موسوعة التفسير

سورةُ القَصَصِ
الآيات (36-42)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ

غَريبُ الكَلِماتِ:

عَاقِبَةُ الدَّارِ: أي: العاقِبةُ المحمودَةُ أو خاتمةُ الخَيرِ، وعاقبةُ كلِّ شَىءٍ: آخِرُه، أو: ما يُؤدِّي إليه السَّببُ المتقدِّمُ، والعاقبةُ تختصُّ بالثَّوابِ إذا أُطْلِقتْ، وقد تُستعمَلُ في العقوبةِ إذا أُضيفَتْ، وأصلُ (عقب): تأخيرُ شَيءٍ، وإتيانُه بعْدَ غيرِه [473] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/257)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/77)، ((المفردات)) للراغب (ص: 575)، ((تفسير القرطبي)) (8/365)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 129)، ((تفسير الشوكاني)) (4/200). .
صَرْحًا: أي: قَصرًا عاليًا مُرتفِعًا، وأصلُ (صرح): يدُلُّ على ظُهورِ الشَّيءِ وبُروزِه [474] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 333)، ((تفسير ابن جرير)) (18/255)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/347)، ((المفردات)) للراغب (ص: 482). .
فَنَبَذْنَاهُمْ: أي: فألقَيْناهم، وأصلُ (نبذ): يدُلُّ على إلقاءِ الشَّيءِ وطَرحِه [475] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/256)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/380)، ((المفردات)) للراغب (ص: 788). .
الْيَمِّ: البحرِ [476] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 171)، ((المفردات)) للراغب (ص: 893). .
الْمَقْبُوحِينَ: أي: المَوسُومينَ بحالةٍ مُنكَرةٍ، أو المُبعَدِينَ المَطرودينَ، أو المُشَوَّهينَ، والقبيحُ: ما يَنْبو عنه البصرُ مِن الأعيانِ، وما تَنبو عنه النَّفْسُ مِنَ الأعمالِ والأحوالِ، والقبحُ: الإبعادُ، وأصلُ (قبح): يدُلُّ على خلافِ الحُسْنِ [477] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/47)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (5/1491)، ((المفردات)) للراغب (ص: 651)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 282)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 329). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى: فلمَّا جاء موسى فِرعَونَ وقومَه بالمُعجِزاتِ والحُجَجِ الظَّاهرةِ، قالوا: ما هذا إلَّا سِحرٌ باطِلٌ مُختلَقٌ، وما سَمِعْنا بمِثلِ هذا في آبائِنا الأوَّلينَ!
قال موسى مُجيبًا لهم: ربِّي أعلَمُ بالَّذي جاء بالحقِّ والهُدى مِن عندِه، وبمَن تكونُ له العاقِبةُ المحمودةُ في الدُّنيا والآخرةِ: نحنُ أمْ أنتم؛ إنَّه لا يَفوزُ الظَّالِمون.
وقال فِرعَونُ لِسادةِ قَومِه: لا أعلَمُ لكم إلهًا غيري! فأَوقِدِ النَّارَ يا هامانُ على الطِّينِ لِتَجفيفِه فيكونَ آجُرًّا تَبني لي به بِناءً مرتفعًا؛ لَعَلِّي أنظُرُ إلى إلهِ موسى، وإنِّي لأظُنُّ موسى كاذبًا في زَعمِه!
وتكبَّرَ فِرعَونُ وجُنودُه في الأرضِ عُدوانًا وظُلمًا مِن غيرِ بُرهانٍ، وظَنُّوا أنَّهم لا يَرجِعونَ إلينا فنُحاسِبُهم.
فأخَذْنا فِرعَونَ وجُنودَه فألْقَيْناهم في البَحرِ فأغرَقْناهم أجمَعين، فانظُرْ كيف كانت نهايةُ الظَّالمينَ؟
وجعَلْنا فِرعونَ وقَومَه في الدُّنيا أئمَّةً مَتبوعينَ يَدْعونَ النَّاسَ إلى أعمالِ أهلِ النَّارِ، ويومَ القيامةِ لا يُنصَرون، وأتْبَعْناهم في الدُّنيا لَعنةً، ويومَ القيامةِ هم مِن المَمقوتينَ المُستقذَرةِ أفعالُهم وأشكالُهم.

تَفسيرُ الآياتِ:

فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36).
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى.
أي: فلمَّا جاء موسى فِرعَونَ وقومَه بالمعجزاتِ والحُجَجِ الظَّاهِرةِ الواضِحةِ الدَّالَّةِ على صِدقِه، وصِحَّةِ ما جاء به مِن الحَقِّ، قال فِرعَونُ وقَومُه: ما هذا الَّذي جاء به موسى إلَّا سِحرٌ باطِلٌ افتراه واختَلَقه؛ فهو تخييلٌ لا حقيقةَ له، وليس مُعجِزةً إلهيَّةً كما يزعُمُ [478] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/253)، ((تفسير البغوي)) (3/535)، ((تفسير القرطبي)) (13/288)، ((تفسير ابن كثير)) (6/237)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/292)، ((تفسير السعدي)) (ص: 616)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 175، 176). قال ابنُ عاشور: (الآياتُ البيِّناتُ هي خوارِقُ العاداتِ الَّتي أظهَرَها، أي: جاءهم بها آيةً بعدَ آيةٍ في مواقِعَ مختلِفةٍ، قالوا عندَ كلِّ آيةٍ: مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ). ((تفسير ابن عاشور)) (20/118، 119). !
