موسوعة التفسير

سورةُ الزُّخرُفِ
الآيات (19-25)

ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ

غريب الكلمات:

يَخْرُصُونَ: أي: يَكذِبونَ، وأصلُ الخَرْصِ: التَّظَنِّي (إعمالُ الظَّنِّ) فيما لا تَستَيقِنُه، ومنه قيل: خَرَصْتُ النَّخْلَ خَرْصًا: إذا حَزَرْتَه؛ لأنَّ الحَزْرَ فيه ظَنٌّ لا إحاطةٌ، ثمَّ قيلَ للكَذِبِ: خَرْصٌ؛ لِما يَدخُلُه مِن الظُّنونِ الكاذِبةِ .
أُمَّةٍ: أي: دِينٍ ومِلَّةٍ، والأصلُ أنَّه يُقالُ للقَومِ يجتمعونَ على دِينٍ واحدٍ: أُمَّةٌ، فتُقامُ الأُمَّةُ مقامَ الدِّينِ، وتُطلَقُ الأُمَّةُ أيضًا على البُرْهةِ مِن الزَّمنِ، والرَّجُلِ المُقتدَى به، والأصلِ، والمرجِعِ، ويُقالُ لِكلِّ ما كان أصلًا لوُجودِ شَيءٍ أو تربيتِه أو إصلاحِه أو مبدئِه: أُمٌّ .
آَثَارِهِمْ: أي: خُطاهم، وما استُنَّ به بَعدَهم مِن سُنَنِهم، وأصلُ (أثر): يدُلُّ على رَسمِ الشَّيءِ الباقي .
مُتْرَفُوهَا: أي: أغنياؤُها ورُؤساؤُها المُنَعَّمونَ فيها، الَّذين قد أبطَرَتْهم النِّعمةُ وسَعَةُ العَيشِ، وأصلُ (ترف): يدُلُّ على التَّوسُّعِ في النِّعمةِ .
عَاقِبَةُ: عاقبةُ كلِّ شىءٍ: آخِرُه، أو: ما يُؤدِّي إليه السَّببُ المتقدِّمُ، والعاقِبةُ تختصُّ بالثَّوابِ إذا أُطلِقتْ، وقد تُستعمَلُ في العُقوبةِ إذا أُضيفَتْ، وأصلُ (عقب): تأخيرُ شَيءٍ وإتيانُه بعدَ غيرِه .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى متوعِّدًا الَّذين افترَوا عليه الكذبَ: وجعَل كُفَّارُ العَرَبِ الملائِكةَ الَّذين هم عِبادٌ لله إناثًا! فهل شَهِدوا خَلْقَ اللهِ للمَلائِكةِ، فعَرَفوا أنَّهم إناثٌ؟! ستُكتَبُ شَهادتُهم، ويُسألونَ عنها يومَ القيامةِ.
ثمَّ يَذكُرُ اللهُ تعالى شُبهةً مِن شُبَهِهم، ويَرُدُّ عليهم بما يَقطَعُ شُبهتَهم، فيقولُ: وقال أولئك المُشرِكونَ: لو شاء الرَّحمنُ ما عبَدْناهم! ما للمُشرِكينَ عِلمٌ بما قالوه وادَّعَوْه، فما هم إلَّا كاذِبونَ. فهل أعطَيْنا أولئك الكاذِبينَ كِتابًا مِن قَبلِ هذا القُرآنِ يُثبِتُ صِحَّةَ دَعواهم، فهم بذلك الكِتابِ مُتمَسِّكونَ؟! ليس الأمرُ كذلك، بل قالوا: إنَّا وجَدْنا آباءَنا على ذلك الدِّينِ والمُعتَقَدِ، ونحن بهم مُقتَدونَ!
ثمَّ يُسلِّي اللهُ تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم مبيِّنًا أنَّ هؤلاءِ المشركينَ قد سبَقهم مَن قال مِثلَ مقالتِهم، فيقولُ: وكما فَعَل مُشرِكو قُرَيشٍ فَعَل كُفَّارُ الأُمَمِ الماضيةِ، وقالوا مِثلَ قَولِهم؛ فما أرسَلْنا قَبْلَك -يا مُحمَّدُ- رَسولًا إلى أهلِ قَريةٍ لِيُنذِرَهم عَذابَ اللهِ تعالى إلَّا قالَ رؤُساؤُها المُتنَعِّمونَ فيها -على سَبيلِ البَطَرِ والمُفاخَرةِ-: إنَّا وَجَدْنا آباءَنا على طَريقةٍ مَعهودةٍ مُعَيَّنةٍ لا نَترُكُها.
فقال الرَّسولُ لهم: أتُقَلِّدونَ آباءَكم وتتَّبِعونَهم على الضَّلالِ ولو جِئتُكم بِدِينٍ هو أهدى وأنفَعُ لكم في أُولاكم وأُخراكم ممَّا وَجدتُم عليه آباءَكم؟! قال المُشرِكونَ: إنَّا بالَّذي أُرسِلتُم به كافِرونَ، فلمَّا أصَرُّوا على ضَلالِهم وعِنادِهم أخَذْناهم مُهانِينَ صاغِرينَ فعاقَبْناهم؛ فانظُرْ -يا مُحمَّدُ- كيف كان مآلُ أمرِ أولئك المُصِرِّينَ على التَّكذيبِ؛ فسَيؤُولُ أمرُ هؤلاء أيضًا إلى أمثالِه!

تفسير الآيات:

وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19).
وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ عِندَ أي: وجَعَلوا ملائِكةَ اللهِ الَّذين هم عِندَه يُسَبِّحونَه ويُقَدِّسونَه إناثًا .
