موسوعة التفسير

سورةُ الانشِقاقِ
الآيات (16-25)

ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ

غريب الكلمات:

بِالشَّفَقِ: أي: الحُمْرةِ الَّتي تكونُ عندَ مَغِيبِ الشَّمسِ، وسُمِّي بذلك لرِقَّتِه، وأصلُ (شفق): يدُلُّ على رِقَّةٍ في الشَّيءِ [90] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/197، 198)، ((المفردات)) للراغب (ص: 458)، ((تفسير القرطبي)) (19/274). .
وَسَقَ: أي: جَمَع وضَمَّ، والوَسْقُ: جَمعُ المتفَرِّقِ، وضَمُّك الشَّيءَ بَعضَه إلى بعضٍ [91] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 521)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 486)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/109)، ((البسيط)) للواحدي (23/366)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 445)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 456). .
اتَّسَقَ: أي: اجتَمَعَ، واستَوَى، وتَمَّ نُورُه، وهو افتَعَل مِنَ الوَسْقِ: الَّذي هو الجَمعُ [92] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 521)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 113)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/109)، ((البسيط)) للواحدي (23/367)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 445)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 456). .
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ: المرادُ بالرُّكوبِ: المُلاقاةُ، والطَّبَقُ: ما طابَق غيرَه. يُقالُ: هذا طَبَقٌ لهذا: إذا طابَقه، والمعنى: لَتُلاقُنَّ حالًا كائنةً بعدَ حالٍ، كُلُّ واحدةٍ مُطابِقةٌ للأخرَى، أو: يكونُ الطَّبَقُ جمعَ طَبَقةٍ، وهي المرتبةُ [93] قال أبو السعود: (وهو أوفقُ للرُّكوبِ المُنبئِ عن الاعتِلاءِ). ((تفسير أبي السعود)) (9/133). ، والمعنى: لَتَرْكَبُنَّ أحوالًا بعدَ أحوالٍ هي طبقاتٌ بعضُها فوقَ بعضٍ، وأصلُ (ركب): عُلُوُّ شَيءٍ شيئًا، وأصلُ (طبق): يدُلُّ على وَضعِ شَيءٍ مَبسوطٍ على مِثْلِه حتَّى يُغَطِّيَه [94] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 521)، ((تفسير ابن جرير)) (24/251)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 320)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/432) و(3/439)، ((تفسير الزمخشري)) (4/728)، ((تفسير ابن جزي)) (2/466)، ((تفسير الألوسي)) (15/291). .
يُوعُونَ: أي: يَكتُمونَ ويَجمَعونَ في صُدورِهم مِنَ الكُفرِ والتَّكذيبِ، وأصلُ (وعي): يدُلُّ على ضَمِّ شَيءٍ [95] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 521)، ((تفسير ابن جرير)) (24/258)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 539)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/124)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 445)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 457). .
مَمْنُونٍ: أي: مَقطوعٍ أو مَنقوصٍ، وأصلُ (منن) هنا: يدُلُّ على قَطْعٍ [96] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 477)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 428)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/267)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 420). .

 مشكل الإعراب :

قَولُه تعالى: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ
قَولُه تعالى: لَتَرْكَبُنَّ: هذا جوابُ القَسَمِ في قَولِه تعالى: فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ [الانشقاق: 16] ، فلا محَلَّ له مِن الإعرابِ. طَبَقًا مَفعولٌ به، على معنَى: لَتَرْكَبُنَّ وتُلاقُنَّ أحوالًا بعدَ أحوالٍ هي طبقاتٌ في الشِّدَّةِ. وقيل: منصوبٌ على الحالِ، على معنى: لَتَركَبُنَّ هذه الأحوالَ أُمَّةً بعْدَ أمَّةٍ، كأنَّه قيلَ: مُتتابعِينَ أُمَّةً بعدَ أُمَّةٍ. عَنْ طَبَقٍ: «عن» على بابِها مِن معنَى المُجاوَزةِ، أو بمعنى «بَعْدَ»، وفي محلِّ الجارِّ والمجرورِ وَجْهانِ؛ أحَدُهما: أنَّه في محلِّ نصبٍ على الحالِ مِنْ فاعِلِ «تَرْكَبُنَّ»، أي: لَتَرْكَبُنَّ طبقًا مُجاوزِينَ لطَبَقٍ. والثَّاني: أنَّه صِفةٌ لـ «طَبقًا»، أي: طبقًا مُجاوِزًا لطَبَقٍ [97] يُنظر: ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/1279)، ((تفسير الزمخشري)) (4/728)، ((تفسير ابن عطية)) (5/458)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/737-739)، ((تفسير الألوسي)) (15/290). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مُقْسِمًا ببعضِ مخلوقاتِه: فأُقسِمُ بالحُمْرةِ الَّتي تَلُوحُ في الأُفُقِ بعْدَ غُروبِ الشَّمسِ، وباللَّيلِ وما جَمَع مِن مَخلوقاتٍ، وبالقَمَرِ إذا تمَّ واكتَمَل فصار بَدْرًا مُنيرًا؛ لَتَركَبُنَّ -أيُّها الناسُ- حالًا بَعْدَ حالٍ!
ثمَّ يقولُ سبحانَه منكرًا وموبخًا: فما للكافِرينَ لا يُؤمِنونَ بالآخِرةِ، ولا يُقِرُّونَ بالبَعْثِ بعدَ المَوتِ، وإذا قُرِئَ عليهم القُرآنُ لا يَسجُدونَ للهِ؟! لا يُوجَدُ ما يَمنَعُهم مِن الإيمانِ والسُّجودِ، بل هم يُكَذِّبونَ بالقُرآنِ والبَعثِ؛ عِنادًا وكِبْرًا، واللهُ أعلَمُ بما يَجمَعُه الكافِرونَ في صُدورِهم مِنَ الكُفرِ والتَّكذيبِ؛ فبَشِّرْهم -يا محمَّدُ- بعَذابٍ مُؤلِمٍ، إلَّا الَّذين تابُوا منهم فآمَنوا، وأطاعوا اللهَ تعالى؛ فأولئك لهم في الآخِرةِ أجرٌ كامِلٌ غَيرُ مَنقوصٍ ولا مَقطوعٍ.

