موسوعة التفسير

سورةُ الشُّعَراءِ
الآيات (23-37)

ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ

غَريبُ الكَلِماتِ:

لِلْمَلَإِ: أي: أشرافِ النَّاسِ ووُجوهِهم؛ لأنَّهم يَملؤون العيونَ منظرًا، والنُّفوسَ بهاءً وجَلالًا، وأصلُ (ملأ): يدُلُّ على الكَمالِ في الشَّيءِ .
أَرْجِهْ: أي: أخِّرْهُ، وأصلُ الإرجاءِ: التَّأخيرُ .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ الله تعالى حاكيًا تعنُّتَ فرعونَ في محاورتِه لموسى عليه السلامُ وتمرُّدَه: قال فِرعَونُ مُنكِرًا مَعرفتَه برَبِّه: وما رَبُّ العالَمينَ الذي أرسلَك كما تزعُمُ يا موسى؟! قال موسى: هو خالِقُ السَّمواتِ والأرضِ وما بيْنَهما، ومالِكُ كُلِّ ذلك إنْ كنتُم تُوقِنون. قال فِرعَونُ لِمَن حَوْلَه مِن الملأِ: ألَا تَستَمِعون إلى ما يقولُه موسى؟! قال موسى: اللهُ هو ربُّكم وربُّ آبائِكم مِن قَبْلِكم. قال فِرعَونُ معاندًا للحقِّ، قادحًا بمَن جاء به: إنَّ موسى -الذي يزعُمُ أنَّه رسولٌ إليكم- مجنونٌ!
قال موسى: هو ربُّ المشرِقِ والمَغرِبِ وما بيْنَهما إنْ كنتُم تَعقِلون.
قال فِرعَونُ مُهدِّدًا موسى عليه السلامُ بعدَ أنْ عجَز عن دفعِ حُجَّتِه: لَئِنِ اتَّخذْتَ مَعبودًا غيري لأُصَيِّرَنَّك مِن المَسجونينَ. قال موسى: أتَسجُنُني ولو أتيتُك بمُعجزةٍ ظاهرةٍ تُبَيِّنُ صِحَّةَ ما جِئتُك به؟ قال فِرعَونُ لموسى: فأْتِ بمُعجِزتِك هذه إنْ كنتَ صادقًا. فرَمى موسى عصاهُ على الأرضِ فانقَلَبت حيَّةً ضَخمةً ظاهِرةَ الوُضوحِ، وأخرَج يَدَه مِن فَتحةِ قَميصِه العُلويَّةِ فإذا هي بَيضاءُ تَلمَعُ، فقال فِرعونُ لِمَن حوْلَه: إنَّ هذا لساحِرٌ ذو عِلمٍ بالسِّحرِ، يريدُ أن يُخرِجَكم مِن أرضِكم بسِحرِه، فماذا تُشيرون علَيَّ مِن الرأيِ في شأنِه؟ فقالوا له: أخِّرْ موسى وأخاه هارونَ وأمهِلْهما، وابعَثْ في مُدُنِ المَملكةِ مَن يَجمَعون السَّحَرةَ إليك؛ يأتوك بكُلِّ ساحرٍ عليمٍ ماهرٍ؛ لِيُعارِضوا ما جاء به موسى.

تَفسيرُ الآياتِ:

قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) .
أي: قال فِرعَونُ مُنكِرًا مَعرِفتَه باللهِ: وما ربُّ العالَمين الذي تَزعُمُ -يا موسى- أنَّه أرسَلَك، وأنَّه يَستَحِقُّ العبادةَ ؟!
كما قال تعالى: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى [طه: 49] .
وقال سُبحانَه حاكِيًا قَولَ فِرعَونَ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص: 38] .
قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24).
أي: قال موسى: هو خالِقُ السَّمواتِ والأرضِ، ومالِكُهنَّ ومُدبِّرُهن وما بيْنَهنَّ، فإن كنتُم تُوقِنون حقًّا فأيقِنوا بأنَّ اللهَ هو الخالِقُ؛ لظهورِ ذلك بلا خَفاءٍ .
كما قال تعالى: قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [إبراهيم: 10] .
قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25).
أي: قال فِرعَونُ للَّذين حوْلَه مِن أشرافِ قَومِه: ألَا تَستَمِعون إلى ما يقولُه موسى، وتَعجَبون مِن قَولِه ؟!
قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26).
أي: قال موسى: اللهُ الذي أدعوكم إلى عبادتِه هو ربُّكم الذي خلَقَكم وخلَقَ آباءَكم الذين مِن قَبْلِكم، ومالِكُكم ومدبِّرُ شؤونِكم، فكيف يمكِنُ أن يكونَ مَن سِوى اللهِ ربًّا ؟!
قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27).
أي: قال فِرعَونُ مُتهَكِّمًا: إنَّ موسى الذي يزعُمُ أنَّه رسولٌ إليكم لا عَقلَ له، ويقولُ ما لا نعلَمُ حَقيقتَه !
قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28).
أي: قال موسى لفِرعَونَ وقَومِه: الَّذي أدعوكم إلى عبادتِه هو رَبُّ المشرِقِ والمَغرِبِ وما بيْنَهما وما يَحدُثُ فيهما، وليس مُلكُه ناقِصًا كمُلكِكم، فإن كانت لكم عُقولٌ تَعرِفونَ بها صِحَّةَ كلامي، فآمِنوا باللهِ وحْدَه .
قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا قامت على فِرعونَ الحُجَّةُ بالبيانِ والعقلِ، وغُلِبَ وانقطَعَت حُجَّتُه، عدَل إلى استعمالِ جاهِه وقُوَّتِه وسُلطانِه، وأراد أن يَقهرَ موسَى بيَدِه وسلطانِه، وظنَّ أنَّه ليس وراءَ هذا المقامِ مقالٌ، واعتقدَ أنَّ ذلك نافِعٌ له ونافِذٌ في موسى عليه السَّلامُ، فقال ما أخبَرَ الله تعالى عنه ، عادلًا عن الحِجَاجِ -بعْدَ الخوضِ فيه- إلى المغالَبةِ الَّتي هي أبْيَنُ علاماتِ الانقطاعِ :
قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29).
أي: قال فِرعَونُ متهدِّدًا موسى عليه السَّلامُ: لئِنْ أصرَرْتَ -يا موسى- على عبادةِ مَعبودٍ غيري، لأُصَيِّرَنَّك مِن جُملةِ المحبوسينَ المعذَّبينَ في سُجوني .
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا رأى موسى عليه السَّلامُ مِن مكابرةِ فرعونَ عن الاعترافِ بدَلالةِ النَّظَرِ ما لا مَطمَعَ معه إلى الاستِرسالِ في الاستِدلالِ؛ لأنَّه مُتعامٍ عن الحَقِّ- عَدَلَ موسى إلى إظهارِ آيةٍ مِن خَوارقِ العادةِ دَلالةً على صِدقِه، وعرَضَ عليه ذلك قبْلَ وُقوعِه؛ لِيَسُدَّ عليه منافِذَ ادِّعاءِ عدَمِ الرِّضا بها .
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30).
أي: قال موسى عليه السَّلامُ لفِرعَونَ: أتسجُنُني حتَّى وإنْ أتيتُك بمُعجزةٍ ظاهرةٍ وبُرهانٍ قاطعٍ يُبِينُ لك صِدقي وصِحَّةَ ما جِئتُ به ؟!
قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31).
أي: قال فِرعَونُ لموسى عليه السَّلامُ: فأْتِ بهذا الشَّيءِ المُبينِ إن كنتَ صادقًا في دعْواك .
كما قال تعالى حاكيًا قَولَ موسى عليه السَّلامُ وفِرعونَ: قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الأعراف: 105، 106].
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32).
أي: فرمَى موسى عَصاهُ إلى الأرضِ، فانقلَبَت حَيَّةً ضَخمةً في غايةِ الوضوحِ لِمَن يَراها .
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33).
أي: وأخرَج موسى يَدَه -مِن فَتحةِ قَميصِه العُلويَّةِ مِن جِهةِ العُنُقِ- بيضاءَ تلمَعُ لجَميعِ الناظرينَ إليها في مجلِسِ فِرعَونَ .
قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34).
قال فِرعَونُ للأشرافِ الذين مِن حَولِه: إنَّ هذا لساحِرٌ بارعٌ، ذو عِلمٍ ودِرايةٍ فائِقةٍ بالسِّحرِ، يُخيِّلُ إلى النَّاسِ أنَّ عصاهُ تنقَلِبُ حَيَّةً، وأنَّ يَدَه تَصيرُ بَيضاءَ !
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35).
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ.
أي: يريدُ أن يُخرِجَكم مِن أرضِكم مِصرَ بسِحرِه .
فَمَاذَا تَأْمُرُونَ.
أي: قال فِرعَونُ لِمَن حَولَه: فماذا تُشيرونَ علَيَّ مِن الرأيِ في شَأنِه، وما نفعَلُه به ؟!
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36).
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ.
أي: قال الأشرافُ لفِرعَونَ مُشيرينَ عليه: أخِّرْ موسى وأخاه هارونَ وأمهِلْهما .
وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ.
أي: وابعَثْ -يا فِرعَونُ- في مُدُنِ مملكتِك مَن يجمَعونَ منها السَّحَرةَ إليك .
يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37).
أي: يأتوك بجَميعِ السَّحَرةِ المَهَرةِ؛ ليُعارِضوا ما جاء به موسى .

الفَوائِدُ التَّربويَّةُ:

في قَولِه تعالى: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ أنَّ الواجِبَ على مَن يدعو غيرَه إلى اللهِ تعالى ألَّا يُجيبَ عنِ السَّفاهةِ؛ لأنَّ موسى عليه السَّلامُ لَمَّا قال له فرعونُ: إنَّه مجنونٌ! لم يَعْدِلْ عن ذِكرِ الدَّلالةِ، وكذلك لَمَّا تَوعَّدَه أنْ يَسجُنَه .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قولُه تعالَى: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، ظاهِرُ هذه الآيةِ الكريمةِ أنَّ فرعونَ لا يعلمُ شيئًا عن رَبِّ العالَمينَ، وكذلك قولُه تعالَى عنه: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى [طه: 49] ، وقولُه: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص: 38] ، وقولُه: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء: 29] ، ولكنَّ اللهَ جلَّ وعلَا بَيَّن أنَّ سؤالَ فِرعونَ في قولِه: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، وقولِه: فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى تجاهُلُ عارِفٍ أنَّه عبدٌ مَربوبٌ لِرَبِّ العالَمينَ، بقولِه تعالَى: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [الإسراء: 102] ، وقولِه تعالَى عن فِرْعونَ وقومِه: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل: 14] .