كما قال تعالى: قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى [طه: 57] .
وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ.
أي: وما سَمِعْنا مَن يدعو آباءَنا إلى مِثلِ ما تَدعو إليه [479] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/253)، ((تفسير ابن كثير)) (6/237)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/119). .
وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا أخبَرَ تعالى بقَولِهم، عَطَفَ عليه الإخبارَ بقَولِ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ لِيوازِنَ السَّامِعُ بيْنَ الكلامَينِ، ويَتبصَّرَ بعقلِه ما الفاسِدُ منهما؛ «فبِضِدِّها تَتبيَّنُ الأشياءُ» [480] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/293). .
وأيضًا لَمَّا قالوا قولًا صريحًا في تكذيبِه، واستَظْهَروا على قَولِهم بأنَّ ما جاء به موسى شَيءٌ ما عَلِمَه آباؤُهم، أجاب موسَى كلامَهم بمِثلِه في تأييدِ صِدقِه؛ فإنَّه يَعلَمُه اللهُ، فما عِلْمُ آبائِهم في جانبِ عِلمِ اللهِ بشَيءٍ، فلمَّا تمسَّكوا بعِلمِ آبائِهم تمسَّك موسى بعِلمِ الله تعالى [481] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/119). .
وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ.
أي: وقال موسى مُجيبًا لهم: ربِّي أعلَمُ بالَّذي جاء بالحقِّ والرَّشادِ مِن عندِه: نحنُ أو أنتم [482] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/253)، ((تفسير القرطبي)) (13/288)، ((تفسير ابن كثير)) (6/237)، ((تفسير السعدي)) (ص: 616). .
وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ.
أي: وربِّي أعلَمُ بمَن تكونُ له العاقِبةُ المحمودةُ في الدَّارِ الدُّنيا والآخرةِ: نحنُ أو أنتم [483] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/253)، ((تفسير الزمخشري)) (3/411)، ((تفسير ابن كثير)) (6/237)، ((تفسير السعدي)) (ص: 616)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 183). .
إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ.
أي: إنَّه لا يفوزُ الظَّالِمون بالعاقبةِ الحَميدةِ والبَقاءِ في النَّعيمِ [484] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/345)، ((تفسير ابن جرير)) (18/254)، ((تفسير ابن كثير)) (6/237)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/294)، ((تفسير القاسمي)) (7/522)، ((تفسير السعدي)) (ص: 616)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 184). قيل: الظالِمون هنا بمعنى: الكافرين أو المشركين. وممَّن قال بذلك في الجملةِ: مقاتلُ بنُ سليمانَ، وابنُ جرير، وابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/345)، ((تفسير ابن جرير)) (18/254)، ((تفسير ابن كثير)) (6/237). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (9/2978). وقيل: يُحمَلُ معنى   الظَّالِمُونَ على العمومِ؛ لِيَشمَلَ كُلَّ ظالمٍ، سواءٌ وقَع في الكُفرِ أو فيما هو دُونَه مِن أنواعِ الظُّلْمِ، فينتفي عنه مِنَ الفَلاحِ بحسَبِ ظُلْمِه، أمَّا الظُّلْمُ الأكبرُ فيَفوتُ به الفلاحُ كلُّه. وذهب إلى هذا القولِ: ابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 185). .
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38).
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي.
أي: وقال فِرعَونُ لِسادةِ قَومِه: يا أيُّها الأشرافُ، لا أعلَمُ أنَّ لكم معبودًا غيري كما يزعُمُ موسى؛ فلا إلهَ في الحقيقةِ سِوايَ [485] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/254)، ((تفسير ابن كثير)) (6/238)، ((تفسير السعدي)) (ص: 616)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/121). !
كما قال تعالى: فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات: 23، 24].
فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا.
أي: قال فِرعَونُ: فأوقِدِ النَّارَ يا هامانُ على الطِّينِ؛ لِتَجفيفِه، فيكونَ آجُرًّا تبني لي به بناءً مُرتَفِعًا [486] يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (2/593، 594)، ((تفسير ابن جرير)) (18/254، 255)، ((تفسير ابن كثير)) (6/238)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/295)، ((تفسير السعدي)) (ص: 616)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/122، 123). .
كما قال تعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا [غافر: 36، 37].
لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى .
أي: ابنِ لي صَرْحًا لعلِّي أنظُرُ إلى معبودِ موسى الَّذي يَدْعونا إلى عبادتِه، وأقِفُ على شَأنِه [487] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/255)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 819)، ((تفسير ابن كثير)) (6/238). .
وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ.
أي: وإنِّي لأظُنُّ موسى كاذِبًا في زَعمِه أنَّ للخَلقِ إلهًا غيري [488] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/346)، ((تفسير ابن جرير)) (18/255)، ((تفسير البغوي)) (3/535)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (5/172، 173)، ((تفسير ابن كثير)) (6/238). .
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39).
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ.
