موسوعة التفسير

سورةُ القَصَصِ
الآيات (43-46)

ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ

غَريبُ الكَلِماتِ:

الْقُرُونَ: جمعُ قَرْنٍ، والقرنُ: القَومُ أو الأُمَّةُ مِنَ النَّاسِ المقترِنونَ في زمنٍ واحدٍ، غَيْرِ مُقَدَّرٍ بمدَّةٍ مُعَيَّنةٍ، وقيل: مُدَّةُ القرنِ مِئةُ سنةٍ، وقيل: ثمانونَ، وقيل: ثلاثون، وقيل غيرُ ذلك، وهو مأخوذٌ مِنَ الاقترانِ، وهو اجتِماعُ شيئَينِ، أو أشياءَ في معنًى مِن المعاني، وأصلُ (قرن): يدُلُّ على جمعِ شَيءٍ إلى شَيءٍ .
بَصَائِرَ: أي: ضياءً، وقيل: عبرةً، وقيل: دلالاتٍ، جمعُ بصيرةٍ؛ سُمِّيَ بصيرةً اشتِقاقًا مِن بَصَرِ العَينِ .
ثَاوِيًا: أي: مُقيمًا، والثَّواءُ: الإقامةُ مع الاستِقرارِ، وأصلُه: يدُلُّ على الإقامةِ .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ الله تعالى مبيِّنًا ما امتَنَّ به على نبيِّه موسى عليه السَّلامُ: ولقد آتَيْنا موسى التَّوراةَ مِن بعدِ ما أهلَكْنا واستأْصَلْنا الأمَمَ الماضيةَ الَّتي كذَّبَت رُسُلَها؛ آتَيْناه التَّوراةَ ضياءً لبني إسرائيلَ وهُدًى ورَحمةً لهم؛ لِيَتذَكَّروا.
ثمَّ يقولُ تعالى منَبِّهًا على بُرهانِ نُبوَّةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حيثُ أخبَر بهذه الغُيوبِ الماضيةِ: وما كنتَ -يا محمَّدُ- حاضِرًا بجانبِ الغربيِّ الَّذي كلَّمْنا فيه موسى وأوحَيْنا إليه، وما كنتَ مُشاهِدًا لِما جرى هناك، ولكنَّا خلَقْنا أُمَمًا مِن بَعدِ موسى، فطالت مُدَّةُ انقِطاعِ الوَحيِ، فنُسِيَ عَهدُ الله؛ فأرسَلْناك -يا محمَّدُ- رسولًا للنَّاسِ.
وما كنتَ -يا محمَّدُ- مُقيمًا في أهلِ مَدْيَنَ؛ فتقرأَ على أهلِ مكَّةَ خَبرَهم وما وقَعَ لهم مع موسى، ولكِنَّا أرسَلْناك وأنزَلْنا عليك هذه الأخبارَ في القرآنِ، ولولا ذلك لَمَا عَلِمْتَها.
وما كنتَ -يا محمَّدُ- بجانِبِ الجبَلِ حينَ كلَّمْنا موسى وأوحَيْنا إليه، ولكنَّا أوحَيْنا إليك ما جرى؛ رحمةً منَّا، لتُحَذِّرَ قَومَك الَّذين لم يأتِهم رَسولٌ مِن قَبْلِك؛ لِيَتذَكَّروا ويُنيبوا إلى اللهِ.

تَفسيرُ الآياتِ:

وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَرَ تعالى ما آلَ إليه فِرعونُ وقَومُه مِن غَضَبِ اللهِ عليهم، وإغراقِه لهم؛ ذَكَرَ ما امتَنَّ به على رَسولِه موسى عليه السَّلامُ .
وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى.
أي: ولقد آتَيْنا موسى التَّوراةَ مِن بَعدِ ما أهلَكْنا بعذابِ الاستِئصالِ الأُمَمَ الماضيةَ الَّتي كذَّبتْ رُسُلَها؛ كقَومِ نُوحٍ، وعادٍ، وثَمودَ، وغيرِهم .
بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ.
أي: آتَيْنا موسى التَّوراةَ ضِياءً لبني إسرائيلَ يُبصِرون به ما ينفَعُهم، وهُدًى إلى الحَقِّ مِن الضَّلالةِ، ورَحمةً لهم؛ لِيَتذكَّروا ويَتَّعِظوا .