2- قال الله تعالى: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ...، مِن دقائقِ هذه المجادَلةِ أنَّ الاستِفسارَ مُقَدَّمٌ في المناظَراتِ؛ ولذلك ابتدأَ فرعونُ بالسُّؤالِ عن حقيقةِ الذي أرسَلَ موسى عليه السَّلامُ، وكان جوابُ مُوسى عليه السَّلامُ بَيانًا لحقيقةِ ربِّ العالَمينَ بما يَجعَلُ وصْفَه بربِّ العالمينَ نصًّا لا يَحتمِلُ غيرَ ما أرادهُ مِن ظاهرِه؛ فأتى بشَرْحِ اللَّفظِ بما هو تفصيلٌ لمعناهُ؛ إذ قال: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا [الشعراء: 24] ، فبِذِكْرِ السَّمواتِ والأرضِ وبعُمومِ ما بيْنَهما حصَلَ بَيانُ حقيقةِ المسؤولِ عنه بـ (ما)، ومَرجِعُ هذا البيانِ إلى أنَّه تعريفٌ لحقيقةِ الرَّبِّ بخصائصِها؛ لأنَّ ذلك غايةُ ما تصِلُ إليه العقولُ في مَعرفةِ اللهِ أنْ يُعرَفَ بآثارِ خلْقِه .
3- قال الله تعالى: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ، فإنْ قيل: كيف قال أوَّلًا: إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ، ثمَّ قال آخِرًا: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ؟
فالجوابُ: أنَّه لايَنَ أوَّلًا طمعًا في إيمانِهم، فلمَّا رأى منهم العنادَ والمغالطةَ وبَّخَهم بقَولِه: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ، وجعَل ذلك في مقابلةِ قَولِ فِرعَونَ: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ . فلَمَّا دعاهُ موسى صلَّى الله عليه وسلَّم باللِّينِ فأساءَ الأدبَ عليه في الجوابِ الماضي، خَتَمَ هذا البُرهانَ بقَولِه: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ أي: فأنتم تَعلمونَ ذلك، فخَيَّرَهم بيْنَ الإقرارِ بالجُنونِ أو العَقلِ بما أشار إليه مِنَ الأدِلَّةِ في مقابَلةِ ما نَسَبوه إليه مِنَ الجُنونِ بسُكوتِهم وقَولِ عَظيمِهم بغيرِ شُبهةٍ؛ ردًّا لهم عن الضَّلالةِ، وإنقاذًا مِن واضِحِ الجَهالةِ .
4- في قَولِه تعالى: قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا أنَّ جوابَ موسى بما يُبَيِّنُ حقيقةَ ربِّ العالَمينَ تضمَّنَ تنبيهًا على أنَّ الاستدلالَ على إثباتِ الخالقِ الواحِدِ يحصُلُ بالنظَرِ في السَّمواتِ والأرضِ وما بيْنَهما؛ نظرًا يؤدِّي إلى العِلمِ بحقيقةِ الرَّبِّ الواحِدِ، الممتازةِ عن حقائقِ المخلوقاتِ؛ ولهذا أتبَعَ بيانَه بقَولِه: إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي: إنْ كنتُم مُستعدِّينَ للإيقانِ، طالبِينَ لمعرفةِ الحقائقِ غيرَ مكابرِينَ .
5- قال تعالى عن فرعونَ: قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ فقولُ فرعونَ إِنَّ رَسُولَكُمُ على طريقِ التهكُّمِ إشارةٌ إلى أنَّ الرَّسولَ يَنبغي أن يكونَ أعقَلَ النَّاسِ .
6- قال تعالى: قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ في رُبوبيَّتِه سُبحانَه للمَشارِقِ والمغارِبِ تنبيهٌ على ربوبيَّتِه للسَّمواتِ وما حَوَتْه مِنَ الشَّمسِ والقَمَرِ والنُّجومِ، وربوبيَّتِه لِما بيْنَ الجِهتَينِ، وربوبيَّتِه للَّيلِ والنَّهارِ وما تضَمَّناه .
7- قال تعالى حِكايةً عن موسى عليه السَّلامُ: قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ فموسى عليه السَّلامُ أُسلوبُه أُسلوبُ حَكيمٍ؛ أتَى أولًا بالربوبيَّةِ العامَّةِ للسَّمواتِ والأرضِ وما بيْنَهما، ثمَّ أتى بالربوبيَّةِ الخاصَّةِ لفِرعَونَ الذي يدَّعي أنَّه رَبُّه، وقال: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ؛ إشارةً إلى أنَّكم أنتم أتيتُم مِن آبائِكم، ومَن أتى مِن أبٍ فكيف يمكِنُ أن يكون ربًّا وهو مخلوقٌ مِن نُطفةٍ؟! فكأنَّه يقولُ: ارجِعوا إلى أصلِكم، فاللهُ تعالى ربُّكم أنتم الذين تَدَّعون أنَّكم أربابٌ، وربُّ آبائِكم الأوَّلينَ الذين أتيتُم منهم، فيُذَكِّرُهم بأصلِهم؛ لِيَذكُروا أنَّهم كانوا مُحْدَثِينَ، وأنَّهم لا يَصلُحونَ لأن يَكونوا أربابًا، وهذا مِن حُسنِ الجَوابِ، وفي الحقيقةِ كُلُّ جوابٍ يقولُه موسى فهو حُجَّةٌ قاطِعةٌ تَدمَغُهم، ولكِنْ -والعياذُ باللهِ- مَن لم يُوَفَّقْ للحَقِّ فإنَّه لا ينتَفِعُ به، ويَستكبِرُ عنه .
8- إنَّ المُبطِلينَ إذا غُلِبوا وقامتْ عليهمُ الحُجَّةُ هَمُّوا بالعُقوبةِ، كما قال فرعونُ لموسى عليه السَّلامُ -وقد أقام عليه الحُجَّةَ-: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ .
9- في قولِه تعالى: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍأنَّه يجوزُ للمَسؤولِ أن يَعْدِلَ في حجَّتِه مِن مثالٍ إلى مثالٍ لإيضاحِ الكلامِ، ولا يدُلُّ ذلك على الانقِطاعِ !
10- قولُه تعالى: وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ فيه دَليلٌ على أنَّ بَياضَها كان شيئًا يَجتمِعُ النَّظَّارةُ على النَّظرِ إليه؛ لخُروجِه عنِ العادةِ، وكان بياضًا نوريًّا .
11- قَولُه تعالى حكايةً عن فرعونَ: فَمَاذَا تَأْمُرُونَ استدلَّ به الأصوليُّونَ على أنَّه لا يُشترَطُ في الأمرِ العُلوُّ ولا الاستِعلاءُ .
12- قال الله تعالى حِكايةً عن فِرعَونَ مُخاطِبًا السَّحَرةَ: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ أظهَرَ فِرعَونُ للسَّحَرةِ المَيلَ إلى ما يقولونَه؛ تألُّفًا لهم، واستِجلابًا لمَودَّتِهم؛ لأنَّه قد أشرَف ما كان فيه مِن دَعوى الربوبيَّةِ على الزَّوالِ، وقارَب ما كان يغَرِّرُ به عليهم الاضمِحلالَ، وإلَّا فهو أكبَرُ تِيهًا وأعظَمُ كِبْرًا مِن أن يخاطِبَهم مِثلَ هذه المُخاطَبةِ المُشعِرةِ بأنَّه فَردٌ مِن أفرادِهم، وواحِدٌ منهم، مع كَونِه قبْلَ هذا الوَقتِ يدَّعي أنَّه إلهُهم، ويُذعِنون له بذلك، ويصَدِّقونَه في دَعْواه .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالى: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ
- إظهارُ اسمِ فِرْعونَ، مع أنَّ طريقةَ حِكايةِ المُقاوَلاتِ والمُحاوَرةِ يُكْتفى فيها بضَميرِ القائلينَ بطريقةِ (قال، قال)، أو (قال، فقال)، فعدَلَ عن تلك الطَّريقةِ إلى إظهارِ اسْمِه؛ لإيضاحِ صاحبِ هذه المقالةِ؛ لِبُعدِ ما بيْنَ قولِه هذا وقولِه الآخرِ .
- قولُه: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ سُؤالُ إنكارٍ لأنْ يكونَ للعالَمينَ ربٌّ سِواهُ، حسَبَما يُعرِبُ عنه قولُه: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات: 24] ، وقولُه: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص: 38] ، ويَنطِقُ به وعيدُه عندَ تَمامِ أجوبةِ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ . أو: سُؤالٌ على سَبيلِ المُباهَتةِ والمُكابَرةِ والمُرادَّةِ، وكان عالمًا باللهِ، ويدُلُّ عليه: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ [الإسراء: 102] ، ولكنَّه تعامَى عن ذلك طلَبًا للرِّياسةِ ودَعوى الإلهيَّةِ، واستفهَمَ بـ (ما) استفهامًا عن مَجهولٍ مِن الأشياءِ . أو: استفهامٌ مَشوبٌ بتعجُّبٍ وإنكارٍ على طَريقِ الكِنايةِ. وكان جوابُ مُوسى عليه السَّلامُ بَيانًا لحقيقةِ ربِّ العالَمينَ؛ ولهذا أتبَعَ بَيانَه بـ إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ .
2- قولُه تعالى: قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ
- عرَّفَه بأَظهرِ خَواصِّه وآثارِه لَمَّا امتَنَع تعريفُ الأفرادِ إلَّا بذِكرِ الخَواصِّ والأفعالِ .
- قولُه: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا تَعيينُ ما أَرادَ بالعالَمينَ وتَفصيلُه؛ لزيادةِ التَّحقيقِ والتَّقريرِ، وحسْمِ مادَّةِ تَزويرِ اللَّعينِ وتَشكيكِه بحمْلِ العالَمينَ على ما تحتَ مملكتِه .
- وجاء قولُه: وَمَا بَيْنَهُمَا على التَّثنيةِ، والعائدُ عليه الضَّميرُ مَجموعٌ اعتِبارًا للجِنسَينِ: جِنسِ السَّماءِ، وجِنسِ الأرضِ .
- وضميرُ الجَمعِ في كُنْتُمْ مُوقِنِينَ مُرادٌ به: جميعُ حاضِري مَجلِسِ فِرعونَ، أرادَ موسى تَشريكَهم في الدَّعوةِ؛ تَقَصِّيًا لكمالِ الدَّعوةِ .
3- قولُه تعالى: قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ
- قولُه: قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ أَعرَضَ فِرعونُ عن خِطابِ موسى، واستَثارَ نُفوسَ المَلأِ مِن حَولِه، وهُم أهلُ مَجلِسِه، فاستَفهَمَهمُ استِفهامَ تَعجُّبٍ مِن حالِهم: كيف لمْ يَستمِعوا ما قاله موسى؟! فنَزَّلَهم مَنزِلةَ مَن لم يَستمِعْه؛ تَهييجًا لنُفوسِهم؛ كيْ لا تَتمكَّنَ منهم حُجَّةُ موسى، فسَلَّطَ الاستِفهامَ على نَفيِ استِماعِهم. وهذا التَّعجُّبُ مِن حالِ استِماعِهم وسُكوتِهم يَقتَضي التَّعجُّبَ مِن كلامِ موسى بطريقِ فَحْوى الخِطابِ ؛ فهو كِنايةٌ عن تَعجُّبٍ آخَرَ .
