موسوعة التفسير

سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (137-141)

ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ

غريبُ الكَلِمات :

خَلَتْ: مَضَتْ وذَهبَتْ، مِن خلا الزَّمان: إذا مضى وذهَب يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/204)، ((المفردات)) للراغب (ص: 297)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 50)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 96). .
سُنَنٌ: أي: سِيرٌ وأمثالٌ، وطرائِقُ ومناهجُ، جمْع سُنَّةٍ، وهي الطَّريقةُ المسلوكة، والمنهاجُ المتَّبع. وقيل: معْنى سُنَنٌ أُمم، جمْع سُنَّة، وهي الأُمَّة، وأصلُ (سنن): جريانُ الشَّيءِ واطِّرادُه في سُهولةٍ يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/70، 72)، ((المفردات)) للراغب (ص: 429)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 129)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 497- 498)، ((تاج العروس)) للزبيدي (31/229). .
عَاقِبَةُ: العاقبةُ تختصُّ بالثوابِ إذا أُطلقت، وقد تُستعملُ في العقوبةِ أو ما يؤدِّي إليه السَّببُ المتقدِّمُ إذا أُضيفت، وأصل عقب: تأخيرُ شيءٍ وإتيانُه بعدَ غيره يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/77)، ((المفردات)) للراغب (ص: 575)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 129). .
وَلَا تَهِنُوا: أي: لا تَضعُفوا، وأصل الوَهْن: الضَّعْفُ من حيثُ الخَلْقُ، أو الخُلق يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 112، 135)، ((المفردات)) للراغب (ص: 887)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 129). .
قَرْحٌ: الجِراحُ، أو الأثَر من الجِراحةِ من خارج، وأصل القَرْح: ألَمٌ بجراح، أو ما أَشبهها يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 112)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 374)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/82)، ((المفردات)) للراغب (ص: 665)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 129)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 740). .
نُدَاوِلُهَا: أي: نَجعلُها للمؤمنين مرَّةً، وللكافرين مرَّةً، والدُّولة: اسمُ الشَّيءِ الذي يُتداولُ بعينه، والأصلُ: تحوُّل شيءٍ من مكانٍ إلى مكان يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/314)، ((المفردات)) للراغب (ص: 322)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 51)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 130)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 917). .
وَلِيُمَحِّصَ: أي: ليُطهِّر، ويَختبر، ويُنقِّي، والتمحيصُ: الابتلاءُ والاختبارُ، وأصلُ المحْص: تُخليصُ الشَّيءِ، وتنقيتُه ممَّا فيه من عَيب يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 112)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/300)، ((المفردات)) للراغب (ص: 761)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 52)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 130). .
وَيَمْحَقَ: يُهلك، ويَنقص، وأصل المَحْق: النُّقصانُ، أو نقصانُ الشيءِ قليلًا قليلًا يُنظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 761)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 130). .

المَعنَى الإجماليُّ :

يُخاطب اللهُ المسلمين مسلِّيًا لهم بعدَ الذي أصابهم في أُحُدٍ من هزيمة، مبيِّنًا سبحانه أنَّه قد مضَتْ مِن قبلهم سُننٌ إلهيَّة على الخَلق؛ فسِيروا- أيُّها المسلمون- في الأرض؛ لتنظروا من الآثارِ التي تُبيِّن كيف كانت نهاية الكافرين.
ثم يُخبر تعالى أنَّ هذا القرآنَ الكريم بيانٌ للناس كافَّةً؛ يوضِّح لهم الحقَّ من الباطل، وهو مرشِدٌ للمتَّقين إلى الطَّريق القويم، وزاجرٌ لهم عن سُبُلِ الضَّلالة والفساد.