تفسير الآيات:

فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16).
أي: فأُقسِمُ بالحُمْرةِ الَّتي تَلُوحُ في الأُفُقِ بَعْدَ غُروبِ الشَّمسِ [98] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/243)، ((تفسير ابن عطية)) (5/458)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/226). قال الواحدي: (يعني: الحُمْرةَ الَّتي تكونُ بعدَ غُروبِ الشَّمسِ إلى وَقتِ العِشاءِ الآخِرةِ، وهذا قولُ المفَسِّرينَ وأهلِ اللُّغةِ جَميعًا). ((الوسيط)) (4/454). ويُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/358). وقال ابنُ عاشور: (الشَّفَقُ: اسمٌ للحُمْرةِ الَّتي تَظهَرُ في أُفُقِ مَغرِبِ الشَّمسِ إثْرَ غُروبِها، وهو ضياءٌ مِن شُعاعِ الشَّمسِ إذا حَجَبها عن عُيونِ النَّاسِ بَعضُ جِرمِ الأرضِ). ((تفسير ابن عاشور)) (30/226). .
وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17).
أي: وأُقسِمُ باللَّيلِ وما جَمَع وضمَّ فيه مِن مَخلوقاتٍ [99] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/245)، ((تفسير القرطبي)) (19/276)، ((تفسير ابن كثير)) (8/359)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/346)، ((تفسير السعدي)) (ص: 917)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/227). قال ابن جُزَي: (وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ أي: جمَع وضمَّ، ومنه الوَسْقُ؛ وذلك أنَّ اللَّيلَ يضُمُّ الأشياءَ ويَستُرُها بظَلامِه). ((تفسير ابن جزي)) (2/465). قيل: المعنى: جَمَع وضَمَّ ما كان مُنتَشِرًا بالنَّهارِ في تصَرُّفِه؛ وذلك أنَّ اللَّيلَ إذا أقبَلَ أَوى كُلُّ شَيءٍ إلى مأواه. ومِمَّن قال بهذا المعنى: الواحديُّ، والسمعاني، والبغوي، والرَّسْعَني، والعُلَيمي. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/454)، ((تفسير السمعاني)) (6/191)، ((تفسير البغوي)) (5/229)، ((تفسير الرسعني)) (8/555)، ((تفسير العليمي)) (7/323). قال ابن جرير: (وقولُه: وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ يقولُ: واللَّيلِ وما جَمَع، مِمَّا سَكَن وهَدَأ فيه مِن ذي رُوحٍ كان يَطيرُ، أوْ يَدِبُّ نَهارًا). ((تفسير ابن جرير)) (24/245). وقال ابنُ عاشور: (الوَسْقُ: جَمعُ الأشياءِ بَعْضِها إلى بعضٍ، فيَجوزُ أن يكونَ المعنى: وما جَمَع ممَّا كان مُنتَشِرًا في النَّهارِ مِن ناسٍ وحَيوانٍ؛ فإنَّها تأوي في اللَّيلِ إلى مآويها؛ وذلك مِمَّا جعَلَ اللهُ في الجِبِلَّةِ مِن طلَبِ الأحياءِ السُّكونَ في اللَّيلِ؛ قال تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [القصص: 73] ، وذلك مِن بديعِ التَّكوينِ...). ((تفسير ابن عاشور)) (30/227). وقيل: المرادُ: النُّجومُ؛ لأنَّها تَظهَرُ في اللَّيلَ، فشَبَّه ظُهورَها فيه بوَسْقِ الواسِقِ أشياءَ مُتفَرِّقةً. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/227). وقال القاسمي: (والأظهَرُ أن يكونَ إشارةً إلى الأشياءِ كُلِّها؛ لاشتِمالِ اللَّيلِ عليها. فكأنَّه تعالى أقسَمَ بجَميعِ المخلوقاتِ، كما قال: فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ [الحاقة: 38، 39]). ((تفسير القاسمي)) (9/441). .
وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18).
أي: وأُقسِمُ بالقَمَرِ إذا تمَّ واكتَمَل فصار بَدْرًا مُنيرًا [100] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/248)، ((تفسير البغوي)) (5/229)، ((تفسير ابن عطية)) (5/458)، ((تفسير ابن كثير)) (8/359)، ((تفسير السعدي)) (ص: 917)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 117). .
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19).
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ: لَتَرْكَبَنَّ بفَتحِ الباءِ، على خِطابِ الواحِدِ؛ قيل: المرادُ: النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والمعنى: لتَرْكَبَنَّ -يا محمَّدُ- طَبَقًا مِن أطباقِ السَّماءِ بَعْدَ طَبَقٍ، ولَتَرتَقِيَنَّ حالًا بعدَ حالٍ. وقيل: يَذكُرُ حالاتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن يومِ أُوحِيَ إليه إلى يومِ قَبَضه اللهُ. أو أنَّه خِطابُ الإنسانِ المتقَدِّمِ الذِّكرِ في قَولِه: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ [101] قرأ بها ابنُ كثيرٍ، وحمزةُ، والكِسائيُّ، وخلَفٌ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/399). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 367)، ((معاني القراءات)) للأزهري (3/134)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 756)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/737). [الانشقاق: 6].
2- قراءة لَتَرْكَبُنَّ بضَمِّ الباءِ على خِطابِ الجَمعِ [102] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/399). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 367)، ((معاني القراءات)) للأزهري (3/134)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 756)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/737). .
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19).
