موسوعة التفسير

سورةُ غافِرٍ
الآيات (82-85)

ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ

غريب الكلمات:

عَاقِبَةُ: عاقبةُ كلِّ شَيءٍ: آخِرُه، أو: ما يُؤدِّي إليه السَّببُ المتقدِّمُ، والعاقبةُ تَختصُّ بالثَّوابِ إذا أُطْلِقتْ، وقدْ تُستعمَلُ في العقوبةِ إذا أُضيفَتْ، وأصلُ (عقب): تَأخيرُ شَيءٍ، وإتيانُه بعْدَ غيرِه [1178] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/257)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/77)، ((المفردات)) للراغب (ص: 575)، ((تفسير القرطبي)) (8/365)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 129). .
سُنَّةَ اللَّهِ: السُّنَّةُ: هي الطَّريقةُ المَسلوكةُ والمِنهاجُ المتَّبَعُ، وأصلُ (سنن): يدُلُّ على جَرَيانِ الشَّيءِ، واطِّرادِه في سُهولةٍ [1179] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 387)، ((تفسير ابن جرير)) (19/119)، ((المفردات)) للراغب (ص: 429)، ((تفسير ابن كثير)) (6/427)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 129)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 497- 498)، ((تاج العروس)) للزبيدي (31/229). .
خَلَتْ: أي: مَضَتْ وذَهبَتْ، مِن خَلا الزَّمانُ: إذا مَضَى وذهَبَ [1180] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/204)، ((المفردات)) للراغب (ص: 297)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 50)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 96). .

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ اللهُ تعالَى عن الأُممِ السَّابقةِ المُكذِّبةِ بالرُّسلِ، وماذا حَلَّ بهم مِن العذابِ، مُوبِّخًا المشركينَ لعدَمِ اعتِبارِهم واتِّعاظِهم، فيَقولُ: أفلَمْ يَسِرْ أولئك المُشرِكونَ مِن قَومِك -يا مُحمَّدُ- في الأرضِ، فيَنظُروا كيْف كانتْ عاقِبةُ الكُفَّارِ مِن قَبْلِهم، فيَعتَبِروا؟! كان كُفَّارُ تلك الأُمَمِ السَّابِقةِ أكثَرَ عَددًا مِن كُفَّارِ قُرَيشٍ، وأشَدَّ قُوَّةً منهم، وأعظَمَ آثارًا في الأرضِ، فما دَفَع عنهم العَذابَ كَثرةُ عَددِهم، ولا شِدَّةُ قُوَّتِهم ولا عِظَمُ آثارِهم!
ثمَّ يَذكُرُ اللهُ تعالَى جُرمَهم الكبيرَ، فيَقولُ: فلمَّا جاءت تلك الأُمَمَ الماضيةَ رُسُلُهم بآياتِ اللهِ الواضِحاتِ فَرِحوا بما عِندَهم مِنَ العِلمِ، ونَزَل بهم عَذابُ اللهِ الذي كانوا يُكذِّبونَ بوُقوعِه ويَسخَرونَ منه، فلمَّا رأَوا عَذابَ اللهِ نازِلًا بهم قالوا: آمَنَّا باللهِ وَحْدَه، وكفَرْنا بالآلِهةِ التي كُنَّا نَعبُدُها مع اللهِ!
ثمَّ يُبيِّنُ تعالَى أنَّ الإيمانَ لا يَنفَعُ إذا نزَل العذابُ، فيقولُ: فلمْ يَنفَعْهم إيمانُهم حينَ رأَوا عَذابَ اللهِ نازِلًا بهم؛ سَنَّ اللهُ عَزَّ وجَلَّ في الكُفَّارِ سُنَّةً: أنَّه لا يَنفَعُهم الإيمانُ إذا رأَوُا العَذابَ، وأنَّ التَّوبةَ لا تُقبَلُ بعْدَ رُؤيةِ العذابِ، وخَسِرَ عندَ مَجيءِ عَذابِ اللهِ الكافِرونَ برَبِّهم!

