موسوعة التفسير

سورةُ ص
الآيات (4-11)

ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ

غريب الكلمات:

عُجَابٌ: أي: عجيبٌ، أو بليغٌ في العجبِ، يُقالُ: هذا أمرٌ عَجيبٌ، وذلك إذا اسْتُكْبِر واستُعْظِم، وقيل: العُجابُ: هو الَّذي جاوَز حدَّ العَجَبِ، وأصلُ (عجب) هنا: يدلُّ على كِبْرٍ واسْتِكبارٍ للشَّيءِ [43] يُنظر: ((العين)) للخليل (1/235)، ((معاني القرآن)) للفراء (2/398)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 376)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 344)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/243)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 280)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 659). .
الْمَلَأُ: أي: أشرافُ النَّاسِ ووُجوهُهم ورُؤَساؤُهم، أو: الجماعةُ يجتمعونَ على رأيٍ، فيَملوؤنَ القلوبَ هَيْبةً، والعيونَ جلالةً، ويُقالُ: فلانٌ مِلءُ العيونِ، أي: مُعَظَّمٌ عندَ مَن رآه، وقيل: وُصِفوا بذلك؛ لأنَّهم يَتمالَؤون، أي: يَتظاهَرونَ ويَتسانَدونَ، أو: مِن قولِهم: فلانٌ مليءٌ بكذا، إذا كان مطيقًا له؛ لأنَّهم مُلِئوا بترتيبِ المُهِمَّاتِ، وأحْسَنوا في تَدبيرِها، وأصلُ (ملأ): يدُلُّ على الكَمالِ [44] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 92)، ((تفسير ابن جرير)) (4/435)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 411)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/346)، ((تفسير الزمخشري)) (2/388)، ((تفسير الرازي)) (17/337)، ((عمدة الحفاظ)) للسمين الحلبي (4/106). .
الْمِلَّةِ: أي: الدِّينِ والطَّريقةِ، ثمَّ نُقِلَت إلى أصولِ الشَّرائعِ، وهي هنا النَّصرانيَّةُ، والمِلَّةُ مُشتَقَّةٌ مِن أملَلْتُ (أي: أملَيْتُ)؛ لأنَّها تُبنَى على مَسموعٍ ومَتلُوٍّ، فإذا أُريدَ الدِّينُ باعتِبارِ الدُّعاءِ إليه قيل: مِلَّةٌ، وإذا أُريدَ باعتبارِ الطَّاعةِ والانقيادِ له قيل: دينٌ [45] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/275)، ((المفردات)) للراغب (ص: 773، 774)، ((تفسير القرطبي)) (15/152)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 91)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 443). .
اخْتِلَاقٌ: أي: كَذِبٌ وتخَرُّصٌ، وأصلُ (خلق): يدُلُّ على تَقديرِ الشَّيءِ [46] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/25)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/213)، ((المفردات)) للراغب (ص: 296)، ((تفسير القرطبي)) (15/152)، ((تفسير ابن كثير)) (7/55)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 65). .
فَلْيَرْتَقُوا: أي: فلْيَصعَدوا، وأصلُ (رقي): يدُلُّ على صُعودٍ وارتِقاءٍ [47] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/27)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/426)، ((المفردات)) للراغب (ص: 363)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 325)، ((تفسير القرطبي)) (15/153). .
الْأَسْبَابِ: أي: طُرُقِ السَّماءِ وأبوابِها، وكلُّ ما يُتوصَّلُ به إلى شَيءٍ يُسمَّى سَبَبًا، وأصلُه: الحَبلُ [48] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 68)، ((تفسير ابن جرير)) (20/27)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 49)، ((المفردات)) للراغب (ص: 391)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 25)، ((تفسير القرطبي)) (15/153)، ((تفسير ابن كثير)) (7/56)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 99). .
الْأَحْزَابِ: أي: الفِرَقِ والجَماعاتِ المُجتَمِعةِ، مِن قَولِهم: تحزَّبَ القَومُ: إذا اجتَمَعوا، وأصلُ (حزب): يدُلُّ على تَجمُّعِ الشَّيءِ [49] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 377)، ((تفسير ابن جرير)) (20/32)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 75)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/55)، ((تفسير القرطبي)) (15/155)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 358). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ
جُنْدٌ مُبتدَأٌ مَرفوعٌ، أو خبَرٌ لمُبتدَأٍ مَحذوفٍ، أي: هم جُندٌ. مَا زائدةٌ، أو نعتُ جُنْدٌ.
هُنَالِكَ: نَعتٌ لـ جُنْدٌ أو نَعتٌ ثانٍ؛ حَسَبَ إعرابِ (ما)، أو خبَرُ جُنْدٌ، أو ظَرفٌ لِـ مَهْزُومٌ.
ومَهْزُومٌ: خبَرُ المُبتدَأِ، أو خبَرٌ ثانٍ، أو نعتُ جُنْدٌ.
مِنَ الْأَحْزَابِ نعتٌ لـ جُنْدٌ، أو مُتعَلِّقٌ بـ مَهْزُومٌ، أو نعتٌ لـ مَهْزُومٌ [50] يُنظر: ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/1098)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/360)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (23/107). .

المعنى الإجمالي:

يَحكي الله تعالى جانبًا ممَّا كان عليه المشركونَ مِن عِنادٍ وتكذيبٍ، فيقولُ: وعَجِبَ كُفَّارُ قُرَيشٍ أنْ جاءَهم مُنذِرٌ منهم؛ لِيُنذِرَهم عذابَ اللهِ، وقالوا: هذا ساحِرٌ كذَّابٌ! أيَأْمُرُنا أن نَعبُدَ إلهًا واحِدًا، ونَترُكَ عبادةَ آلهتِنا؟! إنَّ هذا لَشَيءٌ شَديدُ العَجَبِ!
ثمَّ يُبيِّنُ الله سبحانَه حِرصَهم على صرْفِ النَّاسِ عن دعوةِ الحقِّ، فيقولُ: وانطلَقَ الأشرافُ من كفَّارِ قريشٍ قائِلينَ: امضُوا على دينِكم، واصبِروا على عبادةِ آلهتِكم، إنَّ هذا الَّذي يَدعوكم إليه محمَّدٌ لَشَيءٌ يُريدُ به الرِّئاسةَ والاستِعلاءَ علينا، ما سَمِعْنا بهذا في مِلَّةِ النَّصرانيَّةِ، ما هذا الَّذي يقولُه محمَّدٌ إلَّا كَذِبٌ اختلَقَه مِن عندِ نَفْسِه!
ثمَّ يُصَرِّحون بالسَّببِ الَّذي حال بيْنَهم وبيْنَ الإيمانِ وهو الحسدُ، فيقولون: أأَنزَلَ اللهُ عليه القُرآنَ مِن دُونِنا؟!
ويردُّ الله عليهم، فيقولُ: بل هؤلاء المُشرِكونَ في شَكٍّ مِن كَونِ هذا القُرآنِ حَقًّا مِن عندِ اللهِ، بل لَمَّا يَذوقوا عذابي بَعْدُ!
ثمَّ يُنكِرُ الله سبحانَه عليهم اعتراضَهم على اختيارِ نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم للرِّسالةِ، ويُبيِّنُ أنَّه المُتصرِّفُ في مُلْكِه الفعَّالُ لِمَا يَشاءُ، فيقولُ: أمْ عِندَهم مَفاتيحُ رَحمةِ رَبِّك -يا مُحمَّدُ- العزيزِ الوهَّابِ؟ أمْ لهم مُلكُ السَّمَواتِ والأرضِ وما بيْنَهما؟ فإنْ كان لهم ذلك فلْيَصعَدوا في الطُّرُقِ الَّتي تُوصِلُهم إلى ما نَملِكُه حتَّى يَستولوا عليه، ويُدَبِّروا أمْرَه، بحيثُ يَكونونَ قادِرينَ على القيامِ بما يُريدونَه!
ثمَّ يُبشِّرُ الله تعالى رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم بالنَّصرِ عليهم، فيقولُ: فلا تُبالِ بما يَقولونَ -يا مُحمَّدُ-؛ فهم جُندٌ مَهزومونَ ومَغلوبونَ عمَّا قَريبٍ.

تفسير الآيات:

وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا أخبَرَ اللهُ تعالى عن الكُفَّارِ أنَّهم في عِزَّةٍ وشِقاقٍ؛ أردَفَ بما صدَرَ عنهم مِن كَلِماتِهم الفاسِدةِ، مِن نِسبتِهم السِّحرَ والكَذِبَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [51] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/138). .
وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ.
أي: وعَجِبَ كُفَّارُ قُرَيشٍ أنْ جاءَهم رسولٌ منهم [52] قيل: المرادُ بـ مِنْهُمْ: مِن جِنسِهم البَشَريِّ، فلم يُرسَلْ إليهم مَلَكٌ مِن الملائكةِ. وممَّن قال بهذا القولِ: ابنُ جرير، وابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/17)، ((تفسير ابن كثير)) (7/53). وقيل: المرادُ: مِن قَومِهم وأقاربِهم، فهم يَعرِفونَه حَقَّ المعرفةِ، ويَعلَمونَ صِدقَه وأمانتَه ورجاحةَ عَقلِه. ذكَرَ هذا الوجهَ: الرَّازيُّ. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/367). وممَّن جمَع بيْن المعنيَينِ السّابقَينِ: السعديُّ، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 710)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 23، 24). وقال السمرقندي: (مِنْهُمْ يعني: مِن العرَبِ). ((تفسير السمرقندي)) (3/158). وقال البِقاعي: (مُنْذِرٌ مِنْهُمْ أي: مِن البشَرِ، ثمَّ مِن العرَبِ، ثمَّ مِن قُرَيشٍ، ولم يكُنْ مِن الملائكةِ مثلًا، وكان يَنبغي لهم ألَّا يَعجَبوا مِن ذلك؛ فإنَّ كَوْنَ النَّذيرِ بما يَحُلُّ مِن المصائبِ مِن القومِ المُنذَرينَ -مع كَونِه أشرَفَ لهم- أقعَدُ في النِّذارةِ؛ لأنَّهم أعرَفُ به وبما هو مُنطَوٍ عليه؛ مِن صِدقٍ وشفَقةٍ وغيرِ ذلك، وهو الَّذي جرَتْ به العَوائدُ في القديمِ والحديثِ؛ لِكَونِهم إليه أمْيَلَ، فهم لِكلامِه أقْبَلُ). ((نظم الدرر)) (16/327). -وهو مُحمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم-؛ لِيُنذِرَهم عذابَ اللهِ على كُفرِهم وشِرْكِهم [53] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/17)، ((تفسير ابن كثير)) (7/53)، ((تفسير الشوكاني)) (4/482)، ((تفسير السعدي)) (ص: 710). قال ابن عاشور: (المعنى: أنَّه استقَرَّ في نُفوسِهم استِحالةُ بَعثةِ رَسولٍ منهم، فذلك سبَبٌ آخَرُ لانصِرافِهم عن التَّذَكُّرِ بالقُرآنِ). ((تفسير ابن عاشور)) (23/208). .
