً من كبائر الذنوب ومِن أعمالِ الكفر؛ قد استحقَّ مَن فعلَه العذابَ الشديد) ((تفسير السعدي)) (ص: 233). وقال الشِّنقيطيُّ: (فالخطابُ للمُسلمين كما هو ظاهرٌ متبادَر من سِياق الآية؛ وعليه: فالكفرُ إمَّا كُفرٌ دون كُفر، وإمَّا أن يكون فعل ذلك مستحلًّا له، أو قاصدًا به جحْدَ أحكام اللهِ وردَّها مع العِلم بها، أمَّا مَن حَكم بغير حُكم اللهِ، وهو عالمٌ أنَّه مرتكبٌ ذنبًا، فاعلٌ قبيحًا، وإنما حمَله على ذلك الهوى، فهو من سائرِ عصاة المسلمين) ((أضواء البيان)) (1/407). وقال أيضًا: (واعلم أنَّ تحرير المقام في هذا البحث: أنَّ الكفر، والظلم، والفسق، كل واحدٍ منها ربما أطلق في الشرع مرادًا به المعصيةُ تارةً، والكفرُ المخرِجُ من الملَّة أخرى: ومَن لم يحكم بما أنزل الله؛ معارضةً للرُّسل، وإبطالًا لأحكام الله، فظلمُه وفِسقُه وكفرُه كلُّها كفرٌ مخرِجٌ عن الملَّة، ومَن لم يحكُمْ بما أنزل الله معتقدًا أنه مرتكبٌ حرامًا، فاعل قبيحًا، فكفرُه وظلمُه وفسقُه غيرُ مخرجٍ عن الملَّة) ((أضواء البيان)) (1/407- 408). قال ابن عثيمين: (من لم يحكُمْ بما أنزَل الله استخفافًا به، أو احتقارًا له، أو اعتقادًا أنَّ غيره أصلحُ منه، وأنفعُ للخلقِ، فهو كافرٌ كفرًا مخرجًا عن الملَّة، ومِن هؤلاء مَن يضعون للنَّاس تشريعاتٍ تخالفُ التشريعاتِ الإسلاميةَ؛ لتكون منهاجًا يسيرُ النَّاس عليه، فإنَّهم لم يضعوا تلك التشريعاتِ المخالفةَ للشريعةِ الإسلاميَّة إلا وهم يعتقدون أنَّها أصلحُ وأنفعُ للخلقِ، إذ مِن المعلومِ بالضرورةِ العقليَّة، والجِبلَّة الفطريَّة أنَّ الإنسانَ لا يعدلُ عن منهاجٍ إلى منهاجٍ يخالفُه إلَّا وهو يعتقدُ فضلَ ما عدَل إليه، ونقصِ ما عدَل عنه). ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (2/143). وقال أيضًا: (والحُكمُ بِغَيرِ ما أنزَلَ اللهُ ينقَسِمُ إلى قِسمَينِ: أحدُهما: أن يستبدِلَ هذا الحُكمَ بحُكمِ اللهِ تعالى، بحيث يكونُ عالِمًا بحُكمِ اللهِ، ولكِنَّه يرى أنَّ الحُكمَ المخالِفَ له أَوْلى وأنفَعُ للعبادِ مِن حُكمِ الله، أو أنَّه مُساوٍ لِحُكمِ الله، أو أنَّ العُدُولَ عن حُكمِ اللهِ إليه جائِزٌ، فيجعَله القانونَ الذي يجِبُ التَّحاكُمُ إليه؛ فمِثلُ هذا كافِرٌ كُفرًا مُخرِجًا عن المِلَّةِ؛ لأنَّ فاعِلَه لم يَرْضَ باللهِ ربًّا، ولا بمحمَّدٍ رسولًا، ولا بالإسلامِ دينًا، وعليه ينطَبِقُ قولُه تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ. الثاني: أن يستبدِلَ بحُكمِ الله تعالى حُكمًا مخالِفًا له في قضِيَّةٍ مُعَيَّنةٍ، دون أن يجعَلَ ذلك قانونًا يجِبُ التَّحاكُمُ إليه؛ فله ثلاثُ حالاتٍ:  الأولى: أن يفعَلَ ذلك عالِمًا بحُكمِ اللهِ تعالى، مُعتَقِدًا أنَّ ما خالَفَه أَوْلى منه وأنفَعُ للعِبادِ، أو أنَّه مُساوٍ له، أو أنَّ العُدولَ عن حُكمِ اللهِ إليه جائِزٌ؛ فهذا كافِرٌ كُفرًا مُخرِجًا عن المِلَّةِ؛ لِمَا سَبَقَ في القِسمِ الأوَّلِ. الثانية: أن يفعَلَ ذلك عالِمًا بحُكمِ اللهِ، مُعتَقِدًا أنَّه أَوْلى وأنفَعُ، لكِنْ خالَفَه بقصدِ الإضرارِ بالمحكومِ عليه، أو نَفْعِ المحكومِ له، فهذا ظالِمٌ وليس بكافِرٍ، وعليه يتنَزَّلُ قولُ اللهِ تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. الثالثة: أن يكونَ كذلك، لكِنْ خالَفَه لِهوًى في نفسِه، أو مصلحةٍ تعودُ إليه؛ فهذا فاسِقٌ وليس بكافِرٍ، وعليه يتنَزَّلُ قولُ اللهِ تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين))(2/145). وقال أيضًا: (الأدلَّة دلَّت على أنَّ هذا [أي: التكفير] مقيَّد بشروط:  الأوَّل: أن يكون الحاكمُ عالِمًا بحُكم الله، والثاني: أن يكونَ عالِمًا بمخالفة هذا الحُكم لحُكمِ الله، والثالث: أن يَجعلَه بديلًا عن حُكم الله، والرابع: ألَّا يرضَى بحُكم الله، فإذا تمَّت هذه الشروط صارَ حينئذٍ خارجًا عن الملَّة) ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/435- 436). قال الرازي: (أجمَع المفسِّرون على أنَّ هذا الوعيدَ يتناولُ اليهودَ بسببِ مخالفتِهم حكمَ الله تعالى في واقعةِ الرَّجم) ((تفسير الرازي)) (12/368). وممَّن ذهب مِن السَّلف أنَّ الآيةَ في اليهودِ، وتشملُ كذلِك هذه الأمَّةَ: ابنُ مسعود، وإبراهيمُ النَّخَعي، والحسن، والسُّدِّيُّ. ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/466)، ((زاد المسير)) لابن الجوزي (1/552). .
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45).
مناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا بيَّن الله تعالى في التوراةِ أَحْكَامَ حَدِّ الزِّنَى، وأنَّ حُكمَ الزاني المحصَن هو الرجمُ، وأنَّ اليهودَ غيَّروه وبدَّلوه- ذكر في هذه الآيةِ أنَّه تعالى بيَّن في التوراةِ أَحْكَامَ القِصَاصِ، لكنَّ اليهودَ غيَّروها أيضًا [886] ينظر: ((تفسير الرازي)) (12/368) ((تفسير أبي حيان)) (4/270، 271) ((تفسير ابن عاشور)) (6/213). ، فقال تعالى:
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ.
أي: وفرَضْنا على اليهودِ في التَّوراةِ أنَّ النَّفس تُقتلُ قِصاصًا، إذا قَتلتْ نفسًا أخرى عَمْدًا بغير حقٍّ، وكذا العينُ تُفقَأُ بالعَينِ، والأنفُ تُجدعُ بالأنفِ، والأُذنُ تُقطَعُ بالأُذنِ، والسِّنُّ تُقلَعُ بالسنِّ، ويُقتصُّ للمجروحِ ممَّن جرَحه ظلمًا وعدوانًا بمِثل الجُرحِ الذي جرَحه [887] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (468- 469)، ((تفسير ابن كثير)) (3/120- 122)، ((تفسير السعدي)) (ص: 233)، ((تفسير ابن عثيمين)) (1/439- 448). قال السعديُّ: (ومِثل هذه ما أشبَهها من الأطرافِ التي يُمكن الاقتصاصُ منها بدون حيفٍ) ((تفسير السعدي)) (ص: 233). قال النَّحاسُ: (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها فهذا الضميرُ لليهودِ بإجماعٍ) ((إعراب القرآن)) (1/269).  وقال الرازي: (أجمع العلماءُ على أنَّ قولَه تعالى: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس حكمُه باقٍ في شرعِنا) ((تفسير الرازي)) (11/359-360). وقال القرطبيُّ: (أجمَع العلماءُ على أنَّ قولَه تعالى: والسن بالسن أنَّه في العمدِ) ((تفسير القرطبي)) (6/202). .
