موسوعة التفسير

سُورةُ السَّجْدةِ
الآيات (26-30)

ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ

غَريبُ الكَلِماتِ:

أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ: أي: يُبَيِّنْ أو يَتبيَّنْ لهم، وأصلُ (هدي) هنا: التَّقدُّمُ للإرشادِ .
الْقُرُونِ: جمعُ قَرْنٍ، والقَرْنُ: القَومُ المُقتَرِنُونَ في زمنٍ واحدٍ، أو الأمَّةُ مِن النَّاسِ، قيل: مدَّةُ القَرنِ مئةُ سَنةٍ، وقيل: ثمانونَ، وقيل: ثلاثون، وقيل غيرُ ذلك، وقيل: غيرُ مُقَدَّرةٍ بمدَّةٍ مُعَيَّنةٍ، وهو مأخوذٌ مِنَ الاقتِرانِ، وهو اجتماعُ شيئينِ أو أشياءَ في معنًى مِن المعاني، وأصل (قرن): يدُلُّ على جَمْعِ شَيءٍ إلى شَيءٍ .
الْجُرُزِ: أي: اليابِسةِ الَّتي لا نباتَ فيها، وأصلُ (جرز): القَطعُ؛ كأنَّ الأرضَ الجُرُزَ -وهي الَّتي لا نبتَ بها- قُطِع نَباتُها عنها .
الْفَتْحُ: أي: الحُكْمُ، وأصلُ (فتح): يدُلُّ على خِلافِ الإغلاقِ .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى داعيًا المشركينَ إلى الاعتبارِ بالأُممِ السَّابقةِ: أولَم يَتبيَّنْ لأولئك المُشرِكينَ كَثرةُ مَن أهلَكْنا قَبْلَهم مِنَ الأُمَمِ الماضيةِ، وهم يَمشونَ في مَنازِلهم فلا يَرَونَ فيها أحَدًا منهم، قد هَلَكوا جميعًا؟! إنَّ في إهلاكِ أولئك القَومِ لَعِبَرًا لِمُشرِكي قُرَيشٍ وغَيرِهم، أفلا يَسمَعونَ؟!
ثمَّ يُنبِّهُ الله سبحانَه إلى نعمةٍ مِن نِعَمِه الكثيرةِ، فيقولُ: أوَلَمْ يَرَ أولئك المُشرِكونَ أنَّا نَسوقُ بقُدرتِنا الماءَ إلى الأرضِ اليابِسةِ الَّتي لا نباتَ فيها، فنُخرِجُ به زَرعًا يأكُلونَ منه، وتَأكُلُ منه مَواشيهم، أفلا يُبصِرونَ؟!
ثمَّ يَذكُرُ الله تعالى ما كان عليه المشركونَ مِنِ استِخفافٍ بالوعيدِ، فيقولُ: ويقولُ أولئك المُشرِكونَ: متى يجيءُ الفَصلُ بيْنَنا وبيْنَكم فيُعَذِّبُنا اللهُ ويَنصُرُكم علينا إنْ كنتُم صادقينَ؟!
 ثمَّ يأمُرُ الله تعالى نبيَّه بالرَّدِّ عليهم، فيقولُ: قُلْ -يا محمَّدُ-: يومَ الفَصلِ لا يَنفَعُ أولئك الكُفَّارَ إيمانُهم، ولا هم يُمهَلونَ فيُؤخَّرُ عنهم العذابُ لِيَتوبوا؛ فأعرِضْ -يا محمَّدُ- عنهم، وانتَظِرْ حتَّى يُنزِلَ اللهُ عَذابَه بهم، إنَّهم مُنتَظِرونَ!

تَفسيرُ الآياتِ:

أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
بعدَ أن أعاد اللهُ تعالى ذِكرَ الرِّسالةِ فى قَولِه: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ؛ أعاد هنا ذِكرَ التَّوحيدِ مع ذِكرِ البُرهانِ عليه بما يَرونَه مِن المُشاهَداتِ الَّتي يُبصِرونَها .
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ.
أي: أوَلَمْ يَتبيَّنْ للمُشرِكينَ إهلاكُنا كثيرًا مِنَ الأُمَمِ الماضيةِ قَبْلَهم، كعادٍ وثَمودَ وقَومِ لُوطٍ، وهم يَمشونَ في منازِلِهم فلا يَرَونَ فيها أحدًا منهم، قد أُهلِكوا جميعًا؛ بسَبَبِ ظُلمِهم ؟!