كما قال تعالى: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ [يونس: 2] .
وقال سُبحانَه: ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ [ق: 1، 2].
وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ.
أي: وقال كُفَّارُ قُرَيشٍ عن مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هذا ساحِرٌ، وليس بنَبيٍّ كما يَزعُمُ [54] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/17)، ((تفسير القرطبي)) (15/149)، ((تفسير ابن عجيبة)) (5/6)، ((تفسير الشوكاني)) (4/483). قيل: مرادُهم بقَولِهم: سَاحِرٌ: أنَّه يجيءُ بالكَلامِ المُمَوَّهِ الَّذي يَخدَعُ به النَّاسَ. وقيل: المرادُ: يُفَرِّقُ بسِحرِه بيْن الوالِدِ وولَدِه، والرَّجُلِ وزَوجتِه. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (15/149). وقيل: أرادوا هو ساحِرٌ بما يُظهِرُه مِن مُعجِزاتٍ. وممَّن قال بهذا المعنى: البيضاوي، وابن عجيبة، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/24)، ((تفسير ابن عجيبة)) (5/6)، ((تفسير الشوكاني)) (4/483). وممَّن قال: إنَّ مرادَهم بقولِهم: ساحرٌ: أنَّه يُفرِّقُ بيْنَ الاثنَينِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/635). وممَّن جمَع بيْن هذه المعاني: البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/328). !
أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا ذكَرَ قَولَهم النَّاشِئَ عن عَجَبِهم؛ ذكَرَ سَبَبَه؛ لِيُعلَمَ أنَّ حالَهم هو الَّذي يُعجَبُ منه، لا حالَ مَن أنذَرَهم [55] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/329). .
وأيضًا فإنَّ اللهَ تعالى حكَى جميعَ ما عَوَّلوا عليه في إثباتِ كَونِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كاذِبًا، وهي ثلاثةُ أشياءَ؛ أحَدُها: ما يَتعَلَّقُ بالإلهيَّاتِ. وثانيها: ما يَتعَلَّقُ بالنُّبُوَّاتِ. وثالِثُها: ما يَتعَلَّقُ بالمَعادِ؛ أمَّا الشُّبهةُ المُتعَلِّقةُ بالإلهيَّاتِ فهي قَولُهم هنا [56] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/367). :
أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا.
أي: أيَأمُرُنا بتَركِ عِبادةِ آلهتِنا كُلِّها، والاقتِصارِ على عبادةِ اللهِ وَحْدَه [57] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/18)، ((تفسير القرطبي)) (15/149)، ((تفسير ابن كثير)) (7/53)، ((تفسير السعدي)) (ص: 710). ؟!
إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ.
أي: إنَّ هذا الأمرَ لَشَيءٌ في غايةِ العَجَبِ [58] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/18)، ((تفسير القرطبي)) (15/149)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/328، 329)، ((تفسير السعدي)) (ص: 710)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 29). !
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6).
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ.
أي: وانطلَقَ الأشرافُ والكُبَراءُ مِن كُفَّارِ قُرَيشٍ قائِلينَ [59] قيل: يقولُ ذلك بعضُهم لبعضٍ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: القرطبيُّ، والشوكانيُّ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (15/151)، ((تفسير الشوكاني)) (4/483). ويُنظر أيضًا: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/330). وقيل: يقولونَ ذلك لأتْباعِهم. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (15/151). : امضُوا فاستَمِرُّوا على دينِكم، واصبِروا على عبادةِ آلهتِكم، ولا تَستَجيبوا لِما يَدْعوكم إليه محمَّدٌ مِن توحيدِ اللهِ [60] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/21)، ((تفسير القرطبي)) (15/151)، ((تفسير ابن كثير)) (7/53)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/330)، ((تفسير السعدي)) (ص: 710). قال ابنُ عثيمين: (هل المرادُ هنا المشيُ بالقَدَمِ؟ أو المرادُ المَشيُ على الطَّريقةِ، بمعنى: سِيروا على طريقتِكم، واصبِروا على آلهتِكم؟ مَن نظَرَ إلى الانطلاقِ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ قال: إنَّ المرادَ بذلك المَشْيُ بالقَدَمِ، بمعنى أنَّهم إذا انطلقوا حثَّ بعضُهم بعضًا على المشيِ والسَّيرِ؛ لئلَّا يَعودوا فيُعَرِّجوا على ما انطلقوا منه، كأنَّهم إنَّما يَنطَلِقونَ فِرارًا... وإذا نظَرْنا إلى المعنى أو إلى عُمومِ أحوالهم قُلْنا: إنَّ المرادَ بذلك المشيُ على الطَّريقةِ، يعني: سِيروا على طريقتِكم ولايُهِمَّنَّكم أحَدٌ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 30، 31). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/21)، ((تفسير القرطبي)) (15/151). وقال البِقاعي: (أَنِ امْشُوا أي: قائلًا كلٌّ منهم لذلك، آمِرًا لِنَفْسِه ولصاحِبِه بالجِدِّ في المُفارَقةِ حالًا ومقالًا). ((نظم الدرر)) (16/330). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بالأمرِ بالمشيِ: الاستِمرارُ على الدِّينِ: ابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/53). ويُنظر أيضًا: ((تفسير السعدي)) (ص: 710). .
كما قال اللهُ تباركَ وتعالى: وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا * إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا [الفرقان: 41، 42].
إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ.
أي: إنَّ ما يَدْعونا إليه محمَّدٌ مِن إفرادِ العبادةِ للهِ، وتَركِ عبادةِ آلهتِنا: لَشَيءٌ يُريدُ به الرِّئاسةَ والاستِعلاءَ علينا، فنكونُ له أتْباعًا يَحكُمُ فينا بما يَشاءُ [61] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/21)، ((تفسير الشوكاني)) (4/483)، ((تفسير السعدي)) (ص: 710). وممَّن قال بهذا المعنى المذكورِ: ابنُ جرير، والشوكاني، والسعدي. يُنظر: المصادر السابقة. وقيل: المرادُ: إنَّ هذا التَّوحيدَ الَّذي جاء به محمَّدٌ أمرٌ يُريدُه بشِدَّةٍ، أي: هو ساعٍ بجِدٍّ وعَزمٍ لِتَحقيقِه. وممَّن قال بهذا المعنى: ابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 31). وقيل: المرادُ: إنَّ الصبرَ لشيءٌ مطلوبٌ؛ لأنَّه محمودُ العاقبةِ. وقيل غيرُ ذلك. يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (12/161). .
مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7).
مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ.
أي: ما سَمِعْنا بهذا الَّذي يَدْعونا إليه مُحمَّدٌ مِن توحيدِ اللهِ في مِلَّةِ النَّصرانيَّةِ [62] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/21، 22)، ((معاني القرآن)) للزجاج (4/322)، ((تفسير القرطبي)) (15/152)، ((تفسير ابن كثير)) (7/55)، ((تفسير السعدي)) (ص: 710). ممَّن اختار أنَّ المرادَ بالمِلَّةِ الآخِرةِ: النَّصرانيَّةُ -فهي آخِرُ ديانةٍ قَبْلَهم، والنَّصارى يقولونَ: إنَّ الله ثالثُ ثلاثةٍ-: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والرسعني، وجلال الدين المحلي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/636)، ((تفسير ابن جرير)) (20/21)، ((تفسير الرسعني)) (6/454)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 598)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 35، 36). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، ومحمَّدُ بنُ كعبٍ القُرَظيُّ، والسُّدِّيُّ، ومجاهدٌ في روايةٍ عنه، وقَتادةُ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/22)، ((تفسير ابن كثير)) (7/55)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/146). وقيل: المرادُ: اليهوديَّةُ والنَّصرانيَّةُ. وممَّن قال بهذا القولِ: السمرقنديُّ، ونسَبَه الماتُريديُّ إلى عامَّةِ أهلِ التَّأويلِ. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/159)، ((تفسير الماتريدي)) (8/607). وقيل: المرادُ: دينُ قُرَيشٍ. وممَّن اختار هذا القولَ: العُلَيمي. يُنظر: ((تفسير العليمي)) (6/8). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/560). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: مجاهدٌ في روايةٍ عنه، وقَتادةُ في روايةٍ عنه، وابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/22)، ((تفسير ابن كثير)) (7/55). قال السعدي: (فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ أي: في الوقتِ الأخيرِ، فلا أدرَكْنا عليه آباءَنا، ولا آباؤُنا أدركوا آباءَهم عليه، فامْضوا على الَّذي مضَى عليه آباؤُكم؛ فإنَّه الحقُّ، وما هذا الَّذي دعا إليه محمَّدٌ إلا اختلاقٌ اختلَقه، وكذِبٌ افتراه! وهذه أيضًا شُبهةٌ مِن جنسِ شبهتِهم الأُولَى، حيثُ ردُّوا الحقَّ بما ليس بحُجَّةٍ لِرَدِّ أدنَى قولٍ، وهو أنَّه قولٌ مخالفٌ لِما عليه آباؤُهم الضَّالُّونَ، فأينَ في هذا ما يدُلُّ على بطلانِه؟!). ((تفسير السعدي)) (ص: 710). وقيل: المرادُ: اليهوديَّةُ والنَّصرانيَّةُ ودينُ آبائِهم. وممَّن قال بهذا القولِ: الزَّجَّاجُ. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/322). .
إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ.
أي: ما هذا الَّذي يَقولُه مُحمَّدٌ إلَّا كَذِبٌ اختلَقَه مِن قِبَلِ نَفْسِه [63] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/25)، ((تفسير السمرقندي)) (3/159)، ((تفسير ابن عطية)) (4/494)، ((تفسير ابن كثير)) (7/55)، ((تفسير السعدي)) (ص: 710)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 37). قال الزمخشري: (قَولُهم: إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ كلامٌ مُخالِفٌ لاعتِقادِهم فيه، يقولونَه على سَبيلِ الحسَدِ). ((تفسير الزمخشري)) (4/74). ويُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/139). .
أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8).
مناسبة الآية لما قبلها:
أنَّ هذا هو الأصلُ الثَّاني مِن أُصولِ كُفرِ المُشرِكينَ، وهو أصلُ إنكارِ بَعثةِ رَسولٍ منهم [64] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/214). ، وهذه هي الشُّبهةُ الثَّانيةُ لأولئك الكُفَّارِ، وهي الشُّبهةُ المُتعَلِّقةُ بالنُّبُوَّاتِ، وهي قَولُهم: إنَّ محمَّدًا لَمَّا كان مُساوِيًا لِغَيرِه في الذَّاتِ، والصِّفاتِ، والخِلقةِ الظَّاهِرةِ، والأخلاقِ الباطِنةِ؛ فكيف يُعقَلُ أن يختَصَّ هو بهذه الدَّرَجةِ العاليةِ، والمَنزِلةِ الشَّريفةِ [65] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/369). ؟!
أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا.
أي: قالوا استِبعادًا واستِنكارًا: أأَنزَل اللهُ القُرآنَ على مُحمَّدٍ، فخُصَّ بالوَحيِ مِن دُونِنا [66] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/26)، ((تفسير القرطبي)) (15/152)، ((تفسير ابن كثير)) (7/55)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/335)، ((تفسير السعدي)) (ص: 710)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/337). ؟!