- ولكَونِ خِطابِ فِرعونَ لمَن حَوْلَه يَتضمَّنُ جوابًا عن كلامِ موسى؛ حُكيَ كلامُ فِرعونَ بالصِّيغةِ الَّتي اعتِيدتْ في القُرآنِ حكايةُ المُقاوَلاتِ بها، كأنَّه يُجيبُ موسى عن كلامِه .
- قولُه: أَلَا تَسْتَمِعُونَ إغراءٌ به وتَعجُّبٌ .
4- قولُه تعالى:   رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ
- كَلامُ موسى هذا في مَعرِضِ الجَوابِ عن تَعجُّبِ فِرعونَ مِن سُكوتِ مَن حوْلَه؛ فلذلك كانت حِكايتُه قَوْلَه على الطَّريقةِ الَّتي تُحكَى بها المُقاوَلاتُ. ولَمَّا كان في كلامِ فِرعونَ إعراضٌ عن مُخاطبةِ موسى، إذْ تَجاوَزَه إلى مُخاطَبةِ مَن حوْلَه؛ وجَّهَ موسى خِطابَه إلى جميعِهم .
- وعمَّ أوَّلًا بقولِه: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، وخصَّ ثانيًا بذِكْرِ أنفُسِهم وآبائِهم؛ لأنَّ أقرَبَ ما ينظُرُ فيه العاقلُ نفسُه، وما نشَأ عنه، وتولَّد منه، ولِيَكونَ أوضَحَ لهم في بيانِ بُطْلانِ دَعْوى فِرعونَ الإلهيَّةَ؛ إذْ كان آباؤُهمُ الأوَّلونَ تَقدَّموا فِرعونَ في الوُجودِ، فمُحالٌ أن يَكونَ وهو في العَدَمِ إلهًا لهم. معَ ما في ذلك مِن تنبيهِهم على نِعَمِ الله تعالى عليهم، وإحسانِه إليهم .
- وفي قَولِه: الْأَوَّلِينَ دَلالةٌ على إماتَتِهم بعْدَ إيجادِهم .
- وهذا بعَينِه طريقةُ إبراهيمَ عليه السَّلامُ مع نُمْرُوذَ؛ فإنَّه استَدلَّ أوَّلًا بالإحياءِ والإماتةِ -وهو الَّذي ذَكَرَه موسى عليه السَّلامُ هاهنا بقولِه: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ-؛ فأجابه نُمْروذُ بقَولِه: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة: 258] ! فقال: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، وهو الَّذي ذَكَرَه مُوسى عليه السَّلامُ هاهنا بقولِه: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ .
5- قولُه تعالى: قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ
- في قولِه: قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ أكَّدَ كلامَه بحرفَيِ التَّأكيدِ (إنَّ - واللَّام)؛ لأنَّ حالةَ موسى لا تؤْذِنُ بجُنونِه، فكان وصْفُه بالمَجنونِ مُعرَّضًا للشَّكِّ؛ ولِيَفتِنَهم بذلك، ويَصرِفَهم عن قَبولِ الحقِّ. وقصَدَ بإطلاقِ وصْفِ الرَّسولِ على موسى التَّهكُّمَ به؛ بقرينةِ رَمْيِه بالجُنونِ المُحقَّقِ عِندَه. وأضافَ الرَّسولَ إلى المُخاطَبينَ؛ تنزيهًا لنفْسِه واستبعادًا أن يَكونَ مقصودًا بالخِطابِ، وأكَّد التَّهكُّمَ والاستبعادَ بوصْفِه بالمَوصولِ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ؛ فإنَّ مَضمونَ المَوصولِ وصِلَتِه هو مَضْمونُ رَسُولَكُمُ؛ فكان ذِكرُه كالتَّأكيدِ، وتَنصيصًا على المقصودِ؛ لزيادةِ تَهييجِ السَّامِعينَ؛ كيْلَا يَتأثَّروا أو يَتأثَّرَ بعضُهم بصِدْقِ موسى .
6- قولُه تعالى: قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ
- قال ذلك موسى عليه السَّلامُ؛ تَكميلًا لجَوابِه الأوَّلِ، وتفسيرًا له، وتنبيهًا على جهلِهم وعدَمِ فَهمِهم لمعنَى مَقالتِه؛ فإنَّ بيانَ رُبوبيَّتِه تعالى للسَّموات والأرضِ وما بيْنَهما وإنْ كان مُتضمِّنًا لبيانِ رُبوبيَّتِه تعالى للخافِقَينِ وما بيْنَهما، لكنْ لمَّا لمْ يكُنْ فيه تَصريحٌ باستِنادِ حرَكاتِ السَّمواتِ وما فيها وتَغيُّراتِ أحوالِها وأوضاعِها، وكَونِ الأرضِ تارةً مُظلِمةً وأُخرى مُنوِّرةً؛ إلى الله تعالى- أرشدَهُم إلى طريقِ مَعرفةِ رُبوبيَّتِه تعالى لِما ذَكَر؛ فإنَّ ذِكرَ المَشرقِ والمَغربِ مُنبِئٌ عن شُروقِ الشَّمسِ وغُروبِها المنُوطَينَ بحرَكاتِ السَّمواتِ وما فيها على نَمَطٍ بديعٍ تَتَرتَّبُ عليه هذه الأوضاعُ الرَّصينةُ، وكلُّ ذلك أمورٌ حادثةٌ مُفتقِرةٌ إلى مُحْدِثٍ قادرٍ عليمٍ حكيمٍ، لا كذَواتِ السَّمواتِ والأرضِ الَّتي رُبَّما يَتوهَّمُ جهَلةُ المُتَوهِّمينَ باستِمرارِها استِغناءَها عنِ المُوجِدِ المُتصرِّفِ .
