موسوعة التفسير

سورةُ الزُّخرُفِ
الآيات (15-18)

ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ

غريب الكلمات:

وَأَصْفَاكُمْ: أي: أخلَصَكم وخَصَّكم، وأصلُ الصَّفاءِ: يدُلُّ على خُلوصِ الشَّيءِ .
كَظِيمٌ: أي: مُمتلئٌ حُزنًا وغَمًّا يُمسِكُ على حزنِه لا يُظهِرُه ولا يَشكوه، وأصلُ (كظم): يدُلُّ على إمساكِ الشَّيءِ وجَمعِه .
يُنَشَّأُ: أي: يُرَبَّى، والنُّشوءُ: التَّربيةُ، يُقالُ: نَشأتُ في بني فُلانٍ نَشْأً ونُشوءًا: إذا شَبَبتَ فيهم، وأصلُ (نشأ): يدُلُّ على ارتِفاعٍ في شَيءٍ .
الْحِلْيَةِ: الزِّينةِ والحُلِيِّ، وأصلُ (حلو) هنا: تَحْسينُ الشَّيءِ .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ
قَولُه: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ: يجوزُ في «مَن» وَجهانِ؛ أحدُهما: أن يكونَ في محَلِّ نَصبٍ مَفعولًا به بفِعلٍ مَحذوفٍ، تَقديرُه: أوَيجعَلونَ له مَن يُنَشَّأُ في الحِليةِ؟! والثَّاني: أن يكونَ مُبتدَأً وخبَرُه محذوفٌ، تقديرُه: أومَن يُنَشَّأُ في الحِليةِ جُزءٌ أو ولَدٌ له سُبحانَه ؟!

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مبيِّنًا افتراءاتِ المشركينَ: وجَعَل المُشرِكونَ لله سُبحانَه وتعالى بَعضًا مِن خَلْقِه، فقالوا: الملائِكةُ بَناتُ اللهِ! إنَّ الإنسانَ لَكَفورٌ لِنِعَمِ اللهِ تعالى، ظاهِرُ الكُفرانِ لها.
ثمَّ يرُدُّ اللهُ تعالى مُنكِرًا عليهم، فيقولُ: أَتَّخَذَ اللهُ تعالى لِنَفْسِه بَناتٍ مِن خَلقِه كما زَعمتُم -أيُّها المُشرِكونَ- واختَصَّكم بالبَنينَ؟!
وإذا بُشِّرَ أحَدُ أولئك المُشرِكينَ بما نَسَبوه لله تعالى مِن البَناتِ، ظلَّ وَجهُه مُسْودًّا وهو مُمتَلِئٌ غَيظًا لا يُظهِرُه!
أوَيجعَلونَ له مَن يُرَبَّى مِن أوَّلِ عَهْدِه في الحُلِيِّ والزِّينةِ -يعني: البَناتِ- وهو في المُخاصَمةِ والمُنازَعةِ ليس عِندَه بيانٌ، ولا يأتي ببُرهانٍ؟!

تفسير الآيات:

وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا قال: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف: 9] ؛ بيَّنَ أنَّهم معَ إقرارِهم بذلك جَعَلوا له مِن عِبادِه جُزءًا .
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا.
أي: وجَعَل المُشرِكونَ لله بَعضًا مِن خَلْقِه، فقالوا: الملائِكةُ بَناتُ اللهِ !
إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ.
أي: إنَّ الإنسانَ لَشَديدُ الجُحودِ لِنِعَمِ اللهِ تعالى، ظاهِرُ الكُفرانِ لها .
كما قال تعالى: إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات: 6] .
أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16).
أي: أمِ اتَّخَذَ اللهُ تعالى لِنَفْسِه بناتٍ مِن خَلقِه كما زَعمتُم -أيُّها المُشرِكونَ- وأنتم لا تَرضَونَهنَّ لأنفُسِكم، واختَصَّكم أنتم بالبَنينَ فجعَلَهم لكم ؟!
كما قال تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [النحل: 57] .
وقال سُبحانَه: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ [النحل: 62] .
وقال عزَّ وجَلَّ: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصافات: 149 - 159] .
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17).
أي: وإذا أُخبِرَ أحَدُ أولئك -الَّذين قالوا: الملائِكةُ بَناتُ اللهِ- بوِلادةِ امرأتِه لِما نَسَبوه لله تعالى مِن البَناتِ، ظَلَّ وَجهُه أسوَدَ اللَّونِ، وهو مُمتَلِئٌ غَيظًا؛ فهم يأنَفونَ مِن البَناتِ ويَكرهونَهنَّ، ومع ذلك يَنسُبونَهنَّ لله تعالى !