كما قال اللهُ تعالى: وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31].
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي.
أي: بل [67] قيل: المرادُ: إبطالُ ونَفيُ ألَّا يكونوا عالِمينَ بأنَّ مُحمَّدًا لم يَزَلْ صَدوقًا فيما بيْنَهم. وممَّن قال بهذا المعنى: ابنُ جرير، والقرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/26)، ((تفسير القرطبي)) (15/152). وقيل: المعنى: ليس تخصيصُ اللهِ وإنعامُه جاريًا على شهواتِهم. وممَّن قال بهذا: ابنُ عطيَّة. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/494). وقيل: المعنى: أنَّهم ليست لهم حُجَّةٌ ولا بُرهانٌ، ولا عندَهم عِلمٌ ولا بَيِّنةٌ. وممَّن قال بهذا المعنى في الجملةِ: ابنُ جُزَي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/202)، ((تفسير السعدي)) (ص: 710). وقيل: المعنى: إنَّهم ليسوا جازِمينَ بما قالوا، وإن أكَّدوه غايةَ التَّأكيدِ. وممَّن قال به: البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/336). وقيل: المرادُ: إبطالُ ما ادَّعَوه مِن إرادتِهم نُزولَ القُرآنِ على غيرِ مُحمَّدٍ، أي: هم في شَكٍّ مِن ذِكري، فكيف يَقولونَ: لو نُزِّل على غيرِ محمَّدٍ، والشَّاكُّ في الأصلِ لا يَطلُبُ الفَرعَ أصلًا؟! وممَّن قال بهذا المعنى: ابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 40). المُشرِكونَ في شَكٍّ مِن كَونِ القُرآنِ حَقًّا أُوحيَ إلى محمَّدٍ مِن عندِ اللهِ [68] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/26)، ((تفسير القرطبي)) (15/152)، ((تفسير الألوسي)) (12/161). .
بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ.
أي: بلْ لم يَنزِلْ بَعْدُ بالمُشرِكينَ عَذابي؛ لِتَكذيبِهم رَسولي، وشَكِّهم في كتابي الَّذي أنزَلْتُه عليه، فلو أصابَهم العَذابُ لَأيْقَنوا بصِدقِ ما كانوا يَشُكُّونَ فيه، ويُكَذِّبونَ به [69] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/26)، ((تفسير الزمخشري)) (4/74)، ((تفسير القرطبي)) (15/152)، ((تفسير ابن كثير)) (7/55)، ((تفسير السعدي)) (ص: 710). قال القرطبي: (إنَّما اغتَرُّوا بطُولِ الإمهالِ، ولو ذاقوا عذابي على الشِّركِ لَزال عنهم الشَّكُّ، ولَما قالوا ذلك، ولكِنْ لا يَنفَعُ الإيمانُ حينَئذٍ). ((تفسير القرطبي)) (15/152). .
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9).
أي: أمْ عِندَ المُشرِكينَ مَفاتيحُ رَحمةِ رَبِّك -يا محمَّدُ- العزيزِ الغالِبِ على أمْرِه، الوهَّابِ ما يَشاءُ لِمَن يَشاءُ مِن عبادِه؛ مِن نُبُوَّةٍ، ومُلْكٍ، ونِعمةٍ، فيَهَبوها لِمَن شاؤُوا [70] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/26)، ((تفسير القرطبي)) (15/152)، ((تفسير ابن كثير)) (7/55)، ((تفسير السعدي)) (ص: 710). ؟!
كما قال تعالى: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا * أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا [النساء: 53، 54].
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10).
مناسبة الآية لما قبلها:
أنَّه لَمَّا استَفهَمَ استِفهامَ إنكارٍ في قَولِه: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ، وكان ذلك دليلًا على انتِفاءِ تَصرُّفِهم في خزائِنِ رَحمةِ رَبِّك؛ أتَى بالإنكارِ والتَّوبيخِ بانتِفاءِ ما هو أعَمُّ [71] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/139). .
وأيضًا لَمَّا سَلَب عنهم التَّصَرُّفَ في الخزائِنِ؛ أتْبَعَه نَفْيَ المُلْكِ عمَّا شاهَدوا منها، وهو جزءٌ يَسيرٌ جِدًّا [72] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/338). .
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10).
أي: أمْ للمُشرِكينَ مُلكُ السَّمَواتِ والأرضِ وما بَيْنَهما؟ فإنْ كان لهم ذلك فلْيَصعَدوا إذَنْ في الطُّرُقِ المُوصِلةِ لهم إلى السَّماءِ إن استَطاعوا، بحيثُ يَكونونَ قادِرينَ على القيامِ بما يُريدونَه [73] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/27)، ((تفسير القرطبي)) (15/153)، ((تفسير ابن كثير)) (7/56)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/338)، ((تفسير السعدي)) (ص: 710)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/217). قيل: المرادُ: فلْيَصعَدوا إلى السَّمَواتِ، ولْيَمنَعوا الملائِكةَ مِن إنزالِ الوَحيِ على محمَّدٍ، ولْيَخُصُّوا مَن شاؤُوا بالرِّسالةِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: القرطبيُّ، والبِقاعي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (15/153)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/338)، ((تفسير السعدي)) (ص: 710). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 251). قال البقاعي: (لِيَستوُوا على العَرشِ الَّذي هو أمارةُ المُلكِ، فيُدَبِّروا العالَمَ، فيَخُصُّوا مَن شاؤُوا بالرِّسالةِ؛ لِيُعلمَ أنَّ لهم ذلك، وأنَّه لا يَسوغُ لأحدٍ أن يختَصَّ دُونَهم بشَيءٍ). ((نظم الدرر)) (16/338). وقيل: المعنى: إنْ كان لهم مُلكُ السَّمَواتِ والأرضِ وما بيْنَهما فكان لهم شَيءٌ مِن ذلك، فلْيَصعَدوا إن استطاعوا في أسبابِ السَّمواتِ؛ لِيَخبُروا حقائِقَ الأشياءِ، فيَتكَلَّموا عن عِلمٍ في كُنهِ الإلهِ وصِفاتِه، وفي إمكانِ البَعثِ وعَدَمِه، وفي صِدقِ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم أو ضِدِّه، ولْيَفتَحوا خزائِنَ الرَّحمةِ فيُفيضوا منها على مَن يُعجِبُهم، ويَحرِموا مَن لا يَرمُقونَه بعينِ استِحسانٍ. قاله ابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/217). !
جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11).
مناسبة الآية لما قبلها:
أنَّه لَمَّا قال الله تعالى: إنْ كانوا يَملِكون السَّمَواتِ والأرضَ فلْيَرتَقوا في الأسبابِ؛ ذكَرَ عَقِيبَه أنَّهم جُندٌ مِن الأحزابِ مُنهَزِمونَ ضَعيفونَ، فكيف يَكونونَ مالِكي السَّمَواتِ والأرضِ وما بيْنَهما [74] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/370). ؟!
جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11).
أي: كُفَّارُ قُرَيشٍ جُندٌ مَهزومٌ ذَليلٌ مِنَ المُتحَزِّبينَ على إبطالِ الحَقِّ [75] يُنظر: ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 209)، ((تفسير ابن جرير)) (20/28، 29)، ((تفسير القرطبي)) (15/153)، ((تفسير البيضاوي)) (5/25)، ((تفسير ابن كثير)) (7/56). قال القرطبي: (الكلامُ مرتبِطٌ بما قبلُ، أَيْ: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ وهم جندٌ مِن الأحزابِ مَهْزومونَ، فلا تَغُمَّكَ عِزَّتُهم وشقاقُهم، فإنِّي أهزمُ جَمْعَهم، وأسْلُبُ عِزَّهم. وهذا تأنيسٌ للنَّبِيِّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم، وقد فَعَل بهم هذا في يومِ بدرٍ. قالَ قتادَةُ: وَعَد اللَّهُ أنَّه سيهزمُهم وهم بمكَّةَ فجاءَ تأويلُها يومَ بدرٍ. وَهُنَالِكَ إشارَةٌ لبدرٍ وهو موضعُ تحزُّبِهم لقتالِ محمَّدٍ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم. وقيلَ: المرادُ بالأحزابِ الَّذينَ أتوا المدينةَ وتحزَّبوا على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ... وقيلَ: أرادَ بالأحزابِ القرونَ الماضيةَ مِن الكفَّارِ. أي: هؤلاءِ جُنْدٌ على طريقةِ أولئك). ((تفسير القرطبي)) (15/153). وممن اختار في الجملةِ أنَّ المرادَ بقولِه: جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ أي: قريشٌ الذين هُزِموا وقُتلوا يوم بدر: ابن جرير، وابن أبي زمنين، ومكي، والبغوي، والخازن. ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/28، 29)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/ 83)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6207)، ((تفسير البغوي)) (4/ 55)، ((تفسير الخازن)) (4/32)، وينظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/ 56). وقيل: المرادُ: أنَّهم جندٌ مغلوبٌ، أي: ممنوعٌ عن أنْ يصعَدَ إلى السَّماءِ، وممن اختاره: الفرَّاء، والثعلبي، وقواه ابن عطية. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (2/399)، ((تفسير الثعلبي)) (8/ 180)، ((تفسير ابن عطية)) (4/ 495). قال الشنقيطي بعد أن ذكر أنَّ صيغةَ الأمرِ في قولِه: فَلْيَرْتَقُوا للتعجيز: (قولُه -جلَّ وعلا- بعدَ ذلك التعجيزِ: جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ يُفهَمُ منه أنَّه لو تنطَّع جندٌ مِن الأحزابِ للارتقاءِ في أسبابِ السَّماءِ، أنَّه يرجِعُ مهزومًا صاغِرًا داخِرًا ذليلًا). ((أضواء البيان)) (2/258).  وممن اختار أن المراد: أنَّهم حتى إن استطاعوا الوصولَ إلى السَّماءِ فإنَّهم مهزومون هنالكَ:  ابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 58-59). وقال ابن قتيبة: (وجُنْدٌ بمعنى: حزب لهذه الآلهةِ، يقولُ: هم حزبٌ عندَ ذلك مقموعٌ ذليلٌ مِن الأحزابِ، أي: عندَ هذه المحنِ، وعندَ هذا القولِ، لأنَّهم لا يقدِرونَ أن يدَّعوا لآلهتِهم شيئًا مِن هذا، ولا لأنفسِهم). ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 209) بتصرف. .
كما قال الله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر: 44، 45].

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا وُجوبُ تقديمِ الأهَمِّ في الدَّعوةِ إلى اللهِ؛ لأنَّ الرَّسولَ صلَّى الله عليه وسلَّم أَوَّلَ ما دعا هؤلاءِ إلى التَّوحيدِ لم يَقُلْ: صَلُّوا ولا زَكُّوا ولا صُوموا ولا حُجُّوا، بل دعاهم إلى التَّوحيدِ، وهذا هو شأنُ القُرآنِ، وهذا هو شأنُ سُنَّةِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ العَمليَّةِ؛ فإنَّه لَمَّا بَعَث مُعاذًا إلى اليَمَنِ أمَرَه أنْ يَدْعوَهم أوَّلَ ما يَدْعوهم إليه: إلى شَهادةِ «أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ مُحمَّدًا رسولُ اللهِ» [76] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 32). والحديث أخرجه البخاري (1395) واللفظ له، ومسلم (19) من حديث عبدالله بن عبَّاس رضي الله عنهما. .