أو: خصَّصَ المَشرِقَ والمَغربَ؛ لأنَّ طُلوعَ الشَّمسِ مِن أحَدِ الخافقَينِ وغُروبَها في الآخَرِ على تقديرٍ مُستقيمٍ في فُصولِ السَّنةِ، وحسابٍ مُستَوٍ مِن أَظهَرِ ما استُدِلَّ به .
- وتَكريرُ لفظِ الرَّبِّ وإعادتُه في كلِّ مرَّةٍ؛ لتَعظيمِ ما نَسَبوا إليه .
- قولُه: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ فيه إيذانٌ بغايةِ وُضوحِ الأمرِ، بحيثُ لا يَشتَبِهُ على مَن له عقْلٌ في الجُملةِ، وتَلويحٌ بأنَّهم بمَعزلٍ مِن دائرةِ العقلِ، وأنَّهمُ المُتَّصِفون بما رَمَوه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ به مِنَ الجُنونِ .
- والتَّذييلُ بجملةِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ تَنبيهٌ لنَظرِهمُ العقليِّ؛ ليُعاوِدوا النَّظرَ فيُدْرِكوا وجْهَ الاستِدلالِ .
- وفي قولِه: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا تعريضٌ بفِرعونَ أنَّ الرَّبَّ يَنبَغي أن يكونَ قادرًا على ما في يَدِه وتحتَ تَصرُّفِه، وأنتُم تَعلَمون أنَّ مَشارقَ الأرضِ وَمغارِبَها ليستْ في تَصرُّفِه، ولا يَملِكُ منها على شيءٍ، ولا أَحاطَ منها عِلمًا بشيءٍ. وذَيَّلَه بقَولِه: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ؛ ردًّا لنِسبتِه الجُنونَ إليه، على طريقِ المُشاكَلةِ المَعنويَّةِ .
- ومِن اللَّطائِفِ والمُناسَبةِ الحَسَنةِ: أنَّ موسى عليه السَّلامً قال أوَّلًا: إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ، وآخِرًا: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ؛ فجَعَلَ ذلك مُقابِلَ قَولِ فِرعونَ: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ؛ لأنَّ الجُنونَ يُقابِلُه العقلُ؛ فكانَ موسى يقولُ لهم قَولًا لَيِّنًا ابتِداءً فلاطَفَهم أوَّلًا، فلمَّا رأى منهمُ المُكابرةَ وشدَّةَ الشَّكيمةِ في العِنادِ، وقِلَّةَ الإصغاءِ إلى عرْضِ الحُجَجِ، ووصَفوه بالجُنونِ؛ خاشَنَهم في القولِ، وعارَضَ قَولَ فِرعونَ: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ، فقال: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ، أي: إنْ كنتُم أنتُمُ العُقلاءَ، أي: فلا تَكونوا أنتُمُ المَجانينَ .
7- قولُه تعالى: قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ
- اللَّامُ في قَولِه: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا موَطِّئةٌ للقسَمِ. والمعنى: أنَّ فِرعونَ أكَّدَ وَعيدَه بما يُساوي اليَمينَ المُجمَلةَ الَّتي تؤْذِنُ بها اللَّامُ الموَطِّئةُ في اللُّغةِ العربيَّةِ، كأنْ يَكونَ فِرعونُ قال: علَيَّ يمينٌ، أو بالأَيمانِ، أو أُقْسِمُ .
- قولُه: لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ، أي: لأَسجُنَنَّكَ، فسَلَكَ فيه طريقةَ الإطنابِ؛ لأنَّه أَنسَبُ بمَقامِ التَّهديدِ؛ لأنَّه يُفيدُ معنَى: لأَجعَلَنَّكَ واحدًا ممَّن عرَفْتَ أنَّهم في سِجني، ومِثلُ هذا التَّركيبِ يُفيدُ تَمكُّنَ الخبرِ مِنَ المُخبَرِ عنه .
8- قولُه تعالى: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ
- قيل: الواوُ في قولِه: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ عاطِفةٌ، وهي تَستَدعي مَعطوفًا عليه، وهو ما سبَقَ في أوَّلِ المُكالَمةِ بيْنَ نبيِّ اللهِ تعالى وعدُوِّه، والهمزةُ مُقحَمةٌ بيْنَ المَعطوفِ والمَعطوفِ عليه؛ للتَّقريرِ . وقيل: استَفهَمَه استِفهامًا مَشوبًا بإنكارٍ واستغرابٍ على تَقديرِ عدَمِ اجتِزاءِ فِرعونَ بالشَّيءِ المُبِينِ، وأنَّه ساجِنُه لا مَحالةَ إنْ لم يَعترِفْ بإلهيَّةِ فِرعونَ؛ قَطْعًا لمَعذرتِه مِن قبْلِ الوُقوعِ. وهذا التَّقديرُ دلَّتْ عليه (لو) الوَصْليَّةُ، الَّتي هي لفَرضِ حالةٍ خاصَّةٍ. فالواوُ في قولِه: أَوَلَوْ جِئْتُكَ واوُ الحالٍ، والمُستفهَمُ عنه بالهمزةِ مَحذوفٌ، دَلَّ عليه أنَّ الكلامَ جوابُ قَولِ فِرعونَ: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ [الشعراء: 29] ، والتقدير: أتَجعَلُني مِنَ المَسجونينَ والحالُ لو جِئتُكَ بشيءٍ مُبِينٍ؟ إذِ القَصدُ الاستِفهامُ عنِ الحالةِ الَّتي تَضمَّنَها شرْطُ (لو) بأنَّها أَوْلى الحالاتِ بألَّا يَثبُتَ معها الغرضُ المُستفهَمُ عنه على فرْضِ وُقوعِها، وهو غرضُ الاستِمرارِ على التَّكذيبِ، وهو استِفهامٌ حقيقيٌّ، وليستِ الواوُ مؤَخَّرةً عن همزةِ الاستِفهامِ؛ لأنَّ لحَرفِ الاستِفهامِ الصَّدارةَ، بل هي لعَطفِ الاستِفهامِ .