ثم أمَر الله المسلمين ألَّا يَضعُفوا ولا يَحزنوا بسبب تلك الهزيمة؛ فإنَّهم هم الأعلون دائمًا، ما داموا مُتمسِّكين بإيمانهم، فإنْ يكُن قد نالهم جراحٌ وقتْل يوم أُحد، فقد أصاب أعداءَهم من الجراح والقَتْل نحوٌ من ذلك في أُحدٍ وبَدرٍ؛ فقد تساوَوْا، فلا ينبغي أنْ يستمرُّوا على حُزنهم، وهذه سُنَّة الله؛ أنْ يَجعل الأيَّامَ دُوَلًا بين الناس جميًعا؛ مؤمنِهم وكافرهم، فتارةً نصر، وتارةً هزيمة. ومن الحِكَم التي أرادها اللهُ تعالى من ذلك التداوُلِ بين الناس: ظهورُ صادِقي الإيمان من غيرهم، واتِّخاذُ اللهِ من المؤمنين شُهداءَ يُقتَلون في سبيلِه، والله سبحانه لا يحبُّ الظالمين، وحتى يُنقِّي اللهُ المؤمنين من ذُنوبهم بما يُصيبهم من قتْلٍ وجراح، ويُهلِك الكافرين.

تفسير الآيات :

قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
بعدَما سبَق الحديثُ عن غزوة أُحُد، وما أصابَ المسلمين فيها، خاطبَهم الله تعالى بهذه الآية؛ تَعزيةً وتسليةً لهم يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/126)، ((تفسير السعدي)) (ص: 149)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/96). .
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ
أي: قد مضَى على مَن كان قبلكم من الأُمم طرائقُ إلهيَّةٌ جاريةٌ باعتيادٍ على الخَلق، ومِن ذلك: أنْ يكون النصرُ والهزيمة سِجالًا ومداولةً بين المؤمنين والكافرين، ومِن تِلك السُّنن: إمهالُ الكفَّارِ واستدراجُهم حتى يَحين موعدُ إهلاكِهم، وإنجاءُ المؤمنين مِن بعد ابتلائِهم؛ فتلك أمثلةٌ صالحةٌ للعِظةِ والاعتبار يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/70، 73)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/496)، ((تفسير ابن كثير)) (2/126)، ((تفسير السعدي)) (ص: 149)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/95-97)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/198-199). .
فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ
أي: سِيروا على أقدامِكم وبقُلوبِكم، ناظرين ومُتفكِّرين فيما بقِي للأُممِ الكافرةِ السَّابقة من آثارٍ أرضيَّة، تقِف شاهدةً على جريان سُنَّة اللهِ تعالى في الكافرين بعد إمهالِهم واستدراجِهم، حيث كانت نهايتُهم بإهلاكِهم وتَدميرِهم بأنواعِ العقوبات؛ جرَّاءَ تكذيبهم بآيات الله تعالى ورسلِه عليهم السَّلام يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/71)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 233)، ((تفسير السعدي)) (ص: 149)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/97)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/199-201). .
هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)
هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ
أي: إنَّ هذا القُرآنَ العظيم- ومن ذلك: الآيات التي تَقدَّم ذِكرُها- يُبيِّن لعمومِ الناس الأمورَ بوضوحٍ تامٍّ، فيُعرَف به الحقُّ من الباطل، وتنكشفُ به الحقائق، فيتميَّز مِن خلاله أهلُ السَّعادة من أهل الشَّقاوة يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/75)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 233)، ((تفسير ابن كثير)) (2/126)، ((تفسير السعدي)) (ص: 149)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/97، 98)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/206-207). .
وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ
أي: إنَّ القرآن يُرشِد أهلَ التَّقوى- الذين دأَبوا على امتثال أوامر الله تعالى، واجتناب نواهيه- إلى طريق الحقِّ والرَّشاد، ويَزجُرهم عن سلوك طُرُقِ الغَيِّ والفساد يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/75)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/496)، ((تفسير ابن كثير)) (2/126)، ((تفسير السعدي)) (ص: 149)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/98)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (207). .
وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّ قوله تعالى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ، وقوله: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ، كالمقدِّمة لقوله: وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا؛ كأنَّه قال: إذا بحثتُم عن أحوالِ القرونِ الماضية، علمتُم أنَّ أهلَ الباطلِ وإنِ اتَّفقت لهم الصولةُ، فإنَّ مآلَ أمْرِهم إلى الضَّعفِ والفتور، وصارتْ دولةُ أهل الحقِّ عاليةً؛ وصولةُ أهل الباطل مُندرِسةً؛ فلا ينبغي أنْ تصيرَ صولةُ الكفَّار عليكم يومَ أُحُد سببًا لضعْف قلوبِكم، ولجُبنكم وعجزِكم، بل يجبُ أنْ تَقْوَى قلوبُكم؛ فإنَّ الاستعلاءَ سيحصُل لكم، والقوَّةُ والدولةُ راجعةٌ إليكم يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/371). ؛ فقال تعالى:
وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
أي: لا تَضعُفوا ولا تَتثبَّطوا- أيُّها المؤمنون- عن جِهاد عدوِّكم، ولا يُصيبنَّكم الحزنُ؛ بسببِ الهزيمةِ التي تَعرَّضتم لها من قِبَل عدوِّكم يومَ أحد، وما نالَكم فيه من قتْلٍ وجراح؛ فأنتُم الأعلى دائمًا في جميعِ الأحوالِ حتى لو كنتُم مغلوبينَ، ما دُمتُم باقين على إيمانكم؛ فإنَّ هذا الوهنَ والحزنَ غيرُ لائقٍ بالمؤمنين يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/76-77)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/496)، ((تفسير ابن كثير)) (2/126- 127)، ((تفسير السعدي)) (ص: 149-150)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/98، 99)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/209-212). .
قال تعالى: فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ [محمد: 35] .
وقال سبحانه: وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ [النساء: 104] .
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ
أي: إنْ كنتُم قد أصابتْكم جراحٌ، وقُتِلَ منكم جماعةٌ في غزوة أُحُد، فقد أصابَ أعداءَكم قَريبٌ من ذلك، مِن قتْلٍ وجراحٍ في أُحُد أو بَدْر، فتساويتُم أنتُم وإيَّاهم في ذلك؛ فلا تبتئِسوا يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/79-81)، ((تفسير ابن كثير)) (2/127)، ((تفسير السعدي)) (ص: 150)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/207، 208)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/219-220). .
وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ
أي: إنَّ اللهَ تعالى يَجعل الأيَّام دُوَلًا بين الناس؛ مؤمنِهم وكافرِهم، فيُصرِّفُها كيف يشاء؛ فمرَّةً يُديل المؤمنينَ على الأعداءِ، فتكونُ لهم الغَلَبةُ، ومرةً يُديل الأعداءَ على المؤمنين، فتكونُ الغلبةُ لهم؛ ففي بدرٍ كان النصرُ للمُؤمنين، وفي أُحُدٍ كان النصرُ للمُشرِكين يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/82)، ((تفسير ابن كثير)) (2/127)، ((تفسير السعدي)) (ص: 150)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/220-221). .
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا سلَّى اللهُ تعالى عِبادَه المؤمنين عن الهزيمةِ التي وقَعتْ لهم يوم أُحُد، وأنَّ الأيَّامَ دُولٌ بين الناس، شرَع سبحانه في بيان الحِكَم العظيمةِ المترتِّبةِ على ذلك يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 150). ، فقال:
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
أي: إنَّ اللهَ تعالى يُصرِّف الأيَّام بين الناس نصرًا وهزيمة؛ ليظهرَ بذلك صادقُ الإيمانِ من غيرِه كما عَلِمه الله تعالى بسَابِق عِلْمه في الأزلِ؛ فإنَّ المؤمنين لو كانوا دائمًا مَنصورِينَ، فإنَّ الجميعَ سيُظهرون لهم الموالاةَ، ولن يَتميَّز أعداؤُهم من أوليائِهم حقيقةً يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/85-87)، ((شرح العقيدة الأصفهانية)) لابن تيمية (ص: 96)، ((تفسير ابن كثير)) (2/127)، ((تفسير السعدي)) (ص: 150)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/221-223). والعِلم في هذه الآية عِلمُ وجود، وعلمٌ يترتَّب عليه الجزاء؛ لأنَّ الله تعالى قد علِم الذين آمنوا قبل أنْ يؤمنوا، فإنَّ عِلْم الله بالأشياء عِلمٌ أزليٌّ قديم، يعلم سبحانه وتعالى ما كان، وما يكون، والقاعدة تقول: متى عَلَّق الله عِلمَه بالأمور بعد وجودِها، كان المرادُ بذلك: العلمُ الذي يترتَّب عليه الجزاء. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/222)، ((قواعد التفسير)) للسبت (2/755). .
وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ
أي: ومِن أسبابِ إدالةِ اللهِ تعالى الأيَّامَ بين الناس بتمكينِه للكفَّار أحيانًا على بعض المؤمنين: إكرامُ عِبادِه المؤمنين بالشَّهادةِ بالقتْلِ في سبيلِه، كما وقَع يوم أُحُد، ولولا ذلك لَمَا نالوا تلك الحُظوةَ الرَّفيعة، وذلك المقامَ السَّامي يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/87)، ((شرح العقيدة الأصفهانية)) لابن تيمية (ص: 97)، ((تفسير ابن كثير)) (2/127)، ((تفسير السعدي)) (ص: 150)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/223). .
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ
أي: إنَّ اللهَ تعالى لا يحبُّ الكافِرين والمنافِقين، الذين وَضَعوا- بالكفر- أنفسَهم في غيرِ ما خُلِقتْ لأجْله، فبَخَسوها حقَّها؛ ولذا أَقعدَ المنافقين يومَ أُحُدٍ عن القتال مع المؤمنين؛ لأنَّه يُبغضُهم، كما أنَّ الله تعالى إذا أدالَ الكافِرين على المؤمنين أحيانًا لا لأنَّه يُحبُّهم، بل لِمَا سبَق ذِكرُه من أسباب، وإذا أدالَ المؤمنين عليهم فلأجْل محبَّتِه سبحانه لهم يُنظر: ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/497)، ((تفسير السعدي)) (ص: 150)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/223-224). .
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
أي: ومِن حِكَم الإدالةِ على المؤمنين تَنقيتُهم من الذُّنوب، سواءٌ بما حصَل لهم مِن قتْل، أو بما أصابَهم من جِراح، ومِن ذلك أنَّهم إنِ انتصروا دائمًا، حصَلَ لنفوسِهم طغيانٌ وضَعْفُ إيمان، يُوجِب لهم العقوبةَ والهوان يُنظر: ((شرح العقيدة الأصفهانية)) لابن تيمية (ص: 97)، ((تفسير ابن كثير)) (2/127)، ((تفسير السعدي)) (ص: 150)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/227-228). .
وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ
أي: يُهلِكُهم ويُفنيهم؛ فإنَّهم إنِ انتَصروا طَغَوْا وبغَوْا وبطَروا؛ فيكون ذلك سببًا في استئصالِهم بعقوبةٍ تُدمِّرهم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/90)، ((تفسير ابن كثير)) (2/127)، ((تفسير السعدي)) (ص: 150)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/228). .

الفوائد التربويَّة :

1- الحثُّ على الاعتبارِ بأحوال الأُمم الماضية، وتأمُّلِ عاقبة المكذِّبين للرُّسل، وتعرُّفِ ما حلَّ بهم، فذلك هو الذي يُوصل إلى معرفةِ تِلك السُّنن والاعتبارِ بها؛ قال تعالى قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/370)، ((تفسير المنار)) (4/117)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/95). .
2- إثباتُ القياس؛ لأنَّ المقصود بقوله: فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ النَّظرُ والاعتبار، وأنْ يُقاسَ ما حضَرَ على ما مضَى وسلَف يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/202). .
3- أنَّ القرآنَ الكريمَ صالحٌ لهدايةِ المؤمِن والكافِر؛ لقوله: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ، فهو يَشمَل المؤمنَ والكافر يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/208). .
