موسوعة التفسير

سورةُ الحِجْرِ
الآيات (6-9)

ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ

غريب الكلمات:

مُنْظَرِينَ: أي: مُؤخَّرينَ، والإنظارُ: التَّأخيرُ .

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ الله تعالى أنَّ المشركينَ قالوا للنبيِّ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم استهزاءً: يا من يزعُمُ نُزولَ القُرآنِ عليه، إنَّك لَمجنونٌ فيما تدعونا إليه مِن اتِّباعِك، وتَركِ ما وجَدنا عليه آباءَنا، هلَّا تأتينا بالملائِكةِ؛ لتشهَدَ على قولِك، إن كنتَ صادِقًا. فردَّ الله عليهم مقولتَهم بقولِه: لا نُنَزِّلُ الملائِكةَ إلَّا بالحَقِّ- كالوحي أو العذابِ- لا بحسَبِ اقتراحاتِهم، وما كان اللهُ لِيُمهِلَهم حين تَنزِلُ عليهم الملائِكةُ- كما اقترحوا- ويرونهم ولا يؤمنون، بل سيعذِّبُهم حينئذٍ.
أوَلم يكفِهم مِن الآياتِ هذا القرآنُ الذي نزَّله الله تعالى على نبيِّه محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، والذي تولَّى حِفظَه جلَّ وعلا.

تفسير الآيات:

وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا بالغَ اللهُ تعالى في تهديدِ الكُفَّارِ؛ ذكَرَ بعده شُبَهَهم في إنكارِ نبُوَّةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .
وأيضًا فإنَّها عَطفٌ على جُملةِ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا [الحِجر: 3]، والمناسبةُ أنَّ المعطوفَ عليها تضمَّنَت انهِماكَهم في الملذَّاتِ والآمالِ، وهذه تضَمَّنَت توغُّلَهم في الكُفرِ، وتكذيبَهم الرِّسالةَ المُحمَّديَّة .
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6).
أي: وقال مُشرِكو قُريشٍ لمحمَّدٍ- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- تهكُّمًا به: يا مَن يزعُمُ أنَّ اللهَ نزَّل عليه القرآنَ، إنَّك لَمجنونٌ في دَعوتِك لنا إلى اتِّباعِك، وتَرْكِ عبادةِ الأصنامِ التي وجَدْنا عليها آباءَنا .
لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7).
أي: وقالوا له: هلَّا تُحضِرُ إلينا الملائِكةَ؛ ليَشهَدوا لك على ما تَقولُ، إن كنتَ من الصَّادِقينَ في أنَّك رَسولٌ مِن عندِ اللهِ حقًّا، فإنْ لم تأتِنا بالملائكةِ، فلسْتَ بصادقٍ في دَعواك .
كما قال تعالى: وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ [الأنعام: 8] .
وقال سُبحانَه: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا [الفرقان: 21] .
وقال تعالى حاكيًا قولَ فِرعونَ عن موسى عليه السَّلامُ: فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ [الزخرف: 53] .
مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8).
مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ.
أي: ما نُنَزِّلُ الملائِكةَ إلَّا بما يحِقُّ ويجِبُ- كالوحيِ أو العذابِ، وغيرِ ذلك- تَنزيلًا مُلتَبِسًا بالحِكمةِ والمصلحةِ، لا على حسَبِ اقتراحِ الكُفَّارِ .
وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ.
أي: ولو نزَّلنا الملائِكةَ على الكُفَّارِ- كما اقتَرَحوا- فرَأَوا الملائِكةَ عِيانًا ولم يُؤمِنوا؛ فلن يُمهِلَهم اللهُ، وسيُعَذِّبُهم في الحالِ .
كما قال تعالى: وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ [الأنعام: 8] .
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه استِئنافٌ لإبطالِ جُزءٍ مِن كَلامِ الكافرينَ المُستَهزِئينَ به، إذ قالوا: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ، بعدَ أن عجَّلَ كَشْفَ شُبهَتِهم في قَولِهم: لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ .
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9).
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ.
أي: إنَّا نحنُ نزَّلْنا القرآنَ الذي فيه الذِّكرَى والموعِظةُ والشَّرَفُ .
وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ.
 وإنَّا له لحافِظونَ في حالِ إنزالِه مِن استِراقِ كلِّ شَيطانٍ رَجيمٍ، وبعدَ إنزالِه بحِفظِ ألفاظِه ومعانيه من الزِّيادةِ والنَّقصِ والتَّحريفِ .
كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 41-42] .
وقال سُبحانه: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج: 21-22] .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال تعالى: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ قد أرادوا الاستهزاءَ بوصْفِه، فأنطَقَهم اللهُ بالحقِّ فيه صرْفًا لألسنتِهم عنِ الشَّتْمِ، وهذا كما كانوا إذا شَتَموا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أو هَجَوه يَدْعونَه مُذَمَّمًا .
2- قولُ المكذبينَ للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ* لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ مِن أعظمِ الظلمِ والجهلِ، أمَّا الظلمُ فظاهرٌ؛ فإنَّ هذا تجرؤٌ على الله، وتعنُّتٌ بتعيينِ الآياتِ التي لم يختَرْها، وحصَل المقصودُ والبرهانُ بدونِها مِن الآياتِ الكثيرةِ الدالةِ على صحةِ ما جاء به، وأمَّا الجهلُ: فإنَّهم جهِلوا مصلحتَهم مِن مضرتِهم، فليس في إنزالِ الملائكةِ خيرٌ لهم، بل لا ينزلُ الله الملائكةَ إلَّا بالحقِّ الذي لا إمهالَ على من لم يَتبعْه، ويَنْقَدْ له .
3- قوله تعالى: مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ يُفهَم منه أنَّ الله مُنظِرُهم؛ لأنَّه لم يُرِدِ استئصالَهم؛ لأنَّه أراد أن يكونَ نشرُ الدينِ بواسطتِهم، فأمهَلهم حتَّى اهتدوا، ولكنَّه أهلَك كبراءَهم ومُدبِّريهم .
4- قَولُه تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ من عادةِ المُلوكِ إذا فعلوا شيئًا، قال أحَدُهم: نحن فعَلْنا، يريدُ نفسَه وأتباعَه، ثمَّ صار هذا عادةً للمَلِكِ في خِطابِه، وإن انفرَدَ بفِعلِ الشَّيءِ، فخُوطِبَت العرَبُ بما تعقِلُ مِن كَلامِها .
5- في قَولِه تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ دَلالةٌ على أنَّ العِلْمَ الذي بَعَثَ اللهُ به نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم، مَضبوطٌ ومحروسٌ .