2- قَولُ الله تعالى: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إذا تواصى الكُفَّارُ فيما بيْنَهم بالصَّبرِ على آلهتِهم، فالمؤمنونَ أَولَى بالصَّبرِ على عبادةِ مَعبودِهم، والاستِقامةِ في دينِهم [77] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/330). .
3- في قَولِه تعالى: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ * أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ أنَّ الخَلْقَ لا يَملِكونَ خزائنَ رحمةِ اللهِ، ولا يَملِكونَ السمواتِ والأرضَ وما بيْنَهما؛ ولهذا كان الرَّسولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يقولُ: ((اللَّهُمَّ لا مانعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، ولا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ )) [78] أخرجه البخاري (844)، ومسلم (593) مطولًا من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. ، وفي حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهما: ((واعلَمْ أنَّ الأُمَّةَ لو اجتمَعوا على أنْ يَنفعوك بشَيء؛ لم يَنفعوك إلَّا بشَيءٍ قد كَتَبه اللهُ لك، وإنِ اجتمعوا على أنْ يَضُرُّوك بشَيءٍ؛ لم يَضُرُّوك إلَّا بشَيءٍ قد كَتَبَه اللهُ عليك )) [79] أخرجه مطولًا الترمذي (2516)، وأحمد (2669) واللفظ له صحَّحه الترمذيُّ، والألبانيُّ في ((صحيح سنن الترمذي)) (2516)، وابنُ عثيمين في ((تفسير الفاتحة والبقرة)) (1/343)، وحسَّنَ ابنُ رجب في ((جامع العلوم والحِكَم)) (1/459) روايةَ الترمذيِّ، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (4/233)، وقال شعيبٌ الأرناؤوطُ في تخريج ((مسند أحمد)) (2669): (إسنادُه قويٌّ). .
ويَتَفَرَّعُ على هذه الفائدةِ أنَّه لا ينبغي للإنسانِ أنْ يُعَلِّقَ رجاءَه إلَّا باللهِ عزَّ وجلَّ، فإنْ فعَل ذلك سَخَّرَ اللهُ له المخلوقاتِ، حتَّى البَشَرُ يُسَخِّرُهم له، لكنْ إذا تَعَلَّقَ بغيرِ اللهِ وُكِلَ إلى مَن تَعَلَّقَ به [80] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 54). .
4- في قَولِه تعالى: فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ أنَّه لا ينبغي التَّحَدِّي إلَّا بما لا يَستطيعُه المُتَحَدَّى، وهذا يُفيدُ في بابِ المُناظرةِ، وفي بابِ النَّظَرِ؛ لأنَّ النَّاسَ ناظِرٌ ومُناظِرٌ؛ فالنَّاظِرُ هو الَّذي يَتأمَّلُ الأدِلَّةَ مِن ذاتِ نَفْسِه ويَحكُمُ عليها، والمُناظِرُ هو الَّذي يُناقِشُها مع غَيرِه، فمِن فوائِدِ النَّظَرِ والمُناظَرةِ أنَّ الإنسانَ لا يَفرِضُ شَيئًا على وَجهِ التَّحَدِّي إلَّا إذا عَلِم أنَّه غيرُ مُمكِنٍ للمُتَحَدَّى؛ لأنَّه لو فَرَضَ شَيئًا يَتَحَدَّى به، ثمَّ أتَى به المُتَحَدَّى؛ بَطَلَتْ حُجَّتُه وانهارتْ، وانهارتْ قُوَّةُ المدافَعةِ والمهاجَمةِ [81] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 55، 56). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال تعالى: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ في هذه الآيةِ والَّتي بعدَها دَلالةٌ على إفراطِ القومِ في الجَهالةِ، وتَوَغُّلِهم في الضَّلالةِ؛ حيث نسَبوا السِّحرَ والكذِبَ إلى مَن ظهَرَتْ آياتُ رسالتِه، ومُعجزاتُ نُبُوَّتِه، وتَعجَّبوا مِن إثباتِ الوحدانيَّةِ لله تعالى الَّذي خلَقَ ورزَقَ مع إنارةِ براهينِها، ولم يَتعجَّبوا مِن الشِّركِ وعبادةِ الأحجارِ مع وُضوحِ بُطلانِه [82] يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (6/452). ! وأيضًا لأنَّه لم يأتِهم أحدٌ غَريبٌ عليهم؛ لا في جِنسِه ولا في نَسَبِه؛ فالَّذي جاءهم جِنْسُه بَشَرٌ مِثلُهم، ونَسَبُه منهم؛ مِن قُرَيشٍ، ومع ذلك يَعجَبونَ استِنكارًا ممَّا جاءَهم [83] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 25). !
2- في قَولِه تعالى: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ أنَّ التَّعجُّبَ مِن الحقِّ إنكارًا له مِن خِصالِ الَّذين كفروا، وقال تعالى: ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ [ق: 1، 2]. ولا تعجُّبَ إلَّا مِن مُستغرَبٍ، فالوَيْلُ كلُّ الوَيلِ لِمَن كان الحقُّ عندَه غريبًا، وطُوبى لِمَن تعجَّبَ مِن الباطلِ لِغَرابَتِه عندَه [84] يُنظر: ((شجرة المعارف والأحوال)) للعز بن عبد السلام (ص: 100). !
3- في قَولِه تعالى: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص: 4، 5] أنَّ أعداءَ الرُّسُلِ لا يُعادونهم عداءً شخصيًّا؛ ولكنَّهم يُعادونهم عداءً معنويًّا لِمَا جاؤوا به مِن الرسالةِ، ويَتَفَرَّعُ على هذه الفائدةِ أنَّ كلَّ مَنِ اتَّبَعَ الرَّسولَ سَيَجِدُ له أعداءً مِن الكافرينَ والمنافقينَ، ويَتَفَرَّعُ على ذلك تسليةُ مَن وَجَد عداءً مِن أعداءِ اللهِ لِتَمَسُّكِه بكتابِ اللهِ وسُنَّةِ رسولِه، فإنَّه يُقالُ: هذا العِداءُ الَّذي حَصَل لك قد حَصَل لِمَن هو خيرٌ منك؛ فلا تَعْجَبْ [85] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 26). !
4- في قَولِه تعالى: وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أنَّ أعداءَ الرُّسُلِ -بل أعداءَ الرِّسالةِ- يُطْلِقُون ألقابَ السُّوءِ على مَن تَمَسَّكَ بالشَّرعِ، وقد حَصَل هذا [86] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 27). .
5- في قَولِه تعالى: وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أنَّ هؤلاء المُكَذِّبِين للرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لم يُقيموا عليه حُجَّةً، وليس عندَهم إلَّا السَّبُّ والعَيبُ! وكذا شأنُ كلِّ ضعيفِ الحُجَّةِ: أن يَسُبَّ ويَشتُمَ، ويَتَّخِذَ مِن هذا السِّلاحِ مَهْرَبًا ممَّا هو فيه مِن عجزٍ عن مُقارَعةِ الحُجَّةِ بالحُجَّةِ، بخِلافِ المُحِقِّ؛ فإنَّه يُدْلِي بحُجَّتِه بهدوءٍ، دونَ سبٍّ أو قذفٍ [87] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 27). .
6- بيانُ قُوَّةِ تأثيرِ كلامِ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم في نُفوسِ القَومِ؛ لِقَولِهم: هَذَا سَاحِرٌ، والسَّاحِرُ يُؤَثِّرُ في المَسحورِ [88] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 26). .
7- أنَّ أهلَ الباطلِ يَحْنُون على باطلِهم، ويُحافِظونَ عليه، ويَخافونَ مِن تَزَعْزُعِه؛ لِقَولِه: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ، وهكذا أهلُ الباطلِ تَجِدُهم دائمًا يَحوطُون باطِلَهم بالسِّياجِ الَّذي يَمنَعُ مِن الوُصولِ إليه على وَجهٍ يُمَزِّقُ هذا الباطِلَ [89] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 33). .
8- قَولُ الله تعالى: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ أي: يُقصَدُ، أي: له قَصدٌ ونيَّةٌ غيرُ صالحةٍ في ذلك، وهذه شُبهةٌ لا تَرُوجُ إلَّا على السُّفَهاءِ؛ فإنَّ مَن دعا إلى قَولٍ حَقٍّ أو غيرِ حَقٍّ: لا يُرَدُّ قَولُه بالقَدحِ في نيَّتِه؛ فنِيَّتُه وعَمَلُه له، وإنَّما يُرَدُّ بمُقابَلتِه بما يُبطِلُه ويُفسِدُه مِن الحُجَجِ والبَراهينِ [90] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 710). !
9- قَولُه تعالى: أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا فيه الرَّدُّ على مَن قال: إنَّ اللهَ سُبحانَه بنَفْسِه في الأرضِ [91] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (3/746). ! وإثباتُ العُلوِّ لله سُبحانه؛ فالنُّزولُ لا يكونُ إلَّا مِن عُلْوٍ، والقرآنُ كلامُ اللهِ، فإذا كان القرآنُ منزلٌ لَزِم أن يكونَ المُتكلِّمُ به عاليًا [92] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/174). .
10- قَولُ الله تعالى: أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا فيه دَليلٌ على أنَّ مَبدأَ تَكذيبِهم لم يكُنْ إلَّا الحَسَدَ، وقُصورَ النَّظَرِ على الحُطامِ الدُّنيويِّ [93] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/24). .
11- قَولُ الله تعالى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي عدَلَ عن مَظهَرِ العَظَمةِ إلى الإفرادِ؛ لأنَّ هذا السِّياقَ للتَّوحيدِ؛ فإلافرادُ أَولى به، ولِيَكونَ نَصًّا على المرادِ بعدَ ذِكرِ آلهتِهم؛ قَطعًا لِشُبَهِ مُتعنِّتِيهم [94] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/336). .
12- في قَولِه تعالى: بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ أنَّ الكلماتِ تُفَسَّرُ بحسَبِ السِّياقِ، فالذَّوقُ في الأصلِ إنَّما هو للطَّعامِ والشَّرابِ؛ ولكنْ قد يُرادُ به ما أصابَ الإنسانَ إصابةً مباشرةً؛ فإنه يُسمَّى مَذُوقًا [95] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 46). .