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّن سُبحانَه في هذه السُّورةِ مِن غرائبِ أمرِ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وخَفيِّ أحوالِه ما بَيَّنَ، وكانت هذه الأخبارُ لا يَقدِرُ أهلُ الكتابِ على إنكارِها نوعًا مِن الإنكارِ، وكان مِنَ المشهورِ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لم يَعرِفْها ولا سِواها مِن غيرِ الواحدِ القهَّارِ؛ أشار إلى ذلك سُبحانَه بقَولِه :
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ .
أي: وما كنتَ حاضِرًا -يا محمَّدُ- في المكانِ الَّذي كلَّمْنا فيه موسى وأوحَيْنا إليه .
كما قال تعالى: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص: 30] .
وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ.
أي: وما كُنتَ مُشاهِدًا بعينيك تفاصيلَ ما جرَى هنالِك .
وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45).
وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ .
أي: ولكنَّا خلَقْنا أُمَمًا مِن بَعدِ موسى، فطالت مدَّةُ انقِطاعِ الوَحيِ، فنُسيَ عَهدُ الله، وتُرِك أمْرُه، واندرَس العِلمُ؛ فأرسَلْنا محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ .
وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا نَفَى العِلمَ بتفاصيلِ ما جرَى بطريقِ الشُّهودِ؛ نفَى سببَ العلمِ بذلك ، فقال:
وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا .
أي: وما كُنتَ -يا محمَّدُ- مقيمًا ومُستقِرًّا زمنًا طويلًا في أهلِ مَدْيَنَ؛ فتقرأَ على أهلِ مكَّةَ خبَرَ ما وقعَ مِن شأنِ موسى في مَدْيَنَ .
وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ .
أي: لم يقَعْ ذلك، ولكِنَّا أرسَلْناك وأوحَيْنا إليك في القُرآنِ بتلك الأخبارِ الماضيةِ .
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ.
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا.
أي: وما كُنتَ -يا محمَّدُ- بجانِبِ الجَبَلِ حينَ كلَّمْنا موسى وأوحَيْنا إليه .
كما قال تعالى: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا [مريم: 52] .
وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ .
أي: ما كُنتَ حاضِرًا بجانِبِ الطُّورِ، ولكِنَّا أوحَيْنا إليك ما جرى؛ رحمةً منَّا بك وبالعِبادِ .
لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّنَ تعالى أنَّ نبيَّه محمَّدًا عليه السَّلامُ لم يكُنْ في تلك الأحوالِ حاضرًا؛ بَيَّنَ تعالى أنَّه بَعَثه وعَرَّفه هذه الأحوالَ؛ رحمةً للعالَمينَ، ثمَّ فَسَّرَ تلك الرَّحمةَ بأنْ قال :
لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ.
أي: لتُحذِّرَ العَرَبَ الَّذينَ لم يأتِهم رَسولٌ مِن قَبْلِك، مِن الكُفرِ والشِّركِ والضَّلالِ .
كما قال تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [السجدة: 2، 3].
وقال عزَّ وجلَّ: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ [يس: 6].
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ.
أي: لِيَتذكَّروا خطَأَ ما هم عليه مِن الكُفرِ والشِّركِ والضَّلالِ، ويتَّعِظوا ويُنيبوا إلى اللهِ؛ فيُطيعوه ويَعبُدوه وَحْدَه لا شريكَ له .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ دَلالةٌ على أنَّ موسى عليه السَّلامُ لَمَّا ذهبَ إلى فِرعَونَ لم تكُنِ التَّوراةُ قد نَزَلتْ، وإنَّما أُنزلتِ التَّوراةُ بعد أنْ غَرِقَ فِرعَونُ، وخَلَصَ موسى عليه السلامُ ببني إسرائيلَ، فاحتاجوا إلى شريعةٍ يَعمَلونَ بها .
2- قال الله تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى هذا دَليلٌ على أنَّه بعدَ نزولِ التَّوراةِ انقطعَ الهلاكُ العامُّ، وشُرِعَ جهادُ الكُفَّارِ بالسَّيفِ .