وهذا من جملة أحكامِ التوراة، التي يَحكُم بها النبيُّون الذين أَسلموا للذين هادُوا، ويَحكُم بها الربَّانيُّون والأحبارُ، ومع ذلِك يُخالفُها اليهودُ عمدًا؛ فهُم بترْكِ حُكمِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بينهم أَحْرى وأَوْلى [888] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (469)، ((تفسير ابن كثير)) (3/120)، ((تفسير السعدي)) (ص: 233)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/213- 215). .
فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ.
أي: فمَن تنازَلَ عمَّا وجَبَ له مِن حقٍّ بالقِصاص في النَّفْس، وما دونها من الأطرافِ والجُروحِ فعفَا عن الجاني، تُكفَّرُ عنه ذنوبُه؛ جزاءً لعَفْوه وتنازُلِه [889] واختار هذا القولَ ابنُ جرير في ((تفسيره)) (479- 480)، واختارَه ابنُ العربيِّ في ((أحكام القرآن)) (2/136)، وذكَر أنَّ عليه أكثرَ الصحابة، واختاره القرطبيُّ في ((تفسيره)) (6/208) وقال: إنَّه الأظهرُ. واختاره ابنُ تيميَّة في ((مجموع الفتاوى)) (30/362)، وابن عاشور في ((تفسيره)) (6/216- 217) وممَّن قال من السَّلف بنحوِ هذا القولِ: ابنُ مسعود، وعبدُ الله بن عَمرٍو، وإبراهيمُ النَّخَعيُّ- في أحد قوليه- والحسن، وقتادة، والشَّعبي، وأبو إسحاق الهمدانيُّ. ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/472)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (4/1146)، ((زاد المسير)) لابن الجوزي (1/554). وقيل: كفارةٌ للجاني، فإذا عفا المجنيُّ عنه كان عفوُه كفارةً لذنبِ الجاني، كما القِصاصُ منه كفَّارَةٌ له. ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/475). واختار السعديُّ أنه كفَّارةٌ للعافي وللجاني أيضًا؛ لأنَّ المجني عليه عفا عن حقِّه، والله تعالى أحقُّ وأَوْلى بالعفوِ عن حقِّه، يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 233). .
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
أي: إنَّ الذين لم يَحكُموا بما أَنزلَ اللهُ تعالى في كتابِه من اليهودِ وغيرِهم، فبدَّلوا حُكمَه، وكتَموا الحقَّ الذي أَنزله في كتابِه، وحكَموا بالباطلِ في أحكامِ القِصاصِ وغيرِها، فهم ممَّن جارَ على حُكمِ اللهِ وتعدَّى حُدودَه، ووضَع فِعلَه في غَيرِ مَوضعِه الذي جعَله اللهُ تعالى له [890] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (482). واختارَ ابنُ عاشور أنَّ المراد بالظالمين الكافرون؛ لأنَّ الظلم يُطلق على الكفر؛ فيكون هذا مؤكِّدًا للذي في الآية السابقة، ويحتمل أنَّ المرادَ به الجَوْرُ، فيكون إثباتُ وصفِ الظلمِ لزيادةِ التشنيع عليهم في كُفرهم؛ لأنَّهم كافِرون ظالمون. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/217). واختار ابنُ عُثَيمين: أنَّ قوله سبحانه: فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، في مَن حَكَم وهو يعتقدُ أنَّ حُكمَ اللهِ هو الحقُّ، وأنه أنسبُ للعباد من حُكم الطاغوتِ، لكنَّه أراد أن يَعتديَ على المحكومِ عليه لعداوةٍ بينه وبينه، فهذا ظالمٌ. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/457). ممَّن قال بنحوِ هذا القولِ: ابنُ عبَّاس. ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/467) قال ابنُ جرير:(عن عليِّ بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ رضي الله عنه، قوله: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [المائدة: 44] قال: مَن جحد ما أنزَل اللهُ فقد كفَر، ومن أقرَّ به ولم يحكمْ فهو ظالمٌ فاسقٌ). ((تفسير ابن جرير)) (8/467). وتقدَّم أنَّ الظُّلم يُطلَق ويُراد به المعصيةُ تارةً، ويُراد به الكفرُ المخرجُ مِن الملَّة تارةً أخرى. ينظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/407) .