أي: لَتَركَبُنَّ -أيُّها النَّاسُ- حالًا بَعْدَ حالٍ [103] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/256)، ((تفسير القرطبي)) (19/278)، ((تحفة المودود)) لابن القيم (ص: 289، 290)، ((تفسير السعدي)) (ص: 917)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 117). قيل: المعنى: لَتَركَبُنَّ -أيُّها النَّاسُ- ممَّا تَلْقَونَ مِن شدائِدِ القيامةِ وأهوالِها أحوالًا. ومِمَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ جرير، واستظهره ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/256)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/229). ويُنظر أيضًا: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/473). وقيل: المعنى: لَتَركَبُنَّ حالًا بعدَ حالٍ حتَّى يَصيروا إلى الله تعالى، مِن إحياءٍ، وإماتةٍ، وبعثٍ. وممَّن اختاره: الزَّجَّاجُ، والسَّمَرْقَنْديُّ. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/305)، ((تفسير السمرقندي)) (3/562). وقريبٌ منه قولُ مَن قال: لَتَركَبُنَّ الشَّدائِدَ: الموتَ والبعثَ والحسابَ حالًا بعدَ حالٍ. وممَّن اختاره: الثعالبيُّ، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير الثعالبي)) (5/569)، ((تفسير العليمي)) (7/324). وقيل: المعنى: لَتَكونُنَّ نُطفةً، ثمَّ عَلَقةً، ثمَّ مُضغةً، ثمَّ تُنفَخُ الرُّوحُ، فتَحْيَونَ إلى أن تموتوا، ثمَّ تُبعَثونَ، ثمَّ تُحاسَبونَ، ثمَّ تَصيرونَ إلى الجنَّةِ أو النَّارِ. ومِمَّن ذهب في الجملةِ إلى هذا المعنى: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والواحديُّ، والسمعانيُّ، وابنُ القيِّم، والسعديُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/640)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1188)، ((تفسير السمعاني)) (6/192)، ((تحفة المودود بأحكام المولود)) لابن القيم (ص: 289)، ((تفسير السعدي)) (ص: 917). وقال ابنُ كثيرٍ: (قال الحسنُ البصري: طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ يقولُ: حالًا بعدَ حالٍ، رخاءً بعدَ شِدَّةٍ، وشدةً بعدَ رخاءٍ، وغنًى بعدَ فقرٍ، وفقرًا بعدَ غنًى، وصحةً بعدَ سقمٍ، وسقمًا بعدَ صحَّةٍ). ((تفسير ابن كثير)) (8/361). .
فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ظَهَر المرادُ ولم يَبْقَ إلَّا العِنادُ؛ سَبَّب عن ذلك الإنكارَ على الكافرينَ والتَّوبيخَ والتَّقريعَ والتَّهديدَ؛ فقال مُعْرِضًا عن خِطابِهم إلى الغَيبةِ؛ إيذانًا باستِحقاقِهم للأخْذِ إنْ لم يَرجِعوا [104] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/348). :
فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20).
أي: فما الَّذي يَمنَعُ الكافِرينَ إذَنْ مِنَ الإيمانِ بالآخِرةِ، والإقرارِ بالبَعْثِ بعدَ المَوتِ، واللهُ هو المتصَرِّفُ في الكَونِ كيف يَشاءُ، وقد ظهَرَت لهم دلائِلُ الحَقِّ، وقامت عليهم حُجَجُه البَيِّنةُ [105] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/256)، ((تفسير الرازي)) (31/103)، ((تفسير القرطبي)) (19/280)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 114)، ((تفسير ابن كثير)) (8/361)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/348)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/230، 231). ؟!
وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآَنُ لَا يَسْجُدُونَ (21).
أي: وما لَهم إذا قُرِئَ عليهم القُرآنُ لا يَسجُدونَ لله تَعظيمًا وخُضوعًا له [106] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/257)، ((تفسير القرطبي)) (19/280)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (23/151، 152)، ((تفسير ابن كثير)) (8/361)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/ 349)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/232). قال الرازي: (قال ابنُ عَبَّاسٍ والحسَنُ وعَطاءٌ والكَلْبيُّ ومُقاتِلٌ: المُرادُ مِن السُّجودِ: الصَّلاةُ. وقال أبو مُسلِمٍ: الخُضوعُ والاستِكانةُ. وقال آخَرونَ: بل المرادُ نفْسُ السُّجودِ عندَ آياتٍ مخصوصةٍ، وهذه الآيةُ منها). ((تفسير الرازي)) (31/104). ومِمَّن ذهب إلى أنَّ معنى: لَا يَسْجُدُونَ: لا يُصَلُّونَ: ابنُ أبي زَمَنِين، والقرطبيُّ، والخازن، والعُلَيمي، ونسَبَه ابنُ تيميَّةَ إلى عامَّةِ العُلَماءِ ومُفَسِّري السَّلَفِ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/113)، ((تفسير القرطبي)) (19/280)، ((تفسير الخازن)) (4/409)، ((تفسير العليمي)) (7/324)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (23/151، 152). ومِمَّن ذهب إلى أنَّ المعنى: لا يَخضَعونَ ولا يَستَكينونَ: ابنُ جرير، والسمرقنديُّ، والثعلبي، ومكِّي، والزمخشري، والقاسمي، والسعدي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/257)، ((تفسير السمرقندي)) (3/562)، ((تفسير الثعلبي)) (10/162)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/8168)، ((تفسير الزمخشري)) (4/728)، ((تفسير القاسمي)) (9/442)، ((تفسير السعدي)) (ص: 917)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 120). قال البِقاعي: (أي: يَخضَعونَ بالقَلبِ ويَتذَلَّلونَ للحَقِّ بالسُّجودِ اللُّغَويِّ، فيَسجُدونَ بالقالَبِ السُّجودَ الشَّرعيَّ لتِلاوتِه). ((نظم الدرر)) (21/349). وقيل: المرادُ به: سجودُ التِّلاوةِ. وممَّن ذهب إليه: الماتُريديُّ، واستدلَّ بالآيةِ على وُجوبِها. يُنظر: ((تفسير الماتريدي)) (10/478). لكنْ قال ابنُ الجَوزيِّ نقلًا عن القاضي أبي يعلى: (وقد احتجَّ بها قَومٌ على وُجوبِ سُجودِ التِّلاوةِ، وليس فيها دَلالةٌ على ذلك، وإنَّما المعنى: لا يَخشَعون، ألَا ترى أنَّه أضاف السُّجودَ إلى جميعِ القُرآنِ، والسُّجودُ يختصُّ بمَواضِعَ منه). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/422). ويُنظر: ((التعليق الكبير في المسائل الخلافية بين الأئمة)) لأبي يعلى (1/282، 283). ؟!