4- تسليةُ هذه الأمَّة من وجهٍ، وتحذيرُها من وجهٍ آخَرَ؛ تسليتُها بأنَّ الله سبحانه وتعالى قد عاقَبَ مَن قَبلَها، فعقوبتُه لها في غزوة أُحُد من سُنن الله عزَّ وجلَّ؛ لأنَّه لا شكَّ أنَّ ما حصَلَ في أُحُدٍ عقوبةٌ؛ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ. وفيها أيضًا تحذيرٌ من جِهةٍ أخرى مِن عقوبةٍ أشدَّ؛ لأنَّ الأُممَ السابقة أُهلكوا ودُمِّروا عن آخِرهم يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/202). .
5- أنَّ القرآنَ الكريم لا يَنتفعُ به إلَّا المتقون؛ لقوله: وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ، ففيه فضيلةُ التَّقوى، وأنَّها سببٌ للاهتداءِ والاتعاظ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/208، 209). .
6- أنَّ مَن لم يتَّعظ بالقرآن، فليتَّهمْ نفْسَه؛ لقوله تعالى: وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/208). .
7- في قوله تعالى: وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ، دلالةٌ على أنَّ الإنسانَ كلَّما ازداد تقوى، ازداد هدًى وموعظةً؛ لأنَّ الحُكمَ المعلَّق بوصف يَقوَى بقوَّته، ويَضعُف بضَعْفِه، فإذا كان الهُدَى والموعظة معلَّقًا بالتقوى، فإنَّه لا بدَّ أن يزدادَ ويَقوَى بالتقوى، ويضعُف ويَنقُص بعدم التقوى يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/209). .
8- أنَّ صِحَّة الإيمان تُوجِب قوَّةَ القلب والثقةَ بالله تعالى، وقِلَّةَ المبالاةِ بأعدائه؛ يُبيِّن ذلك قولُه تعالى: وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (1/249). .
9- في قوله تعالى: وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا: أنَّه يَنبغي للإنسانِ أن يكون قويَّ العزيمة، ولا يَضعُف ولا يَجبُن، وكم من إنسانٍ ضعُف وجبُن ففاتَه خيرٌ كثير! ولو أقدم لحصَل على خيرٍ كثير؛ لأنَّ المستقبَل لا تُدرى ما النتيجة فيه يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/217). .
10- في قوله تعالى: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ: أنَّه كلَّما ازداد إيمانُ الأمَّة ازدادتْ عُلوًّا؛ لأنَّه رتَّب العلوَّ على الإيمان، والمرتَّبُ على شيءٍ يَزيد بزِيادته، ويَنقُص بنَقْصِه يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/218). .
11- في هذه الآياتِ تسليةٌ من الله للمؤمنين عمَّا حصَل لهم من الهزيمةِ في أُحُد، فبيَّن لهم سبحانه الحِكَمَ العظيمة المترتِّبة على ما أصابَهم في تِلك الهزيمة؛ ومنها:
- أنَّ هذه الدارَ يُعطِي اللهُ منها المؤمنَ والكافر، والبَرَّ والفاجر، فيداولُ اللهُ الأيَّامَ بين الناس؛ يومًا لهذه الطائفة، ويومًا للطائفة الأخرى؛ لأنَّ هذه الدارَ الدنيا منقضيةٌ فانية، وهذا بخِلاف الدَّار الآخرة؛ فإنَّها خالصةٌ للذين آمنوا، قال تعالى: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ.
- ومنها: أنَّ اللهَ تعالى يَبتلي عِبادَه بالهزيمةِ والابتلاء؛ ليَتبيَّن المؤمنُ من المنافق؛ لأنَّه لو استمرَّ النصرُ للمؤمنين في جميع الوقائع، لدخَلَ في الإسلامِ مَن لا يُريده، فإذا حصَل في بعضِ الوقائعِ بعضُ أنواع الابتلاء، تبيَّن المؤمنُ حقيقةً، الذي يَرغبُ في الإسلامِ في الضرَّاء والسَّرَّاء، واليُسر والعُسر، ممَّن ليس كذلك؛ قال تعالى: وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا.