6- في قَولِه تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ دَلالةٌ على أنَّ  اللهَ سُبحانَه تَكفَّلَ بحِفظِ كتابِه؛ فلم يتمكَّنْ أحدٌ مِن الزيادةِ في ألفاظِه، ولا مِن النَّقصِ منها ، فقد تكفَّلَ تعالى بحفْظِه في كلِّ وقْتٍ، فلا يَعْتَريه زيادةٌ ولا نُقصانٌ، ولا تحريفٌ ولا تَبْديلٌ، بخلافِ غيرِه مِن الكُتُبِ المُتقدِّمةِ؛ فإنَّه تعالى لم يتكَفَّلْ حِفْظَها، بل أخبَرَ تعالى أنَّ الرَّبانيِّينَ والأحبارَ اسْتُحْفِظُوها؛ ولذلك وقَعَ فيها الاختلافُ .
7- قَولُه تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ فيه أنَّ القرآنَ آيةٌ مستَمِرَّةٌ إلى يومِ القيامةِ بخلافِ الآياتِ السَّابقةِ؛ الآياتُ السَّابِقةُ مَشهودةٌ ينتَفِعُ بها المُشاهِدونَ لها، أمَّا مَن بَعدَهم فإنَّما تَصِلُ إليهم عن طريقِ الأخبارِ، ومن المعلومِ أنَّه ليس الخبَرُ كالعِيانِ، وأمَّا القُرآنُ فإنَّه بيننا نشاهِدُه ونَسمَعُه ونتلوه، فليس هو مِن طريقِ الخبَرِ عن شيءٍ مضَى، فيكونُ أعظَمَ مِن الآياتِ التي انقَضَتْ وزالَتْ، وهذا هو السِّرُّ في أنَّ القُرآنَ كان آيةً لكُلِّ النَّاسِ؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم مبعوثٌ إلى جميعِ البَشَرِ .
8- في قَولِه تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ دَلالةٌ على عُلُوِّ اللهِ تعالى؛ مِن جهةِ ذِكْرِ نزولِ الأشياءِ مِن عِندِه .
9- مَن زَعَم أنَّ القرآنَ قد حُذِفَ منه شَيءٌ، فإنَّه كافرٌ؛ لأنه مُكَذِّبٌ لِقَولِ اللهِ تعالى: وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ .
10- قال الله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ومِن حِفظِه أنَّ اللهَ يحفَظُ أهْلَه مِن أعدائِهم .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ
- قولُه: وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ نادَوا به النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على التَّهكُّمِ، وللتَّشهيرِ بالوصفِ المُنادى به؛ ويدلُّ على ما نادَوه له وهو قولُهم: إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ، وهذا الوصفُ بأنَّه الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ قالوه على جِهَةِ الاستهزاءِ والاستخفافِ، لا تسليمًا لذلك واعتقادًا له، وإشعارًا بعِلَّةِ حُكمِهم الباطلِ في قولهِم: إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ؛ لأنَّهم لا يُقِرُّون بتنزيلِ الذِّكْرِ عليه، وينسِبونَه إلى الجُنونِ؛ كما قال فِرعونُ: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء: 27] ، وكيف يُقِرُّونَ بنُزولِ الذِّكْرِ عليه وينسِبونَه إلى الجُنونِ؟! . أو يكونُ في الكلامِ حذْفٌ، أي: يا أيُّها الَّذي تَدَّعي أنَّك نزَلَ عليك الذِّكرُ...إلخ .
- وفي قولِهم: إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ تأكيدُ الجُملةِ بـ (إنَّ) واللَّامِ؛ لقصْدِهم تحقيقَ ذلك له؛ لعلَّه يرتدِعُ عن الاستمرارِ فيه، أو لقصْدِهم تحقيقَه للسَّامعينَ حاضِري مَجالِسِهم .
- وفي قولِه: نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ تقديمُ الجارِّ والمجرورِ على القائمِ مَقامَ الفاعلِ الذِّكْرُ؛ لأنَّ إنكارَهم مُتوجِّهٌ إلى كونِ النَّازلِ ذِكْرًا مِن اللهِ تعالى، لا إلى كونِ المُنزَّلِ عليه رسولَ اللهِ بعدَ تسليمِ كونِ النَّازِلِ منه تعالى، كما في قولِه تعالى: وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] ؛ فإنَّ الإنكارَ هناك مُتَوجِّهٌ إلى كونِ المُنَزَّلِ عليه رسولَ اللهِ تعالى، وإيرادُ الفعْلِ على صِيغَةِ المجهولِ نُزِّلَ؛ لإيهامِ أنَّ ذلك ليس بفعْلٍ له فاعلٌ، أو لتوجيهِ الإنكارِ إلى كونِ التَّنزيلِ عليه لا إلى استنادِه إلى الفاعِلِ .
2- قوله تعالى: لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
- قولُه: لَوْ مَا تَأْتِينَا رُكِّبَ قولُه: لَوْ مع قولِه: مَا- كما رُكِّبَت (لو) مع (لا)- لمعنيينِ: معنى امتناعِ الشَّيءِ لوُجودِ غيرِه، ومعنى التَّحضيضِ، والمعنى: هلَّا تأتينا بالملائكةِ يَشْهدونَ بصِدْقِك، ويُعضِّدونَك على إنذارِك، كقولِه تعالى: لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا [الفرقان: 7] ، أو: هلَّا تأتينا بالملائكةِ للعقابِ على تكذيبِنا لك إنْ كنْتَ صادقًا، كما كانت تأتي الأُمَمَ المُكذِّبةَ برُسُلِها .
- وجُملةُ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ استدلالٌ على ما اقتضَتْه الجُملةُ قبْلَها، باعتبارِ أنَّ المقصودَ منها تكذيبُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّ ما يصدُرُ مِن المجْنونِ مِن الكلامِ لا يكونُ جاريًا على مُطابقةِ الواقعِ؛ فأكثَرُه كذِبٌ .