3- في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ أنَّ الكتبَ النَّازِلةَ مِن السَّماءِ أنوارٌ للنَّاسِ يَهتَدونَ بها؛ لِقَولِه تعالى: بَصَائِرَ لِلنَّاسِ .
4- في قولِه تعالى: لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ إثباتُ الحكمةِ في أفعالِ اللهِ سُبحانَه وتعالى، وكذلك في شرائعِه؛ لأنَّ «لعل» معناها التَّعليلُ، والَّذين أنكَروا الحكمةَ هم الجَهْميَّةُ؛ حيثُ يقولون: إنَّ اللهَ تعالى ليست له حِكمةٌ فيما يَفعلُ وما يَشاءُ؛ وإنَّما هو لِمُجَرَّدِ المشيئةِ !
5- في قَولِه تعالى: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ أنَّ الإنسانَ لا يُقبَلُ خبرُه إلَّا إذا كان حاضِرًا يَسمَعُ، أو شاهِدًا يَرى؛ لِقَولِه: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وقولِه أيضًا: وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ؛ فإنَّ الذي يمكِنُ أنْ يُخبِرَ هو مَن حَضَرَ فسَمِعَ، أو مَن قَرُبَ فشاهَدَ، أمَّا الإخبارُ دُونَ شهادةٍ، أو شهودٍ أو حُضورٍ؛ فمثلُ هذا لا يُقبَلُ، وهذا أمرٌ معلومٌ مِن الشَّرعِ .
6- في قَولِه تعالى: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ دَلالةٌ على رسالةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ حيثُ أخبرَ بذلك تفصيلًا مُطابِقًا، وتأصيلًا مُوافِقًا؛ قَصَّه قصًّا صَدَّقَ به المرسَلينَ، وأيَّدَ به الحقَّ المُبينَ، مِن غيرِ حضورِ شَيءٍ مِن تلك الوَقائِعِ، ولا مُشاهَدةٍ لموضِعٍ واحدٍ مِن تلك المَواضِعِ، ولا تلاوةِ دَرسٍ فيها شَيءٌ مِن هذه الأمورِ، ولا مُجالَسةِ أحدٍ مِن أهلِ العلمِ، إنْ هو إلَّا رسالةُ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، ووحْيٌ أنزلَه عليه الكريمُ المنَّانُ؛ لِيُنذِرَ به قومًا جاهلينَ، وعن النُّذُرِ والرُّسُلِ غافِلينَ .
7- في قَولِه تعالى: إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ أنَّ الوحْيَ يُسمَّى قضاءً .
بلاغةُ الآياتِ:
1- قولُه تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ذِكرُ إهلاكِ القُرونِ الأُولى إدماجٌ للنَّذارةِ في ضِمنِ الاستِدلالِ. وجُملةُ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى تَخلُّصٌ مِن قصَّةِ بَعثةِ موسى عليه السَّلامُ إلى تأييدِ بَعثةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. ثُمَّ إنَّ القُرآنَ أَعرَضَ عن بَيانِ حِكمةِ الفِتَرِ الَّتي تَسبِقُ إرسالَ الرُّسلِ، واقتَصَر على بيانِ الحِكمةِ في الإرسالِ عَقِبَها؛ لأنَّه المُهِمُّ في مَقامِ نَقْضِ حُجَّةِ المُبطِلينَ للرِّسالةِ، أو اكتِفاءً بأنَّ ذلك أمْرٌ واقعٌ لا يُستطاعُ إنكارُه، وهو المقصودُ هنا .
- وإنَّما أَوقعَ بَصَائِرُ حالًا مِنَ الْكِتَابَ؛ ليُؤْذِنَ بشِدَّةِ احتِياجِ القَومِ إلى ما تُفتَحُ به قُلوبُهمُ العَمياءُ، وإنَّما أردَفَها بقَولِه: وَهُدًى؛ ليُنبِّهَ على أنَّهم كانوا يَخبِطونَ في ضَلالٍ، وعَقَّبَهما بقولِه: وَرَحْمَةٌ؛ ليُناديَ بأنَّهم كانوا بُعَداءَ مِن رحمةِ اللهِ، وما عَمِلوا بمُقتضَى الكِتابِ؛ لأنَّهم لو عَمِلوا به لوَصَلوا إلى رحمةِ اللهِ؛ فألفاظُ الآيةِ كلُّها تعريضاتٌ باليهودِ، ودَلَّ على مكانِ التَّعريضِ قَولُه: لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ .
- قولُه: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى فيه تأكيدُ الجُملةِ بلامِ القَسَمِ وحرْفِ التَّحقيقِ (قد)؛ لِتَنزيلِ المُخاطَبينَ مَنزِلةَ المُنكِرينَ لوُقوعِ ذلك، حتَّى يُحتاجَ معهم إلى التَّأكيدِ بالقسَمِ، فمَوقعُ التَّأكيدِ هو قولُه: مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى .
- والتَّعرُّضُ لبَيانِ كَونِ إيتاءِ التَّوراةِ بعْدَ إهلاكِ القُرونِ الأُولى؛ للإشعارِ بمساسِ الحاجةِ الدَّاعيةِ إليه؛ تمهيدًا لِما يَعقُبُه مِن بيانِ الحاجةِ الدَّاعيةِ إلى إنزالِ القُرآنِ الكريمِ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فإنَّ إهلاكَ القُرونِ الأُولَى مِن مُوجِباتِ اندِراسِ مَعالمِ الشَّرائعِ، وانطِماسِ آثارِها وأحكامِها، المؤَدِّيَينِ إلى اختلالِ نظامِ العالَمِ، وفَسادِ أحوالِ الأُمَمِ، المُستدعِيَينِ للتَّشريعِ الجديدِ بتقريرِ الأُصولِ الباقيةِ على مَرِّ الدُّهورِ، وترتيبِ الفروعِ المُتبدِّلةِ بتَبدُّلِ العُصورِ، وتَذكيرِ أحوالِ الأُممِ الخاليةِ الموجِبةِ للاعتِبارِ، كأنَّه قيلَ: ولقد آتَيْنا موسى التَّوراةَ على حينِ حاجةٍ إلى إيتائِها .
2- قولُه تعالى: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ لَمَّا بَطَلَتْ شُبهتُهم الَّتي حاوَلوا بها إحالةَ رسالةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، نَقَل الكلامَ إلى إثباتِ رِسالتِه بالحُجَّةِ الدَّامِغةِ، وذلك بما أَعلَمَه اللهُ به مِن أخبارِ رِسالةِ موسى عليه السَّلامُ، ممَّا لا قِبَلَ له بعِلمِه، لولا أنَّ ذلك وَحْيٌ إليه مِنَ اللهِ تعالى؛ فهذا تَخلُّصٌ مِنَ الاعتِبارِ بدَلالةِ الالتِزامِ في قِصَّةِ موسى إلى الصَّريحِ مِن إثباتِ نُبوَّةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ .
- وفي قولِه: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيّ أعجَبُ احتِراسٍ وقَع في القرآنِ؛ فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قال حكايةً عن موسى: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ [مريم: 52] ، فلمَّا نفى سُبحانَه عن رسولِه أن يكونَ بالمكانِ الَّذي قضى لموسى فيه الأمرَ عرَّف المكانَ بالغربيِّ، ولم يقُلْ في هذا الموضعِ: الأيمَن، كما قال: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ [مريم: 52] ؛ أدبًا مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أن يَنفيَ عنه كَوْنَه بالجانبِ الأيمَنِ، أو يَسلُبَ عنه لَفْظًا مُشتَقًّا مِنَ اليُمنِ أو مُشارِكًا لِمادَّتِه، ولَمَّا أخبَر عن موسى عليه السَّلامُ ذكَرَ الجانبَ الأيمَنَ؛ تشريفًا لموسى، فراعى في المَقامَينِ حُسْنَ الأدَبِ معهما؛ تعليمًا للأُمَّةِ، وهو أصلٌ عظيمٌ في الأدبِ في الخِطابِ .
- وقولُه: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ شُروعٌ في بيانِ أنَّ إنزالَ القرآنِ الكريمِ أيضًا واقعٌ في زمانِ شدَّةِ مساسِ الحاجةِ إليه، واقتِضاءِ الحِكمةِ له البَتَّةَ. وقد صُدِّرَ بتحقيقِ كَونِه وَحْيًا صادقًا مِن عندِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ ببيانِ أنَّ الوُقوفَ على ما فُصِّل مِنَ الأحوالِ لا يَتسنَّى إلَّا بالمُشاهَدةِ أو التَّعلُّمِ ممَّن شاهَدَها، وحيثُ انتَفَى كِلاهُما تَبيَّنَ أنَّه بوَحْيٍ مِن علامِ الغُيوبِ لا مَحالةَ، على طريقةِ قَولِه تعالى: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ... الآيةَ [آل عمران: 44] .