13- قَولُ الله تعالى: أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا المرادُ مِن هذا الكَلامِ مُغايرٌ للمُرادِ مِن قَولِه: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ، والفَرقُ أنَّ خزائِنَ اللهِ تعالى غيرُ مُتناهِيةٍ، كما قال: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ [الحجر: 21]، ومِن جُملةِ تلك الخزائِنِ: هذه السَّمَواتُ والأرضُ، فلمَّا ذكَرَ الخزائِنَ أوَّلًا على عُمومِها أردَفَها بذِكرِ مُلكِ السَّمواتِ والأرضِ وما بيْنَهما، يعني: أنَّ هذه الأشياءَ أحدُ أنواعِ خزائِنِ اللهِ؛ فإذا كنتُم عاجِزينَ عن هذا القِسمِ، فبأنْ تكونوا عاجِزينَ عن كُلِّ خزائِنِ اللهِ كان أَوْلى [96] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/370). .
14- في قَولِه تعالى: وَمَا بَيْنَهُمَا عِظَمُ ما بيْنَ السَّماءِ والأرضِ؛ ووجهُه: أنَّ اللهَ تعالى جَعَل ما بيْنَهما قَسيمًا لهما، والقَسيمُ لا بُدَّ أنْ يكونَ مُعادِلًا أو مُقارِبًا لقَسيمِه، لا يُمكِنُ أنْ تأتيَ بشَيءٍ عظيمٍ تُقارِنُ بيْنَه وبيْنَ شَيءٍ بعيدٍ منه في العِظَمِ [97] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 55). !

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ بعْدَ أنْ كُشِف ما انطَوَتْ عليه نُفوسُهم مِنَ العِزَّةِ والشِّقاقِ، وإحالةِ بَعثةِ رسولٍ للبشَرِ مِن جِنسِهم، حُوسِبوا بما صَرَّحوا به مِنَ القَولِ؛ إشارةً بهذا التَّرتيبِ إلى أنَّ مَقالتَهم هذه نتيجةٌ لعقيدتِهم تلك [98] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/209). .
- وأيضًا قَولُه: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ حِكايةٌ لأباطيلِهمُ المُتفرِّعةِ على ما حُكيَ مِن استِكبارِهم وشِقاقِهم، أي: عَجِبُوا مِن أنْ جاءَهم رسولٌ مِن جِنسِهم، بلْ أَدْوَنُ مِنهم في الرِّياسةِ الدُّنيويَّةِ والمالِ، على معنَى أنَّهم عَدُّوا ذلك أمرًا عجيبًا خارِجًا عنِ احتِمالِ الوُقوعِ، وأَنكَرُوه أشَدَّ الإنكار، لا أنَّهمُ اعتَقَدُوا وُقوعَه وتَعَجَّبوا منه [99] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/214). .
- وفي قَولِه: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ عَبَّر عنِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بوَصفِ المُنذِرِ، ووُصِفَ بأنَّه منهم؛ للإشارةِ إلى سُوءِ نظَرِهم مِن عَجَبِهم؛ لأنَّ شأنَ النَّذيرِ أنْ يَكونَ مِنَ القَومِ ممَّن يَنصَحُ لهم، فكَوْنُه منهم أَوْلى مِن أنْ يَكونَ مِن غَيرِهم، ثمَّ إنْ كان التَّبعيضُ المُستفادُ مِن حرفِ (مِن) مُرادًا به أنَّه بعضُ العربِ أو بعضُ قُرَيشٍ؛ فأَمْرُ تَجهيلِهم في عَجَبِهم مِن هذا النَّذيرِ بَيِّنٌ، وإنْ كان مُرادًا به أنَّه بعضُ البشَرِ، فتَجهيلُهم لِأنَّ مَن كان مِن جِنسِهم أَجدَرُ بأنْ يَنصَحَ لهم مِن رسولٍ مِن جِنسٍ آخَرَ كالمَلائكةِ، وهذه جَدارةٌ عُرْفيَّةٌ [100] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/209). .
- قَولُ الله تعالى: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ لَمَّا كان تَعجُّبُهم مِن مُطلَقِ نِذارتِه لا مُبالَغتِه فيها، أتَى باسمِ الفاعِلِ دونَ فَعيلٍ، فقال: مُنْذِرٌ مِنْهُمْ [101] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/327). .
- وعُبِّرَ بجُملةِ وَقَالَ الْكَافِرُونَ، ولم يُقَلْ: (وقالوا)؛ فوُضِعَ فيه الظَّاهرُ مَوضِعَ الضَّميرِ؛ إظهارًا للغضبِ عليهم، وتَنبيهًا على الصِّفةِ الَّتي أوجبَتْ لهمُ العجَبَ، حتَّى نَسَبوا مَن جاء بالهُدى والتَّوحيدِ إلى السِّحرِ والكَذِبِ، ودَلالةً على أنَّ هذا القَولَ لا يَجسُرُ عليه إلَّا الكافِرونَ المُتَوَغِّلونَ في الكفرِ، المُنهمِكونَ في الغَيِّ، ولقَصدِ وَصْفِهم بأنَّهم كافِرونَ برَبِّهم مُقابَلةً لِمَا وَصَموا به النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فوُصِفوا بما هو شَتمٌ لهم يَجمَعُ ضُروبًا مِنَ الشَّتمِ تأصيلًا وتفريعًا، وهو الكفرُ الَّذي هو جِماعُ فَسادِ التَّفكيرِ، وفاسِدِ الأعمالِ [102] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/72)، ((تفسير البيضاوي)) (5/24)، ((تفسير أبي حيان)) (9/138)، ((تفسير أبي السعود)) (7/214)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/209)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/327). .
- وفي قَولِه: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قاله هنا بالواوِ، وقال في سورةِ (ق): بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ [ق: 2] ؛ فقاله بالفاءِ. ووجْهُ ذلك: أنَّ ما في سُورةِ (ق) أشَدُّ اتِّصالًا منه في سورة (ص)؛ لأنَّ ما في (ص) مُتَّصِلٌ بما قبْلَه اتِّصالًا مَعنويًّا فقطْ، وهو أنَّهم عَجِبوا مِن مَجيءِ المُنذِرِ، وقالوا: هذا ساحرٌ كذَّابٌ! وما في سورةِ (ق) مُتَّصِلٌ بما قبْلَه اتِّصالًا لَفظيًّا ومَعنويًّا، وهو أنَّهم عَجِبوا عَقِبَ الإخبارِ عنهم بأنَّهم عَجِبوا، فقالوا: هذا شَىءٌ عجيبٌ؛ فناسَبَ فيه ذِكرُ الفاءِ دُونَ ما هنا [103] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 485). .
- وأشارُوا بلفظِ هَذَا في قَولِه: هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ استَعمَلوا اسمَ الإشارةِ لتَحقيرِ مِثلِه في قَولِهم: أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ [104] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/209). [الأنبياء: 36] .
2- قولُه تعالَى: أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ
- قَولُه: أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ الهمزةُ للاستِفهامِ الإنكاريِّ التَّعجُّبيِّ؛ ولذلك أتْبَعوهُ بما هو كالعِلَّةِ لقَولِهم: سَاحِرٌ، وهو: إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ أي: يُتعجَّبُ منه، كما يُتعجَّبُ مِن شَعوذةِ السَّاحرِ، أو تعَجَّبوا مِن هذا الحَصرِ؛ لأنَّهم قاسُوا الغائبَ على الشَّاهِدِ؛ جَهلًا منهم، وارتِطامًا بسُوءِ الغَفلةِ [105] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/210)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/327). .
- وأيضًا قَولُه: أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ مِثلُ قَولِه: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا [الزخرف: 19] ؛ في أنَّ معنَى الجَعلِ التَّصييرُ في القَولِ على سبيلِ الدَّعْوَى والزَّعمِ، كأنَّه قال: أجَعَلَ الجَماعةَ واحِدًا في قَولِه؟! لأنَّ ذلك في الفِعلِ مُحالٌ، فلا يَقدِرُ أحَدٌ أنْ يَجعَلَ الجَماعةَ إنسانًا واحدًا [106] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/73)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/235). .
- و عُجَابٌ: أى: بَليغٌ في العجَبِ، وهو وصْفٌ للشَّيءِ الَّذي يُتعجَّبُ منه كثيرًا؛ لأنَّ وزنَ (فُعالٍ) يدُلُّ على تَمكُّنِ الوَصفِ، مِثلَ: (طُوالٍ) بمعنَى المُفرِطِ في الطُّولِ، و(كُرامٍ) بمعنَى الكثيرِ الكَرَمِ، فهو أبْلَغُ مِن كريمٍ. وقد ابتَدَؤوا الإنكارَ بأوَّلِ أصلٍ مِن أُصولِ كُفرِهم؛ فإنَّ أُصولَ كُفرِهم ثلاثةٌ: الإشراكُ، وتَكذيبُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإنكارُ البَعثِ والجَزاءِ في الآخِرةِ [107] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/73)، ((تفسير البيضاوي)) (5/24)، ((تفسير أبي حيان)) (9/138)، ((تفسير أبي السعود)) (7/214)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/210). .
3- قولُه تعالَى: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ
 - (أنْ) في قَولِه: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ تَفسيريَّةٌ؛ ولَمَّا أُسنِدَ الانطِلاقُ إلى المَلأِ منهم على أنَّهم ما كانوا لِيَنطَلِقوا إلَّا لتَدبيرٍ في ماذا يَصنَعونَ، فكان ذلك مُقتَضيًا تَحاوُرًا وتَقاوُلًا احتِيجَ إلى تَفسيرِه بجُملةِ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ ... إلخ [108] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/138)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/211)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/330). ، وكان انطِلاقُهم مُضَمَّنًا معنَى القَولِ [109] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/73). .
- والتَّعبيرُ بحَرفِ الاستعلاءِ عَلَى في قَولِه: وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ يدُلُّ على تَضمينِ (اصْبِرُوا) معنَى: اعكُفوا واثبُتوا [110] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/139)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/211). .
- وجملةُ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ تعليلٌ للأمرِ بالصَّبرِ على آلهتِهم؛ لقَصدِ تَقويةِ شَكِّهم في صحَّةِ دَعوةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنَّها شَيءٌ أرادَه لغرَضٍ، أي: ليس صادِقًا، ولكنَّه مَصنوعٌ مُرادٌ منه مَقصَدٌ، كما يُقالُ: هذا أمْرٌ دُبِّرَ بلَيلٍ؛ فالإشارةُ بـ هَذَا إلى ما كانوا يَسمَعونَه مِن دَعوةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إيَّاهم أنْ يَقولوا: لا إلهَ إلَّا اللهُ [111] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/212)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/330). .
- وقيل: إنَّ جملةَ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ كَلِمةٌ تُذكَرُ للتَّهديدِ والتَّخويفِ، والمعنى -على قولٍ-: إنَّه ليس غَرَضُه مِن هذا القَولِ تَقريرًا للدِّينِ، وإنَّما غَرَضُه أنْ يَستَوليَ علينا، فيَحكُمَ في أموالِنا وأولادِنا بما يُريدُ [112] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/139). .
4- قولُه تعالَى: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ جُملةٌ مُستأنَفةٌ، أو مُبَيِّنةٌ لجُملةِ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ؛ لأنَّ عدَمَ سَماعِ مِثلِه يُبَيِّنُ أنَّه شَيءٌ مُصطَنَعٌ مُبتَدَعٌ. وإعادةُ اسمِ الإشارةِ مِن وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوضِعَ المُضمَرِ؛ لقَصدِ زيادةِ تَمييزِه. ونَفيُ السَّماعِ هنا خبَرٌ مُستعمَلٌ كِنايةً عن الاستِبعادِ، والاتِّهامِ بالكَذِبِ [113] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/212). .