2- قِراءةُ عِبَادُ جَمعُ عَبدٍ، أي: وجَعَلوا ملائِكةَ اللهِ الَّذين هم عِبادٌ له إناثًا .
وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا.
أي: واعتقد كُفَّارُ العَرَبِ الملائِكةَ -الَّذين هم عِبادٌ لله- إناثًا .
كما قال الله تعالى: أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا [الإسراء: 40] .
وقال سُبحانَه: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى * وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [النجم: 27، 28].
أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ.
أي: فهل حَضَر أولئك المُشرِكونَ خَلْقَ اللهِ للمَلائِكةِ وشاهَدوه فعرَفوا أنَّهم إناثٌ ؟!
كما قال الله تبارك وتعالى: أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ [الصافات: 150].
سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ.
أي: ستُكتَبُ شَهادةُ أولئك الزَّاعِمينَ أنَّ الملائِكةَ بَناتُ اللهِ في الدُّنيا، ويُسألونَ في الآخِرةِ عن شَهادتِهم تلك الَّتي ليس لهم عليها بُرهانٌ، ويُعاقَبونَ على افتِرائِهم هذا .
وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى حكَى نوعًا آخَرَ مِن كُفرِ المُشرِكينَ وشُبُهاتِهم .
وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ.
أي: وقال المُشرِكونَ: لو شاء الرَّحمنُ ما عبَدْناهم ، ولَصَرَفَنا عن ذلك، فتَرْكُه إيَّانا دَليلٌ على رِضاه مِنَّا بعِبادتِهم، وأنَّه حقٌّ لا اعتِراضَ عليه .
كما قال تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا [الأنعام: 148] .
مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ.
أي: ليس للمُشرِكينَ عِلمٌ بصِحَّةِ ما قالوه واحتَجُّوا به .
إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ.
أي: إنَّما يَقولونَ ذلك كَذِبًا وظَنًّا منهم بلا دَليلٍ ولا بُرهانٍ .
أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا كان الإيمانُ بالملائكةِ -الَّذين هم جُندُ المَلِكِ- مِن دَعائِمِ أُصولِ الدِّينِ، وأخبَرَ سُبحانَه أنَّهم وَصَفوهم بغيرِ ما هم عليه، ففَرَّطوا بوَصفِهم بالبَناتِ حتَّى أنزَلوهم إلى الحَضيضِ، وأفرَطوا بالعبادةِ حتَّى أعلَوهم عن قَدْرِهم، فانسَلَخوا في كِلا الأمْرَينِ مِن صَريحِ العَقلِ بما أشار إليه ما مضَى- أتْبَعَ ذلك أنَّهم عَرِيُّونَ أيضًا مِن صَحيحِ النَّقلِ؛ فقال مُعادِلًا لِقَولِه: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ إنكارًا عليهم بعد إنكارٍ: أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا الآيةَ .
وأيضًا لَمَّا نفَى عنهم عِلْمَ تَرْكِ عِقابِهم على عبادةِ غَيرِ اللهِ، أي: ليس يدُلُّ على ذلك عَقلٌ؛ نفَى أيضًا أن يَدُلَّ على ذلك سَمعٌ، فقال :
أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21).
أي: فهل أعطَيْنا أولئك المُتخرِّصينَ كِتابًا يُثبِتُ صِحَّةَ دَعواهم مِن قَبلِ نُزولِ هذا القُرآنِ، فهم بذلك الكِتابِ مُتمَسِّكونَ، وعلى العَمَلِ به ثابِتونَ ؟!
كما قال تعالى: أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ [الروم: 35].
وقال سُبحانَه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ [فاطر: 40] .
بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّن تعالى أنَّه لا دليلَ على صِحَّةِ قَولِهم البتَّةَ لا مِنَ العَقلِ ولا مِنَ النَّقلِ؛ بَيَّنَ أنَّه لا حامِلَ لهم يَحمِلُهم عليه إلَّا التَّقليدُ؛ بِقَولِه تعالى :
بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22).
أي: ليس الأمرُ كذلك، فليس لهم مُستَنَدٌ على صِحَّةِ دَعواهم، وإنَّما حُجَّتُهم الباطِلةُ هي تقليدُ آبائِهم، فيقولونَ: إنَّا وجَدْنا آباءَنا على ذلك الدِّينِ والمُعتقَدِ، ونحن لهم مُتَّبِعونَ .
وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23).
وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ.
أي: وكما فَعَل مُشرِكو قُرَيشٍ فَعَل كُفَّارُ الأُمَمِ الماضيةِ، وقالوا مِثلَ قَولِهم؛ فما أرسَلْنا قَبْلَك -يا مُحمَّدُ- رَسولًا إلى أهلِ قَريةٍ لِيُنذِرَهم عذابَ اللهِ على كُفرِهم وشِرْكِهم إلَّا قال رُؤساؤُهم وكُبَراؤُهم المُنعَّمونَ الَّذين أطْغَتْهم الدُّنيا: إنَّا وَجَدْنا آباءَنا على دينٍ غيرِ الَّذي تَدْعونا إليه .
وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ.
أي: وإنَّا مُتَّبِعونَ لِطَريقتِهم، ولازِمونَ لها، فلا ننحَرِفُ عنها .
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24).
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ قَالَ على الخبَرِ، قيل: المرادُ: قال كُلُّ نَذيرٍ لِقَومِه. وقيل: المرادُ: قال محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِقَومِه .
2- قِراءةُ قُلْ على الأمرِ، قيل: المرادُ: قُلْنا للنَّذيرِ: قُلْ لِقَومِك. وقيل: المرادُ: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لِقَومِك .
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ.
أي: قال الرَّسولُ لِقَومِه المُشرِكينَ المُتمَسِّكينَ بتقليدِ آبائِهم: أتَتَّبِعونَ آباءَكم على الضَّلالِ ولو جِئتُكم بدِينٍ أهدى إلى الحَقِّ مِن الدِّينِ الَّذي وجَدْتُم عليه آباءَكم ؟!
قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ.
أي: قال المُشرِكونَ: إنَّا بالَّذي أُرسِلتُم به جاحِدونَ مُنكِرونَ، وعلى دِينِ آبائِنا ثابِتونَ، وله وَحْدَه مُتَّبِعونَ .
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25).
أي: فعاقَبْناهم، فانظُرْ -يا مُحمَّدُ- كيف صار آخِرُ أمرِهم إلى هَلاكٍ وبَوارٍ !
كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا [الروم: 47] .
وقال سُبحانَه: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [آل عمران: 137] .
وقال تعالى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [الأنعام: 10، 11].

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ تقريعٌ للشُّهودِ ألَّا يَشهَدوا على شَيءٍ يُسألُونَ عنه إلَّا بعدَ تَيَقُّنِه والتَّثَبُّتِ فيه .
2- قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ بيَّنَ تعالى أنَّ الدَّاعيَ إلى القَولِ بالتَّقليدِ والحامِلَ عليه إنَّما هو حُبُّ التَّنَعُّمِ في طيِّباتِ الدُّنيا، وحُبُّ الكَسَلِ والبَطالةِ، وبُغْضُ تحَمُّلِ مَشاقِّ النَّظَرِ والاستِدلالِ؛ لِقَولِه تعالى: إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ، والمُترَفونَ هم الَّذين أترَفَتْهم النِّعمةُ، أي: أبطَرَتْهم، فلا يُحِبُّونَ إلَّا الشَّهَواتِ والملاهيَ، ويُبغِضونَ تحَمُّلَ المَشاقِّ في طَلَبِ الحَقِّ؛ فرأسُ جميعِ الآفاتِ: حُبُّ الدُّنيا واللَّذَّاتِ الجُسْمانيَّةِ. ورأسُ جميعِ الخَيراتِ: حُبُّ اللهِ والدَّارِ الآخِرةِ .
3- مَن بُيِّنَ له أنَّ القَولَ الآخَرَ هو أهدَى مِنَ القَولِ الَّذي نشأَ عليه، فعليه أن يَتَّبِعَه؛ قال تعالى: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ .
4- في قَولِه تعالى: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ وُجوبُ النَّظرِ والاعتبارِ .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا رَدٌّ على الجَهميَّةِ في بابِ «الجَعْلِ» الَّذي لا يَعُدُّونه إلَّا خَلْقًا؛ لِيَتطَرَّقوا إلى خَلْقِ القُرآنِ، وهم لا يَستطيعونَ أنْ يَجعَلوا «الجَعْلَ» هاهنا خَلْقًا؛ إذ مُحالٌ أنْ يكونَ الكُفَّارُ خَلَقوا الملائِكةَ إناثًا! إنَّما افتَرَوا على اللهِ، وادَّعَوا عليه دَعوى باطلٍ وكُفرٍ .
2- قَولُ الله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا احتَجَّ به مَن قال بتَفضيلِ الملائكةِ على البَشَرِ؛ فعلى قراءةِ عِنْدَ بالنُّونِ، فهذه العِنديَّةُ لا شَكَّ أنَّها عِنديَّةُ الفَضلِ والقُرْبِ مِن اللهِ تعالى بسَبَبِ الطَّاعةِ، ولَفظةُ هُمْ تُوجِبُ الحَصرَ، والمعنى: أنَّهم هم المَوصوفونَ بهذه العِنديَّةِ لا غيرُهم؛ فوَجَب كَونُهم أفضَلَ مِن غَيرِهم رعايةً لِلَّفظِ الدَّالِّ على الحَصرِ. وأمَّا مَن قرأَ عِبَادُ جمعُ العَبدِ، فإنَّ لَفظَ العبادِ مَخصوصٌ في القُرآنِ بالمؤمِنينَ؛ فقَولُه هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ يفيدُ حَصرَ العُبوديَّةِ فيهم؛ فإذا كان اللَّفظُ الدَّالُّ على العُبوديَّةِ دالًّا على الفَضلِ والشَّرَفِ كان اللَّفظُ الدَّالُّ على حَصرِ العُبوديَّةِ دالًّا على حَصرِ الفَضلِ والمَنقَبةِ والشَّرَفِ فيهم، وذلك يُوجِبُ كَونَهم أفضَلَ مِن غَيرِهم. واللهُ أعلَمُ .
3- في قَولِه تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ أنَّ أقوالَ الإنسانِ تُكْتَبُ عليه كأفعالِه؛ لأنَّ الشَّهادةَ هنا بالقولِ .
4- في قَولِه تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ أنَّ مَن أخبَرَ غَيرَه بشَيءٍ فقد شَهِدَ به، سواءٌ كان بلَفظِ الشَّهادةِ أو لم يَكُنْ .
5- في قَولِه تعالى: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ أنَّ الحُكْمَ على الغَيبِ مَحظورٌ على كلِّ أحدٍ، بغيرِ عِيانٍ ولا خَبَرِ صادقٍ .