- ومنها: اتِّخاذُ الشُّهداء؛ قال تعالى: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ؛ لأنَّ الشهادةَ عند الله من أرفعِ المنازل، ولا سَبيلَ لنَيلِها إلَّا بما يَحصُل من وجودِ أسبابها، فهذا من رحمتِه بعباده المؤمنين، أنْ قيَّض لهم من الأسبابِ ما تَكرهه النفوسُ؛ ليُنيلَهم ما يُحبُّون من المنازلِ العالية، والنعيم المقيم.
- ومنها: تمحيصُ المؤمنين من ذُنوبِهم وعُيوبِهم؛ قال تعالى: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا، ويُمحِّص اللهُ أيضًا المؤمنين من غيرِهم من المنافقين، فيَتخلَّصوا منهم، ويَعرِفوا المؤمنَ من المنافق يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 150). .
- ومنها: أنَّ الله سبحانه يُقدِّر ذلك؛ ليمحقَ الكافرين كما قال تعالى: وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ، أي: ليكون سببًا لمحْقِهم واستئصالِهم بالعقوبة؛ فإنَّهم إذا انتصروا بَغَوا وازدادوا طُغيانًا إلى طُغيانهم، يَستحقُّون به المعاجلةَ بالعقوبةِ؛ رحمةً بعبادِه المؤمنين يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 150). .
12- قوله تعالى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ...: يَتبيَّن منه أنَّ الله سبحانه وتعالى قد يمتحنُ العبدَ ليعلمَ إيمانَه من عدمِه؛ يمتحنُه بأنواعٍ من الامتحانات: تارةً بالمصائِب، وتارةً بالمعايب، فهنا ابتلاءٌ بالمصائِب، وإذا يَسَّر اللهُ للإنسانِ أسبابَ المعصية، فهذا ابتلاءٌ بتيسير المعايب يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/225). .
13- وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ جملةٌ معترِضة مسوقةً لبيانِ أنَّ الشهداءَ يكونون ممَّن خَلَصوا لله وأخْلصوا في إيمانهم وأعمالهم؛ فلم يَظلِموا أنفسِهم بمخالفةِ الأمْرِ أو النهي، ولا بالخروجِ عن سُنن اللهِ في الخَلْق، وأنَّه تعالى لا يَصطفي للشهادةِ الظالمين ما داموا على ظُلمهم، وفي ذلك بِشارةٌ للمتَّقين، وإنذارٌ للمقصِّرين؛ فالناسُ قَبل الابتلاءِ بالمِحن والفتنِ يَكونون سواءً؛ فإذا ابتُلوا تَبيَّن المخلِصُ والصادقُ، والظالمُ والمنافِق يُنظر: ((تفسير المنار)) (4/124). .
14- الظَّالم لا تدومُ له سُلطةٌ، ولا تثبُتُ له دولة، فإذا أصابَ غِرَّةً من أهل الحقِّ والعدل، فكانتْ له دولةٌ في حربٍ أو حُكم، فإنَّما تكونُ دولتُه سريعةَ الزوال، قريبةَ الانحلال والاضمحلال يُنظر: ((تفسير المنار)) (4/124). .

الفوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- في قوله: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ، أنَّ المصارعةَ بين الحقِّ والباطلِ قد وقعتْ في الأُمم الماضية، وكان أهلُ الحقِّ يَغلِبون أهلَ الباطل، ويُنصَرون عليهم بالصَّبر والتقوى انظر: ((تفسير المنار)) (4/117). .
2- قوله تعالى: فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا، فيه أنَّ السَّير في الأرض لغيرِ غرَضٍ مشروعٍ مذمومٌ؛ لأنَّ السَّيرَ في الأرضِ من غيرِ غَرضٍ مشروعٍ فيه إتعابٌ للنَّفس، وتعريضُها للهلاك، وإضاعةُ المال، وإضاعةُ الوقت يُنظر: ((الزهد والورع والعبادة)) لابن تيمية (ص: 75)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/202). .