- والمَجرورُ فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ يَجوزُ أنْ يَكونَ ظَرفًا مُستقَرًّا [114] الظَّرْف المُستقَرُّ -بفتح القاف-: سُمِّي بذلك؛ لاستِقرارِ الضَّميرِ فيه بَعْدَ حذْفِ عامِلِه، وهو الفِعلُ (استقرَّ)، ولأنَّه حينَ يصيرُ خبرًا مثلًا يَنتقِلُ إليه الضَّميرُ مِن عامِلِه المحذوفِ ويَستقِرُّ فيه؛ وبسببِ هذين الأمْرَينِ استحقَّ عاملُه الحذفَ وجوبًا. فإذا أُلغِيَ الضَّميرُ فيه سُمِّي ظرفًا لَغوًا؛ لأنَّه فَضلةٌ لا يُهتَمُّ به، وسُمِّيَ أيضًا «اللَّغوُ» لغوًا؛ لأنَّ وُجودَه ضئيلٌ. فقولك: كان في الدَّارِ زَيدٌ، أي: كان مُستقِرًّا في الدَّارِ زيدٌ؛ فالظَّرفُ مُستقَرٌّ فيه، ثمَّ حُذِف الجارُّ، كما يُقالُ: المحصولُ للمَحصولِ عليه، ولم يُستحسَنْ تقديمُ الظَّرفِ اللَّغوِ، وهو ما ناصِبُه ظاهِرٌ؛ لأنَّه -إذَنْ- فَضلةٌ؛ فلا يُهتمُّ به، نحو: كان زيدٌ جالسًا عندَك. يُنظر: ((شرح الرضي على الكافية)) (4/210)، ((موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب)) لخالد الأزهري (ص: 82)، ((النحو الوافي)) لعباس حسن (2/446، 447). في مَوضِعِ الحالِ مِنِ اسمِ الإشارةِ؛ بيانًا للمَقصودِ مِنَ الإشارةِ، مُتعلِّقًا بفِعلِ سَمِعْنَا، والمعنَى: ما سَمِعْنا بهذا قبْلَ اليَومِ؛ فلا نَعتَدُّ به. ويَجوزُ على هذا التَّقديرِ أنْ يَكونَ المُرادُ بـ الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ دِينَ النَّصارى، وعليه فالمُشرِكونَ استَشهَدوا على بُطلانِ تَوحيدِ الإلهِ بأنَّ دِينَ النَّصارى الَّذي ظهَرَ قبْلَ الإسلامِ أثبَتَ تَعدُّدَ الآلهةِ، ويَكونَ نَفْيُ السَّماعِ كِنايةً عن سَماعِ ضِدِّه، وهو تَعدُّدُ الآلهةِ. ويَجوزُ أنْ يُريدوا بـ الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ الَّتي هُم عليها؛ فقَولُهم: فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ كِنايةٌ عن استِمرارِ انتِفاءِ هذا إلى الزَّمنِ الأخيرِ، فيُعلَمُ أنَّ انتِفاءَه في مِلَّتِهمُ الأُولى بالأحْرَى [115] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/212، 213). .
- وجملةُ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ مُبَيِّنةٌ لجُملةِ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا، وهذا هو المُتحصِّلُ مِن كَلامِهمُ المَبدوءِ بـ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ؛ فهذه الجُملةُ كالفَذْلَكةِ [116] الفَذْلكةُ: مِن فَذْلَكَ حِسابَه فَذْلَكةً، أي: أَنْهاهُ وفَرَغ منه، وذكَر مُجمَلَ ما فُصِّل أوَّلًا وخُلاصتَه. و(الفَذْلكةُ) كلمةٌ منحوتةٌ كـ (البَسملة) و(الحوقلة)، مِن قولِهم: (فذَلِكَ كذَا وكذَا عددًا). ويُرادُ بالفَذْلَكةِ النَّتيجةُ لِمَا سبَق مِن الكلامِ، والتَّفريعُ عليه، ومنها فَذْلَكةُ الحسابِ، أي: مُجمَلُ تفاصيلِه، وإنهاؤُه، والفراغُ منه، كقولِه تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ بعْدَ قولِه: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة: 196] . يُنظر: ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (27/293)، ((كناشة النوادر)) لعبد السلام هارون (ص: 17)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 638، 639). لكَلامِهم [117] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/213). .
5- قولُه تعالَى: أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ
- قَولُه: أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا استِفهامٌ إنكاريٌّ، ومَناطُ الإنكارِ هو الظَّرفُ: مِنْ بَيْنِنَا، وهو في مَوضِعِ حالٍ مِن ضَميرِ عَلَيْهِ؛ أنكَروا أنْ يُختَصَّ بالشَّرفِ مِن بيْنِ أشرافِهم ورُؤسائِهم، ويُنزَلَ عليه الكِتابُ مِن بيْنِهم، كما قالوا: لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] ، فهُم قالوا ذلك قديمًا ورَدَّدُوه مِرارًا؛ تَنفيسًا عن الغَيظِ الَّذي تَجيشُ به نُفوسُهم، والمَوْجِدةِ الَّتي تَعتلِجُ في ضَمائرِهم، فهذا الإنكارُ ترجمةٌ عمَّا كانت تَغْلي به صُدورُهم مِنَ الحسَدِ على ما أُوتيَ مِن شرَفِ النُّبوَّةِ مِن بيْنِهم، ولم يُريدوا بهذا الإنكارِ تَجويزَ أصلِ الرِّسالةِ عنِ اللهِ، وإنَّما مُرادُهمُ استِقصاءُ الاستِبعادِ؛ فإنَّهم أَنكَروا أصْلَ الرِّسالةِ كما اقتَضاهُ قَولُه: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ [ص: 4] وغَيرُه مِنَ الآياتِ [118] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/74)، ((تفسير أبي حيان)) (9/139)، ((تفسير أبي السعود)) (7/216)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/213)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/330، 331). .
- ويَجوزُ أنْ يَكونَ أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا مِن كلامِ عُمومِ الكافِرينَ المَحْكيِّ بقَولِه: وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ [ص: 4] ؛ فيَكونَ مُتَّصِلًا بقَولِه: أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا [ص: 5] ، ويَكونَ قَولُه: أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ بيانًا لجُملةِ كَذَّابٌ [ص: 4] ؛ لأنَّ تَقديرَه: هذا كذَّابٌ؛ إذْ هو خبَرٌ ثانٍ لـ (كان)، ولِكَونِه بيانًا لِلَّذي قبْلَه لم يُعطَفْ عليه، ويَكونَ ما بيْنَهما مِن قَولِه: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ [ص: 6] إلى قَولِه: إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ [ص: 7] اعتِراضًا بيْن جُملتَيِ البَيانِ. ويَجوزُ أنْ يَكونَ مِن تمامِ كَلامِ المَلأِ، واستُغنيَ به عن بَيانِ جُملةِ كَذَّابٌ [ص: 4] ؛ لأنَّ نُطقَ المَلأِ به كافٍ في قَولِ الآخَرينَ بمُوجَبِه؛ فاستَغنَوا عن بَيانِ جُملةِ كَذَّابٌ [119] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/213). [ص: 4] .
- قَولُه: أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا ... فيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قاله هنا بلفظِ: أَؤُنْزِلَ، وفي سُورةِ (القمر) قالَه بلفظِ: أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا [القمر: 25]؛ ومُناسَبةُ ذلك -فيما قيل-: أنَّ ما هنا حِكايةٌ عن كفَّارِ قُرَيشٍ؛ فناسَبَ التَّعبيرُ به لِوُقوعِه إنكارًا لِما قَرأهُ عليهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن قَولِه: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44] ، وما في سُورةِ (القَمر) حِكايةٌ عن قَومِ صالحٍ، وكانت الأنبياءُ تُلْقَى إليهم صُحُفٌ مَكتوبةٌ؛ فناسَبَ التَّعبيرُ بـ (أُلْقِيَ).
وقُدِّم الجارُّ والمَجرورُ على الذِّكرِ هنا؛ مُوافَقةً لِما قَرأهُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على المُنكِرينَ، وعكَسَ في (القَمرِ)؛ جَريًا على الأصلِ مِن تَقديمِ المَفعولِ بلا واسِطةٍ على المَفعولِ بواسِطةٍ [120] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 486). ، واللهُ أعلَمُ.
- قَولُه: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ يَجوزُ أنْ يَكونَ جوابًا عن قَولِهم: أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا، أي: ليس قَصدُهمُ الطَّعنَ في اختِصاصِكَ بالرِّسالةِ، ولكنَّهم شاكُّونَ في أصلِ إنزالِه، فتكون بَلْ إضرابًا إبطاليًّا؛ تكذيبًا لِما يَظهَرُ مِن إنكارِهم إنزالَ الذِّكرِ عليه مِن بيْنِهم على ما تَقدَّمَ، أي: إنَّما قَصدُهمُ الشَّكُّ في أنَّ اللهَ يُوحي إلى أحَدٍ بالرِّسالةِ. ويَجوزُ أنْ يَكونَ انتِقالًا مِن خبرٍ عنهم إلى خبرٍ آخَرَ، فيَكونَ استِئنافًا، وتَكونَ بَلْ للإضرابِ الانتِقاليِّ، والمعنَى: وهُم في شَكٍّ مِن ذِكري، أي: في شَكٍّ مِن كُنْهِ القرآنِ؛ فمرَّةً يَقولونَ: افتَراهُ، ومرَّةً يَقولونَ: شِعرٌ، ومرَّةً: سِحرٌ، ومرَّةً: أساطيرُ الأوَّلينَ، ومرَّةً: قَولُ كاهِنٍ! فالمُرادُ بالشَّكِّ حقيقتُه، أي: التَّردُّدُ في العِلمِ [121] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/214). .