كما قال تعالى: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [النحل: 58 - 59] .
وقال الله سُبحانَه: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [النجم: 21، 22].
أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18).
أي: أوَجَعَلوا ولدًا لله مَن شأنُه أنْ يُرَبَّى في الزِّينةِ، وإذا خُوصِم لا يَقدِرُ على إقامةِ حُجَّتِه، ودفْعِ ما يُجادِلُه به خَصْمُه لِنُقصانِ عقلِه، وضَعفِ رَأْيِه !

الفوائد التربوية:

1- قَال تعالى: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ عبَّرَ بقَولِه: بِمَا ضَرَبَ دونَ أن يَقولَ: (بما جَعَلَ)؛ تعليمًا للأدَبِ في حَقِّه سُبحانَه في هذه السُّورةِ الَّتي مَقصودُها العِلمُ المُوجِبُ للأدَبِ، وزيادةً في تقبيحِ كُفرِهم لا سيَّما إن أرادوا الحقيقةَ، بالإشارةِ إلى أنَّ الوَلَدَ لا يكونُ إلَّا مِثلَ الوالِدِ، لا يُتصَوَّرُ أصلًا أن يكونَ خارِجًا عن شَبَهِه في خاصِّ أوصافِه .
2- التَّسَخُّطُ بالإناثِ مِن أخلاقِ أهلِ الجاهليَّةِ، الذين ذَمَّهم اللهُ في قولِه: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، وقولِه: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [النحل: 58 - 59] .
3- قَولُ الله تعالى: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ فيه إشارةٌ إلى أنَّ الرَّجُلَ لا يُناسِبُ له التَّزيُّنُ كالمرأةِ، ويَنبغي أن يكونَ مُخشَوْشِنًا ، فقد جَعَل النَّشْءَ في الزِّينةِ والنُّعومةِ مِن المَعايِبِ والمَذَامِّ، وأنَّه مِن صِفَةِ رَبَّاتِ الحِجالِ؛ فعلى الرَّجُلِ أن يَجتَنِبَ ذلك، ويَأنَفَ منه، ويَربَأَ بنَفْسِه عنه، وإنْ أراد أنْ يُزيِّنَ نفْسَه زيَّنَها مِن باطِنٍ بلِباسِ التَّقوى .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا أنَّ الولدَ جزءٌ مِن الوالِدِ؛ وجْهُه: قولُهم: إنَّ الملائكةَ بناتُ اللهِ؛ فدلَّ على أنَّ الولدَ جزءٌ مِن الوالِدِ، وعلى هذا الأصلِ امتَنَعتْ شهادتُه له، وقَطْعُه بالسَّرِقةِ مِن مالِه، وحَدُّه أباه على قَذفِه ، ولذلك كان الولدُ في التَّعصيبِ - في بابِ الميراثِ - مُقَدَّمًا على الوالدِ، بمعنى: أنَّه لو مات ميتٌ عن أبيه وابنِه؛ فلأبيه السُّدُسُ فرضًا، والباقي للابنِ تعصيبًا، فسَهْمُ الابنِ الآنَ خمسةٌ مِن ستَّةٍ، وسهمُ الأبِ واحدٌ مِن ستَّةٍ؛ لأنَّ الابنَ جزءٌ مِن أبيه فقُدِّمَ، ولذلك يجوزُ للأبِ أنْ يَتمَلَّكَ مِن مالِ ولدِه -لأنَّ ولَدَه جزؤُه- ما شاء؛ بشرطِ ألَّا يكونَ الولدُ محتاجًا إليه؛ أو تَتعلَّقَ به نَفْسُه .
2- يُستفادُ مِن قولِه: مِنْ عِبَادِهِ: أنَّ كَونَهم مِن عِبادِ اللهِ يَمنَعُ غايةَ المنْعِ أنْ يَكونوا جُزْءًا مِن اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ المعبودَ غيرُ العابدِ، فلا يُمكِنُ أنْ يكونَ العابدُ جُزءًا مِن المعبودِ .