- وتصديرُ المَجيءِ بما ذُكِر مِن كَلمةِ (لَوْ) دون (أنْ) ليس لبَيانِ استبِعادِه في نفْسِه، بل بالنِّسبةِ إلى فِرعونَ، والمعنى: أَتَفْعَلُ بي ذلك حالَ عدَمِ مَجِيئي بشَيءٍ مُبِينٍ وحالَ مَجِيئي به ؟
- قولُه: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ فيه التَّعبيرُ عنِ المُعجزةِ بـ (شيءٍ مبينٍ)؛ للتَّهويلِ .
9- قولُه تعالى: قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
- في قوله: إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ إيماءٌ إلى أنَّ في كلامِ فِرعونَ ما يَقتَضي أنَّ فرْضَ صِدْقِ موسى فرْضٌ ضعيفٌ، كما هو الغالبُ في شرطِ (إنْ)، مع إيهامِ أنَّه إنْ جاء بشَيءٍ مُبِينٍ يُعتبَرُ صادقًا فيما دَعَا إليه، فبَقيَ تحقيقُ أنَّ ما سيَجيءُ به موسى مُبِينٌ أو غَيرُ مُبِينٍ. وهذا قدِ استَبْقاهُ كلامُ فِرعونَ إلى ما بعْدَ الوُقوعِ والنُّزولِ؛ ليتأتَّى إنكارُه إنِ احتاجَ إليه .
- قولُه: إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فيه إيجازٌ بالحَذفِ؛ حيثُ حُذِف الجزاءُ؛ لأنَّ الأمرَ بالإتيانِ به يدُلُّ عليه .
- وأُدمِجَ في سِياقِ هذا التَّركيبِ معنَى أنَّ المعجزةَ تَصديقٌ مِنَ اللهِ تعالى لمُدَّعي النُّبوَّةِ، والحكيمُ لا يُصَدِّقُ الكاذبَ .
10- قولُه تعالى: فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ
- قولُه: فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ فيه إيثارُ الجُملةِ الاسميَّةِ؛ للدَّلالةِ على كَمالِ سُرعةِ الانقلابِ، وثَباتِ وَصْفِ الثُعبانيَّةِ فيها، كأنَّها في الأصلِ كذلك .
- ووصَفَ ثُعْبَانٌ بأنَّه مُبِينٌ الَّذي هو اسمُ فاعلٍ مِن الفِعلِ (أَبانَ) القاصرِ الَّذي بمعنَى بانَ بمعنَى ظهَرَ، فـ مُبِينٌ دالٌّ على شدَّةِ الظُّهورِ؛ مِن أجْلِ أنَّ زيادةَ المَبْنَى تدُلُّ على زيادةِ المَعنى، أي: ثُعبانٌ ظاهرٌ أنَّه ثُعبانٌ، لا لَبْسَ فيه ولا تَخْييلَ .
- إنْ قيلَ: كيف قال هاهنا: ثُعْبَانٌ مُبِينٌ، وفي آيةٍ أُخرى: فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى [طه: 20] ، وفي آيةٍ ثالثةٍ: كَأَنَّهَا جَانٌّ [النمل: 10] ، والجانُّ مائِلٌ إلى الصِّغَرِ؛ والثُّعبانُ مائِلٌ إلى الكِبَرِ؟
جوابُه: أمَّا الحيَّةُ فهي اسمُ الجِنسِ، ثمَّ إنَّها لكِبَرِها صارَتْ ثُعْبانًا، وشَبَّهَها بالجانِّ لِخِفَّتِها وسُرعتِها؛ فصَحَّ الكلامانِ. ويحتمِلُ أنَّه شبَّهَها بالشَّيطانِ؛ لقَولِه تعالى: وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ [الحجر: 27] . ويحتمِلُ أنَّها كانت أوَّلًا صغيرةً كالجانِّ، ثمَّ عَظُمَتْ فصارَتْ ثُعبانًا .
11- قولُه تعالى: وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ
- نَزْعُ اليدِ: إخراجُها مِنَ القميصِ؛ فلذلك استَغنى عن ذِكرِ المَنزوعِ منه؛ لظُهورِه .
- ودلَّتْ (إذا) المُفاجِئةُ على سُرعةِ انقلابِ لَونِ يدِه بَياضًا .
- والتَّعريفُ في لِلنَّاظِرِينَ للاستِغراقِ العُرْفيِّ، أي: لجَميعِ النَّاظِرينَ في ذلك المَجلِسِ. وهذا يُفيدُ أنَّ بَياضَها كان واضِحًا بَيِّنًا مُخالِفًا لَوْنَ جِلْدِه بصورةٍ بعيدةٍ عن لَونِ البَرَصِ .