كما قال تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 45، 46].
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ.
أي: إنَّ في ذَهابِ أولئك القَومِ ودَمارِهم وخَلاءِ مَساكِنِهم؛ بسَبَبِ ظُلمِهم وتَكذيبِهم: لَدَلالاتٍ وعِبَرًا وعِظاتٍ لِمُشرِكي قُرَيشٍ وغَيرِهم، أفلا يَسمَعونَ آياتِ اللهِ وأخبارَ الماضِينَ سَماعَ تدَبُّرٍ واتِّعاظٍ؛ فيَتوبوا ويَترُكوا الشِّركَ؛ كيلا يُصيبَهم مِثلُ ما أصاب مَنْ قَبْلَهم مِنَ الهَلاكِ ؟!
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أقام اللهُ تعالى الحُجَّةَ على الكَفَرةِ، بالأُممِ السَّالِفةِ الَّذين كَفَروا فأُهلِكوا؛ أقامها عليهم بإظهارِ قُدرتِه، وتَنبيهِهم على البَعثِ .
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ.
أي: أوَلَمْ يَرَ المُشرِكونَ المكَذِّبونَ بالبَعثِ أنَّا نَسوقُ بقُدرتِنا الماءَ -كماءِ المطَرِ والسَّيلِ- إلى الأرضِ اليابِسةِ الَّتي لا نَباتَ فيها ؟!
فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ.
أي: فنُخرِجُ بذلك الماءِ زَرعًا تأكُلُ منه مَواشيهم، وتتغَذَّى به أبدانُهم .
أَفَلَا يُبْصِرُونَ.
أي: أفلَا يَرَونَ كيفَ أحيا اللهُ الأرضَ بعدَ مَوتِها؛ فيَعلَموا بذلك قُدرةَ اللهِ تعالى على إحياءِ النَّاسِ بعدَ مَوتِهم ؟!
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّن الرِّسالةَ والتَّوحيدَ؛ بَيَّن الحشرَ بقولِه تعالَى :
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28).
أي: ويَقولُ أولئك المُشرِكونَ: متى يَجيءُ هذا الحُكْمُ الَّذي يَفصِلُ اللهُ به بيْنَنا وبيْنَكم، فيُعَذِّبُنا ويَنصُرُكم علينا إنْ كُنتُم صادِقينَ -أيُّها الرَّسولُ والمؤمِنونَ- في أنَّنا مُعاقَبونَ على شِرْكِنا وتَكذيبِنا ؟!
قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29).
قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ.
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ-: يومَ الحُكمِ ومَجيءِ العَذابِ الَّذي تَسألونَ عنه لا تَستفيدون شَيئًا؛ فإنَّه إذا جاء انقَضَى الأمرُ، وحِينَها لا يَنفَعُ الكُفَّارَ إيمانُهم !
كما قال تعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [غافر: 84، 85].
وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ.
أي: ولا يُمهَلونَ فيُؤخَّرَ عنهم العذابُ؛ ليتُوبوا .
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كانت نتيجةُ سَماعِ المُشرِكينَ لهذه الأدِلَّةِ استِهزاءَهم حتَّى بسؤالِهم عن يومِ الفَتحِ، وأجابهم سُبحانَه عن تَعيينِه بذِكرِ حالِه، وكان صلَّى الله عليه وسلَّم -لشِدَّةِ حِرصِه على نَفعِهم- ربَّما أحَبَّ إعلامَهم بما طلبوا، وإن كان يَعلَمُ أنَّ ذلك منهم استهزاءٌ؛ رجاءَ أن ينفَعَهم نفعًا ما: سبَّب سُبحانَه عن إعراضِه عن إجابتِهم أمْرَه لهذا الدَّاعي الرَّفيقِ والهادي الشَّفيقِ بالإعراضِ عنهم أيضًا .
وأيضًا لَمَّا بَيَّن المسائلَ وأتْقَن الدَّلائلَ ولم ينفَعْهم؛ قالَ تعالَى :
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ.
أي: فأعرِضْ -يا مُحمَّدُ- عن هؤلاء المُشرِكينَ الَّذين يَستَعجِلونَك بالعَذابِ .
كما قال تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [النجم: 29].
وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ.