6- قَولُ الله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ يدُلُّ على أنَّ القَولَ بغَيرِ دَليلٍ مُنكَرٌ .
7- أنكَرَ اللهُ سُبحانَه وتعالى على مَن جَعَل مَشيئَتَه وقَضاءَه مُستَلزِمَينِ لمَحَبَّتِه ورِضاه. فكيف بمَن جَعَل ذلك شيئًا واحِدًا؟! قال تعالى: وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ [الزخرف: 20] ، وقال الله تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ [الأنعام: 148] ، وقال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النحل: 35] ؛ فهم استدَلُّوا على محَبَّتِه لِشِرْكِهم ورِضاه عنه بمَشيئتِه لذلك، وعارَضوا بهذا الدَّليلِ أمْرَه ونَهْيَه، وفيه أبيَنُ الرَّدِّ لِقَولِ مَن جَعَل مَشيئَتَه عَيْنَ مَحبَّتِه ورِضاه؛ فالإشكالُ إنَّما نَشَأ مِن جَعْلِهم المشيئةَ نَفْسَ المحبَّةِ، ثمَّ زادوه بجَعْلِهم الفِعلَ نَفْسَ المفعولِ، والقَضاءَ عَينَ المقضِيِّ؛ فنشأ مِن ذلك إلزامُهم بكَونِه تعالى راضيًا مُحِبًّا لذلك، والتِزامُ رِضاهم به! والَّذي يَكشِفُ هذه الغُمَّةَ، ويُبَصِّرُ مِن هذه العَمايةِ، ويُنَجِّي مِن هذه الوَرطةِ: إنَّما هو التَّفريقُ بيْن ما فَرَّق اللهُ بيْنَه، وهو المشيئةُ والمحَبَّةُ؛ فإنَّهما ليسا واحِدًا، ولا هما مُتلازِمَينِ، بل قد يَشاءُ ما لا يُحِبُّه، ويُحِبُّ ما لا يشاءُ كَوْنَه؛ فالأوَّلُ: كمَشيئتِه لِوُجودِ إبليسَ وجُنودِه، ومَشيئتِه العامَّةِ لجَميعِ ما في الكونِ مع بُغْضِه لِبَعضِه. والثَّاني: كمَحبَّتِه إيمانَ الكُفَّارِ، وطاعاتِ الفُجَّارِ، وعَدْلَ الظَّالِمينَ، وتَوبةَ الفاسِقينَ، ولو شاء ذلك لوُجِدَ كُلُّه وكان جميعُه؛ فإنَّه ما شاء كان، وما لم يَشَأْ لم يكُنْ .
8- في قَولِه تعالى: أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ أنَّه لم يَنزِلْ على العَرَبِ كِتابٌ سِوى القُرآنِ .
9- في قَولِه تعالى: بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ تحريمُ التَّقليدِ بالباطلِ، وأمَّا التَّقليدُ بالحقِّ فلا بأسَ به؛ فإذا كان رجُلٌ لا يَعرِفُ حُكْمَ مسألةٍ في دينِ اللهِ، وليس عندَه قُدرةٌ على الاجتهادِ، فإنَّ فَرْضَه التَّقليدُ؛ لِقَولِ اللهِ تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ [النحل: 43] ، ولقولِ الله تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة: 286] ، ولقولِه سبحانَه وتعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] .
10- في قَولِه تعالى: بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ أنَّ هؤلاءِ القومَ المكذِّبِينَ للرُّسُلِ ليس عندَهم حُجَّةٌ إلَّا مُجرَّدُ ما كان عليه الآباءُ، وهذا ليس بحُجَّةٍ، وعلى هذا فلا يجوزُ الاحتِجاجُ بعَمَلِ النَّاسِ -كما يَفعَلُه بعضُ القومِ-، فإذا نهَيْتَه عن شَيءٍ قال: كلُّ النَّاسِ يَفعَلُه! فهذا ليس بحُجَّةٍ .
11- قال تعالى: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ، قولُه: بِأَهْدَى اسمُ تفضيلٍ، ومع ذلك فإنَّا نقولُ: ما وجَدوا عليه آباءَهم ليس فيه هدًى، لكِنَّ التَّنَزُّلَ مع الخَصمِ لا بأسَ به، وإنْ لم يَكُنْ في الطَّرَفِ الآخَرِ شَيءٌ .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ عَطْفٌ على وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا [الزخرف: 15] ، أُعِيدَ ذلك مع تَقَدُّمِ ما يُغْني عنه مِن قَولِه: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ [الزخرف: 16] ؛ ليُبنَى عليه الإنكارُ عليهم بقَولِه: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؛ استِقراءً لإبطالِ مَقالِهم؛ إذ أُبطِلَ ابتِداءً بمُخالَفَتِه لدَليلِ العَقلِ، وبمُخالَفَتِه لِمَا يجِبُ لِلَّهِ مِن الكَمالِ، فكَمَّلَ هنا إبطالَه بأنَّه غَيرُ مُستَنِدٍ لدَليلِ الحِسِّ .
- وقَولُه: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا بَيانٌ لتَضمينِ كُفرِهم المَذكورِ لكُفرٍ آخَرَ، وهو تَقريعٌ لهم بذلكَ؛ وهو جَعْلُهم أكمَلَ العِبادِ وأكرَمَهم على اللهِ عزَّ وجلَّ أنقَصَهُم رأْيًا، وأخَسَّهُم صِنفًا !
- والإضافةُ إلى اسمِ الرَّحمنِ في قولِه: عِبَادُ الرَّحْمَنِ تُفيدُ تَشريفَهم .