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22).
أي: لا يُوجَدُ ما يَمنَعُهم مِن الإيمانِ والسُّجودِ؛ فدلائِلُ الحَقِّ واضِحةٌ ومُتوفِّرةٌ، وإنَّما مِن سَجِيَّةِ الَّذين كَفَروا وعادتِهم المُستَمِرَّةِ: التَّكذيبُ بالقُرآنِ، والبَعثِ، والجنَّةِ والنَّارِ؛ عِنادًا أو كِبْرًا منهم دونَ حُجَّةٍ وعُذرٍ [107] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/257)، ((الوسيط)) للواحدي (4/456)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 114)، ((تفسير ابن كثير)) (8/361)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/ 349)، ((تفسير السعدي)) (ص: 917)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/233). !
كما قال تعالى: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الروم: 29] .
وقال سبحانه: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ [البروج: 19] .
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23).
أي: واللهُ أعلَمُ بما يَجمَعُه الكافِرونَ في صُدورِهم مِنَ التَّكذيبِ والآثامِ [108] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/252)، ((تفسير ابن جرير)) (24/257)، ((تفسير القرطبي)) (19/282)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 114)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/350)، ((تفسير السعدي)) (ص: 917)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/234). .
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24).
أي: فبشِّرْ -يا محمَّدُ- أولئك الكافِرينَ بعَذابٍ مُوجِعٍ في غايةِ الإيلامِ [109] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/258)، ((تفسير القرطبي)) (19/282)، ((تفسير ابن كثير)) (8/362). وقال ابنُ عثيمين: (الخِطابُ في قَولِه: فَبَشِّرْهُمْ عامٌّ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّم، ولكُلِّ مَن يَصِحُّ خِطابُه). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 122). .
كما قال تعالى: فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ * يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [الطور: 11 - 14].
إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25).
أي: إلَّا الَّذين تابُوا منهم فآمَنوا بكُلِّ ما وَجَب عليهم الإيمانُ به، وأطاعوا اللهَ تعالى، فامتَثَلوا أمْرَه واجتَنَبوا نَهْيَه؛ فأولئك لهم في الآخِرةِ أجرٌ كامِلٌ غَيرُ مَنقوصٍ، ودائِمٌ غيرُ مَقطوعٍ [110] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/258)، ((تفسير الرازي)) (31/105)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/350)، ((تفسير الشوكاني)) (5/496)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/234، 235). قال ابنُ تيميَّةَ: (قال عامَّةُ المفَسِّرينَ: غيرُ مَقطوعٍ ولا منقوصٍ... وقد شَذَّ بَعضُ النَّاسِ فقال: غيرُ مَمْنونٍ عليهم... وهذا القَولُ مع مُخالَفتِه لأقوالِ السَّلَفِ والجُمهورِ هو خطأٌ؛ لوُجوهٍ: أحَدُها: أنَّ اللهَ يَمُنُّ علينا بكُلِّ نِعمةٍ أنعَمَ بها علينا، حتَّى بالإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ؛ قال تعالى: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات: 17] ...). ((الرد على من قال بفناء الجنة والنار)) (ص: 84، 85). وقال ابن كثير: (وقال بعضُهم: غَيْرَ مَمْنُونٍ عليهم. وهذا القولُ ... قد أنكره غيرُ واحدٍ؛ فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ له المِنَّةُ على أهلِ الجنَّةِ في كلِّ حالٍ وآنٍ ولَحظةٍ، وإنَّما دخَلوها بفَضلِه ورحمتِه، لا بأعمالِهم، فله عليهم المِنَّةُ دائمًا سَرْمَدًا، والحمدُ لله وحْدَه أبدًا؛ ولهذا يُلْهَمونَ تسبيحَه وتحميدَه كما يُلهَمونَ النَّفَسَ: وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس: 10] ). ((تفسير ابن كثير)) (8/362). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ سؤالٌ: لِماذا يُقْسِمُ اللهُ تعالى على خَبَرِه وهو سُبحانَه الصَّادِقُ بلا قَسَمٍ؟! وكذلك يُقْسِمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم على خَبَرِه، وهو صادقٌ بلا قَسَمٍ؟!
الجوابُ: أنَّ القَسَمَ يُؤَكِّدُ الكلامَ؛ والقرآنُ الكريمُ نَزَلَ باللِّسانِ العربيِّ، وإذا كان مِن عادتِهم أنَّهم يُؤَكِّدون الكلامَ بالقَسَمِ صار هذا الأسلوبُ جاريًا على اللِّسانِ العربيِّ الَّذي نَزَلَ به القرآنُ [111] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 116). .
2- في قَولِه تعالى: فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ سؤالٌ: أنَّه قد ورد الحَظْرُ بأنْ يُقسَمَ بغَيرِ اللهِ تعالى، أو بصِفةٍ مِن صِفاتِه!
الجوابُ: أنَّ ذلك الحَظْرَ في حَقِّ الإنسانِ، وأمَّا اللهُ تعالى فإنَّه يُقسِمُ بما شاء مِن خَلْقِه [112] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/508). .