أي: وانتَظِرْ حتَّى يُنزِلَ اللهُ عَذابَه بالكافِرين، ويَنصُرَك عليهم؛ إنَّهم مُنتَظِرونَ .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- في قَولِه تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ أنَّ في إهلاكِ الأممِ عِبْرةً وآيةً؛ فهو آيةٌ لِكَونِ اللهِ تعالى أخذَهم وأهلَكَهم مع قُوَّتِهم، وهي عِبرةٌ لأنَّ اللهَ أخَذَهم لِمُخالَفتِه، كما قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ [غافر: 21] ، وقال في الآيةِ الأخرى: فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [غافر: 82] ، وقال في آيةٍ أخرى: كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا [الروم: 9] ، وكلُّ هذا يُفيدُ بأنَّه يجبُ علينا نحن أنْ نَعتبِرَ بهذه الآياتِ، وأن نخافَ .
2- في قَولِه تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا وُجوبُ النَّظَرِ في الآياتِ؛ لأنَّ الاستفهامَ هنا للتَّوبيخِ واللَّومِ لِمَن لم يَنتفِعْ بذلك .
3- في قَولِه تعالى: أَفَلَا يُبْصِرُونَ الحَثُّ على النَّظَرِ والتَّبَصُّرِ .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قال تعالى: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ، في قَولِه تعالى: يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ الاستِدلالُ بالشَّيءِ المحسوسِ على الشَّيءِ المعقولِ، أو بعبارةٍ أخرى: الاستِدلالُ بعينِ اليَقينِ على صِدقِ عِلْمِ اليَقينِ؛ فقَولُه تعالى:كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ هذا عِلمُ اليَقينِ، وقولُه تعالى: يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ هذا عينُ اليَقينِ .
2- قَولُ الله تعالى: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ نِيطَ الاستِدلالُ هنا بالكَثرةِ الَّتي أفادَتْها (كم) الخَبريَّةُ؛ لأنَّ تكَرُّرَ حُدوثِ القُرونِ وزَوالِها: أقوى دَلالةً مِن مُشاهَدةِ آثارِ أمَّةٍ واحِدةٍ .
3- في قَولِه تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إثباتُ أفعالِ اللهِ الاختياريَّةِ .
4- قَولُ الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا نِيطَ الاستِدلالُ هنا بالرُّؤيةِ؛ لأنَّ إحياءَ الأرضِ بعدَ مَوتِها، ثمَّ إخراجَ النَّبتِ منها: دَلالةُ مُشاهَدةٍ .
5- في قَولِه تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أنَّ الأصلَ فيما نَبَتَ في الأرضِ الحِلُّ، فالأصلُ فيما نَبَتَ في الأرضِ أنه حلالٌ حتَّى يقومَ دليلٌ على التَّحريمِ .
6- في قَولِه تعالى: قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ أنَّ العذابَ قد يُؤَجَّلُ قبْلَ نُزولِه؛ فظاهِرُ الآيةِ: أنَّه لو كان هذا الإيمانُ قبْلَ نُزولِ العَذابِ، فإنَّ اللهَ تعالى يَرفَعُه بالإيمانِ؛ ولهذا أمَر النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عندَ الكُسوفِ بالصَّلاةِ والدُّعاءِ والاستِغفارِ ، والصَّدَقةِ والتَّكبيرِ ؛ مِن أجْلِ أنْ يُرفَعَ العذابُ الَّذي هذا إنذارٌ به؛ فإنَّ الكُسوفَ إنذارٌ بالعَذابِ، وهو نفْسُه ليس عذابًا، لكِنَّه إنذارٌ بأنْ يُعَذَّبَ الخَلْقُ، فإذا فَزِعوا إلى الصَّلاةِ وإلى الذِّكرِ والدُّعاءِ والاستِغفارِ، رُفِعَ عنهم .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قوله تعالى: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ في هذه الآيةِ مُناسَبةٌ حسَنةٌ في المعاني، حيثُ قال اللهُ تعالى في صَدْرِها: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ وهي مَوعظةٌ سَمعيَّةٌ؛ لِكَونِهم لم يَنظُروا إلى القُرونِ الهالِكةِ، وإنَّما سَمِعوا بها؛ فناسَبَ أنْ يأتِيَ بعْدَها بقولِه: أَفَلَا يَسْمَعُونَ، أمَّا بعدَ الموعظةِ المرئيَّةِ -وهي قولُه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ- فقد ناسَبَ أنْ يقولَ: أَفَلَا يُبْصِرُونَ؛ لأنَّ الزَّرعَ مَرئيٌّ لا مَسموعٌ؛ لِيُناسِبَ آخِرُ كلِّ كلامٍ أوَّلَه .