الفوائد التربوية:

1- يُستفادُ مِن قولِه: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ أنَّ العِبرةَ بالاهتداء بالدِّين، وأنَّه لا ينفعُ أهلَ الانتماءِ إليه إذا لم يُقيموه؛ إذ لا يَستفيدونَ من هِدايتِه ونورِه إلَّا بإقامتِه والعَمَلِ به، وأنَّ إيثارَ أهلِ الكتابِ أهواءَهم على هدايةِ دِينِهم هو الذي أعماهم عن نورِ القُرآنِ، والاهتداءِ به [891] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (6/328). .
2- أنَّ أهلَ العِلم ورثةُ الأنبياءِ في إظهارِ حُكمِ اللهِ والدَّعوةِ إلى شريعتِه؛ لقوله: وَالرَبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ، عطفًا على الأنبياءِ في قولِه تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا [892] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/430). .
3- الثَّناءُ على أهلِ العِلم، وأنَّهم هم حَفَظةُ شريعةِ الله؛ لقوله: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ؛ فهم وَرَثةُ الأنبياءِ، وهم الذين يَلزمُهم الدَّعوةُ إلى الله على بصيرةٍ، ونشْرُ شريعةِ الله [893] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/430). .
4- تحريمُ خَشيةِ الناس في إضاعةِ شريعةِ الله؛ لقوله: فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ [894] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/432). .
5- يُستفادُ مِن قولِه: فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا أنَّ المنحرِفَ عن الدِّينِ وعن نشْر العِلم ينحرفُ لأحدِ سببينِ: السَّبب الأوَّل: خشيةُ النَّاسِ، والسبب الثاني: الطَّمعُ في الدُّنيا، وطلَبُ الدُّنيا والرِّئاسةِ والمالِ، وما أشْبَه ذلك [895] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/433). .
6- في قوله تعالى: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنًا قَلِيلًا نهيٌ عن جميعِ المكاسِبِ الخبيثةِ بالعِلم، والتحيُّل للدُّنيا بالدِّين، وهذا المعنى بعينه يتناول علماءَ هذه الأمَّة وحُكَّامَها [896] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (2/196) .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- شرفُ التوراة؛ لقوله: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ؛ حيث إنَّ اللهَ تعالى أنْزَلَها مِن عنده، لكنَّ المرادَ بالتوراة: التي لم تُغيَّرْ ولم تُبدَّلْ [897] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/428). .
2- أنَّ في التوراةِ هدًى ونورًا؛ لقوله: فِيهَا هُدًى وَنُورٌ، وكذلك في القرآنِ الكريمِ؛ قال الله تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ [البقرة: 185] ، فالقرآن كلُّه هدًى وكلُّه نورٌ؛ قال تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا [النساء: 174] ، وفي هذه الآية قال الله تعالى في التوراة: فِيهَا هُدًى وَنُورٌ، وهذا التعبيرُ بينه وبينَ التعبيرِ القرآنيِّ بالنسبة للقرآن الكريم فرْقٌ عظيم؛ لأنَّ التوراةَ جُعِل فيها هدًى ونورٌ، والقرآن جَعَله هو الهُدى والنُّور [898] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/428). .
3- قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ فذكَر أنَّ في التوراة نورًا، بينما قال في آيةٍ أخرى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ [الأنبياء: 48] ، فوصَفَها بأنَّها ضياءٌ، والضياء: هو النورُ الذي يَحصُل فيه نوعُ حرارةٍ وإشراق، كضياءِ الشَّمس، بخِلافِ القمر؛ فإنَّه نورٌ محْضٌ، فيه إشراقٌ بغيرِ إحراقٍ؛ وذلك لأنَّ الغالبَ على شريعتِهم الضياءُ؛ لِما فيها من الآصارِ والأغلالِ والأثقالِ، ووَصَف شريعةَ محمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنها نورٌ لِمَا فيها مِن الحنيفيَّة السَّمْحةِ؛ قال تعالى: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وِكِتَابٌ مُبِينٌ [899] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/24- 25). .
4- أنَّ التوراةَ أصلٌ للأنبياءِ مِن بني إسرائيل الذين جاؤوا من بعدِ موسى عليه وعليهم السَّلام؛ لقوله: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ [900] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/429). .