- قولُه: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ بدَأَ أوَّلًا بنَفْيِ شَيءٍ خاصٍّ، وهو أنَّه لم يَحضُرْ وقْتَ قَضاءِ اللهِ لموسى الأمرَ، ثمَّ ثَنَّى بكَونِه لم يكُنْ مِنَ الشَّاهِدينَ، أي: مِنَ الشَّاهِدينَ بجَميعِ ما أعلَمْناك به؛ فهو نفْيٌ لشَهادتِه جَميعَ ما جرَى لموسى؛ فكان عُمومًا بعْدَ خُصوصٍ .
وقيل: إنَّما قال: وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ؛ لأنَّ مَن كان في الجانبِ قد يَرى، وقد لا يَرى، فإذا قال قائلٌ: لماذا لم يُقتصَرْ على قولِه: وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ؟
الجوابُ: لأنَّ الإنسانَ قد يُشاهِدُ مِن بُعْدٍ ولكنْ قليلٌ، فهنا تضمَّنَ أنه قريبٌ، وأنَّه شاهدٌ، ففَرْقٌ بيْنَ أنْ نقولَ: ما كنتَ شاهدًا، أي: ما كنتَ حاضرًا مُشاهِدًا بعينِك -ولو كنتَ بعيدًا-، ولهذا ليس في الآيةِ الكريمةِ تَكرارٌ؛ ولكنْ فيها شَيءٌ مِن التَّوكيدِ، يعني: لا حَضَرَ، ولا نَظَرَ، فيكونُ ما أخبَرَ به عن ذلك مِن بابِ الوحْيِ، لا مِن بابِ المشاهَدةِ، ولا مِن بابِ السَّماعِ؛ ولكنَّه وحْيٌ أُوحيَ إليه .
- قَولُه: إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ فسمَّى الله تعالى الوحيَ «الأمر» بـ «ال» الدَّالةِ على العظَمةِ والكمالِ، ولا ريبَ أنَّ أعظمَ الأمورِ ما جاءتْ به الرُّسلُ مِن وحْيِ اللهِ سُبحانَه وتعالى؛ لِمَا فيه مِن مصلحةِ البلادِ والعبادِ .
3- قولُه تعالى: وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ خَفيَ اتِّصالُ هذا الاستِدراكِ بالكلامِ الَّذي قَبْلَه، وكيف يَكونُ استِدراكًا وتعقيبًا للكلامِ الأوَّلِ برفْعِ ما يُتوهَّمُ ثُبوتُه؟ فبيانُه أنَّ قَولَه: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى مَسوقٌ مَساقَ إبطالِ تَعجُّبِ المُشركينَ مِن رسالةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حينَ لم يَسبِقْها رِسالةُ رَسولٍ إلى آبائِهمُ الأوَّلينَ، فذَكَّرَهم بأنَّ اللهَ أرسَلَ موسى كذلك بعْدَ فَترةٍ عظيمةٍ، وأنَّ الَّذينَ أُرسِل إليهم موسى أثارُوا مِثلَ هذه الشُّبهةِ، فقالوا: (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ) [القصص: 36] ، فكما كانتْ رسالةُ مُوسى عليه السَّلامُ بعْدَ فَترةٍ مِنَ الرُّسلِ، كذلك كانت رسالةُ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فالمعنَى: فكان المُشرِكونَ حَقيقِينَ بأنْ يُنَظِّروا رسالةَ محمَّدٍ برسالةِ موسى. ولكنَّ اللهَ أَنشأَ قُرونًا -أي: أُمَمًا- بيْنَ زمَنِ موسى وزمَنِهم، فتَطاوَلَ الزَّمَنُ، فنَسيَ المُشرِكونَ رسالةَ موسى، فقالوا: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ [ص: 7] . وحُذِف بقيَّةُ الدَّليلِ، وهو تقديرُ: فنَسُوا؛ للإيجازِ؛ لظُهورِه مِن قَولِه: فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ، كما قال تعالى عن اليَهودِ حينَ صارُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة: 13] ، وقال عن النَّصارَى: أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة: 14] ، وقال لأُمَّةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الحديد: 16] ، فضَميرُ الجَمعِ في قَولِه: عَلَيْهِمُ عائدٌ إلى المُشركينَ، لا إلى القُرونِ. فتَبيَّنَ أنَّ الاستِدراكَ مُتَّصِلٌ بقَولِه: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى [القصص: 43] ، وأنَّ ما بيْنَ ذلك وبيْنَ هذا استِطرادٌ. وهذا أحسَنُ في بيانِ اتِّصالِ الاستِدراكِ، وهو بهذا مُخالِفٌ لمَوقعِ الاستِدراكَينِ الآتِيَينِ بعْدَه؛ مِن قَولِه: وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [القصص: 45] ، وقولِه: وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [القصص: 46] .