- قَولُه: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ الهَمزةُ لاستِفهامِ الإنكارِ، دَخَلت على فِعلِ (شَهِد)، أي: ما حَضَروا خَلْقَ الملائِكةِ، وعلى قِراءةِ أَأُشْهِدُوا -بهَمزَتَين: أُولاهُما مَفتوحةٌ، والأُخرَى مَضمومةٌ، وسُكونِ الشِّين مَبنيًّا للنَّائِب -؛ فالهَمزةُ للاستِفهامِ، وهو للإنكارِ والتَّوبيخِ. وجِيءَ بصِيغَةِ النَّائِبِ عن الفاعِلِ دونَ صِيغةِ الفاعِلِ؛ لأنَّ الفاعِلَ مَعلومٌ أنَّه اللهُ تعالى؛ لأنَّ العالَمَ العُلوِيَّ الَّذي كان فيه خَلقُ المَلائِكةِ لا يَحضُرُه إلَّا مَن أمَرَ اللهُ بحُضورِه .
- قَولُه: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ هذا تَهكُّمٌ بهم، وتَجهيلٌ لهم، بمَعنَى أنَّهُم يَقولون ذلك مِن غَيرِ أنْ يَستَنِدَ قَولُهم إلى عِلمٍ؛ فإنَّ اللهَ لم يَضطَرَّهُم إلى عِلمِ ذلك، ولا تَطرَّقوا إليه باستِدلالٍ، ولا أحاطوا به عن خَبَرٍ يُوجِبُ العِلمَ؛ فلم يَبْقَ إلَّا أنْ يُشاهِدُوا خَلْقَهُم فأَخبَروا عن هذه المُشاهَدةِ، أي: هل حَضَروا خَلْقَ اللهِ إيَّاهُم فشَاهَدوهُم إناثًا ؟!
- وجُملَةُ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ بَدَلُ اشتِمالٍ من جُملةِ أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؛ لأنَّ ذلك الإنكارَ يَشتَمِلُ على الوَعيدِ، وهذا خَبَرٌ مُستَعمَلٌ في التَّوَعُّدِ، وكِتابةُ الشَّهادةِ كِنايةٌ عن تَحَقُّقِ العِقابِ على كَذِبِهم. والسِّينُ في سَتُكْتَبُ لتَأكيدِ الوَعيدِ . وقيل: أُوثِرَ التَّعبيرُ بالاستِقبالِ في سَتُكْتَبُ فأَتَى بالسِّينِ الدَّالَّةِ عليه؛ ليَتَضَمَّنَ الكَلامُ معنَى انفِساحِ الوَقتِ للتَّوبةِ، وبِناءِ الرَّجاءِ على الاستِعطافِ لقَبولِها قبْلَ كِتابةِ ما قالوا .
-والمُرادُ بِشَهادتِهم: ادِّعاؤُهم أنَّ المَلائكةَ إناثٌ، قيل: أطلَقَ عليها شَهادةً؛ تَهَكُّمًا بهم .
2- قولُه تعالَى: وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ
- قَولُه: وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ كَلامٌ مُستأنَفٌ مَسُوقٌ لبَيانِ نَوعٍ آخَرَ وفَنٍّ آخَرَ مِن أنواعِ كُفرِهِم . أو عَطْفٌ على جُملَةِ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف: 9] ؛ فإنَّها استِدلالٌ على وَحدانِيَّةِ الله تعالى، وعلى أنَّ مَعبوداتِهم غَيرُ أهلٍ لِأَنْ تُعبَدَ، فحُكِيَ هنا ما استَظْهَروه مِن مَعاذيرِهم عِندَ نُهوضِ الحُجَّةِ عليهم يَرُومون بها إفحامَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمسلمينَ، فيقولونَ: لو شاءَ اللهُ ما عبَدْناهم، أي: لو أنَّ اللهَ لا يحِبُّ أنْ نَعبُدَها، لَكان اللهُ صَرَفَنا عن أنْ نَعبُدَها، وتوهَّموا أنَّ هذا قاطعٌ لِجِدالِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لهم؛ لأنَّهم سَمِعوا مِن دِينِه أنَّ اللهَ هو المتصرِّفُ في الحوادثِ، فتَأوَّلُوه على غيرِ المرادِ منه .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال هنا: وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ، وقال في سُورةِ (الجاثِيةِ): وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [الجاثية: 24] ، فقال هنا: يَخْرُصُونَ، وقال في سُورةِ (الجاثِيَةِ): يَظُنُّونَ؛ ووجهُه: أنَّ قَبْلَ الآيَةِ مِن سُورةِ (الزُّخرُفِ): وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ * وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الزخرف: 19، 20]، فأخبَرَ عنهم أنَّهم قالوا: المَلائِكةُ بَناتُ اللهِ، وأنَّ اللهَ أرادَ أنْ يَعبُدوهم! وليس ذلك مِن عِلمٍ، بل هم كاذِبون فيما يَدَّعونَه ويُخبِرون به؛ فأبطَلَ خَبَرَهم بالتَّكذيبِ لهم، وهو الَّذي يَليقُ بالمَوضِعِ. وأمَّا الَّذي في سُورةِ (الجاثِيةِ) فخَبَرٌ عن الكُفَّارِ الَّذين دَعاهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى الإسلامِ بأنَّهم قالوا: لا بَعْثَ لنا، وإنَّما هو أنْ تَمُوتَ الأَسلافُ، وتَحْيَا الأَخلافُ، فكُلَّما هَدَم الدَّهرُ قَومًا فأَفناهُم، أنشَأَ فيه آخَرِينَ وأحياهُم، وهؤلاء لم يَقولُوا ما قالوا بمَعرِفةٍ، بلْ قالوه على سَبيلِ الظَّنِّ؛ فكان إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ لائِقًا بهذا المَكانِ. أو أنَّ ما في سُورةِ (الجاثيةِ) مُتَّصِلٌ بخَلطِهِمُ الصِّدقَ بالكَذِبِ؛ فإنَّ قَولَهم: نَمُوتُ وَنَحْيَا صِدقٌ، وكَذَبوا في إنكارِهِمُ البَعثَ، وقَولِهم: وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ؛ فنَاسَبَه يَظُنُّونَ، أي: يَشُكُّون فيما يَقولُون . وقيل غيرُ ذلك .