3- قولُه تعالى: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ إلى قولِه: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ قد جَمَعوا في كُفرِهم أنواعًا مِن الكُفرِ؛ وذلك أنَّهم نَسَبوا إلى اللهِ تعالى الولَدَ، ونَسَبوا إليه ما يَعتبِرونَه أخَسَّ النَّوعَينِ، وجعَلوه مِن الملائِكةِ المُكْرَمينَ، فاستَخَفُّوا بهم !
4- قال تعالى: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ في قَولِه: مِمَّا يَخْلُقُ تَنبيهٌ على استِحالَةِ الوَلَدِ، ذَكَرًا كان أو أُنثَى، وإنْ فُرِض اتِّخاذُ الوَلدِ؛ فكيف يَختارُ له الأدنَى، ويَخُصُّكم بالأعلَى ؟! ومَحلُّ الاستِدلالِ هنا أنَّ الإناثَ مَكروهةٌ عِندَهُم، فكيف يَجعَلون لِلهِ أبناءً إناثًا، وهَلَّا جَعَلوها ذُكورًا! ولَيسَت لهم مَعذِرةٌ عن الفَسادِ المُنجَرِّ إلى مُعتَقَدِهم بالطَّريقَينِ؛ لأنَّ الإبطالَ الأوَّلَ نَظريٌّ يَقينيٌّ، والإبطالَ الثَّانيَ جَدَليٌّ بَديهيٌّ؛ قال تعالى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [النجم: 21، 22]، فهذه حُجَّةٌ ناهِضةٌ عليهم؛ لاشتِهارِها بيْنَهم .
5- في قَولِه تعالى: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ أنَّ طَريقةَ القرآنِ فيما يُثبِتُه للرَّبِّ -تعالى- ويَنفيه عنه: مَبنيَّةٌ على بُرهانِ الأَولى، لا على البُرهانِ الَّذي تَستوي أفرادُه، أو يُماثِلُ فَرعُه أصْلَه .
6- قولُه تعالى: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ فيه إشارةٌ إلى نقصِ المرأةِ وضَعفِها الخَلْقيَّينِ الطَّبيعيَّينِ؛ لأنَّ نشأتَها في الحِليةِ دليلٌ على نقصِها المُرادِ جَبرُه والتَّغطيةُ عليه بالحليِ، ولأنَّ عدَمَ إبانتِها في الخِصامِ إذا ظُلِمتْ دليلٌ على الضَّعفِ الخلْقيِّ، وفيه أيضًا دليلٌ على أنَّ الذُّكورةَ قوَّةٌ وكمالٌ، والأنوثةَ ضَعفٌ خلْقيٌّ جِبِلِّيٌّ، ونقصٌ خلقيٌّ جبَلَ اللهُ هذا النَّوعَ مِن الإنسانِ عليه .
7- في قَولِه تعالى: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ أنَّ الآباءَ مَندوبونَ إلى تحليةِ بناتِهم؛ لأنهنَّ لا يَقْدِرنَ على النُّشوءِ فيه صِغارًا إلَّا وقد حُلِّيْنَ بما يُنشَّأْنَ عليه .
8- قَولُ الله تعالى: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ يدُلُّ على أنَّ التَّحَلِّيَ مُباحٌ للنِّساءِ، والإجماعُ مُنعَقِدٌ عليه، والأخبارُ في ذلك لا تُحصى ، فالمرأةُ مُحتاجةٌ إلى التَّزَيُّنِ والتَّجَمُّلِ؛ ومِن ذلك ما تَضَعُه في أُذُنِها مِن الخُرُوصِ ونحوِها، وعلى هذا فلا حَرَجَ أنْ تَثْقُبَ شَحْمةَ أُذُنِها لِتُعَلِّقَ بها الحليَّ .
9- في قَولِه تعالى: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ أنَّ الرِّجالَ لا يجوزُ لهم التَّحَلِّي بحُلِيِّ النِّساءِ -تشبُّهًا بهنَّ- لأنَّ ذلك أمَارةُ نقصِ المرأةِ .