- وقولُه: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ عَطفٌ على جُملةِ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا [السجدة: 22] ، ولَمَّا كان ذلك التَّذكيرُ مُتَّصِلًا كقولِه: وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ [السجدة: 10] ، كان الهَدْيُ -أي العِلمُ المُستفهَمُ عنه بهذا الاستِفهامِ- شاملًا للهَدْيِ إلى دَليلِ البعثِ، وإلى دَليلِ العِقابِ على الإعراضِ عن التَّذكيرِ؛ فأفاد قولُه: كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ مَعنيَينِ؛ أحدُهما: إهلاكُ أُمَمٍ كانوا قبْلَهم، فجاء هؤلاء المُشرِكون بَعْدَهم؛ وذلك تَمثيلٌ للبَعثِ، وتَقريبٌ لإمكانِه. وثانيهما: إهلاكُ أُمَمٍ كذَّبوا رُسلَهم؛ ففيهم عِبرةٌ لهم أنْ يُصيبَهم مِثلُ ما أصابَهم .
- والاستِفهامُ في قولِه: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ استفهامٌ إنكاريٌّ .
- وقد جُوِّزَ أنْ يكونَ الفاعلُ لـ يَهْدِ ضَميرَه تعالى؛ فيَكونَ قولُه تعالى: كَمْ أَهْلَكْنَا ... استِئنافًا مُبيِّنًا لِكَيفيَّةِ هِدايتِه تعالى .
- اختِيرَ فِعلُ الهِدايةِ في هذه الآيةِ في قولِه: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ؛ لإرادةِ الدَّلالةِ الجامعةِ للمُشاهَدةِ، ولِسماعِ أخبارِ تلك الأُمَمِ؛ تَمهيدًا لقولِه في آخِرِها: أَفَلَا يَسْمَعُونَ، ولأنَّ كثرةَ ذلك المُستفادةَ مِن (كَم) الخَبريَّةِ إنَّما تَحصُلُ بتَرتيبِ الاستِدلالِ في تَواتُرِ الأخبارِ، ولا تَحصُلُ دَفْعةً كما تَحصُلُ دَلالةُ المُشاهَداتِ .
- ولَمَّا كان الَّذي يُؤْثَرُ مِن أخبارِ تلك الأُمَمِ، وتَقلُّباتِ أحوالِها، وزَوالِ قُوَّتِها ورَفاهيَّتِها؛ أشَدَّ دَلالةً ومَوعظةً للمشركينَ؛ فُرِّعَ عليه أَفَلَا يَسْمَعُونَ استِفهامًا تَقْريريًّا مَشوبًا بتَوبيخٍ؛ لأنَّ اجتِلابَ المُضارِعِ -وهو يَسْمَعُونَ- مُؤْذِنٌ بأنَّ استِماعَ أخبارِ تلك الأُمَمِ مُتكرِّرٌ مُتجدِّدٌ؛ فيكونُ التَّوبيخُ على الإقرارِ المُستفهَمِ عنه أوقَعَ، بخِلافِ ما بعْدَه مِن قولِه: أَفَلَا يُبْصِرُونَ [السجدة: 27] .
- قولُه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ لَمَّا ذكَرَ القُرونَ والمَساكنَ بالجَمْعِ؛ حَسُنَ جمْعُ الآياتِ .
2- قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ
- اختِيرَ في التَّعبيرِ هنا الفِعلُ المُضارِعُ نَسُوقُ؛ لاستِحضارِ الصُّورةِ العَجيبةِ الدَّالَّةِ على القُدرةِ الباهرةِ .