3- قولُه تعالَى: أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ إضرابٌ انتِقاليٌّ، عُطِف على جُملةِ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ [الزخرف: 20] ؛ فبَعْدَ أنْ نَفَى أنْ يكونَ قَولُهم: لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ [الزخرف: 20] مُستَنِدًا إلى حُجَّةِ العَقلِ؛ انتَقَل إلى نَفيِ أن يكونَ مُستَنِدًا إلى حُجَّةِ النَّقلِ عن إخبارِ العالِمِ بحَقائقِ الأشياءِ الَّتي هي مِن شُؤونِه .
- واجتُلِبَ للإضرابِ حرْفُ (أَمْ) دونَ (بلْ)؛ لِما تُؤذِنُ به (أَمْ) مِن استفهامٍ بعْدَها، وهو إنكارِيٌّ، والمعنَى: وما آتَيْناهُم كِتابًا مِن قَبلِه .
- و(مِن) صِلةٌ لتَوكيدِ مَعنَى (قَبل)، والضَّميرُ المُضافُ إليه (قبْل) في قوله: مِنْ قَبْلِهِ عائِدٌ إلى القُرآنِ المَذكورِ في أوَّلِ السُّورةِ، وفي قَولِه: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف: 4] ، ولم يتقدَّمْ له معادٌ في اللَّفظِ، ولَكِنَّه ظاهِرٌ مِن دَلالةِ قَولِه: كِتَابًا. وفي هذا ثَناءٌ ثالِثٌ على القُرآنِ ضِمنِيٌّ؛ لاقتِضائِه أنَّ القُرآنَ لا يأتي إلَّا بالحَقِّ الَّذي يُستَمسَكُ به، وهذا تَمهيدٌ للتَّخَلُّصِ إلى قَولِه تعالى: بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ [الزخرف: 22] .
- وكَلِمَةُ مُسْتَمْسِكُونَ مُبالَغةٌ في (مُمسِكون)؛ يُقالُ: أمسَكَ بالشَّيءِ، إذا شدَّ عليه يَدَه، وهو مُستَعمَلٌ هنا في مَعنَى الثَّباتِ على الشَّيءِ .
4- قولُه تعالَى: بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ
- قَولُه: بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ إضرابُ إبطالٍ عن الكَلامِ السَّابِقِ مِن قَولِه تعالى: فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ [الزخرف: 21] ؛ فهو إبطالٌ للمَنفِيِّ لا للنَّفيِ، أي: ليس لهم عِلمٌ فيما قَالُوه ولا نَقلٌ؛ فكان هذا الكَلامُ مَسُوقًا مَساقَ الذَّمِّ لهم؛ إذ لم يُقارِنوا بيْنَ ما جاءَهم به الرَّسولُ وبيْن ما تَلَقَّوْه مِن آبائِهِم؛ فإنَّ شأنَ العاقِلِ أنْ يُمَيِّزَ ما يُلقَى إليه مِن الاختِلافِ، ويَعرِضَه على مِعيارِ الحَقِّ .
- وقَولُه: عَلَى آَثَارِهِمْ يَجوزُ أن يكونَ عَلَى آَثَارِهِمْ مُتَعَلِّقًا بـ مُهْتَدُونَ بتَضمينِ مُهْتَدُونَ معنى سائِرُون، أي: إنَّهُم لا حُجَّةَ لهم في عِبادَتِهم الأصنامَ إلَّا تَقليدُ آبائِهِم، وذلك ما يَقولُونه عِندَ المُحاجَّةِ؛ إذ لا حُجَّةَ لهم غَيرُ ذلك. وجَعَلوا اتِّباعَهُم إيَّاهُم اهتِداءً؛ لشِدَّةِ غُرورِهِم بأحوالِ آبائِهِم؛ بحَيثُ لا يَتَأَمَّلون في مُصادَفةِ أَحوالِهم للحَقِّ .
- وفي قَولِه: بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ مُناسَبةٌ حَسَنَةٌ، حيثُ قال بَعْدَه: وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ؛ فقَالَ: مُهْتَدُونَ في فاصِلَةِ الآيةِ الأُولَى، ومُقْتَدُونَ في فاصِلةِ الآيةِ الثَّانيةِ؛ ووجْهُ ذلك: أنَّه خصَّ الآيةَ الأُولَى بالاهتداءِ؛ لأَنَّه كلامُ العربِ فى محاجَّتِهم رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وادِّعائِهم أَنَّ آباءَهم كانوا مُهتدينَ، فنحنُ مهتدونَ. ولهذا قال عَقيبَه: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى. وأما الآيةُ الثانيةُ فهي حكايةٌ عمَّنْ كان قَبْلَهم مِن الكفَّارِ، وادَّعَوا الاقتداءَ بالآباءِ دونَ الاهتداءِ، فاقتَضتْ كلُّ آيةٍ ما خُتِمتْ به .