- قولُه: إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، أي: مِن النَّاسِ الَّذين صِفَتُهم الصِّدقُ، وهو أقوى وأبلَغُ في التَّخلُّقِ بالصِّدقِ مِن: (إنْ كنْتَ صادقًا) .
3- قولُه: مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ فيه ابتداءُ الجَوابِ بإزالةِ شُبْهتِهم- إذ قالوا قبْلُ: لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ- أُرِيدَ منه إزالةُ جَهالتِهم؛ إذ سألوا نُزولَ الملائكةِ علامةً على التَّصديقِ؛ لأنَّهم وإنْ طَلَبوا ذلك بقصْدِ التَّهكُّمِ، فهم مع ذلك مُعتقِدونَ أنَّ نُزولَ الملائكةِ هو آيةُ صدْقِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكان جوابُهم مَشُوبًا بطرَفٍ مِن الأسلوبِ الحكيمِ، وهو صرْفُهم إلى تَعليمِهم المَيْزَ بينَ آياتِ الرُّسلِ وبينَ آياتِ العذابِ؛ فأراد اللهُ ألَّا يَدَّخِرَهُم هدْيًا، وإلَّا فهم أحْرِياءُ بألَّا يُجابوا .
- وإِذًا حرْفُ جَوابٍ وجَزاءٍ، وقد وُسِّطَت هنا بينَ جُزْأَيْ جوابِها؛ رعيًا لمُناسبةِ عطْفِ جَوابِها على قولِ: مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ، وكان شأْنُ إِذًا أنْ تكونَ في صدْرِ جوابِها، وجُملتُها هي الجوابُ المقصودُ لقولِهم: لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ، وجُملةُ مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ مُقدَّمةٌ مِن تأْخيرٍ؛ لأنَّها تعليلٌ للجَوابِ؛ فقُدِّمَ لأنَّه أوقَعُ في الرَّدِّ، ولأنَّه أسعَدُ بإيجازِ الجوابِ، وتقديرُ الكلامِ: لَوْما تَأْتينا بالملائكةِ إنْ كنْتَ مِن الصَّادقينَ، إذنْ ما كنْتُم مُنْظَرِينَ بالحياةِ، ولعُجِّلَ لكم الاستئصالُ؛ إذ ما تُنَزَّلُ الملائكةُ إلَّا مَصْحوبينَ بالعذابِ الحاقِّ .
4- قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ في سَبْكِ هاتينِ الجُملتينِ مِن الدَّلالةِ على كَمالِ الكِبرياءِ والجَلالةِ وعلى فَخامةِ شأْنِ التَّنزيلِ ما لا يَخْفَى، وفي إيرادِ الثَّانيةِ بالجُملةِ الاسميَّةِ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ: دَلالةٌ على دَوامِ الحفْظِ .
- وقولُه أيضًا: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ استئنافٌ ابتدائيٌّ؛ لإبطالِ جزءٍ مِن كلامِهم المستهزئينَ به، إذ قالوا: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ، بعدَ أن عجَّل كشفَ شبهتِهم في قولِهم: لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ جاء نشْرُ الجَوابَينِ على عكْسِ لَفِّ المَقالَينِ ؛ اهتمامًا بالابتداءِ برَدِّ المَقالِ الثَّاني بما فيه مِن الشُّبْهةِ بالتَّعجيزِ والإفحامِ، ثمَّ انْتُقِل إلى رَدِّ تعريضِهم بالاستهزاءِ، وسُؤالِ رُؤْيةِ الملائكةِ، وكان هذا الجوابُ مِن نوعِ القولِ بالمُوجَبِ بتقريرِ إنزالِ الذِّكْرِ على الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ مُجاراةً لظاهِرِ كلامِهم، والمقصودُ: الرَّدُّ عليهم في استهزائِهم، فأُكِّدَ الخبَرُ بـ(إنَّا) وضميرِ الفصْلِ (نحن) مع مُوافقَتِه لِمَا في الواقعِ، وفي هذا- مع التَّنويهِ بشأْنِ القُرآنِ- إغاظةٌ للمُشركينَ بأنَّ أمْرَ هذا الدِّينِ سَيتِمُّ، ويَنْتشِرُ القُرآنُ، ويبقَى على مَمَرِّ الأزمانِ، وهذا مِن التَّحدِّي؛ ليكونَ هذا الكلامُ كالدَّليلِ على أنَّ القُرآنَ مُنَزَّلٌ مِن عندِ اللهِ آيةً على صِدْقِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّه لو كان مِن قولِ البشَرِ أو لم يكُنْ آيةً، لَتَطرَّقَتْ إليه الزِّيادةُ والنُّقصانُ، ولاشتمَلَ على الاختلافِ .
- قولُه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ فيه توكيدُ أنَّه هو المُنَزِّلُ على القطْعِ والبَتاتِ، وهو رَدٌّ لإنكارِهم واستهزائِهم؛ ولذلك أكَّدَه مِن وُجوهٍ وقرَّرَه بقولِه: وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ، فلمَّا قالوا على سبيلِ الاستهزاءِ: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ، رَدَّ عليهم بأنَّه هو المُنَزِّلُ عليه، فليس مِن قِبَلِه ولا قِبَلِ أحدٍ، بل هو اللهُ تعالى الَّذي بعَثَ به جبريلَ عليه السَّلامُ إلى رسولِه، وأكَّدَ ذلك بقولِه: إِنَّا نَحْنُ بدُخولِ (إنَّ) وبلفظِ (نحن)، وهو تأكيدٌ لاسمِ (إنَّ)، ثمَّ قال: وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ .
- قولُه: وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ، أي: مِن كلِّ ما لا يليقُ به؛ فيدخُلُ فيه تكذيبُهم له واسْتِهزاؤهم به دُخولًا أوَّليًّا؛ فيكونُ وعيدًا للمُستهزِئينَ .
- واتَّصَلَ قولُه: وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ بقولِه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ؛ لأنَّه قد جعَلَ ذلك دليلًا على أنَّه مُنَزَّلٌ مِن عندِه آيةً؛ لأنَّه لو كان مِن قولِ البشَرِ أو غيرَ آيةٍ، لَتطرَّقَ عليه الزِّيادةُ والنُّقصانُ كما يتطَرَّقُ على كلِّ كلامٍ سِواه .