- وقيلَ: اتَّصَلَ هذا الاستِدراكُ بالكلامِ قَبْلَه؛ لأنَّه ليس الاعتِبارُ بصُورةِ النَّفيِ والإثباتِ، وإنَّما المُعتبَرُ المعنَى؛ فإنَّه تعالى لَمَّا نفَى عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أوَّلًا كَوْنَه بجانبِ الغَربيِّ، وكَوْنَه مُشاهِدًا لِلوَحيِ إلى موسى عليه السَّلامُ وقَضاءِ الأمرِ له؛ مِنَ المُكالَمةِ وكِتْبةِ التَّوراةِ وغَيرِهما، والمرادُ نفْيُ عِلمِه بذلك- أثبَتَ له العِلمَ ثانيًا بتِلك القِصَّةِ وبسائرِ قِصَصِ الأنبياءِ؛ فكأنَّه قيل: ما كنتَ داريًا بذلك بطريقٍ مِن طُرُقِ العِلمِ؛ لكنْ جعَلْناك داريًا بطريقِ الوَحيِ، بأنْ أرسَلْناك أحْوَجَ ما يكونُ النَّاسُ إلى إرسالِك؛ لفُتورِ الوَحيِ مدَّةً مُتطاوِلةً؛ فوُضِع قَولُه: أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ مَوضِعَ: (أَرسَلْناكَ وكَسَبْنا لك العِلمَ)؛ وَضْعًا للسَّببِ مَوضعَ المُسبَّبِ؛ لأنَّ إطالةَ فَترةِ الوَحيِ واندِراسِ العُلومِ سببٌ لإرسالِ الرُّسُلِ وكَسْبِهمُ العُلومَ .
- قولُه: وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا تَكريرٌ للدَّليلِ بمثَلٍ آخَرَ، مِثلُ ما في قَولِه: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ [القصص: 44] .
- وعُدِل عن أن يُقالَ: (ولكنَّا أوحَيْنا بذلك)، إلى قَولِه: وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ؛ لأنَّ المَقصَدَ الأهمَّ هو إثباتُ وُقوعِ الرِّسالةِ مِنَ اللهِ للرَّدِّ على المُشركينَ في قَولِهم وقَولِ أمثالِهم: (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ)  [القصص: 36] . وتُعلَمُ رسالةُ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بدَلالةِ الالتِزامِ مع ما يأتي مِن قَولِه: وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا [القصص: 46] الآيةَ، فالاحتِجاجُ والتَّحدِّي في هذه الآيةِ والآيةِ الَّتي قَبْلَها تَحَدٍّ بما عَلِمَه النَّبيُّ علَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن خبَرِ القصَّةِ الماضيةِ .
4- قولُه تعالى: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ جانبُ الطُّورِ: هو جانبُ الغَربيِّ -وذلك على قولٍ-، وهو الجانبُ الأَيمَنُ المُتقدِّمُ وصْفُه بذَيْنِكَ الوَصفَينِ؛ فعُرِّيَ هنا عنِ الوَصفِ؛ لأنَّه صار معروفًا. وحُذِف مفعولُ النِّداءِ؛ لظُهورِ أنَّه نِداءُ مُوسى مِن قِبَلِ اللهِ تعالى .