10- في قَولِه تعالى: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ أنَّ المرأةَ إذا كان لها حقٌّ تُطالِبُ به وَكَّلَتْ رجُلًا يُطالِبُ لها؛ إِذْ هي غيرُ مُبِينةٍ في خصومتِها .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ
- قولُه: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا مُتَّصِلٌ بقولِه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [الزخرف: 9] ، أي: ولئنْ سأَلْتَهم عن خالِقِ الأشياءِ، لَيَعْترِفُنَّ به، وقد جَعَلوا له مع ذلك الاعترافِ جُزءًا؛ فالواوُ للعطْفِ على جُملةِ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. ويَجوزُ كَونُها للحالِ، على معنى: وقد جَعَلوا له مِن عِبادِه جُزءًا، ومعنى الحالِ تُفيدُ تَعجُّبًا مِن المُشرِكين في تَناقُضِ آرائِهم وأَقوالِهم وقَلبِهمُ الحَقائِقَ، وهي غَبارَةٌ في الرَّأيِ تَعرِضُ للمُقَلِّدينَ في العَقائِدِ الضَّالَّةِ؛ لأنَّهم يُلَفِّقون عَقائِدَهم مِن مُختَلِفِ آراءِ الدُّعاةِ؛ فيَجتَمِعُ للمُقَلِّدِ مِن آراءِ المُختَلِفينَ في النَّظرِ ما لو اطَّلَع كلُّ واحِدٍ مِن المُقتَدِينَ بهم على رأيِ غَيرِه منهم لَأَبطَلَه، أو رَجَع عن الرَّأيِ المُضادِّ له؛ فالمُشرِكون مُقِرُّون بأنَّ اللهَ خالِقُ الأشياءِ كلِّها، ومع ذلك جَعَلوا له شُركاءَ في الإلهيَّةِ، وكيف يَستقيمُ أنْ يكونَ المخلوقُ إلهًا؟! وجَعَلوا للهِ بَناتٍ، والبُنوَّةُ تَقْتضي المُماثَلةَ في الماهيَّةِ، وكيف يَستقيمُ أنْ يكونَ لِخالِقِ الأشياءِ كلِّها بَناتٌ؟! فهُنَّ لا مَحالةَ مخلوقاتٌ له، فإنْ لم يكُنَّ مَخلوقاتٍ لَزِمَ أنْ يكُنَّ مَوجوداتٍ بوُجودِه، فكيف تَكُنَّ بَناتِه؟! وإلى هذا التَّناقُضِ الإشارةُ بقولِه: مِنْ عِبَادِهِ، أي: مِن مَخلوقاتِه، أو ليستِ العُبوديَّةُ الحقَّةُ إلَّا عُبوديَّةَ المخلوقِ .
- قولُه: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا أي: ولَدًا، فقالوا: الملائكةُ بَناتُ اللهِ، ولَعلَّه سمَّاه جُزءًا كما سُمِّيَ بَعضًا؛ لأنَّه بَضعَةٌ مِن الوالِدِ؛ دَلالةً على استِحالَتِه على الواحِدِ الحَقِّ في ذاتِه .
- وجُملةُ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ تَذْيِيلٌ يدُلُّ على استِنكارِ ما زَعَموهُ بأنَّه كُفرٌ شَديدٌ .
2- قولُه تعالَى: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ
- (أم) للإضرابِ، وهو هنا انتِقاليٌّ؛ لانتِقالِ الكلامِ مِن إبْطالِ مُعتَقَدِهُم بُنُوَّةَ المَلائِكةِ للهِ تعالى بما لَزِمَه مِنِ انتِقاصِ حَقيقةِ الإلهيَّةِ، إلى إبطالِه بما يَقتَضِيه مِنِ انتِقاصٍ يُنافي الكَمالَ الَّذي تَقتَضِيه الإلهيَّةُ .
- والاستِفهامُ في قولِه: أَمِ اتَّخَذَ للإنكارِ والتَّوبيخِ؛ تَجهيلًا لهم، وتَعجُّبًا مِن شَأنِهم، حيثُ لم يَرضَوا بأنْ جَعَلوا للهِ مِن عِبادِه جُزءًا، حتَّى جَعَلوا ذلك الجُزءَ الإناثَ دونَ الذُّكورِ، على أنَّهُم أَنفَرُ خَلقِ اللهِ عن الإناثِ، وأمقَتُهم لَهُنَّ، كما اقتَضاهُ قَولُه: وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ .
- و(أمْ) حَيثما وقَعَت تَقتَضِي تَقديرَ استِفهامٍ بَعدَها، وهو هنا استِفهامٌ في معنى الإنكارِ، وتَسَلَّطَ الإنكارُ على اتِّخاذِ البَناتِ مع عَدَمِ تَقدُّمِ ذِكْرِ البَناتِ؛ لِكَونِ المَعلومِ مِن جَعْلِ المُشرِكين للهِ جُزءًا أنَّ المَجعولَ جُزءًا له هو المُلائكةُ، وأنَّهم يَجعَلون الملائكةَ إناثًا، فذلك مَعلومٌ مِن كَلامِهم .