3- قال تعالى: فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ مُناسَبةُ الأُمورِ المُقسَمِ بها هُنا للمُقسَمِ عليه؛ لأنَّ الشَّفَقَ واللَّيلَ والقَمَرَ تُخالِطُ أَحوالًا بيْنَ الظُّلمةِ وظُهورِ النُّورِ معها، أو في خِلالِها، وذلك مُناسِبٌ لِما في قولِه: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ مِن تَفاوُتِ الأحوالِ الَّتي يَختَبِطُ فيها النَّاسُ يَومَ القِيامةِ، أو في حياتِهم الدُّنيا. ولعلَّ ذِكرَ الشَّفَقِ إيماءٌ إلى أنَّه يُشبِهُ حالةَ انتِهاءِ الدُّنيا؛ لأنَّ غُروبَ الشَّمسِ مِثلُ حالةِ المَوتِ، وأنَّ ذِكرَ اللَّيلِ إيماءٌ إلى شِدَّةِ الهَولِ يومَ الحِسابِ، وذِكرَ القَمَرِ إيماءٌ إلى حُصولِ الرَّحمةِ للمُؤمِنينَ [113] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/226). .
4- في قَولِه تعالى: وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ القَسَمُ بالقَمَرِ مِمَّا يدُلُّ على عِظَمِ آيتِه، ودِقَّةِ دَلالتِه [114] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/537). .
5- استُدِلَّ بقَولِه تعالى: وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآَنُ لَا يَسْجُدُونَ على مَشروعيَّةِ سُجودِ التِّلاوةِ هنا [115] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 285). .
6- في قَولِه تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أنَّ البِشارةَ قد تُطلَقُ على الإخبارِ بما يَسوءُ [116] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/280). . فالآيةُ حُجَّةٌ في أنَّ البِشارةَ تكونُ في الخيرِ والشَّرِّ [117] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/497). .
7- قَولُه تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، على القولِ بأنَّ الخِطابَ في قوله: فَبَشِّرْهُمْ عامٌّ للرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم ولكلِّ مَن يصِحُّ منه الخِطابُ، فنحن نُبَشِّرُ كلَّ كافرٍ بعذابٍ أليمٍ يَنْتَظِرُه، كما قال تعالى: وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ [118] يُنظر: ((لقاء الباب المفتوح)) لابن عثيمين (اللقاء رقم: 35). [السجدة: 30] .
8- قَولُه تعالى: لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ فيه دوامُ نعيمِ المؤمِنينَ العامِلينَ الصَّالحاتِ؛ فقولُه تعالى: غَيْرُ مَمْنُونٍ أي: لا يُقْطَعُ، كما قال تعالى: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [119] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 54). [مريم: 62] .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ
- قولُه: فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ الفاءُ لتَفريعِ القَسَمِ وجَوابِه على التَّفصيلِ الَّذي في قولِه: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ [الانشقاق: 7] إلى هُنا؛ فإنَّه اقتَضى أنَّ ثَمَّةَ حِسابًا وجَزاءً بخَيرٍ وشَرٍّ، فكان هذا التَّفريعُ فَذْلَكةً [120] الفَذْلَكة: مِن فَذْلَكَ حِسابَه فَذْلَكةً، أي: أنْهاهُ وفَرَغ منه، وذكَر مُجمَلَ ما فُصِّل أوَّلًا وخُلاصتَه. والفَذْلَكةُ كلمةٌ منحوتةٌ كـ (البَسملةِ) و(الحَوقَلةِ)، مِن قولِهم: (فذَلِكَ كذَا وكذَا عددًا). ويُرادُ بالفَذْلَكةِ: النَّتيجةُ لِمَا سبَق مِن الكلام، والتَّفريعُ عليه. يُنظر: ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (27/ 293)، ((كناشة النوادر)) لعبد السلام هارون (ص: 17)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 638، 639). وحَوصَلةً لِما فُصِّلَ مِن الأحوالِ، وكان أيضًا جَمعًا إجْماليًّا لِما يَعتَرِضُ في ذلك مِن الأهوالِ [121] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/226). . وهذه الفاءُ هي الفاءُ الفَصيحةُ؛ لأنَّها في جَوابِ شَرطٍ مُقدَّمٍ، أي: إذا عرَفْتَ هذا، أو إذا تَحقَّقْتَ الرُّجوعَ بالبَعثِ، فلا أُقسِمُ [122] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/426). .
- وفي قولِه: وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ما يُعرَفُ في البَلاغةِ بالالْتِزامِ، أو لُزومِ ما لا يَلزَمُ، ومِنهم مَن يُسمِّيه الإعْناتَ [123] التزامُ ما لا يَلزَمُ -أو الإعناتُ-: هو أن يجيءَ قبْلَ حرفِ الرَّويِّ، أو ما في معناهُ مِن الفاصِلةِ، بما ليس بلازِمٍ في التَّقفيةِ، ويُلتزَمُ في بيتَينِ أو أكثَرَ مِن النَّظمِ، أو في فاصلتَينِ أو أكثَرَ مِنَ النَّثرِ، مشروطًا بعدَمِ الكُلفةِ. وهو في القرآنِ كثيرٌ، ومِنه قولُه تعالى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ [الضحى: 9، 10]؛ فقد التُزِم بحرفِ الهاءِ قبْلَ الرَّاءِ. يُنظر: ((البديع)) لابن المعتز (ص: 175)، ((الإيضاح)) للقزويني (ص: 367)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 332)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (3/407) و(10/428). ؛ فالآيةُ قد الْتَزَمَتِ السِّينَ قبْلَ القافِ [124] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/428). .
- قولُه: وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ اتِّساقُ القَمَرِ: اجتِماعُ ضِيائِه، وهو (افْتِعالٌ)، مِن الوَسْقِ بمَعْنى الجَمعِ، وذلك في لَيلةِ البدْرِ، وتَقييدُ القَسَمِ به بتلك الحالةِ؛ لأنَّها مَظهَرُ نِعمةِ اللهِ على النَّاسِ بضِيائِه [125] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/227). .
- وجُملةُ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ نُسِجَ نَظمُها نَسجًا مُجمَلًا؛ لتَوفيرِ المَعاني الَّتي تَذهَبُ إليها أفهامُ السَّامِعينَ، فجاءَتْ على أَبدَعِ ما يُنسَجُ عليه الكَلامُ الَّذي يُرسَلُ إرسالَ الأمثالِ مِن الكَلامِ الجامِعِ البَديعِ النَّسْجِ الوافِرِ المَعْنى، وذلك ما جَعَلَ لإيثارِ هذَينِ اللَّفظَينِ في هذه الآيةِ خُصوصيَّةً مِن أَفْنانِ الإعجازِ القُرآنيِّ [126] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/227). .