أي: واستعظَمَ فِرعَونُ وجُنودُه وتعالَوا في الأرضِ [489] المرادُ بالأرضِ: الأرضُ المعهودةُ، أي: أرضُ مِصرَ. وممَّن اختاره: ابنُ جرير، ومكِّي، والواحدي، وابن الجوزي، والنسفي، وجلال الدين المحلي، وأبو السعود، والشوكاني، وابن عثيمين، ونسبه الألوسيُّ للأكثرينَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/256)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (8/5536)، ((البسيط)) للواحدي (17/400)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/385)، ((تفسير النسفي)) (2/644)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 513)، ((تفسير أبي السعود)) (7/14)، ((تفسير الشوكاني)) (4/200)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 191)، ((تفسير الألوسي)) (10/290). عن اتِّباعِ الهُدى؛ عُدوانًا وظُلمًا مِن غيرِ حُجَّةٍ أو بُرهانٍ [490] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/256)، ((تفسير القرطبي)) (13/289)، ((تفسير الخازن)) (3/365)، ((تفسير ابن كثير)) (6/238)، ((تفسير الشوكاني)) (4/200)، ((تفسير السعدي)) (ص: 616)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 191، 192). قال السعدي: (استكبَروا على عِبادِ الله، وسامُوهم سُوءَ العذابِ، واستكبَروا على رُسلِ الله، وما جاؤوهم به مِن الآياتِ، فكذَّبوها). ((تفسير السعدي)) (ص: 616). .
وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ.
أي: وظنَّ فِرعَونُ وجُنودُه أنَّهم لا يُبعَثونَ بعدَ الموتِ فيَرجِعونَ إلينا للحِسابِ والجَزاءِ؛ فلذا تَجَرَّؤوا على الاستكبارِ في الأرضِ بغيرِ الحَقِّ [491] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/256)، ((الوسيط)) للواحدي (3/400)، ((تفسير القرطبي)) (13/289)، ((تفسير ابن كثير)) (6/238)، ((تفسير السعدي)) (ص: 616). .
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40).
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ.
أي: فأخَذْنا فِرعَونَ وجُنودَه أخْذَ قَهرٍ ونِقمةٍ، فطرَحْناهم في البَحرِ، فأغرَقْناهم أجمَعينَ [492] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/256)، ((الوسيط)) للواحدي (3/400)، ((تفسير القرطبي)) (13/289)، ((تفسير ابن كثير)) (6/238)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/297). والبحرُ الذي هلَك فيه فِرعَون هو البحرُ الأحمرُ (القُلْزُم)، ونسَبَ ذلك ابنُ عطيَّةَ إلى أكثرِ الناسِ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/289)، ((تفسير ابن عثيمين: الحجرات - الحديد)) (ص: 153). .
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ.
أي: فانظُرْ [493] قيل: الخطابُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. وقيل: الخِطابُ لكُلِّ مَن يصِحُّ توجيهُ الخِطابِ إليه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/257)، ((تفسير القرطبي)) (13/289)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 195). كيف كان آخِرُ أمرِ فِرعَونَ وقَومِه الظَّالِمينَ لأنفُسِهم بالكُفرِ باللهِ، وتَكذيبِ رَسولِه؛ كان شَرًّا وخسارةً وهلاكًا لهم [494] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/257)، ((تفسير القرطبي)) (13/289)، ((تفسير ابن كثير)) (6/238)، ((تفسير السعدي)) (ص: 616)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/125). !
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان مَن سَنَّ سُنَّةً حسنةً كان له أجْرُها وأجرُ مَن عَمِلَ بها إلى يَومِ القيامةِ، ومَن سَنَّ سُنَّةً سَيِّئةً كان عليه وِزْرُها وَوِزْرُ مَن عَمِلَ بها إلى يومِ القيامةِ [495] يُنظر ما أخرجه مسلم (1017) من حديث جَرِيرِ بنِ عبدِ الله رضي الله عنه. ؛ قال اللهُ تعالى [496] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (3/102). :
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ.
أي: وجعَلْنا فِرعَونَ وقَومَه في الدُّنيا زُعماءَ مَتبوعينَ على الكُفرِ، يَدْعُونَ النَّاسَ إلى أعمالِ أهلِ النَّارِ [497] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/257)، ((تفسير القرطبي)) (13/289)، ((تفسير ابن كثير)) (6/238)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/298)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/126)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 199، 200). .
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان الغالِبُ مِن حالِ الأئمَّةِ النُّصرةَ، وكان قد أخبَرَ عن خِذْلانِهم في الدُّنيا؛ قال [498] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/299). :
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ.
أي: ويَومَ القيامةِ لا يَنصُرُ أحَدٌ فِرعَونَ وقَومَه، ولا يدفَعُ عنهم عذابَ اللهِ تعالى [499] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/257)، ((البسيط)) للواحدي (17/401)، ((تفسير الشوكاني)) (4/201)، ((تفسير السعدي)) (ص: 616). .
وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42).
وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً.
أي: وجعَلْنا اللَّعنةَ تَتبَعُهم بعْدَ هَلاكِهم؛ يَلعَنُهم اللهُ، ويَلعَنُهم العِبادُ؛ فهُم مَطرودونَ مِن رَحمةِ اللهِ تعالى [500] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/258)، ((تفسير الزمخشري)) (3/416)، ((تفسير القرطبي)) (13/290)، ((تفسير ابن كثير)) (6/238)، ((تفسير السعدي)) (ص: 617). .
كما قال تعالى: وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً [هود: 99].
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ.
أي: ويومَ القيامةِ هم مِنَ المُهلَكِينَ المَمقوتينَ، المُبعَدينَ المَخْزِيِّينَ، المُستقذَرةِ أفعالُهم، الشَّنيعةِ أحوالُهم وأقوالُهم، مع قُبحِ وُجوهِهم وأشكالِهم [501] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/258)، ((الوسيط)) للواحدي (3/400)، ((تفسير القرطبي)) (13/290)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/299، 300)، ((تفسير السعدي)) (ص: 617). قال البقاعي: (مِنَ الْمَقْبُوحِينَ، أي: المُبْعَدينَ أيضًا، المَخْزيِّينَ، مع قُبحِ الوُجوهِ والأشكالِ، والشَّناعةِ في الأقوالِ والأفعالِ والأحوالِ). ((نظم الدرر)) (14/300). .