- وأُوثِرَ فِعلُ اتَّخَذَ هنا دونَ غَيرِه؛ لأنَّه يَشملُ الاتِّخاذَ بالوِلادةِ، ويَشملُ ما هو دونَ ذلك، وهو التَّبَنِّي؛ فعَلى كِلَا الفَرضَينِ يتَوَجَّهُ إنكارُ أنْ يكونَ ما هو للهِ أدوَنَ ممَّا هو لهم، وقد أشارَ إلى هذا قَولُه: وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ؛ فهذا ارتِقاءٌ في إبطالِ مُعتَقَدِهم بإبطالِ فَرْضِ أنْ يَكونَ اللهُ تَبَنَّى الملائكةَ؛ سَدًّا على المُشرِكين بابَ التَّأوُّلِ والتَّنصُّلِ مِن فَسادِ نِسبَتِهم البَناتِ إلى اللهِ تعالى .
- وجُملةُ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ في مَوضِعِ الحالِ، والنَّفيُ الحاصِلُ مِن الاستِفهامِ الإنكارِيِّ مُنصَبٌّ إلى قَيدِ الحالِ، فحَصَل إبطالُ اتِّخاذِ اللهِ البَناتِ بدَليلَينِ؛ لأنَّ إعطاءَهُم البَنينَ واقِعٌ؛ فنَفيُ اقتِرانِه باتِّخاذِه لنَفْسِه البَناتِ يَقتَضِي انتِفاءَ اتِّخاذِه البَناتِ؛ فالمَقصودُ اقتِرانُ الإنكارِ بهذا القَيدِ .
- وتَنكيرُ بَنَاتٍ؛ لأنَّ التَّنكيرَ هو الأصلُ في أسماءِ الأجناسِ، وأمَّا تَعريفُ بِالْبَنِينَ باللَّامِ فهو تَعريفُ الجِنسِ، والمَقصودُ منه هنا الإشارةُ إلى المَعروفِ عِندَهم، المُتنافَسِ في وُجودِه لَدَيهم .
- وتَقديمُ البَناتِ في الذِّكرِ على البَنينَ؛ لأنَّ ذِكْرَهنَّ أهمُّ هنا؛ إذ هو الغَرضُ المَسُوقُ له الكَلامُ، ولِمَا في التَّقديمِ مِن الرَّدِّ على المُشركِين في تَحقيرِهِم البَناتِ وتَطَيُّرِهم مِنهُنَّ، فجاء ذِكرُ البَنينَ مُستطَردًا؛ لِمَزيدِ الإنكارِ والتَّتميمِ فيه .
- وأيضًا التَّقديمُ والتَّنكيرُ والتَّعريفُ في لَفظَتَيْ بَنَاتٍ وبِالْبَنِينَ فيه مُراعاةٌ للفواصِلِ .
- والخِطابُ في وَأَصْفَاكُمْ مُوَجَّهٌ إلى الَّذين جَعَلوا له مِن عِبادِه جُزءًا، وفيه الْتِفاتٌ مِن الغَيْبةِ إلى الخِطابِ؛ لِيَكونَ الإنكارُ والتَّوبيخُ أوقَعَ عليهم لِمُواجَهَتِهم به، ولتَأكيدِ الإلزامِ، على مَعنَى: هَبُوا أنَّكُم اجتَرَأتُم على إضافةِ اتِّخاذِ جِنسِ الوَلَدِ إليه سُبحانَه، مع ظُهورِ استِحالَتِه وامتِناعِه، أمَا كانَ لكم شَيءٌ مِن العَقلِ ونُبَذٌ مِن الحَياءِ حتَّى اجتَرَأتُم على التَّفَوُّهِ بالعَظيمةِ الخارِقةِ للعُقولِ، مِنِ ادِّعاءِ أنَّه تعالى آثَرَكُم على نَفْسِه بخَيرِ الصِّنفَينِ وأعلاهُما ؟!