12- قولُه تعالى: قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ تَقدَّمَ نَظيرُ هذه الآيةِ في سُورةِ (الأعرافِ)، سِوى أنَّ في هذه الآيةِ أنَّ هذا قولُ فِرعونَ للمَلأِ، وفي آيةِ (الأعرافِ): قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ [الأعراف: 109] ، والجَمعُ بيْنَهما: أنَّ فِرعونَ قالَه لمَن حَولَه، فأَعادُوه بلَفظِه؛ للموافَقةِ التَّامَّةِ، بحيث لمْ يَكتَفوا بقولِ: نعَمْ، بل أَعادُوا كلامَ فِرعونَ؛ لِيَكونَ قَولُهم على تمامِ قَولِه ، والتقديرُ في آيةِ سورةِ (الأعرافِ): «قال المَلأُ مِن قَومِ فِرعونَ وفِرعونُ بعضُهم لبعضٍ»؛ فحُذِفَ فِرعونُ لاشتِمالِ المَلأِ مِن قَومِ فِرعونَ على اسمِه، كما قال: وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ [البقرة: 50] أي: آلَ فرعونَ وفرعونَ؛ فحُذِفَ «فرعونُ» لأنَّ آلَ فِرعونَ اشتَملَ على اسمِه؛ فالقائلُ هو فِرعونُ نفْسُه؛ بدليلِ الجَوابِ وهو أَرْجِهْ بلفظِ التَّوحيدِ، والمَلأُ هُمُ المَقولُ لهم؛ إذْ ليس في الآيةِ مُخاطَبون بقَولِه: يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ غيرَهم .
13- قولُه تعالى: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ
- قولُه: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ فيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال تعالى هنا: بِسِحْرِهِ حكايةً عن فرعونَ، وقال في سورةِ (الأعرافِ): يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ حكايةً عن ملأِ فرعونَ؛ وذلك لأنَّ آيةَ (الأعرافِ) بُنِيَتْ على الاقِتصارِ، ولأنَّ لَفْظَ السَّاحرِ في قَولِه: لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يدُلُّ على السِّحْرِ .
وقيل: الفرقُ أنَّ فرعونَ أراد أن يشدَّهم، وأن يُغريَهم بما يقابِلون به موسَى عليه الصلاة والسلامُ ، ففِرعونُ كان أشَدَّهم تَمرُّدًا، وأوَّلَهم تَجبُّرًا، وأبلَغَهم فيما يُرَدُّ به الحَقُّ، فذكَر السَّببَ الَّذي يَصِلُ به إلى الإخراجِ، أما المَلأُ فلم يَبْلُغوا مَبلَغَ فِرعونَ في إبطالِ ما أورَدَه موسى عليه السَّلامُ، ولمْ يَجْفوا في الخِطابِ جَفاءَه .
14- قولُه تعالى: قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قالَ هنا: وَابْعَثْ، وفي سورةِ (الأعرافِ) قال: وَأَرْسِلْ [الأعراف: 111] ؛ لأنَّ الإرسالَ يُفيدُ معنَى البَعثِ؛ ويَتضمَّنُ نَوعًا مِنَ العُلوِّ؛ لأنَّه يَكونُ مِن فَوق؛ فخُصَّتْ سورةُ (الأعرافِ) به لَمَّا الْتَبَسَ؛ لِيُعْلَمَ أنَّ المُخاطَبَ به فِرعونُ دُونَ غَيرِه .
وقيل: إنَّ (أَرسِلْ) و(ابْعَثْ) بمعنًى واحدٍ؛ وإنَّما عُبِّر بكلِّ واحدٍ في مَوضِعٍ؛ تَكثيرًا للفائدةِ في التَّعبيرِ عنِ المُرادِ بلَفظيْنِ مُتَساويَيْنِ معنًى . وقيل غير ذلك .
15- قولُه تعالى: يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ
- قولُه: سَحَّارٍ عَلِيمٍ قابَلوا قولَه: إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ، بقَولِهم: بِكُلِّ سَحَّارٍ، فجاؤُوا بكلمةِ الاستِغراقِ والبِناءِ الَّذي للمُبالَغةِ؛ ليُطامِنوا مِن نفْسِه، ويُسكِّنوا بعضَ قَلَقِه .
- وأيضًا في قولِه هنا في (الشُّعراءِ): بِكُلِّ سَحَّارٍ مُناسَبةٌ حسنةٌ، حيثُ قالَه في سورةِ (الأعرافِ): يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ [الأعراف: 112] ؛ لأنَّه راعَى ما قبْلَه في هذه السُّورةِ -(الأعرافِ)- وهو قولُه: إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ [الأعراف: 109] ، وفي (الشُّعراءِ) قال: بِكُلِّ سَحَّارٍ بالاتفاقِ على قراءتِها بالألِفِ بعدَ الحاءِ المشدَّدةِ، وهو جوابٌ لقولِ فرعونَ فيما استشارهم فيه مِن أمرِ موسَى بعدَ قولِه: إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ فأجابوه بما هو أبلغُ مِن قولِه؛ رعايةً لمرادِه بخلافِ التي في (الأعراف)، فإنَّ ذلك جوابٌ لقولِهم، فتناسَب اللفظانِ، وقُرِئَ في سُورةِ (الأعرافِ) بِكُلِّ سَحَّارٍ أيضًا؛ طلبًا للمُبالَغةِ، ومُوافَقةً لِمَا في (الشُّعراءِ) . وقيل: السَّحَّارُ مُرادِفٌ للسَّاحرِ في الاستِعمالِ؛ لأنَّ صيغةَ فعَّالٍ هنا للنَّسَبِ دَلالةً على الصِّناعةِ، مِثلُ: النَّجَّارِ والقَصَّارِ؛ ولذلك أُتبِعَ في السُّورتَينِ بوَصْفِ عَلِيمٍ، أي: قَويِّ العِلمِ بالسِّحرِ .