الفَوائِدُ التَّربويَّةُ:

1- في قَولِه تعالى: قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ أنَّه لا ينبغي للمَرءِ أنْ يَثْنِيَه عن قَولِ الحَقِّ ردُّه أو وصْفُه هو بالعُيوبِ؛ لأنَّ موسى لم يتوقَّفْ عنِ الدَّعوةِ حينَما قالوا له هذا، بل استمَرَّ في الدَّعوةِ، وبه قامتِ الحُجَّةُ، مع أنَّه هُدِّدَ بالسَّجنِ، ولكِنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لم يُبَالِ بها؛ فينبغي للدَّاعي إلى اللهِ أن يَصبرَ ما دام يَعلَمُ أنَّه على الحَقِّ [502] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 179). .
2- في قَولِه تعالى: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ التَّحذيرُ مِن الظُّلمِ، والتَّرغيبُ في العدلِ؛ لأنَّ التَّحذيرَ مِنَ الشَّيءِ ترغيبٌ في ضِدِّهِ [503] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 186). .
3- في قَولِه تعالى: وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أنَّ مَنِ استكبَرَ عنِ الحقِّ فيه شَبَهٌ مِن فِرعَونَ وجنودِه [504] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 193). .
4- في قَولِه تعالى: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ أنَّه يُطلَبُ مِنَ المَرءِ -إمَّا وُجوبًا أو استِحبابًا- أن يَتأمَّلَ في عاقبةِ الظَّالِمينَ، وأنَّه ينبغي لنا أن نَتَّعِظَ بعاقبةِ هؤلاء، فلا نَظلِمَ مِثْلَهم؛ لأنَّه ما دام عاقبةُ الظالمِ الهلاكَ، فإنَّ الإنسانَ يخشى أنْ يَهلِكَ إذا ظَلَمَ [505] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 197). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ دَليلٌ على أنَّ ما أُقيمَ عليه البُرهانُ حقٌّ، وإنْ لم يَسبِقْ به قَولٌ متقَدِّمٌ، وأنَّ الرَّادَّ لِمَا لم يَسبِقْ به قولٌ مُتَشَبِّهٌ بهؤلاء القَومِ [506] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (3/565). .
2- في قَولِه تعالى: رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ التَّنَزُّلُ مع الخَصمِ على وجْهٍ لا يكونُ فيه تقويضٌ لدعوى المدَّعي [507] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 185). .
3- مَن دعا على أخيه -وهو ظالمٌ له-؛ فإنَّ اللهَ لا يُجيبُ دعاءَه؛ لأنَّه لو أُجيبَ لكان نصرًا له؛ وقد قال تعالى: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [508] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (3/357). .
4- قولُه: فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا فيه إسنادُ الفعلِ إلى الآمرِ به لِمَن كانت له سُلطةُ الأمرِ، فمعلومٌ أنَّ هامانَ لم يُباشِرِ البناءَ، بل باشرَه العمَّالُ؛ ولكنَّه نُسِبَ الفعلُ إليه لأنَّه الآمِرُ به، والفقهاءُ رحمهم اللهُ اعتبَروا هذا، فقالوا: لو أَمَرَ بالقتلِ غيرَ مُكَلَّفٍ، فقَتَل؛ فالقَوَدُ على الآمِرِ؛ لأنه هو السَّببُ، والحُكمُ إليه [509] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 189). .
5- في قَولِه تعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ حُجَّةٌ على مَن يزعُمُ أنَّ اللهَ بنَفْسِه في الأرضِ، حالٌّ في كُلِّ مَكانٍ، ويُنكِرُ كَيْنونتَه بنَفْسِه في السَّماءِ، وعِلمَه في الأرضِ؛ إذ مُحالٌ أن يقولَ فِرعَونُ هذا القَولَ إلَّا وقد دَلَّه موسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ إلهَه في السَّماءِ دونَ الأرضِ [510] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (3/567). .
6- في قَولِه تعالى: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ دَلالةٌ على أنَّهم كانوا عارِفينَ باللهِ تعالى، إلَّا أنَّهم كانوا يُنكِرون البعثَ؛ فلأجْلِ ذلك تَمَرَّدوا وطَغَوا [511] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/600). .
7- في قَولِه تعالى: فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ حِكمةُ اللهِ سُبحانه وتعالى؛ حيثُ كان إهلاكُ فِرعَونَ وقَومِه بالماءِ الذي كان يَفتخِرُ به بقَولِه: يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الزخرف: 51] ! فإنَّ هذا الَّذي كان يَفتخِرُ به كان مَحَلَّ هلاكِه [512] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 197). .
8- في قَولِه تعالى: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ إشارةٌ عظيمةٌ بأعظَمِ بِشارةٍ بأنَّ كلَّ ظالمٍ تكونُ عاقِبتُه هكذا إنْ صابَرَه المظلومُ المُحِقُّ، ورابَطَه حتَّى يَحكُمَ اللهُ وهو خيرُ الحاكِمينَ [513] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/298). .