- قولُه: فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ الزَّرعُ: ما نبَتَ بسَببِ بَذرِ حُبوبِه في الأرضِ؛ كالشَّعيرِ والبُرِّ، وأكْلُ الأنعامِ غالِبُه مِن الكلأِ، لا مِن الزَّرعِ، فذِكْرُ الزَّرعِ بلَفْظِه، ثمَّ ذِكْرُ أكْلِ الأنعامِ؛ يَدُلُّ على تَقديرِ: وكَلَأً...؛ ففي الكلامِ اكتِفاءٌ . والتَّقديرُ: ونُخرِجُ به زَرعًا وكَلَأً تأكُلُ منه أنعامُهم وأنفسُهم، والمَقصودُ: الاستِدلالُ على البَعثِ وتَقريبِه وإمكانِه، بإخراجِ النَّبتِ مِن الأرضِ بعدَ أنْ زالَ فَوْجُهُ الأوَّلُ. وأُدْمِجَ في هذا الاستِدلالِ امتنانٌ بقولِه: تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ .
- وأيضًا في قولِه: فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ خُصَّ الزَّرعُ بالذِّكْرِ -وإنْ كان يُخرِجُ اللهُ به أنواعًا كثيرةً؛ مِن الفَواكهِ والبُقولِ، والعُشبِ المُنتفَعِ به في الطِّبِّ وغيرِه-؛ تَشريفًا للزَّرعِ، ولأنَّه أعظَمُ ما يُقصَدُ مِن النَّباتِ .
- وقُدِّمَت الأنعامُ؛ لأنَّ ما يَنبُتُ يَأكُلُه الأنعامُ أوَّلَ فأوَّلَ، مِن قبْلِ أنْ يَأكُلَ بَنو آدَمَ الحَبَّ، أو لأنَّه غِذاءُ الدَّوابِّ، والإنسانُ قد يَتغذَّى بغَيرِه؛ مِن حَيوانٍ وغيرِه، أو بَدَأ بالأدْنى، ثمَّ تَرقَّى إلى الأشرَفِ، وهم بَنو آدَمَ . أو قدَّمَها لِمَوقعِ الامتنانِ بها؛ لأنَّ بها قِوامَهم في مَعايشِهم وأبدانِهم، ولأنَّ السِّياقَ لِمُطلَقِ إخراجِ الزَّرعِ، وأوَّلُ صلاحِه إنَّما هو لأكْلِ الأنعامِ، بخِلافِ ما في سُورةِ (عبَسَ)؛ فإنَّ السِّياقَ لِطَعامِ الإنسانِ الَّذي هو نِهايةُ الزَّرعِ؛ حيث قال: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ [عبس: 24] ، ثمَّ قال: فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا [عبس: 27] ، وذكَرَ مِن طَعامِه مِن العِنَبِ وغيرِه ما لا يَصلُحُ للأنعامِ .
- والاستِفهامُ في قولِه: أَفَلَا يُبْصِرُونَ استِفهامٌ تَقريريٌّ .
- ولَمَّا كانتْ هذه الآيةُ مُبصَرةً، وكانتْ في وُضوحِها في الدَّلالةِ على البَعثِ لا يَحتاجُ الجاهلُ بها في الإقرارِ سِوى رُؤيتِها؛ قال: أَفَلَا يُبْصِرُونَ؛ إشارةً إلى أنَّ مَن رآهَا وتَنبَّه على ما فيها مِن الدَّلالةِ، وأصرَّ على الإنكارِ؛ لا بَصَرَ له ولا بَصيرةَ .
3- قوله تعالى: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ حِكايةُ قَولِهم بصِيغةِ المُضارِعِ؛ لإفادةِ التَّعجيبِ منه، مع إفادةِ تَكرُّرِ ذلك منهم، واتِّخاذِهم إيَّاهُ .
- واسمُ الإشارةِ في هَذَا الْفَتْحُ مع إمكانِ الاستغناءِ عنه بذِكْرِ مُبيِّنِه، مَقصودٌ منه التَّحقيرُ، وقِلَّةُ الاكتِراثِ به .