5- وصْفُ الأنبياءِ بالإسلامِ؛ لقوله: النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا، والمرادُ هنا: الاستسلامُ الظاهرُ والباطِنُ، وفيه الإشارةُ إلى شَرفِ الإسلامِ وفَضلِه؛ إذ كان دِينَ الأنبياءِ [901] ينظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/208)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/429). .
6- وجهُ وصفِ النبيِّينَ بقوله: الَّذِينَ أَسْلَمُوا مع أنَّ كلَّ نبيٍّ لا بدَّ أن يكونَ مسلمًا، أنَّه وصَفَهم بذلك على سَبيلِ المدحِ والثَّناءِ، لا على سبيلِ التَّفصيل والتَّوضيح؛ فإنَّ الأنبياءَ كلَّهم مسلِمون، وقيل: بل في ذلك إعظامُ صفةِ الإسلامِ بعِظَمِ موصوفِها وهم الأنبياءُ، وقيل: يُحتَمَل أن يكون المرادُ هو محمدًا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ وذلك لأنَّه حَكَم على اليهوديَّيْنِ بالرَّجم، وكان هذا حُكْمَ التَّوراةِ، وإنما ذُكِر بلفظِ الجَمْعِ النَّبِيُّونَ تعظيمًا له [902] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/637)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (6/144)، ((تفسير الشربيني)) (1/376)، ((تفسير الرازي)) (12/365، 366)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (6/329)، ((تفسير ابن عادل)) (7/345). .
7- يُستفادُ مِن قولِه: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ أنَّه لا عُذرَ لليهود في الخروجِ عن شريعةِ الله؛ لأنَّ اللهَ تعالى قيَّض لهم الأنبياءَ الكثيرين يَحكُمون لهم بالتوراةِ، لكنَّهم عاندوا وكفروا [903] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/430). .
8- مِن اللَّطائف: أنَّه جازَ التبديلُ على أهلِ التوراةِ، ولم يَجُزْ على أهلِ القُرآنِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال في أهلِ التوراة: وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فوكَل الحِفظَ إليهم، وقال في القرآنِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] ، فتَعهَّد اللهُ بحِفظِه؛ فلم يَجُزِ التبديلُ على أهلِ القرآنِ [904] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/209). .
9- في قولِه تعالى: فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا لَمَّا قدَّم الخوفَ- لأنَّه أقوى تأثيرًا- أتْبعَه الطَّمَعَ، فقال: وَلَا تَشْتَرُوا، ولَمَّا كان الاشتراءُ معناه اللَّجاجة في أخْذِ شيءٍ بثمنٍ، وكان المُثْمَنُ أشرفَ مِن الثَّمنِ من حيثُ إنَّه المرغوبُ فيه- جعَل الآياتِ مُثْمنًا وإنِ اقترنَتْ بالباء، حتَّى يُفيدَ الكلامُ التعجُّبَ مِن الرغبة عنها، وأنَّها لا يصحُّ كونُها ثمنًا، فقال: بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا [905] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (6/145) وينظر: ((تفسير ابن عادل)) (7/349). .
10- قوله تعالى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ... الآية: استُدلَّ به على أنَّ شَرْعَ مَن قَبْلَنا شرْعٌ لنا، إذا حُكي مُقرَّرًا ولم يُنسَخْ؛ حيثُ كان الحُكمُ عندنا على وَفقِها في الجناياتِ عندَ جميعِ الأئمَّة [906] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/121). .
11- يُستفادُ مِن قولِه تعالى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ أنَّ القصاصَ ثابتٌ في النُّفوسِ، ولو اختَلفَ النَّاسُ في السِّنِّ والطُّولِ والقِصَر والعِلمِ والعَقْلِ والذَّكاء، وغير ذلك؛ وَجْه ذلك: العمومُ؛ ولهذا لو أنَّ رجلًا شابًّا عالِمًا كريمًا حسيبًا قتَلَ طفلًا في المهدِ، فإنَّه يُقتَلُ به؛ لأنَّه لا عِبرةَ بالاختلافِ في هذه الأشياءِ؛ وذلك للعمومِ [907] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/451). .