3- أنَّ القرآنَ بيانٌ للناسِ في كلِّ شيء، فهو عامٌّ من حيثُ التَّبيينُ، وعامٌّ من حيثُ المبيَّنُ له؛ يُؤخَذ العمومُ للمُبيَّن له من قوله: لِلنَّاسِ، والتبيينُ مِن كونِه حَذَف المتعلِّقَ، وحذف المتعلِّق يدلُّ على العمومِ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ لكلِّ شيءٍ، ويُؤيِّده قوله تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/208). .
4- أنَّ هذه الأمَّةَ هي العُليا، بشَرْط أنْ تؤمن؛ لقوله: وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/218). .
5- في قوله: وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ التلميحُ بالتوبيخِ إذا حصَل الوهنُ أو الحزن لا سيَّما إذا قلنا: إنَّ الواوَ هنا واو الحال؛ يعني: كيف يَليقُ بكم أن تَهِنوا وتحزنوا وأنتم الأعلون؟! لأنَّ الأعلى لا يَليق به أن يهِن أو يَحزَن يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/218). .
6- بيانُ رأفةِ الله سبحانه وتعالى برسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصحابِه بهذه التسليةِ العظيمة؛ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/224). .
7- إنْ قِيل: ما وجهُ الجمعِ بينَ الإفرادِ في قولِه: قَرْحٌ مِثْلُهُ، وبينَ التثنيةِ في قولِه: قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا[آل عمران: 165] ، فالجواب، والله تعالى أعلم: أنَّ المرادَ بالتثنيةِ قتلُ سبعينَ، وأسرُ سبعين يومَ بدرٍ في مقابلةِ سبعينَ يومَ أُحُد، كما عليه جمهورُ العلماءِ. والمرادُ بإفرادِ المثلِ: تشبيهُ القرحِ بالقرحِ في مُطلقِ النِّكاية والألمِ يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/ 209). .
8- أنَّ الله سبحانه وتعالى جعَل هذه الدنيا دولًا تتقلَّب؛ لئلَّا يركنَ الإنسان إليها؛ لأنَّ الدنيا لو كانتْ دائمًا راحةً ونعمة، لركَن الإنسانُ إليها، ونسي الآخرة، ولو كانت دائمًا محنةً ونقمةً، لكانتْ عذابًا مستمرًّا، ولكن الله جَعَلها دولًا يُدال فيها الناسُ بعضُهم على بعض، وتتداول الأحداثُ على الإنسانِ ما بَين خيرٍ وشرٍّ؛ قال تعالى: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/225). .
9- أنَّ عِلمَ الله سبحانه وتعالى بالأشياءِ على قِسمين: عِلمٍ بأنَّها ستوجد، وهذا أزليٌّ، وعِلمٍ بأنَّها وُجِدت، وهذا يكونُ عند الوجودِ؛ ولهذا قال: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/225). .
10- أنَّ اللهَ تعالى قد يُقدِّر المكروهَ للنَّفْس؛ لحِكَمٍ بالغةٍ كثيرة؛ لقوله: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/225). .
11- فضيلةُ الشَّهادة، تُؤخذُ من قوله: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ، فكأنَّه سبحانه اصطَفى هؤلاء الشُّهداءَ، واتَّخذَهم لنفسِه يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/225). .
12- قول الله تعالى: وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ: يُستفادُ من هذا أنَّ النعمةَ قد تكون سببًا للنِّقمة؛ فإنَّ انتصارَ الكفَّار يُوجِب فرَحَهم وبطرَهم، حتى إذا بطَروا مُحِقوا يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/229). .

بلاغة الآيات :

1- قوله: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ: جِيء بـقَدْ، الدالَّة على تأكيدِ الخبر؛ تنزيلًا لهم منزلةَ مَن يُنكر ذلك؛ لِمَا ظهَر عليهم من انكسارِ الخواطرِ من جرَّاءِ الهزيمةِ الحاصلةِ لهم من المشركين، مع أنَّهم يُقاتلون لنصرِ دِين الله يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/96). .