9- اللهُ سُبحانَه وتعالى هو الَّذي جَعَلَ العبدَ فاعلًا، كما قال: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا [الأنبياء: 73] ، وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ، فهو سُبحانَه الَّذي جعَلَ أئمَّةَ الهدى يَهْدُونَ بأمرِه؛ وجعَلَ أئمَّةَ الضَّلالِ والبِدَعِ يَدْعونَ إلى النَّارِ [514] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 136). ، وفيه رَدٌّ على المعتَزِلةِ؛ لأنَّ جَعْلَه لهم أئمَّةً لا يخلو مِن أنْ يكونَ خَلْقًا أو صَيْرورةً، وكِلاهما حُجَّةٌ عليهم خانِقةٌ [515] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (3/569). .
10- في قَولِه تعالى: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ دَليلٌ على أنَّ الإمامةَ تكونُ في الشَّرِّ كما تكونُ في الخَيرِ؛ لأنَّ معناها أن يَصيرَ المرءُ قُدوةً يُؤتَمُّ به فيما يكونُ مُقيمًا عليه [516] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (3/569) . ، وفَرْقٌ بيْنَ مَن يَقودُ النَّاسَ بأمرِ اللهِ أو مَن يَقودُونَهم بشريعتِه، وبيْنَ مَن يَدْعون إلى النَّارِ [517] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 200). ! فمِن أعظَمِ العُقوباتِ أنْ يكونَ الإنسانُ إمامًا في الشَّرِّ، وذلك بحسَبِ مُعارَضَتِه لآياتِ اللهِ وبَيِّناتِه، كما أنَّ أعظَمَ نِعمةٍ أنعَمَ اللهُ بها على عبدِه أن يَجعَلَه إمامًا في الخَيرِ هاديًا مَهْدِيًّا [518] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 619). .
11- في قَولِه تعالى: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ أنَّ الدُّعاءَ إلى النارِ -وإلى الخَيرِ أيضًا- كما يكونُ بالقولِ يكونُ بالفعلِ، وقد يكونُ ما هو بالقوِل أقوى، وقد يكونُ ما هو بالفعلِ أقوى، إنَّما على كلِّ حالٍ الدُّعاءُ بهذا وبهذا ثابتٌ؛ فإنَّ فرعونَ وقومَه كانوا يَدْعون النَّاسَ بمقالِهم وبحالِهم [519] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 201). .
12- قولُه تعالى: وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً فيه تحقيرُ الدُّنيا، فالدُّنيا مؤنَّثُ «أدنى»، وهي مِن الدُّنوِّ الحِسِّيِّ والمَعنويِّ؛ أمَّا الدُّنوُّ الحِسِّيُّ فلِسَبْقِها على الآخرةِ، فهي أدنَى إلى المخلوقِينَ مِنَ الآخرةِ، وأمَّا الدُّنوُّ المعنويُّ فلِمَا تَتضَمَّنُه مِنَ النَّقصِ في جميعِ كمالاتِها، فما مِن كمالٍ في الدُّنيا إلَّا وهو ناقصٌ، والآنَ لو تأمَّلْتَ جميعَ المَضارِّ والمنافعِ الدُّنيويَّةِ تجدُها مَشُوبةً بالضَّررِ والخطرِ -حتَّى الزَّمانُ-، كما قال الشاعرُ:
فيَومٌ علينا، ويومٌ لنا           ويومٌ نُساءُ، ويومٌ نُسَرُّ [520] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 204). والبيت للنَّمرِ بنِ تَوْلب، يُنظر ((ديوانه)) (ص: 65).
13- قولُه تعالى: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ صريحٌ في أنَّ فِرعَونَ عدوُّ اللهِ في الآخرةِ،كما كان عدوَّه في الدنيا، ففيه ردٌّ على مَن يقولُ: إنَّه مات مؤمنًا، وإنَّه لا صريحَ في القرآنِ بأنَّه مِن أهلِ النارِ [521] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/300). ! وقد قال تعالى في حقِّ فِرعونَ وقَومِه: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ [هود: 98، 99]، وقال سُبحانَه: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر: 46].

بلاغةُ الآياتِ:

1- قوله تعالى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ طُوِيَ ما بيْنَ نِداءِ اللهِ إيَّاه وبيْنَ حُضورِه عندَ فِرعونَ مِن الأحداثِ؛ لعَدَمِ تعلُّقِ العِبرةِ به [522] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/118). .
- وأيضًا في قولِه: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ أُسنِدَ المَجِيءُ بالآياتِ إلى مُوسى عليه السَّلامُ وحْدَه دونَ هارونَ؛ لأنَّه الرَّسولُ الأصليُّ الَّذي تأْتي المُعجزاتُ على يَدَيه، بخِلافِ قولِه: فَاذْهَبَا بِآَيَاتِنَا في سُورةِ (الشُّعراءِ) [15]، وقولِه: بِآَيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ [القصص: 35] ؛ إذ جعَلَ تَعلُّقَ الآياتِ بضَميرَيْهما؛ لأنَّ معنى المُلابَسةِ معنًى مُتَّسِعٌ؛ فالمُصاحِبُ لصاحبِ الآياتِ هو مُلابِسٌ له [523] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/118، 119). .
- قولُه: سِحْرٌ مُفْتَرًى، أي: سِحرٌ تَعمَلُه أنتَ، ثمَّ تَفْترِيه على اللهِ. أو: سِحرٌ ظاهرٌ افتراؤُه. أو: مَوصوفٌ بالافتراءِ كسائرِ أنواعِ السِّحرِ، وليس بمُعجزةٍ مِن عندِ اللهِ؛ فعلى هذا الوَجْهِ مُفْتَرًى باقٍ على إطلاقِه، وهو صِفةٌ مُؤكِّدةٌ، وعلى الوجْهِ الأوَّلِ صِفةٌ مُخصِّصةٌ مُقيِّدةٌ [524] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/411)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/57). .