- قولُه: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ، أي: لتَركَبُنَّ حالًا بعْدَ حالٍ، وهو تَهديدٌ بأَهوالِ القِيامةِ؛ فتَنوينُ (طَبَق) في المَوضِعَينِ للتَّعظيمِ والتَّهويلِ، و(عن) بمَعْنى: (بعْدَ)، والبَعديَّةُ اعتِباريَّةٌ، وهي بَعديَّةُ ارتِقاءٍ، فقيل: المعنى: لَتُلاقُنَّ هَولًا أَعظَمَ مِن هَولٍ. وإطْلاقُ الطَّبَقِ على الحالةِ؛ لأنَّ الحالةَ مُطابِقةٌ لعَمَلِ صاحِبِها [127] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/229). . وقيلَ: لَتَركَبُنَّ مَنزِلةً بعْدَ مَنزِلةٍ، على أنَّ طَبَقًا اسمٌ للمَنزِلةِ، أي: لَتَصيرُنَّ مِن طَبَقِ الدُّنيا إلى طَبَقِ الآخِرةِ، أو إنَّ قَومًا كانوا في الدُّنيا مُتَّضِعينَ فارْتَفَعوا في الآخِرةِ؛ فالتَّنوينُ فيهما -طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ- للتَّنويعِ [128] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/229). . وقيلَ: مَن كان على صَلاحٍ دَعاه إلى صَلاحٍ آخَرَ، ومَن كان على فَسادٍ دَعاه إلى فَسادٍ فَوقَه؛ لأنَّ كُلَّ شيءٍ يَجُرُّ إلى شَكلِه، فتَكونُ الجُملةُ اعتِراضًا بالمَوعِظةِ، وتَكونُ (عن) للمُجاوَزةِ، والتَّنوينُ للتَّعظيمِ [129] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/229). .
- ويَحتمِلُ أنْ يَكونَ الرُّكوبُ مُعبَّرًا به عن السَّيرِ، أي: لَتَحضُرُنَّ للحِسابِ جَماعاتٍ بعدَ جَماعاتٍ، وهذا تَهديدٌ لمُنكِريه [130] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/229). . ويَحتمِلُ أنْ يَكونَ الرُّكوبُ مُستعمَلًا في المُتابَعةِ، أي: لَتَتَّبِعُنَّ، وحُذِفَ مَفعولُ (تَرْكَبُنَّ) بتَقديرِ: لَيَتَّبِعَنَّ بَعضُكم بَعضًا، أي: في تَصميمِكم على إنكارِ البَعثِ، ودَليلُ المَحذوفِ هو قولُه: طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ، ويَكونَ طَبَقًا مَفعولًا به [131] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/229). .
2- قولُه تعالَى: فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآَنُ لَا يَسْجُدُونَ
- قولُه: فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (الفاءُ) لتَرتيبِ ما بعْدَها مِن الإنكارِ والتَّعجيبِ على ما قبْلَها مِن أحوالِ القِيامةِ وأَهوالِها المُوجِبةِ للإيمانِ والسُّجودِ، أيْ: إذا كان حالُهم يومَ القِيامةِ كما ذُكِرَ -وذلك على قولٍ-، فأيُّ شَيءٍ لهم حالَ كَونِهم غَيرَ مُؤمِنينَ؟! أيْ: أيُّ شيءٍ يَمنَعُهم مِن الإيمانِ مع تَعاضُدِ مُوجِباتِه [132] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/133). ؟!
ويَجوزُ أنْ يَكونَ هذا التَّفريعُ فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ على ما ذُكِر مِن أحوالِ مَن أُوتيَ كِتابَه وراءَ ظَهرِه، وأُعيدَ عليه ضَميرُ الجَماعةِ؛ لأنَّ المُرادَ بـ (مَن) المُوصولةِ: كُلُّ مَن تَحِقُّ فيه الصِّلةُ، فجَرى الضَّميرُ على مَدلولِ (مَن)، وهو الجَماعةُ، والمَعْنى: فما لَهم لا يَخافون أهْوالَ يَومِ لِقاءِ اللهِ فيُؤمِنوا؟! ويَجوزُ أنْ يَكونَ مُفرَّعًا على قولِه: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [الانشقاق: 6]، أي: إذا تَحقَّقْتَ ذلك، فكيف لا يُؤمِنُ بالبَعثِ الَّذين أَنكَروه؟! وجِيءَ بضَميرِ الغَيبةِ؛ لأنَّ المَقصودَ مِن الإنْكارِ والتَّعجيبِ خُصوصُ المُشرِكينَ مِن الَّذين شَمِلَهم لَفظُ الإنسانِ في قولِه: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ؛ لأنَّ العِنايةَ بمَوعِظتِهم أهَمُّ، فالضَّميرُ الْتِفاتٌ. ويَجوزُ أنْ يَكونَ تَفريعًا على قولِه: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ [الانشقاق: 19] ، فيَكونَ مَخصوصًا بالمُشرِكين باعتِبارِ أنَّهم أهَمُّ في هذه المَواعِظِ، والضَّميرُ أيضًا الْتِفاتٌ. ويَجوزُ تَفريعُه على ما تَضمَّنَه القَسَمُ مِن الأحوالِ المُقسَمِ بها باعتِبارِ تَضمُّنِ القَسَمِ بها أنَّها دَلائلُ على عَظيمِ قُدرةِ اللهِ تعالى وتَفرُّدِه بالإلَهيَّةِ، ففي ذِكرِها تَذكِرةٌ بدَلالَتِها على الوَحدانيَّةِ، والالْتِفاتُ هُوَ هُوَ [133] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/230، 231). .