وقيل: جاء في حِكايةِ قَولِ المُشرِكينَ الحاضِرينَ وَصْفُهم أنفُسَهم بأنَّهم مُهتَدونَ بآثارِ آبائِهِم، وجاء في حِكايةِ أقوالِ السَّابِقينَ وَصْفُهم أنفُسَهم بأنَّهم بآبائِهِم مُقتَدُون؛ لأنَّ أقوالَ السَّابِقينَ كثيرةٌ مُختَلِفةٌ يَجمَعُ مُختَلِفَها أنَّها اقتِداءٌ بآبائِهِم، فحِكايةُ أقوالِهِم مِن قَبِيلِ حِكايةِ القَولِ بالمَعنَى، وحكايةُ القَولِ بالمَعنَى طَريقةٌ في حِكايةِ الأقوالِ كَثُرَ وُرودُها في القُرآنِ وكلامِ العَرَبِ .
5- قولُه تعالَى: وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ اعتِراضٌ لِتَسلِيةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على تَمَسُّكِ المُشرِكينَ بدِينِ آبائِهِم، والمَقصودُ: أنَّ هذه شِنْشِنَةُ أهلِ الضَّلالِ مِن السَّابِقين واللَّاحِقينَ -أي: عادتُهم المستمِرَّةُ- قد استَوَوْا فيه كما استَوَوْا في مَثارِهِ؛ وهو النَّظَرُ القاصِرُ المُخطِئُ، ويَتضمَّنُ هذا تَسليةً للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على ما لَقِيَه مِن قَومِه؛ بأنَّ الرُّسُلَ مِن قَبْلِه لَقُوا مِثلَ ما لَقِيَ .
- وكافُ التَّشبيهِ في وَكَذَلِكَ مُتَعَلِّقٌ بقَولِه: قَالَ مُتْرَفُوهَا، وقُدِّم على مُتَعَلَّقِه؛ للاهتِمامِ بهذه المُشابَهةِ، والتَّشويقِ لِمَا يَرِدُ بعدَ اسمِ الإشارةِ .
- قولُه: إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ ... فيه تَخصيصُ المُترَفينَ بتلكَ المَقالَةِ؛ للإيذانِ بأنَّ التَّنَعُّمَ وَحُبَّ البَطالَةِ هو الَّذي صَرَفَهم عن النَّظَرِ إلى التَّقليدِ ، والمَعنَى: أنَّهُم مِثلُ قُرَيشٍ في الازدِهاءِ بالنِّعمةِ الَّتي هم فيها، أي: في بَطَرِ نِعمَةِ اللهِ عليهم؛ فالتَّشبيهُ يَقتَضي أنَّهم مِثلُ الأُمَمِ السَّالِفَةِ في سَبَبِ الازدِهاءِ، وهو ما همْ فيه مِن نِعمةٍ حتَّى نَسُوا احتِياجَهم إلى اللهِ تعالى .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قدَّمَ ذِكرَ القَبْلِيَّةِ في قولِه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ؛ اهتِمامًا بالتَّسلِيَةِ، وتَخليصًا لها مِن أنْ يَتَوَهَّمَ أنَّه يَكونُ معه في زَمانِه أو بَعدَه نَذيرٌ، وإفهامًا لأنَّ المُجَدِّدَ لشَريعَتِه إنَّما يَكونُ مُغيثًا لأُمَّتِه، وبَشيرًا لا نَذيرًا لثَباتِهم على الدِّينِ بتَصديقِهم جَميعَ النَّبيِّينَ، وأسقَطَ هذه القَبليَّةَ في سُورَةِ (سبَأٍ) في قولِه: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [سبأ: 34] ؛ لأنَّ المُرادَ فيها التَّعميمُ؛ لأنَّه لم يتَقَدَّمْ لقُرَيشٍ ذِكرٌ حتَّى يُخَصَّ مَن قَبْلَهُم .
6- قولُه تعالَى: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ
- قولُه: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَرَأ الجُمهورُ قُلْ، وقَرَأ ابنُ عامِرٍ وحَفصٌ: قَالَ بصِيغةِ فِعلِ المُضِيِّ المُسنَدِ إلى المُفرَدِ الغائِبِ؛ فيَكونُ الضَّميرُ عائِدًا إلى نَذيرِ الَّذين قالُوا: إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف: 23] ؛ فحَصَل مِن القِراءتَينِ أنَّ جَميعَ الرُّسُلِ أجابُوا أقوامَهم بهذا الجَوابِ، وقَرَأ الجُمهورُ جِئْتُكُمْ بضَميرِ تاءِ المُتكلِّمِ، وقَرَأ أبو جَعفَرٍ: جِئْنَاكُمْ ، وأبو جَعفَرٍ مِن الَّذين قَرَؤوا قُلْ بصِيغةِ الأمرِ؛ فيَكونُ ضَميرُ جِئْناكُم عائدًا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المُخاطَبِ بفِعلِ قُلْ؛ لتَعظيمِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن جانِبِ ربِّه تعالى الَّذي خاطَبَه بقَولِه: قُلْ .
وقيل: قُرِئ قُلْ على أنَّه حِكايةُ أمرٍ ماضٍ أُوحِيَ حِينَئِذٍ إلى كلِّ نَذيرٍ؛ لا على أنَّه خِطابٌ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كما قيل؛ لقَولِه تعالى: قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ؛ فإنَّه حِكايةٌ عن الأُمَمِ قَطعًا؛ أي: قال كلُّ أُمَّةٍ لنَذيرِها: إنَّا بما أُرسِلْتَ به... إلخ؛ وقد أُجمِلَ عِندَ الحِكايةِ للإيجازِ .