12- الاقتصارُ على ذِكر هذه الأعضاءِ دونَ غيرِها مِن أعضاءِ الجسدِ؛ كاليدِ والرِّجلِ والإصبَع؛ لأنَّ القطعَ يكونُ غالبًا عندَ المضاربةِ بقصدِ قطْعِ الرَّقبةِ، فقد ينبو السيفُ عن قطعِ الرَّأس، فيُصيب بعضَ الأعضاءِ المتَّصلةِ به مِن عينٍ أو أنفٍ أو أُذُن أو سِنٍّ، وكذلك عندَ المصاولةِ؛ لأنَّ الوجهَ يُقابِلُ الصائلَ [908] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/214). .
13- لا بدَّ من المماثَلَة في القِصاص؛ فاليُمنى باليُمنى، واليُسْرى باليُسرى؛ لأنَّ التعريفَ في قوله: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ يدلُّ على أنَّ الثانيَ هو الأوَّل، وهذا يَقتضي المماثلةَ، ولأنَّه جاء بالباءِ الدالَّة على البَدَل، والبَدل لا بدَّ أن يكون مُساويًا للمُبْدَل منه [909] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/443). .
14- قوله تعالى: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ فيه الحثُّ على العَفْوِ عن الجاني [910] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (6/154)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/456). قال السُّيوطيُّ: (فيه استجابُ العفوِ عن القصاصِ إن أُريد بـ(من): المجنيُّ عليه، وأنَّ القصاصَ كفارة الذنب إن أُريد به الجاني) ((الإكليل في استنباط التنزيل)) (ص: 112). .
15- قال تعالى: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ المرادُ مِن التصدُّقِ العفوُ؛ لأنَّ العفوَ لَمَّا كان عن حقٍّ ثابتٍ بِيَدِ مُستحِقِّ الأخْذِ بالقِصاصِ، جَعَل إسقاطَه كالعطيَّةِ؛ ليشيرَ إلى فَرْطِ ثوابِه، وبذلك يَتبيَّنُ أنَّ معنى كفَّارَةٌ لَهُ أنَّه يُكفِّر عنه ذُنوبًا عظيمةً؛ لأجْلِ ما في هذا العَفْوِ من جَلْبِ القلوبِ، وإزالةِ الإِحَنِ، واستبقاءِ نُفوسِ وأعضاءِ الأمَّةِ [911] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/216)، (6/217). .
16- قال اللهُ تعالى في الموضع الأوَّل: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ؛ لأنَّ اليهود جَحَدوا حُكمَ اللهِ قصدًا منهم وعنادًا وعَمدًا، وقال في الموضعِ الثَّاني: فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ؛ لأنَّهم لم يُنْصِفوا المظلومَ مِن الظَّالمِ في الأمْرِ الذي أمَر اللهُ بالعدلِ والتسويةِ بين الجميعِ فيه، فخالَفوا وظَلموا، وتَعدَّى بعضُهم على بعضٍ [912] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/120). .
17- في قولِه تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ عاد سُبحانَه وتعالى فحذَّر مِن مخالفةِ حُكمِ اللهِ؛ ليُنَبِّهَ على أنَّ الترغيبَ في العفوِ لا يَقتضي الاستخفافَ بالحُكمِ، وإبطالَ العملِ به؛ لأنَّ حُكمَ القِصاصِ شُرِعَ لحِكَمٍ عظيمة: منها الزَّجرُ، ومنها جبرُ خاطرِ المعتدَى عليه، ومنها التَّفادي من ترصُّدِ المعتدَى عليهم للانتقامِ مِن المعتدينَ أو مِن أقوامِهم؛ فإبطالُ الحُكمِ بالقِصاصِ يُعطِّلُ هذه المصالحَ، وهو ظلمٌ؛ لأنَّه غمصٌ لحقِّ المُعتدَى عليه أو وليِّه، وأمَّا العفوُ عن الجاني فيُحقِّقُ جميعَ المصالحِ، ويَزيد مصلحةَ التحابُبِ؛ لأنَّه عن طِيبِ نفْسٍ، وقد تَغشى غباوةُ حُكَّام بني إسرائيل على أَفهامِهم، فيجعلوا إبطالَ الحُكمِ بمنزلةِ العَفْو، فهذا وجهُ إعادةِ التحذيرِ عقبَ استحبابِ العفو [913] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/217). .