 2- قوله: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ: تخصيصُ البيانِ للنَّاسِ مع شُمولِه للمتَّقين أيضًا؛ لأنَّ المرادَ به مجردُ البيانِ العاري عن الهُدى والعظةِ، والاقتصارُ على الهُدى والموعِظة في جانبِ المتَّقين مع ترتُّبهما على البيانِ؛ لأنَّهما المقصِدُ الأصليُّ، ويجوز أن يكونَ تعريفُ الناسِ للجِنس، أي: هذا بيانٌ للنَّاس كافةً، وهُدًى وموعظةٌ للمتَّقين منهم خاصَّة؛ لأنَّه لا يَحصُل إلَّا لهم يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/371)، ((تفسير البيضاوي)) (2/39)، ((تفسير أبي السعود)) (2/88)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/97). .
3- قوله تعالى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ فيه التعبيرُ عمَّا أصاب المسلمين بصِيغة المضارع في يَمْسَسْكُمْ؛ لقُربِه من زمَنِ الحال، والتعبيرُ عمَّا أصاب المشركين بصيغةِ الماضي؛ لبُعدِه؛ لأنَّه حصَل يومَ بدر يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/99). .
4- قول الله تعالى: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا
- التعبيرُ بأداة البُعد تِلْكَ فيه تنبيهٌ على تَعظيمِ الأيَّام يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (5/79)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/100). .
- وقوله: وَلِيَعْلَمَ اللهُ فيه التفاتٌ مِن نُدَاوِلُهَا إلى الغَيبة بإسنادِه إلى اسمِ الذاتِ المستجمِعِ للصِّفات الله؛ للتعظيم، ولتربية المهابةِ، والإشعارِ بأنَّ صدورَ كلِّ واحدٍ ممَّا ذُكِر بصدد التعليلِ من أفعالِه تعالى باعتبارِ منشأٍ معيَّنٍ من صفاته تعالى، مغايرٌ لمنشأِ الآخَر يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/354)، ‏((الدر المصون)) للسمين الحلبي (3/406)، ((تفسير أبي السعود)) (2/90). .
5- قوله: وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ: اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله، ونفيُ المحبَّةِ في إيقاعِه على الظَّالِمين تَعريضٌ بمحبَّته تعالى لمقابِليهم من المؤمنين يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/90). .
6- قوله: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ:
- تَكريرُ اللامِ في وَلِيُمَحِّصَ؛ للتَّذكيرِ بالتعليلِ السَّابق (ولِيَعلمَ)؛ لوقوعِ الفصلِ بينهما بالاعتراضِ بجملة وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وإظهارُ الاسمِ الجليلِ (الله) في موقِع الإضمار؛ لإبرازِ مزيدِ الاعتناءِ بشأن التَّمحيصِ، وهذه الأمورُ عِللٌ للمداولة المعهودةِ باعتبار كونِها على المؤمنين، وقُدِّمت في الذِّكر؛ لأنَّها المحتاجةُ إلى البيان، ولعلَّ تأخيرَ العِلَّةِ الأَخيرةِ عن الاعترِاض؛ لئلَّا يُتوَهَّمَ اندراجُ المذنبين في الظَّالمين يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/91). .
- ولفظة الْكَافِرِينَ في قوله تعالى: وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ عامٌّ، أُريد به الخصوصُ؛ فالمرادُ بالكافرين هنا طائفةٌ مخصوصة، وهم الذين حارَبوا رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّه تعالى لم يَمْحَقْ كلَّ كافر، بل كثيرٌ منهم باقٍ على كُفرِه يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/375)، ((تفسير أبي حيان)) (3/356). .
- وقابَل في قوله تعالى: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ تمحيصَ المؤمنِ بمحْقِ الكافِر؛ لأنَّ التمحيصَ إهلاكُ الذُّنوب، والمحقَ إهلاكُ النُّفوس، وهي مقابلةٌ لطيفةٌ في المعنى يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/374)، ((تفسير أبي حيان)) (3/356). .