- قولُه: وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ الإشارةُ إلى ادِّعاءِ الرِّسالةِ مِن عِندِ اللهِ؛ لأنَّ ذلك هو الَّذي يُسمَعُ، وأمَّا الآياتُ فلا تُسمَعُ؛ فمَرجِعُ اسْمَيِ الإشارةِ في قَولِه: مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ مُختلِفٌ، أي: ما سَمِعْنا مَن يَدْعو آباءَنا إلى مِثْلِ ما تَدْعو إليه؛ فالكَلامُ على حَذْفِ مُضافٍ دَلَّ عليه حَرْفُ الظَّرفيَّةِ، أي: في زمَنِ آبائِنا [525] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/119). .
2- قوله تعالى: وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ كان مُقْتضى الاستِعمالِ أنْ يُحكَى كلامُ مُوسى بفِعلِ القولِ غير مَعطوفٍ بالواوِ شأْنَ حِكايةِ المُحاوَراتِ، فخُولِفَ ذلك هنا بمَجِيءِ حَرفِ العطْفِ؛ لأنَّه قُصِدَ هنا التَّوازُنُ بيْنَ حُجَّةِ مَلأِ فِرعونَ وحُجَّةِ مُوسى؛ لِيَظهَرَ للسَّامعِ التَّفاوُتُ بيْنَهما في مُصادَفةِ الحقِّ، ويَتبصَّرَ فسادَ أحدِهما وصِحَّةَ الآخَرِ، وبضِدِّها تَتبيَّنُ الأشياءُ؛ فلهذا عُطِفَت الجُملةُ جرْيًا على الأصلِ غيرِ الغالبِ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ فيه خُصوصيَّةً غيرَ المَعهودةِ في مِثْلِه؛ فتكونُ مَعرفةُ التَّفاوُتِ بيْنَ المُحتَجِّينَ مُحالةً على النَّظرِ في مَعناهما. وعلى القِراءةِ بدُونِ واوٍ [526] قرأ بها ابنُ كثيرٍ بدونِ واوٍ، وقرأ الباقون بالواو. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/341). على أصلِ حِكايةِ المُحاوَراتِ، وقد حصَلَ مِن مَجموعِ القِراءتَينِ الوفاءُ بحقِّ الخُصوصيَّتَينِ مِن مُقْتضى حالَيِ الحِكايةِ [527] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/412)، ((تفسير البيضاوي)) (4/178)، ((تفسير أبي حيان)) (8/306)، ((تفسير أبي السعود)) (7/14)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/119، 120). .
- وفي قولِه: وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ ... عَبَّرَ عن اللهِ تَعالَى بوَصفِ الرُّبوبيَّةِ مُضافًا إلى ضَميرِه؛ للتَّنصيصِ على أنَّ الَّذي يَعلَمُ الحقَّ هو الإلهُ الحقُّ، لا آلِهتُهم المزعومةُ [528] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/120). .
- وعَبَّرَ في جانبِ (مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى) بفِعلِ المُضِيِّ، وفي جانبِ (مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ) بالمُضارِعِ؛ لأنَّ المَجِيءَ بالهُدى المُحقَّقِ والمزعومِ أمْرٌ قد تَحقَّقَ ومَضى، سواءٌ كان الجائيَ به مُوسى أمْ آباؤُهم الأوَّلون وعُلماؤُهم. وأمَّا كِيانُ عاقبةِ الدَّارِ لِمَنْ فمَرْجُوٌّ لَمَّا يَظهَرْ بعْدُ؛ ففي قولِه: رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى إشهادٌ للهِ تعالى وكلامٌ مُنصِفٌ [529] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/120). .
- وفي قولِه: أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قالَه هنا بزِيادةِ الباءِ، وقاله بعْدُ بدُونِها في قولِه: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى [القصص: 85] ؛ تقْويةً للعاملِ هنا بحسَبِ الظَّاهرِ؛ لِضَعفِه عن العَملِ، وحَذَفه بَعْدُ؛ اكتِفاءً بدَلالةِ الأوَّلِ عليه [530] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 431). .
- وفي قولِه: وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ تَفويضٌ إلى ما سيَظهَرُ مِن نَصرِ أحدِ الفريقَينِ على الآخَرِ، وهو تَعريضٌ بالوعيدِ بسُوءِ عاقِبَتِهم [531] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/120). .
3- قولُه تعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ كلامُ فِرعونَ المَحْكيُّ هنا واقعٌ في مَقامٍ غيرِ مَقامِ المُحاوَرةِ مع موسى؛ فهو كلامٌ أقبَلَ به على خِطابِ أهلِ مجلِسِه إثرَ المُحاورةِ مع موسى؛ فلذلك حُكِيَ بحَرفِ العطفِ (الواو)؛ عَطفَ القِصَّةِ على القِصَّةِ؛ فهذه قصَّةُ مُحاوَرةٍ بيْنَ فِرعونَ ومَلَئِه في شأنِ دَعوةِ مُوسى؛ فهي حقيقةٌ بحَرفِ العطفِ [532] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/120). .