- وقَولُه تعالى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي قيل: الظَّاهرُ أنَّه مُتَّصِلٌ بفاتحةِ السُّورةِ، أي: بـ ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ [ص: 1] ؛ لأنَّهما حَديثانِ في الذِّكرِ، ومِن قَولِه: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ [ص: 4] إلى هاهنا حديثٌ في النُّبوَّةِ؛ فيَكونُ بَلْ إضرابًا عمَّا أُثبِتَ في الإضرابِ السَّابِقِ، كأنَّه لَمَّا قيل: أقسَمْتُ بـ ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ [ص: 1] أنَّ صِدقَه ظاهِرٌ، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ [ص: 2] : في عِنادٍ واستِكبارٍ عنِ الإذعانِ لذلك، وفي (شِقَاقٍ) [ص: 2] للهِ ولرَسولِه، ثمَّ عقَّبَ بقَولِه: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ [ص: 4] مُستطردًا، وبيَّن تَعجُّبَهم بقَولِه: أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا [ص: 5] بِناءً على التَّقليدِ، ثمَّ بقَولِه: أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بِناءً على الحسدِ- فُهِمَ مِن ذلك أنَّهم مُترَدِّدونَ في أنفُسِهم في أنَّ القرآنَ إمَّا حقٌّ وإمَّا باطلٌ، يَقولونَ في أنفُسِهم: إمَّا وإمَّا؛ فحينَ نَظَروا إلى نَظمِه وإعجازِه قالوا: حقٌّ، وحينَ نَظَروا إلى التَّقليدِ إلى أنَّهم أحَقُّ به منه قالوا: هو باطلٌ، فأضرَب اللهُ تعالى عن إثباتِ العِزَّةِ والشِّقاقِ بقَولِه: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي، وحينَ كان بِناءُ الشَّكِّ على شُبهةٍ رَكيكةٍ ومُقدِّمةٍ واهيةٍ لا تُقاوِمُ ذلك اليقينَ، أضرَب عنه بقَولِه: بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ، ثمَّ جيءَ بإضرابٍ آخَرَ على أسلوبٍ غيْرِ الأوَّلِ، وهو قَولُه: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ [122] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/238، 239). [ص: 9] .
- قَولُه: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي الإخبارُ بأنَّهم في شَكٍّ يَقتَضي كَذِبَهم في قَولِهم: إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ [123] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/139). .
- إضافةُ الذِّكرِ إلى ضَميرِ المُتكلِّمِ -وهو اللهُ تعالى- في قَولِه: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ إضافةُ تَشريفٍ، ولتَحقيقِ كَونِه مِن عِندِ اللهِ. والذِّكرُ على هذا الوجهِ هو عَيْنُ المُرادِ مِن قَولِه: أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ، وإنَّما وقَعَ التَّعبيرُ عنه بالظَّاهِرِ دُونَ الضَّميرِ؛ تَوصُّلًا إلى التَّنويهِ به بأنَّه مِن عِندِ اللهِ تعالى [124] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/214). .
- في قَولِه: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي جُعِلَتْ مُلابَسةُ الشَّكِّ إيَّاهم بمنزلةِ الظَّرفِ المُحيطِ بالمظروفِ في أنَّه لا يَخْلو منه جانبٌ مِن جَوانِبِه [125] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/214). .
- ومِنْ في قَولِه: مِنْ ذِكْرِي ابتِدائيَّةٌ؛ لكَونِ الشَّكِّ صِفةً لهم، أي: نَشأَ لهمُ الشَّكُّ مِن شأنِ ذِكري، أي: مِن جانِبِ نَفْيِ وُقوعِه، أو في جانبِ ما يَصِفونَه به [126] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/214، 215). .
- قولُه: بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ بَلْ للإضرابِ، أي: إنَّهم لم يَذُوقوا عَذابي بعْدُ، فإذا ذاقُوه زالَ عنهم ما بهم مِنَ الشَّكِّ والحسَدِ حينَئذٍ، يعني: أنَّهم لا يُصَدِّقونَ به إلَّا أنْ يَمَسَّهُمُ العَذابُ مُضْطَرِّينَ إلى تَصديقِه. وفي لَمَّا دَلالةٌ على أنَّ ذَوْقَهمُ العَذابَ على شرَفِ الوُقوعِ، والمعنَى: أنَّهم لا يُصَدِّقونَ به حتَّى يَمَسَّهمُ العَذابُ. وقيل: لم يَذُوقوا عذابي الموعودَ في القرآنِ؛ ولذلك شَكُّوا فيه، وهذا يُبَيِّنُ أنَّ الَّذي جَرَّأهم على هذا الشِّقاقِ أنَّهم لَمَّا تأخَّرَ حُلولُ العَذابِ بهم ظَنُّوا وَعيدَه كاذِبًا، فأخَذوا في البَذاءةِ والاستِهزاءِ، ولو ذاقوا العَذابَ لأُلقِمَتْ أفواهُهمُ الحَجَرَ.
 والإضرابُ هنا مُتعلِّقٌ بالكَلامَينِ السَّابِقَينِ، بمعنَى: أنَّه لَمَّا وَبَّخَهم أوَّلًا على ما بهم مِنَ الحسَدِ وما تَغْلي به صُدورُهم على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بما اختُصَّ بشرَفِ النُّبوَّةِ مِن بيْنِهم، ثمَّ على الشَّكِّ فيما لا شَكَّ فيه، ولا يَحومُ حَوْلَه؛ جاءَ بتَوبيخٍ أغلَظَ مِنهما [127] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/74)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/238)، ((تفسير أبي السعود)) (7/216)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/215). .
- وأيضًا قَولُه: بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ أي: (عذابي)، وإضافةُ عَذَابِ إلى ياءِ المُتكلِّمِ؛ لاختِصاصِه باللهِ؛ لأنَّه مُقَدِّرُه، وقاضٍ به عليهم، ولِوُقوعِه على حالةٍ غَيرِ جاريةٍ على المعتادِ؛ إذِ الشَّأنُ أنْ يَستأصِلَ الجَيشُ القَويُّ الجَيشَ القليلَ. وحُذِفَتْ ياءُ المُتكلِّمِ؛ تَخفيفًا للفاصِلةِ، وأُبقيَتِ الكَسرةُ دليلًا عليها [128] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/215). .
6- قولُه تعالَى: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ
- قَولُه: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ أَمْ مُنقطِعةٌ، وهي للإضرابِ الانتِقاليِّ، وهي مُشعِرةٌ باستِفهامٍ بعْدَها هو للإنكارِ والتَّوبيخِ؛ إنكارًا لقَولِهم: أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا [ص: 8] ، أي: ليست خَزائنُ فَضلِ اللهِ تعالى عِندَهم فيَتصَدَّوا لحِرمانِ مَن يَشاؤُونَ حِرمانَه مِن مَواهِبِ الخَيرِ؛ فإنَّ المَواهِبَ مِنَ اللهِ يُصيبُ بها مَن يَشاءُ، فهو يَختارُ للنُّبوَّةِ مَن يَصطَفيهِ، وليس الاختِيارُ لهم فيَجعَلوا مَن لم يُقَدِّموهُ عليهم في دِينِهم غيْرَ أهلٍ لِأنْ يَختارَهُ اللهُ [129] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/139)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/215، 216). .
- وتقديمُ الظَّرفِ عِنْدَهُمْ؛ للاهتِمامِ؛ لأنَّه مَناطُ الإنكارِ، وهو كقَولِه تعالى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ [130] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/216). [الزخرف: 32] .
- والخَزائنُ: جمْعُ خِزانةٍ -بكسرِ الخاءِ- وهي البَيتُ الَّذي يُخزنُ فيه المالُ أو الطَّعامُ، والخَزْنُ: الحِفظُ والحِرْزُ. والرَّحمةُ: ما به رِفْقٌ بالغَيرِ وإحسانٌ إليه، وفي قولِه: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ شُبِّهَتْ رحمةُ اللهِ بالشَّيءِ النَّفيسِ المَخزونِ الَّذي تَطمَحُ إليه النُّفوسِ في أنَّه لا يُعطَى إلَّا بمَشيئةِ خازِنِه [131] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/216)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/216). .
- الإضافةُ في خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ على معنَى لامِ الاختِصاصِ. والعُدولُ عنِ اسمِ الجَلالةِ (الله) إلى وصْفِ (الرَّبِّ)؛ لأنَّ له مَزيدَ مُناسَبةٍ للغرَضِ الَّذي الكَلامُ فيه؛ إيماءً إلى أنَّ تَشريفَه إيَّاهُ بالنُّبوَّةِ، واللُّطفَ به مِن آثارِ صِفةِ رُبوبيَّتِه له؛ لأنَّ وَصْفَ الرَّبِّ مُؤْذِنٌ بالعِنايةِ والتَّربيةِ، والإبلاغِ إلى الكَمالِ [132] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/216)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/216). .
- وفي قَولِه: رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ أُجريَ على الرَّبِّ صِفةُ (العَزيز)؛ لإبطالِ تَدخُّلِهم في تَصرُّفاتِه، وصِفةُ (الوَهَّاب)؛ لإبطالِ جَعلِهمُ الحِرمانَ مِنَ الخَيرِ تابِعًا لرَغَباتِهم دُونَ موادَّةِ اللهِ تعالى [133] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/216). .
وأيضًا فالعزيزُ: لمُقابَلةِ هؤلاء الَّذين كانوا في عِزَّةٍ وشِقَاقٍ؛ لِيُبَيِّنَ أنَّ عِزَّةَ اللهِ فوقَ عِزَّتِهم وأَنَفَتِهم وحَمِيَّتِهم؛ وأنَّه غالبٌ لهم وقاهرٌ لهم، والوَهَّابُ بالنِّسبةِ للرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم يعني أنَّه وَهَبَه النُّبُوَّةَ [134] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 47). .
- ومعنَى المُبالَغةِ في الْوَهَّابِ راجِعٌ إلى خطَرِ المَوهِبةِ وعِظَمِها، وهي: النُّبوَّةُ [135] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/239). .
7- قَولُه تعالى: أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ
- قَولُه: أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إضرابٌ انتِقاليٌّ إلى رَدٍّ يأتي على جميعِ مَزاعِمِهم، ويَشملُ بإجمالِه جميعَ النُّقوضِ التَّفصيليَّةِ لمَزاعِمِهم بكَلِمةٍ جامِعةٍ كالحَوصَلةِ؛ فيُشْبِهُ التَّذييلَ لِما يَتضمَّنُه مِن عُمومِ المُلكِ، وعُمومِ الأماكِنِ المُقتَضي عُمومَ العِلمِ، وعُمومَ التَّصرُّفِ، يَنعَى عليهم قَولَهم في المُغَيَّباتِ بلا عِلمٍ، وتَحكُّمَهم في مَراتبِ المَوجوداتِ بدُونِ قُدرةٍ ولا غِنًى [136] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/216). .
- وفي قَولِه: أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا كأنَّه لَمَّا أنكَر عليهمُ التَّصرُّفَ في نُبوَّتِه بأنْ ليس عِندَهم خَزائنُ رحمتِه الَّتي لا نِهايةَ لها؛ أردَفَ ذلك بأنَّه ليس لهم مَدخَلٌ في أمرِ هذا العالَمِ الجُسمانيِّ الَّذي هو جُزءٌ يَسيرٌ مِن خَزائنِه، فمِن أين لهم أنْ يَتصرَّفوا فيه، وحتَّى يَتكلَّموا في الأمورِ الرَّبانيَّةِ، ويَتحكَّموا في التَّدابيرِ الإلهيَّةِ الَّتي يَستأثِرُ بها ربُّ العِزَّةِ والكِبرياءِ؟! والخُلاصةُ: أنَّه تَرقَّى مِنَ الإضرابِ الأوَّلِ، وتَمَّم ما أفادَه مِنَ المُبالَغةِ؛ فإنَّ قَولَه: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ أفادَ تَقريرًا بأنَّ اللهَ العزيزَ الوهَّابَ وضَعَ عِندَهم خَزائنَه وأمَرَهم أنْ يَقسِموها على مَن أَرادوا؛ فإنَّ قَولَه: أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ دَلَّ على اتِّصافِهم بصِفةِ الرُّبوبيَّةِ واستِقلالِهم بالمالِكيَّةِ تَهكُّمًا، انظُرْ إلى هذا التَّغليظِ في شأنِ الحاسِدِ وحسَدِه [137] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/74)، ((تفسير البيضاوي)) (5/25)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/240)، ((تفسير أبي السعود)) (7/216)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/331). ؟!