- قَولُه: أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ الهَمزةُ للاستِفهامِ التَّقريرِيِّ المَشُوبِ بالإنكارِ، و(لو) وَصلِيَّةٌ، تَقتَضي المُبالَغةَ بنِهايةِ مَدلولِ شَرطِها، والمَقصودُ مِن الاستِفهامِ تَقريرُهم على ذلك؛ لاستِدعائهِم إلى النَّظَرِ فيما اتَّبَعوا فيه آباءَهُم؛ لَعَلَّ ما دَعاهُم إليه الرَّسولُ أهْدَى منهم .
- وقَولُه: بِأَهْدَى أي: بدِينٍ أَهدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ مِن الضَّلالةِ الَّتي لَيسَت مِن الهِدايةِ في شَيءٍ، وإنَّما عبَّر عنها بذلك مُجاراةً معهم على مَسلَكِ الإنصافِ ، وفيه تَجهيلٌ لهم، حيث يُقَلِّدون ولا يَنظُرون في الدَّلائِلِ .
- وصَوغُ اسمِ التَّفضيلِ بِأَهْدَى مِن الهدَى إرخاءٌ للعِنانِ لهم ليَتَدَبَّروا؛ نَزَّل ما كان عليه آباؤُهم مَنزِلةَ ما فيه شَيءٌ مِن الهُدَى، استِنزالًا لطائِرِ المُخاطَبينَ؛ ليَتَصَدَّوا للنَّظَرِ ، وفيه ما يُعرَفُ في البَلاغةِ بالإلجاءِ؛ وهو أنْ يُبادِرَ المُتَكَلِّمُ الخَصمَ بما يُلجِئُه إلى الاعتِرافِ بحَقيقةِ نَفْسِه ودَخِيلَةِ قَلبِه؛ فالتَّعبيرُ في الآيةِ بالتَّفضيلِ المُقتَضِي أنَّ ما عليه آباؤُهم فيه هِدايةٌ، لم يَكُن إلَّا لإلْجائِهِم إلى الاعتِرافِ بحقيقةِ نِيَّاتِهم الَّتي يُضمِرونَها؛ كأنَّه يَتَنَزَّلُ معهم إلى أبعَدِ الحُدودِ، ويُرخِي لهم العِنانَ إلى أقْصى الآمادِ؛ لِيَعتَرِفوا -مِن ثَمَّ- بمُكابَرَتِهم الَّتي لا تُجدِي معها المُناصَحةُ في القَولِ، ولا يَنفَعُ في تَذليلِها الإتيانُ بالحُجَّةِ .
- قَولُه: قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ، أي: قالوا: إنَّا ثابِتون على دِينِ آبائِنا، لا نَنفَكُّ عنه، وإنْ جِئْتَنا بما هو أهدَى وأهدَى، ودلَّ على هذه المُبالَغةِ الجُملةُ الاسمِيَّةُ وتَضَمُّنُها معنى الكِنايةِ، انظُرْ كمْ بيْنَ دَعوةِ الأنبياءِ وبيْن مُقابَلةِ الكَفَرةِ مِن التَّبايُنِ؟! فالأنبياءُ تَفادَوْا عن لَفظِ الأمرِ، وعَدَلوا إلى الاستِفهامِ، ومع ذلك ما استَوفَوا تَمامَ الحقِّ، حيث أَتَوا بحَرفِ التَّقريرِ، وضَمُّوا إليه (أفعَلَ) التَّفضيلِ، وكان الجوابُ المُطابِقُ: نَتَّبِعُ دِينَ آبائِنا ولا نَتَّبِعُ دِينَكم؛ فعَدَلوا إلى ما دلَّ على نَفيِ دِينِ الحقِّ، وإثباتِ الباطِلِ بالطَّريقِ البُرهانِيِّ .
- وقَولُه: قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ بَدَلٌ مِن جُملَةِ إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف: 23] ؛ لأنَّ ذلك يَشتَمِلُ على معنى: لا نَتَّبِعُكم ونَترُكُ ما وجَدْنا عليه آباءَنا، وضَميرُ قَالُوا راجِعٌ إلى مُتْرَفُوهَا [الزخرف: 23] ؛ لأنَّ مَوقِعَ جُملةِ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ [الزخرف: 25] يُعَيِّنُ أنَّ هؤلاءِ القائِلينَ وَقَعَ الانتِقامُ منهم؛ فلا يَكونُ منهم المُشرِكون الَّذين وَقَع تَهديدُهم بأولئك .
- وقَولُهم: بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ هو حِكايةٌ لقَولِهِم؛ فإطلاقُهم اسمَ الإرسالِ على دَعوَةِ رُسُلِهم تَهَكُّمٌ. ويَجوزُ أن يَكونَ حِكايةً بالمَعنَى، وإنَّما قالُوا: إنَّا بما زَعَمتُم أنَّكُم مُرسَلُون به .
7- قولُه تعالَى: فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ تَفريعٌ على جُملَةِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [الزخرف: 24] ، أي: انتَقَمْنا منهم عَقِبَ تَصريحِهم بتَكذيبِ الرُّسُلِ، وهذا تَهديدٌ بالانتِقامِ مِن الَّذين شابَهوهُم في مَقالِهم، وهم كُفَّارُ قُرَيشٍ .
- والانتِقامُ: افتِعالٌ مِن النَّقْمِ، وصِيغةُ الافتِعالِ للمُبالَغةِ .