4- قولُه تعالى: قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ أمَرَ اللهُ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنْ يُجِيبَهم على طَريقةِ الأُسلوبِ الحكيمِ؛ بأنَّ يومَ الفتْحِ الحقَّ هو يومُ القيامةِ، وهو يومُ الفصْلِ، وحينَئذٍ يَنقطِعُ أمَلُ الكفَّارِ في النَّجاةِ، والاستفادةِ مِن النَّدامةِ والتَّوبةِ، ولا يَجِدون إنظارًا لِتَدارُكِ ما فاتَهم، مع ما في هذا الجوابِ مِن الإيماءِ إلى أنَّ زمَنَ حُلولِه غيرُ مَعلومٍ للنَّاسِ، وأنَّه ممَّا استأثَرَ اللهُ به؛ فعَلى مَن يَحتاطُ لِنَجاةِ نفْسِه أنْ يَعمَلَ له مِن الآنَ؛ فإنَّه لا يَدْري متى يَحِلُّ به، فـ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام: 158] ؛ ففي هذا الجوابِ سُلوكُ الأُسلوبِ الحكيمِ مِن وَجهينِ: مِن وَجهِ العُدولِ عن تَعيينِ يومِ الفتْحِ، ومِن وَجهِ العُدولِ بهم إلى يومِ الفتْحِ الحقِّ، وهمْ إنَّما أرادوا بالفتْحِ نَصْرَ المسلمينَ عليهم في الحياةِ الدُّنيا .
- وقيل: العُدولُ عن تَطبيقِ الجوابِ على ظاهرِ سُؤالِهم؛ للتَّنبيهِ على أنَّه ليس ممَّا يَنبغِي أنْ يُسألَ عنه؛ لكَونِه أمْرًا بيِّنًا غنيًّا عن الإخبارِ به، وكذا إيمانُهم واستِنْظارُهم يَومَئذٍ، وإنَّما المُحتاجُ إلى البَيانِ عَدمُ نفْعِ ذلك الإيمانِ، وعَدمُ الإنظارِ؛ كأنَّه قِيل: لا تَستعجِلوا؛ فكأنِّي بكمْ قد آمنتُم فلمْ يَنفَعْكم، واستَنْظَرتُم فلم تُنْظَروا .
- وقيل: المُناسَبةُ بيْن السُّؤالِ والجوابِ: أنَّه لَمَّا كان سُؤالُهم سُؤالَ تَكذيبٍ واستهزاءٍ بيَومِ القيامةِ، لا سُؤالَ استفهامٍ؛ أُجِيبوا بالَّتهديدِ المُطابِقِ للتَّكذيبِ والاستهزاءِ، لا ببَيانِ حَقيقةِ المُوقَّتِ. وإنْ فُسِّرَ الفتْحُ بفَتحِ مكَّةَ أو بيَومِ بَدْرٍ، كان المُرادُ أنَّ المُتولِّينَ لم يَنفَعْهم إيمانُهم حالَ القتلِ، كما لمْ يَنفَعْ فِرعونَ إيمانُه، بخِلافِ الطُّلَقاءِ الَّذين آمَنوا بعْدَ الأسْرِ؛ فالجوابُ بذلك مُطابِقٌ للسُّؤالِ مِن غَيرِ تَأويلٍ .
- وإظهارُ وَصْفِ الَّذِينَ كَفَرُوا في مَقامِ الإضمارِ، مع أنَّهم همُ القائِلونَ: مَتَى هَذَا الْفَتْحُ؛ لِقَصدِ التَّسجيلِ عليهم بأنَّ كُفْرَهم هو سَببُ خَيبتِهم .
5- قولُه تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ فُرِّعَ على جَميعِ هذه المُجادَلاتِ والدَّلالاتِ تَوجيهُ اللهِ خِطابَه إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنْ يُعرِضَ عن هؤلاء القائلينَ المُكذِّبين، وألَّا يَزِيدَ في الإلحاحِ عليهم؛ تَأييسًا مِن إيمانِ المُجادِلينَ منهم، المُتصَدِّينَ للتَّمويهِ على دَهْمائِهم .
- وحُذِفَ مَفعولُ (انْتَظِرْ) للتَّهويلِ، أي: انتظِرْ أيَّامًا يكونُ لك فيها النَّصرُ، ويكونُ لهم فيها الخُسرانُ؛ ففي الأمرِ بالانتظارِ تَعريضٌ بالبِشارةِ للمُؤمنينَ بالنَّصرِ، وتَعريضٌ بالوَعيدِ للمشركينَ بالعذابِ في الدَّارَينِ .
- وجُملةُ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ تَعليلٌ لِمَا تَضمَّنَه الأمرُ بالانتظارِ مِن إضمارِ العذابِ لهم .
- ومَفعولُ مُنْتَظِرُونَ مَحذوفٌ دلَّ عليه السِّياقُ، أي: مُنتظِرون لكمُ الفُرصةَ لِحَرْبِكم، أو لإخراجِكم . وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.