- وأيضًا الاستِفهامُ فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ مُستَعمَلٌ في التَّعجيبِ مِن عَدَمِ إيمانِهم، وفي إنْكارِ انتِفاءِ إيمانِهم؛ لأنَّ شَأنَ الشَّيءِ العَجيبِ المُنكَرِ أنْ يُسألَ عنه، وجُملةُ لَا يُؤْمِنُونَ في مَوضِعِ الحالِ؛ والحالُ هي مَناطُ التَّعجيبِ [134] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/440)، ((تفسير أبي السعود)) (9/133)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/231). .
- ومُتعلَّقُ يُؤْمِنُونَ مَحذوفٌ يدُلُّ عليه السِّياقُ، أي: بالبَعثِ والجَزاءِ. ويَجوزُ تَنزيلُ فِعلِ يُؤْمِنُونَ مَنزِلةَ اللَّازِمِ، أي: لا يَتَّصِفونَ بالإيمانِ، أي: ما سَببُ ألَّا يَكونوا مُؤمِنينَ؛ لظُهورِ الدَّلائلِ على انفِرادِ اللهِ تعالى بالإلَهيَّةِ، فكيف يَستَمِرُّون على الإشْراكِ به؟! والمَعْنى: التَّعجيبُ والإنكارُ مِن عدَمِ إيمانِهم مع ظُهورِ دَلائلِ صِدقِ ما دُعُوا إليه، وأُنذِروا به [135] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/231). .
- قولُه: وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ ظَرفٌ قُدِّمَ على عامِلِه لَا يَسْجُدُونَ؛ للاهتِمامِ به، والتَّنويهِ بشأنِ القُرآنِ [136] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/232). .
- على القولِ بأنَّ السُّجودَ مُستعمَلٌ بمَعْنى الخُضوعِ والخُشوعِ، فقيل: المعنى: إذا قُرِئَ عليْهم القُرآنُ لا يَخضَعون للهِ ولِمَعاني القُرآنِ وحُجَّتِه، ولا يُؤمِنون بحَقِّيَّتِه، ودَليلُ هذا المَعْنى مُقابَلتُه بقَولِه: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ [137] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/232). [الانشقاق: 22] .
3- قولُه تعالَى: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ
- قولُه: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ يَجوزُ أنَّه إضْرابٌ انتِقاليٌّ مِن التَّعجيبِ مِن عدَمِ إيمانِهم وإنْكارِه عليهم، إلى الإخْبارِ عنهم بأنَّهم مُستمِرُّون على الكُفرِ والطَّعْنِ في القُرآنِ، فالكَلامُ ارتِقاءٌ في التَّعجيبِ والإنْكارِ؛ فالإخبارُ عنهم بأنَّهم يُكَذِّبُونَ مُستعمَلٌ في التَّعجيبِ والإنْكارِ؛ فلذلك عُبِّر عنه بالفِعلِ المُضارِعِ الَّذي يُفيدُ استحضارَ الحالةِ [138] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/233). .
- ويَجوزُ أنْ يَكونَ (بَل) إضْرابًا إبْطاليًّا، أي: لا يوجَدُ ما لِأجْلِه لا يُؤمِنونَ ولا يُصَدِّقون بالقُرآنِ، بلِ الواقِعُ بضِدِّ ذلك؛ فإنَّ بَواعِثَ الإيمانِ مِن الدَّلائِلِ مُتوفِّرةٌ، ودَواعيَ الاعتِرافِ بصِدقِ القُرآنِ والخُضوعِ لدَعوتِه مُتظاهِرةٌ، ولكنَّهم يُكذِّبون، أي: يَستَمِرُّون على التَّكذيبِ عِنادًا وكِبرياءً، ويُومِئُ إلى ذلك قولُه: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ. وفي اجتِلابِ الفِعلِ المُضارِعِ دَلالةٌ على حُدوثِ التَّكذيبِ منهم وتَجدُّدِه، أي: بل هم مُستمِرُّون على التَّكذيبِ عِنادًا، وليس ذلك اعتِقادًا، فكما نُفيَ عنهم تَجدُّدُ الإيمانِ وتَجدُّدُ الخُضوعِ عندَ قِراءةِ القُرآنِ، أُثبِتَ لهم تَجدُّدُ التَّكذيبِ [139] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/233). .
- وقولُه: الَّذِينَ كَفَرُوا إظْهارٌ في مَقامِ الإضْمارِ؛ لأنَّ مُقتَضى الظَّاهِرِ أنْ يُقالَ: (بل هم يُكذِّبون)؛ فعُدِلَ إلى المَوصولِ والصِّلةِ؛ لِما تُؤذِنُ به الصِّلةُ مِن ذَمِّهم بالكُفرِ؛ للإيماءِ إلى عِلَّةِ الخَبَرِ، أي: إنَّهم استَمَرُّوا على التَّكذيبِ لتَأصُّلِ الكُفرِ فيهم، وكَونِهم يُنعَتونَ به [140] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/233). . وأيضًا وضَع الظَّاهرَ موضعَ المُضمَرِ؛ تعميمًا [141] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/349). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ، وقال في سُورةِ (البُروجِ): بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ [البروج: 19] ؛ فاختُصَّ الأوَّلُ بقولِه: يُكَذِّبُونَ بلَفظِ المضارِعِ، والثَّاني بقولِه: فِي تَكْذِيبٍ بلَفظِ المصدَرِ، مع اتِّحادِ المعْنى المقصودِ؛ وذلك لوَجهينِ؛ الأوَّلُ: أنَّ آيةَ الانشقاقِ تَقدَّمَها وَعيدٌ أُخرويٌّ كلُّه لم يَقَعْ بعدُ، وهم مُكذِّبون بجَميعِه، فجِيءَ هنا باللَّفظِ المَقولِ على الاستِقبالِ -وإنْ كان يَصلُحُ للحالِ- ليُطابِقَ الإخبارَ؛ لأنَّه عمَّا يأْتي ولم يقَعْ بعْدُ؛ فجِيءَ بما يُطابِقُه في استقبالِه. أمَّا آيةُ (البُروجِ) فقدْ تَقدَّمَها قولُه تعالَى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ [البروج: 17-18] ، وحديثُ هؤلاء وأَخْذُهم بتَكذيبِهم قد تَقدَّمَ ومَضى زَمانُه، وهؤلاء مُستَمِرُّون على تَكذيبِهم، فقِيل: فِي تَكْذِيبٍ، وجِيءَ بالمصدرِ؛ ليُحرِزَ تَماديَهم، وأنَّ ذلك شَأنُهم أبدًا فيما أخبَرَهم به، وفيما يَدْعوهم إليه ويَنْهاهم عنه، ولَفظُ المصدَرِ أعْطى لِما قُصِدَ مِن هذا مِن لَفظِ المضارعِ؛ فجِيءَ في كلٍّ مِن الآيتَينِ بما يُناسِبُ [142] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/505). . الثَّاني: أنَّه مُراعاةٌ لفَواصلِ الآيِ، مع صِحَّةِ اللَّفظِ، وجَودةِ المعنى [143] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 247)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 604). .