- قولُه: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي قيل: نَفَى عِلمَه بذلك؛ إظهارًا للنَّصَفةِ، وأنَّه ما قَصَد غِشَّهم، وذلك منه واضحٌ في أنَّه قَصَد تَشكيكَهُم؛ إشارةً منه إلى أن انتِفاءَ عِلمِه بوُجودِه ما هو إلَّا لانتِفاءِ وُجودِه [533] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/294، 295). ، فعَبَّرَ بنَفْيِ عِلمِه عن نفْيِ المعلومِ؛ تدليسًا على مَلَئِه، وتلبيسًا على عُقولِهمُ السَّخيفةِ، ففِرعونُ كان يَدَّعي الإلهيَّةَ، ويُعامِلُ عِلمَه مُعاملةَ عِلمِ اللهِ تعالى في أنَّه لا يَعزُبُ عنه شَيءٌ؛ فمِن ثَمَّ طَغَى وتَكبَّرَ [534] يُنظر: ((تفسير الزمخشري – حاشية ابن المنير)) (3/413)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/60). .
- ولم يقُلْ: (ما وجَدْتُ لكُم)؛ لأنَّه لو قال: ما وجَدْتُ لكم، لكَذَّبوه؛ إذْ سيُحاجُّونَه بأنَّه لم يَذهَبْ لأيِّ مَكانٍ، ولم يُفارِقْهُم، فلمْ يَذهَبْ لِيَطلُبَ اللهَ ولم يَجِدْه، فنَفَى أنْ يَكونَ عالِمًا بذلك، فقال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي؛ لأجْلِ أن يُفرِّعَ عليه، ثمَّ قال: فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فتَتِمَّ له حيلتُه؛ يَقولُ: أنا لا أَعلَمُ لكُم مِن إلهٍ غَيري، لكنْ لا مانعَ مِن أن نَبحَثَ [535] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 187). .
- وإنَّما قال: فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ ولم يقُلْ: اطبُخْ لي الآجُرَّ واتَّخِذْه؛ لأنَّ هذه العِبارةَ أَحسَنُ طِباقًا لفَصاحةِ القرآنِ وعُلوِّ طَبقتِه، وأَشبَهُ بكَلامِ الجبابرةِ. كأنَّه قال: أَوقِدْ لي على هذا الشَّيءِ المُسمَّى بالطِّينِ؛ كأنَّه شَيءٌ حَقيرٌ لا يَصلُحُ مِن مِثلِ الملوكِ أن يُتلفَّظَ به، ويَدخُلُ في تَسميتِه في زُمرةِ العامَّةِ، أو أن َّكلِمةَ الآجُرِّ ونَحوِها -كالقَرْمَدِ، والطُّوبِ- كلِماتٌ مُبتذَلةٌ، فذَكَر بلفظِ الطِّينِ. وأظهَرُ مِن هذا: أنَّ العُدولَ إلى الطِّينِ؛ لأنَّه أَخَفُّ وأَفصَحُ. أو عَبَّرَ عنِ الآجُرِّ بالطِّينِ؛ لأنَّه قِوامُ صُنعِ الآجُرِّ، وهو طِينٌ معروفٌ، وكأنَّه لم يَأمُرْه ببناءٍ مِن حَجَرٍ وكِلْسٍ؛ قَصدًا للتَّعجيلِ بإقامةِ هذا الصَّرحِ المُرتفعِ؛ إذْ ليس مطلوبًا طولُ بقائِه بإحكامِ بنائِه على مَرِّ العُصورِ، بلِ المرادُ سُرعةُ الوُصولِ إلى ارتفاعِه؛ كَيْ يَشهَدَه النَّاسُ، ويَحصُلَ اليأسُ، ثمَّ يُنقَضَ مِنَ الأساسِ [536] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/415)، ((تفسير البيضاوي)) (4/178)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/62)، ((تفسير أبي حيان)) (8/306)، ((تفسير أبي السعود)) (7/14)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/122، 123)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لصافي (20/262)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/331 ،332). .
- وأَمْرُ هامانَ -وهو وزيرُه ورَديفُه- بالإيقادِ على الطِّينِ مُنادًى باسمِه بـ (يا) في وسَطِ الكلامِ: دليلُ التَّعظيمِ والتَّجبُّرِ؛ فهامانُ كان حاضرًا بيْن المَلأِ، وداخلًا في الخِطابِ؛ بل هو المُخاطَبُ الأوَّلُ لكَونِه وزيرَه ومُشيرَه؛ فاختِصاصُه مِن بيْنهِم بالنِّداءِ، ثمَّ بـ (يا) الدَّالَّةِ على البَعيدِ، ثمَّ تصريحُه باسمِه- ما كان إلَّا إظهارًا للكبرياءِ [537] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/415)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/62، 63). .
- وأراد بقولِه: فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ أن يَأمُرَ هامانُ العَمَلةَ أن يَطبُخوا الطِّينَ ليَكونَ آجُرًّا ويَبنُوا به؛ فكُنِّيَ عنِ البناءِ بمُقدِّماتِه، وهي إيقادُ الأفرانِ لتَجْفيفِ الطِّينِ المُتَّخَذِ آجُرًّا [538] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/122). . وابتَدأَ بأمْرِه بأوَّلِ أشغالِ البِناءِ؛ للدَّلالةِ على العنايةِ بالشُّروعِ مِن أوَّلِ أوقاتِ الأمرِ؛ لأنَّ ابتِداءَ البناءِ يَتأخَّرُ إلى ما بعْدَ إحضارِ مَوادِّه؛ فلذلك أمَرَه بالأخذِ في إحضارِ تلك المَوادِّ الَّتي أوَّلُها الإيقادُ، أي: إشعالُ التَّنانيرِ لطَبخِ الآجُرِّ [539] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/122). .