- والاستِدراكُ في قَولِه: وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ناشِئٌ عن دَلالةِ قَولِه: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ، على معنَى: ما كان عِلمُك بذلك لحُضورِكَ، ولكنْ كان عِلمُك رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ؛ فانتِصابُ رَحْمَةً مؤْذِنٌ بأنَّه مَعمولٌ لعاملِ نَصبٍ مأخوذٍ مِن سِياقِ الكلامِ: إمَّا على تَقديرِ كَونٍ مَحذوفٍ يدُلُّ عليه نَفْيُ الكَونِ في قولِه: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ، والتَّقديرُ: ولكنْ كان عِلمُك رحمةً مِنَّا، وإمَّا على المفعولِ المُطْلَقِ الآتي بدَلًا مِن فِعلِه، والتَّقديرُ: ولكنْ رَحِمْناك رَحمةً بأنْ عَلَّمْناك ذلك بالوَحيِ رحمةً؛ بقَرينةِ قَولِه: لِتُنْذِرَ قَوْمًا. ويَجوزُ أنْ يَكونَ رَحْمَةً منصوبًا على المفعولِ لأجْلِه، معمولًا لفِعلِ لِتُنْذِرَ؛ فيَكونَ فِعلُ لِتُنْذِرَ مُتعلِّقًا بكَوْنٍ مَحذوفٍ هو مَصَبُّ الاستِدراكِ. وفي هذه التَّقاديرِ توفيرُ مَعانٍ، وذلك مِن بليغِ الإيجازِ . وقد اكتُفيَ عن ذِكرِ المُستدرَكِ هاهنا بذِكْرِ ما يوجِبُه مِن جِهَتِه تعالى، كما اكتُفيَ عنه في الأوَّلِ بذِكرِ ما يُوجِبُه مِن جِهةِ النَّاسِ، وصُرِّح به فيما بيْنَهما؛ تَنصيصًا على ما هو المقصودُ، وإشعارًا بأنَّه المرادُ فيهما أيضًا. وللهِ دَرُّ شأنِ التَّنزيلِ .
- والالتِفاتُ في قولِه: وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إلى اسمِ الرَّبِّ؛ للإشعارِ بعِلَّةِ الرَّحمةِ، وتَشريفِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالإضافةِ .
- وعُدِل عن: (رحمةً مِنَّا)، إلى رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ بالإظهارِ في مَقامِ الإضمارِ؛ لِما يُشعِرُ به معنَى الرَّبِّ المُضافِ إلى ضميرِ المُخاطَبِ مِنَ العنايةِ به عنايةَ الرَّبِّ بالمَربوبِ .
- قوله: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ القَومُ: قُرَيشٌ والعرَبُ؛ فهُمُ المُخاطَبونَ ابتِداءً بالدِّينِ، وكُلُّهم لم يأتِهم نَذيرٌ قبْلَ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإنَّما اقتُصِر على قُرَيشٍ أو على العرَبِ دُونَ سائرِ الأُمَمِ الَّتي بُعِث إليها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّ المِنَّةَ عليهم أَوْفَى؛ إذْ لم تَسبِقْ لهم شَريعةٌ مِن قَبْلُ، فكان نِظامُهم مُختَلًّا غَيرَ مَشوبٍ بأَثارةٍ مِن شَريعةٍ مَعصومةٍ؛ فكانوا في ضرورةٍ إلى إرسالِ نذيرٍ، وللتَّعريضِ بكُفرانِهم هذه النِّعمةَ .
- وتغييرُ التَّرتيبِ الوُقوعيِّ بيْن قَضاءِ الأمرِ والثَّواءِ في أهْلِ مَدْيَنَ والنِّداءِ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ كُلًّا مِن ذلك بُرهانٌ مُستقِلٌّ على أنَّ حكايتَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ للقصَّةِ بطريقِ الوَحيِ الإلهيِّ. ولو ذُكِر أوَّلًا نَفْيُ ثَوائِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن أهلِ مَدْيَنَ، ثمَّ نَفْيُ حُضورِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عِندَ النِّداءِ، ثمَّ نفْيُ حُضورِه عِندَ قضاءِ الأمرِ -كما هو الموافِقُ للتَّرتيبِ الوُقوعيِّ- لَرُبَّما تُوُهِّمَ أنَّ الكُلَّ دليلٌ واحدٌ على ما ذُكِرَ .