بلاغة الآيتين:

1- قوله: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ كلامٌ مُستأنَفٌ سِيق لبيانِ عُلوِّ شأنِ التَّوراة، ووجوبِ مراعاةِ أحكامِها، وهو يَتضمَّنُ تعظيمَ التوراةِ وتَفخيمَ شأنِها [914] ينظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/40)، ((تفسير الشوكاني)) (2/49). ، وفيه التأكيد بـ(إنَّ) واسميَّةِ الجُملةِ.
2- قوله: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ:
- قوله: الَّذِينَ أَسْلَمُوا فيه: رفْعٌ لشأنِ المسلِمين، وتعريضٌ باليهود، وأنَّهم بمعْزِلٍ مِن الإسلامِ والاقتداءِ بدِينِ الأنبياءِ عليهم السَّلام [915] ينظر: ((تفسير البيضاوي)) (2/127)، ((تفسير أبي السعود)) (3/41). .
- وقوله: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ: فيه من البَلاغةِ ما يُعرف بالاحتباك؛ حيثُ ترَك أولًا ذِكْر بِمَا اسْتُحِفُظُوا؛ لدلالةِ ما ذُكر بعدَ ذلك عليه، وتَرَكَ ذِكْرَ الإسلامِ بعدَ ذلك؛ لدلالة ذِكْره أولًا عليه، والتقدير: (يَحكُم بها النبيُّون الذين أسْلَموا بما استُحفظوا... للذين هادوا، والربَّانيُّون والأحبارُ الذين أسْلَموا بِما استُحفظوا)، وإنَّما خصَّ الأوَّل بذِكرِ الإسلامِ؛ لأنَّ الأنبياءَ أحقُّ به، وهو داعٍ إلى الحِفظ قَطعًا، وخصَّ الثاني بالاستِحفاظ؛ لأنَّ الأتْباع أَوْلى به، وهو دالٌّ على الإسلام [916] ينظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (6/145). .
- وفي إبهامِ ذِكْرِ التوراةِ أولًا في قوله: بِمَا اسْتُحْفِظُوا، ثمَّ بيانِها ثانيًا بقولِه تعالى: مِنْ كِتَابِ اللهِ تَفخيمٌ وإجلالٌ لها ذاتًا وإضافةً، وتأكيدٌ لإيجابِ حفظِها والعَملِ بما فيها، وإيرادُها بعنوان (الكتاب)؛ للإيماءِ إلى إيجابِ حِفظِها عن التَّغييرِ من جِهة الكتابةِ [917] ينظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/41). .
3- قوله: فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ فيه: التفاتٌ؛ إذ إنَّه خطابٌ لرؤساءِ اليهودِ وعُلمائهم- على هذا المعنى- بطَريقِ الالتفاتِ، وأمَّا حُكَّامُ المسلمين فيتناولُهم النهْيُ بطريقِ الدَّلالةِ دون العِبارةِ [918] ينظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/42). .
4- قوله: فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ الجملة تذييلٌ مُقرِّرٌ لمضمونِ ما قَبلَها أبلغَ تقريرٍ، وتحذيرٌ عن الإخلالِ به أشدَّ تحذيرٍ؛ حيث علَّق فيه الحُكمَ بالكفرِ بمجرَّد ترْك الحُكمِ بما أنزل اللهُ تعالى؛ فكيف وقد انضمَّ إليه الحُكمُ بخِلافِه- لا سيَّما مع مباشرةِ ما نُهوا عنه من تحريفِه- ووضْعُ غيرِه موضِعَه، وادِّعاءُ أنَّه مِن عندِ الله؛ ليشتروا به ثمنًا قليلًا [919] ينظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/42). ؟!
- وجاءَ ضميرُ الفصلِ هُمْ؛ لإفادةِ الحَصرِ والتوكيدِ، وضميرُ الفصل له ثلاثُ فوائدَ، الأولى: إفادةُ الحَصْر، والثانية: التوكيدُ، والثالثة: التمييزُ بين الخبر والصِّفة؛ ولهذا سُمِّيَ ضميرَ فصْلٍ [920] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/427). .
5- قوله: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ التعبيرُ بصِيغةِ التفعُّل في تَصَدَّقَ؛ للمُبالغة في الترغيبِ فيه [921] ينظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/43). .
6- قوله: فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ الجملةُ تذييلٌ مُقرِّرٌ لإيجابِ العملِ بالأَحْكامِ المذكورة [922] ينظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/43). .