- قولُه: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ اعتِراضٌ بيْنَ جُملةِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ [الانشقاق: 22] ، وجُملةِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الانشقاق: 24] ، وهو كِنايةٌ عن الإنْذارِ والتَّهديدِ بأنَّ اللهَ يُجازيهم بسُوءِ طَويَّتِهم [144] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/233). .
- وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ معنَى الإيعاءِ: جعْلُ الشَّيءِ وِعاءً، والوِعاءُ: الظَّرفُ؛ لأنَّه يُجمَعُ فيه، ثمَّ شاع إطلاقُه على جمْعِ الأشياءِ لئلَّا تَفوتَ؛ فصار مُشعِرًا بالتَّقتيرِ، واستُعمِل في هذه الآيةِ في الإخفاءِ؛ لأنَّ الإيعاءَ يَستلزِمُ الإخفاءَ [145] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/234). . وعِلمُ اللهِ تعالَى بذلك وبكلِّ شيءٍ أمرٌ ثابتٌ، وهو كِنايةٌ عن مُجازاتِه سُبحانَه عليه. وقيل: المرادُ الإشارةُ إلى أنَّ لهم وراءَ التَّكذيبِ قبائحَ عظيمةً كثيرةً يَضيقُ عن شرحِها نِطاقُ العِبارةِ. وقيل: يَحتمِلُ أن يَكونَ المعنَى: واللهُ تعالَى أعلَمُ بما يُضمِرونَه في أنفُسِهم مِن أدِلَّةِ كَونِه -أي: القرآنِ- حقًّا؛ فيكونَ المرادُ المُبالَغةَ في عِنادِهم وتكذيبِهم على خِلافِ عِلمِهم [146] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (15/292). .
4- قولُه تعالَى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ
- قولُه: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ تَفريعٌ على جُملةِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ [الانشقاق: 22] ، وعلى القولِ بأنَّ التَّبشيرَ هو الإخْبارُ بِما يَسُرُّ ويَنفَعُ ففِعلُ (بَشِّرْهُمْ) مُعبَّرٌ به عن الإنْذارِ والوَعيدِ على طَريقةِ التَّهكُّمِ، فلمَّا عُلِّقَ بالفِعلِ (عَذابٌ أَليمٌ) -في قولِه: بِعَذَابٍ أَلِيمٍ- كانتْ قَرينةُ التَّهكُّمِ كَنارٍ على عَلَمٍ [147] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/234). .
- قولُه: إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ يَجوزُ أنْ يَكونَ الاستِثناءُ مُتَّصلًا؛ إمَّا على أنَّه استِثناءٌ مِن الضَّميرِ في قولِه: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ [الانشقاق: 19] جَريًا على تَأويلِه برُكوبِ طِباقِ الشَّدائدِ والأهْوالِ يَومَ القِيامةِ وما هو في معنى ذلك مِن التَّهديدِ، وإمَّا على أنَّه استِثناءٌ مِن ضَميرِ الجَمعِ في فَبَشِّرْهُمْ [الانشقاق: 24] ، والمَعنى: إلَّا الذين يُؤمِنون مِن الَّذين هُم مُشرِكون الآنَ، وفِعلُ آَمَنُوا على هذا الوَجْهِ مُرادٌ به المُستقبَلُ، وعُبِّرَ عنه بالماضي؛ للتَّنبيهِ على مَعْنى: مَن تَحقَّقَ إيمانُهم، وما بيْنَهما مِن قولِه: فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [الانشقاق: 20] إلى هُنا تَفريعٌ مُعترِضٌ بيْنَ المُستَثنى والمُستَثنى منه، خُصَّ به الأهَمُّ ممَّن شَمِلَهم عُمومُ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ [الانشقاق: 19] . ويَجوزُ أنْ يَكونَ الاستِثناءُ استِثناءً مُنقَطِعًا مِن ضَميرِ فَبَشِّرْهُمْ [الانشقاق: 24] ، فهو داخِلٌ في التَّبشيرِ المُستعمَلِ في التَّهكُّمِ -على قولٍ-؛ زِيادةً في إدْخالِ الحَزَنِ عليهم؛ فحرفُ (إلَّا) بمَنزِلةِ (لكنْ)، والاستِدراكُ فيه لمُجرَّدِ المُضادَّةِ، لا لدَفْعِ تَوهُّمِ إرادةِ ضِدِّ ذلك، ومِثلُ ذلك كَثيرٌ في الاستِدراكِ [148] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/234، 235). .
- وقولُه: لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ استِئنافٌ مُقرِّرٌ لِما أَفادَه الاستِثناءُ مِن انتِفاءِ العَذابِ عنهم، ومُبيِّنٌ لكَيفيَّتِه ومُقارَنتِه للثَّوابِ العَظيمِ [149] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/134). ، وهو استِئنافٌ بَيانيٌّ؛ كأنَّ سائِلًا سأَلَ: كيف حالُهم يَومَ يَكونُ أولئك في عَذابٍ أَليمٍ [150] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/235). ؟