- وفيه مُناسبةٌ حَسَنةٌ، حيث قال هنا: فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى بحذْفِ أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ، وقال في (غافر) بذِكْرِه؛ لأنَّ ما هنا تَقَدَّمَه مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي مِن غَيرِ ذِكرِ أرضٍ وغَيرِها؛ فناسَبَه الحذْفُ، وما هناك تَقدَّمَه إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر: 26] ؛ فناسَبَه مُقابَلتُه بالسَّماءِ في قولِه: لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ [540] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 431). [غافر: 36، 37].
- قولُه: مِنَ الْكَاذِبِينَ أَقوَى مِن: (كاذِبًا)؛ فهو يدُلُّ على أنَّه يَعُدُّه مِنَ الطَّائفةِ الَّذينَ شأْنُهمُ الكذِبُ [541] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/123). .
4- قوله تعالى: وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ
- قولُه: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ مَعلومٌ بالفَحْوى مِن كُفرِهم باللهِ، وإنَّما صَرَّح به؛ لأهمِّيَّةِ إبطالِه؛ فلا يُكتفَى فيه بدَلالةِ مفهومِ الفَحْوى [542] فَحْوى الخِطاب: هو إثباتُ حُكمِ المنطوقِ به لِلمَسكوتِ عنه بطريقِ الأولَى، وهو نوعان: تنبيهٌ بالأقَلِّ على الأكثَرِ؛ كقولِه تعالى: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء: 23]؛ فإنَّه نبَّه بالنَّهيِ عن قولِ أُفٍّ على النَّهيِ عن الشَّتمِ والضَّربِ وغيرِ ذلك. وتنبيهٌ بالأكثَرِ على الأقَلِّ؛ كقولِه تعالى: مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران: 75]. يُنظر: ((تقريب الوصول إلى علم الأصول)) لابن جزي (ص: 163). ، ولأنَّ في التَّصريحِ به تعريضًا بالمُشركينَ في أنَّهم وإيَّاهُم سواءٌ، فلْيَضَعوا أنفُسَهم في أيِّ مَقامٍ مِن مَقاماتِ أهلِ الكُفرِ. ومعنَى ذلك: ظَنُّوا أنْ لا بَعْثَ ولا رُجوعَ؛ لأنَّهم كَفروا بالمَرجوعِ إلَيهِ؛ فذَكَر إِلَيْنَا لحِكايةِ الواقعِ، وليس بقَيدٍ. ويَجوزُ أنْ يَكونَ المعنَى: وظَنُّوا أنَّهم في مَنَعةٍ مِن أنْ يَرجِعوا في قَبضةِ قُدرتِنا، كما دَلَّ عليه قولُه في سُورةِ (الشُّعراءِ): قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ [الشعراء: 24، 25] استِعجابًا مِن ذلك. وعلى هذا الاحتِمالِ فالتَّعريضُ بالمُشركينَ باقٍ على حالِه؛ فإنَّهم ظَنُّوا أنَّهم في مَنَعةٍ مِنَ الاستِئْصالِ، فقالوا: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ [543] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/124، 125). [الأنفال: 32].
- وقُدِّم إِلَيْنَا على عامِلِه يُرْجَعُونَ؛ لأجْلِ الفاصلةِ [544] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور))  (20/124). .
5- قوله تعالى: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ الدُّعاءُ إلى النَّارِ هو الدُّعاءُ إلى العملِ الَّذي يوقِعُ في النَّارِ؛ فهي دَعوةٌ إلى النَّارِ بالمآلِ. ومناسَبةُ عطْفِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ هي أنَّ الدُّعاءَ يَقتَضي جُندًا وأتْباعًا يَعتَزُّون بهم في الدُّنيا، ولكنَّهُم لا يُجْدُونَ عنهُم يَومَ القيامةِ؛ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا [545] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/126). [البقرة: 167] .
6- قوله تعالى: وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ
- الإشارةُ إلى الدُّنيا بـ هَذِهِ؛ لتَهوينِ أمْرِ الدُّنيا بالنِّسبةِ للآخِرةِ [546] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/127). .
- ولم يَقُلِ: (الحياة)؛ لأنَّ السِّياقَ لتحقيرِ أمْرِهم، ودناءةِ شأنِهم [547] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/299). .
- والتَّخالُفُ بيْن صِيغتَيْ قَولِه: وَأَتْبَعْنَاهُمْ وقَولِه: هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ؛ لأنَّ اللَّعنةَ في الدُّنيا قد انتَهى أمْرُها بإغراقِهِم، أو لأنَّ لَعْنَ المؤْمِنينَ إيَّاهُم في الدُّنيا يَكونُ في أحيانِ يَذْكُرونَهم، فكِلَا الاحتِمالَينِ لا يَقتَضي الدَّوامَ؛ فجِيءَ معه بالجملةِ الفِعليَّةِ. وأمَّا تقبيحُ حالِهم يَومَ القِيامةِ فهو دائمٌ معهم، مُلازِمٌ لهم، فجِيءَ في جانبِه بالاسميَّةِ المُقتضيةِ الدَّوامَ والثَّباتَ. وضَميرُ (هُم) في قولِه: هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ ليس ضَميرَ فصْلٍ، ولكنَّه ضميرُ مبتدَأٍ، وبه كانتِ الجُملةُ اسميَّةً دالَّةً على ثَباتِ التَّقبيحِ لهم يَومَ القِيامةِ [548] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/127). .