- والاستِفهامُ المُقدَّرُ بعْدَ أَمْ المُنقطِعةِ في قَولِه: أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا تَهكُّميٌّ تَوبيخيٌّ، وليس إنكاريًّا؛ لأنَّ تَفريعَ أمْرِ التَّعجيزِ عليه يُعَيِّنُ أنَّه تَهكُّميٌّ [138] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/139)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/217). !
- قَولُه: فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ الفاءُ هنا هي الفَصيحةُ، أي: هي جَوابُ شَرطٍ مُقَدَّرٍ، تَقديرُه: إنْ زعَموا ذلك، فلْيَصْعَدوا في المَعارِجِ الموصِّلةِ إلى العَرشِ حتَّى يَستَووا عليه [139] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/332). !
- وأيضًا قَولُه: فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ تَهكُّمٌ مِنَ اللهِ بهم غايةَ التَّهكُّمِ، كأنَّه قيل: وإنْ كانوا يَصلُحونَ لتَدبيرِ الخَلائقِ والتَّصرُّفِ في قِسمةِ الرَّحمةِ، وكانتْ عِندَهمُ الحِكمةُ الَّتي يُمَيِّزونَ بها بيْن مَن هو حَقيقٌ بإيتاءِ النُّبوَّةِ دُونَ مَن لا تَحِقُّ له؛ فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ: فلْيَصعَدوا في المَعارِجِ والطُّرقِ الَّتي يُتَوصَّلُ بها إلى العَرشِ، حتَّى يَستَووا عليه ويُدَبِّروا أمْرَ العالَمِ ومَلكوتَ اللهِ، ويُنزِلوا الوَحيَ إلى مَن يَختارُونَ ويَستَصوِبونَ، ثمَّ خَسَأهُم خَسْأةً عن ذلك بقَولِه: جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ، يُريدُ: ما هُم إلَّا جَيشٌ مِنَ الكفَّارِ المُتحزِّبينَ على رُسلِ اللهِ، مَهزومٌ مَكسورٌ عمَّا قريبٍ، فلا تُبالِ بما يَقولونَ، ولا تَكتَرِثْ لِما به يَهْذُونَ [140] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/74)، ((تفسير البيضاوي)) (5/25)، ((تفسير أبي السعود)) (7/216). .
- قَولُه: فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ الأمرُ في فَلْيَرْتَقُوا للتَّعجيزِ، والتَّعريفُ في الْأَسْبَابِ لعَهدِ الجِنسِ؛ لأنَّ المعروفَ أنَّ لكلِّ مَحلٍّ مُرتفِعٍ أسبابًا يُصعَدُ بها إليه [141] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/217). .
- وحرفُ الظَّرفيَّةِ (في) في قَولِه: فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ يدُلُّ على التَّمكُّنِ مِنَ الأسبابِ حتَّى كأنَّها ظُروفٌ مُحيطةٌ بالمُرتَقِينَ [142] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/217). .
8- قولُه تعالَى: جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ
- قَولُه: جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ يَجوزُ أنْ يَكونَ استِئنافًا يَتَّصِلُ بقَولِه: كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ ... [ص: 3] الآيةَ، أُريدَ به وصْلُ الكَلامِ السَّابِقِ؛ ليُفضيَ به إلى قَولِه: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ [ص: 12] إلى قَولِه: فَحَقَّ عِقَابِ [ص: 14] .
ويَجوزُ أنْ يَكونَ استِئنافًا ابتِدائيًّا مُستقِلًّا خارِجًا مَخرجَ البِشارةِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنَّ هؤلاء جُندٌ مِنَ الأحزابِ مَهزومٌ، أي: مُقَدَّرٌ انهِزامُه في القَريبِ، وهذه البِشارةُ مُعجِزةٌ مِنَ الإخبارِ بالغَيبِ خُتِم بها وَصْفُ أحوالِهم، وعادةُ الأخبارِ الجاريةِ مَجرى البِشارةِ أو النِّذارةِ بأمرٍ مُغَيَّبٍ أنْ تَكونَ مَرموزةً، والرَّمزُ في هذه البِشارةِ هو اسمُ الإشارةِ مِن قَولِه: هُنَالِكَ؛ فإنَّه ليس في الكلامِ ما يَصلُحُ لأنْ يُشارَ إليه بدُونِ تأوُّلٍ، فلْنَجْعَلْه إشارةً إلى مكانٍ أَطْلَعَ اللهُ عليه نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهو مَكانُ بَدرٍ.
ويَجوزُ أنْ يَكونَ لَفظُ (الأحزابِ) في هذه الآيةِ إشارةً خَفيَّةً إلى انهِزامِ الأحزابِ أيَّامَ الخَندَقِ؛ فإنَّها عُرِفَتْ بغَزوةِ الأحزابِ، وسَمَّاهمُ اللهُ الأحزابَ في السُّورةِ الَّتي نزَلَتْ فيهم، فتَكونَ تلك التَّسميةُ إلهامًا، وهذا في عِدادِ المُعجِزاتِ الخَفيَّةِ.
 وعلى كلِّ الأوجُهِ فالآيةُ تَسليةٌ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وتَثبيتٌ له، وبِشارةٌ بأنَّ دِينَه سيَظهَرُ على الكفَّارِ [143] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/140)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/217، 218). .
وقيل: الظَّاهِرُ أنَّ قَولَه: هُنَالِكَ يُشارُ به للمَكانِ الَّذي تَفاوَضوا فيه مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بتلكَ الكَلِماتِ السَّابِقةِ، وهو مكَّةُ؛ فيَكونُ ذلك إخبارًا بالغَيبِ عن هزيمتِهم بمكَّةَ يَومَ الفَتحِ؛ فالمعنَى أنَّهم يَصيرونَ مَهزومينَ بمكَّةَ يَومَ الفَتحِ.
وقيل: لعلَّ اختيارَ اسمِ الإشارةِ البعيدِ (هنالك) رمزٌ إلى أنَّ هذا الانهِزامَ سيَكونُ في مكانٍ بَعيدٍ غَيرِ مكَّةَ، فلا تَكونُ الآيةُ مُشيرةً إلى فَتحِ مكَّةَ؛ لأنَّ ذلك الفَتحَ لم يَقَعْ فيه عَذابٌ للمُكَذِّبينَ، بلْ عَفا اللهُ عنهم وكانوا الطُّلَقاءَ [144] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/218). .
وقيل: هُنَالِكَ إشارةٌ إلى الارتِقاءِ في الأسبابِ، أي: هؤلاءِ القَومُ إنْ رامُوا ذلك جُندٌ مَهزومٌ. وقيل: أُشيرَ بـ هُنَالِكَ إلى جُملةِ الأصنامِ وعَضُدِها، أي: هُم جُندٌ مَهزومٌ في هذه السَّبيلِ [145] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/140). .
- و قيل: هُنَالِكَ إشارةٌ إلى حيثُ وَضَعوا فيه أنفُسَهم مِنَ الانتِدابِ لمِثلِ ذلك القَولِ العَظيمِ -يعني: وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] - مِن قَولِهم لِمَن يُنتَدَبُ لأمرٍ ليس مِن أهْلِه: (لَسْتَ هُنالِكَ) -أي: ليس هذا ممَّا يَليقُ بأمثالِك؛ لأنَّك أحَطُّ مَنزلةً من أنْ تُباشِرَه؛ فظهَرَ أنَّ هُنَالِكَ هنا كنايةٌ عن تَحقيرِ شأنِهم- فسوف تَراهم مَهزومينَ مَكسورينَ عن قَريبٍ، فمِن أينَ لهمُ التَّدابيرُ الإلهيَّةُ، والتَّصرُّفُ في الأمورِ الربَّانيَّةِ؟! ولا تَكتَرِثْ بقَولِهم، ولا تُبالِ بهم [146] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/75)، ((تفسير البيضاوي)) (5/25)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/241)، ((تفسير أبي حيان)) (9/140)، ((تفسير أبي السعود)) (7/216)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/219). .
- و(ما) في قَولِه: جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ حرفٌ زائدٌ يؤكِّدُ معنَى ما قَبْلَه؛ فهي تَوكيدٌ لِما دَلَّ عليه جُنْدٌ بمَعناهُ، وفيها معنَى الاستِعظامِ، إلَّا أنَّه على سبيلِ الهُزْءِ؛ فإنَّ حاصِلَ الكَلامِ ودَلالةَ المَقامِ مُؤْذِنانِ بالتَّحقيرِ والتَّقليلِ؛ فإنَّ (ما) إذا كانت صِفةً تُستعمَلُ للتَّعظيمِ أو التَّحقيرِ، فالثَّاني هو المُرادُ هنا؛ فتحصَّلَ أنَّ تَنكيرَ جُنْدٌ للتَّعظيمِ، أي: جُندٌ عظيمٌ؛ لأنَّ التَّنوينَ وإنْ دَلَّ على التَّعظيمِ فليس نَصًّا، فصار بالتَّوكيدِ نَصًّا. فإنْ كانت الآيةُ مُشيرةً إلى يَومِ بَدْرٍ فتَعظيمُ جُندٍ؛ لأنَّ رِجالَه عُظماءُ قُرَيشٍ، مِثلُ أبي جَهلٍ وأُمَيَّةَ بنِ خلَفٍ، وإنْ كانت مُشيرةً إلى يَومِ الأحزابِ فتَعظيمُ جُندٍ؛ لكَثرةِ رِجالِه مِن قَبائلِ العرَبِ.
وقيل: إنَّ التَّنوينَ في جُنْدٌ للنَّوعيةِ، أي: ما هُم إلَّا جُندٌ مِنَ الجُنودِ الَّذين كَذَّبوا فأُهلِكوا [147] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/75)، ((تفسير البيضاوي)) (5/25)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/240، 241)، ((تفسير أبي حيان)) (9/140)، ((تفسير أبي السعود)) (7/216)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/219)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/332). .
- ووَصْفُ جُنْدٌ بأنَّه مَهْزُومٌ على معنَى الاستِقبالِ، أي: سيُهزَمُ؛ تنبيهًا على تحقيقِ وُقوعِه، فكأنَّه مِنَ القُربِ بحيثُ هو كالواقِعِ في الحالِ [148] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/219). .
- و(مِن) في قَولِه: جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ للتَّبعيضِ، أي: إنَّ هؤلاء الجُندَ مِن جُملةِ الأُمَمِ والأحزابِ الَّذينَ تَعصَّبوا في الباطِلِ، وكَذَّبوا الرُّسلَ، وهو تَعريضٌ لهم بالوعيدِ بأنْ يَحُلَّ بهم ما حَلَّ بالأُمَمِ [149] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/140)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/219). .