3- قولُه تعالَى: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ استِئنافٌ مُقَرِّرٌ لِمَا قبْلَه، وقيل: حالٌ على مَعنْى: أنَّهم نَسَبوا إليه ما ذَكَروا ومِن حالِهم أنَّ أحدَهُم إذَا بُشِّرَ بهِ اغتَمَّ، وعَدَل عن ضَميرِ الخِطابِ إلى ضَميرِ الغَيبةِ على طَريقِ الالْتِفاتِ؛ للإيذانِ باقتِضاءِ ذِكْرِ قَبائِحِهم أنْ يُعرَضَ عنهم وتُحكَى لغَيرِهم؛ تَعجُّبًا مِن فَسادِ مَقالَتِهم، وتَشنيعًا بها؛ إذ نَسَبوا للهِ بناتٍ دونَ الذُّكورِ، وهو نَقصٌ، وكانوا مِمَّن يَكرَهُ البَناتِ ويُحَقِّرُهُنَّ؛ فنِسبَتُها إلى اللهِ مُفضٍ إلى الاستِخفافِ بجانِبِ الإلهيَّةِ .
- قولُه: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ ... استِعمالُ البِشارةِ هنا تَهَكُّمٌ بهم؛ كقَولِه: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الانشقاق: 24] ؛ لأنَّ البِشارةَ إعلامٌ بحُصولِ أَمرٍ مُفرِحٍ ، وذلك بناءً على أنَّ البشارةَ لا تكونُ إلَّا فيما يسرُّ.
4- قولُه تعالَى: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ عَطْفُ إنكارٍ على إنكارٍ، والواوُ عاطفةُ الجُملةِ على الجملةِ، وهي مُؤخَّرةٌ عن همزةِ الاستِفهامِ؛ لأنَّ للاستِفهامِ الصَّدرَ في الكلامِ، وأصلُ التَّرتيبِ: (وَأمَن يُنشَّأُ)، وجملةُ الاستِفهامِ مَعطوفةٌ على الإنكارِ المُقَدَّرِ بعْدَ (أم) في قَولِه: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ [الزخرف: 16] ؛ تَكريرًا للإنكارِ، وتَثنِيَةً للتَّوبيخِ على نِسبةِ البَناتِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ. ويجوزُ أنْ يَكونَ أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ بدَلًا مِن قَولِه: بَنَاتٍ بدَلًا مُطابِقًا، وأُبرِزَ العامِلُ في البَدَلِ؛ لتَأكيدِ معنَى الإنكارِ، ولا سِيَّما وهو قد حُذِفَ مِن المُبدَلِ منه؛ وإذ كان الإنكارُ إنَّما يتَسلَّطُ على حُكمِ الخَبَرِ، كان مُوجبُ الإنكارِ الثَّاني مُغايِرًا لمُوجبِ الإنكارِ الأوَّلِ، وإنْ كان المَوصوفُ بالوصفَينِ اللَّذَينِ تَعَلَّق بهما الإنكارُ مَوصوفًا واحِدًا، وهو الأُنثَى .
- قولُه: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ ... النَّشءُ في الحِليةِ كِنايةٌ عن الضَّعفِ عن مُزاوَلَةِ الصِّعابِ بحَسَبِ المُلازَمةِ العُرفيَّةِ فيه، والمَعنَى: أنْ لا فائِدةَ في اتِّخاذِ اللهِ بَناتٍ لا غَناءَ لهنَّ؛ فلا يَحصُلُ له باتِّخاذِها زِيادةُ عِزَّةٍ؛ بِناءً على مُتعارَفِهم؛ فهذا احتِجاجٌ إقناعيٌّ خطابيٌّ، والمَقصودُ مِن هذا: فَضحُ مُعتَقَدِهم الباطِلِ، وأنَّهم لا يُحسِنون إعمالَ الفِكرِ في مُعتَقَداتِهم، وإلَّا لَكانوا حينَ جَعَلوا للهِ بُنُوَّةً ألَّا يَجعَلوا له بُنُوَّةَ الإناثِ، وهم يَعُدُّون الإناثَ مَكروهاتٍ مُستَضعَفاتٍ .
- الحاصلُ أنَّ في ظاهرِ قولِه: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ إنكارَ نِسبةِ البَناتِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، وفي العُدولِ إلى هذه الألفاظِ مِن التَّصريحِ بذِكْرِ «البَناتِ»: إدماجٌ لمَعنَى ذمِّ التَّشَبُّهِ بالنِّساءِ، وفي مَفهومِ المُدمَجِ رَمزٌ إلى التَّرغيبِ في التَّزَيُّنِ بلِباسِ التَّقوَى، والاهتِمامِ بعِمارةِ الباطِنِ، ورَفضِ الالْتِفاتِ إلى الظَّاهِرِ .