تفسير الآيات:

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
رَاعَى اللهُ تعالَى تَرْتِيبًا لَطِيفًا فِي آخِرِ هذِه السُّورَةِ؛ وذلك أنَّه ذَكَر فصْلًا في دَلائلِ الإلهِيَّةِ وكَمالِ القُدرةِ والرَّحمةِ والحِكمةِ، ثمَّ أردَفه بفصْلٍ في التَّهديدِ والوَعيدِ، وهذا الفصلُ الَّذي وَقَع عليه خَتْمُ هذه السُّورةِ هو الفصلُ المشتمِلُ على الوَعيدِ [1181] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/534). .
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.
أي: أفَلَم يَسِرْ أولئك المُشرِكونَ مِن قَومِك -يا مُحمَّدُ- في الأرضِ، فيَنظُروا بأعيُنِهم، ويَتفَكَّروا بقُلوبِهم: كيف كانتْ خاتِمةُ أمرِ الكُفَّارِ الذين مِن قَبْلِهم، فيَعتَبِروا لِرُؤيتِهم آثارَ إهلاكِ اللهِ لهم؛ لِتَكذيبِهم رُسُلَهم [1182] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/371)، ((تفسير القرطبي)) (15/335)، ((تفسير السعدي)) (ص: 744). قال ابنُ عُثيمين: (هذا الاستِفهامُ يحتَمِلُ أنْ يكونَ للحَثِّ... ويَحتَمِلُ أنْ يكونَ للتَّوبيخِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 541). ؟!
كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ.
أي: كان كُفَّارُ الأُمَمِ السَّابِقةِ الذين أهلَكَهم اللهُ أكثَرَ عَددًا مِن كُفَّارِ قُرَيشٍ [1183] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/722)، ((تفسير ابن جرير)) (20/371)، ((تفسير ابن عطية)) (4/571). .
وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ.
أي: وكانوا أشَدَّ قُوَّةً مِنهم، وأعظَمَ آثارًا في الأرضِ [1184] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/371)، ((تفسير السمرقندي)) (3/215)، ((تفسير الشوكاني)) (4/576). .
فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ.
أي: فما دَفَع عنهم العَذابَ كَثرةُ عَدَدِهم، ولا شِدَّةُ قُوَّتِهم، ولا عِظَمُ آثارِهم [1185] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/371)، ((تفسير ابن كثير)) (7/159، 160)، ((تفسير السعدي)) (ص: 744). قال القاسمي: (كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ أي: مِن الحصونِ والقصورِ والمباني والعُدَدِ والعَدَدِ). ((تفسير القاسمي)) (8/321). وقال ابنُ الجوْزيِّ: (قولُه تعالى: فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ، في مَا قولانِ: أحدُهما: أنَّها للنفيِ. والثاني: أنَّها للاستفهامِ، ذكَرهما ابنُ جريرٍ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/44). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/371). وممَّن قال بأنَّها للنفيِ: ابنُ عطيةَ، والقرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/571)، ((تفسير القرطبي)) (15/336). وقال الشَّوكانيُّ: (و«ما» الثَّانيةُ -يعني في قولِه: مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ- يجوزُ أن تكونَ مَوصولةً، وأن تكونَ مَصدريَّةً). ((تفسير الشوكاني)) (4/576). .
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83).
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ.
أي: فلَمَّا جاءتْ أولئك الأُمَمَ الماضيةَ رُسُلُهم بآياتِ اللهِ الواضِحاتِ، والبراهينِ القاطِعاتِ، لم يُؤمِنوا بها، وفَرِح هؤلاء الكافِرونَ بما عِندَهم مِنَ العِلمِ، ورضُوا به [1186] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/372)، ((تفسير القرطبي)) (15/336)، ((تفسير ابن كثير)) (7/159، 160)، ((تفسير السعدي)) (ص: 744). والضَّميرُ المذكورُ في قَولِه تعالى: فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ: عائِدٌ على الأُمَمِ المكَذِّبةِ. ونسَبَه ابن الجوْزيِّ إلى الجمهور، وقيل: الضميرُ عائدٌ على الرُّسلِ، وفيه حذفٌ تقديرُه: كذَّبوهم ففرِحوا أي: الرسلُ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/571)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/44). قال القُرطبي: (فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ في معناه ثلاثةُ أقوالٍ: قال مجاهِدٌ: إنَّ الكُفَّارَ الذين فَرِحوا بما عِندَهم مِن العِلمِ قالوا: نحن أعلَمُ منهم؛ لن نُعَذَّبَ ولن نُبعَثَ. وقيل: فَرِحَ الكُفَّارُ بما عِندَهم مِن عِلمِ الدُّنيا، نحوُ: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الروم: 7] . وقيل: الذين فَرِحوا: الرُّسُلُ؛ لَمَّا كَذَّبَهم قَومُهم أعلَمَهم اللهُ عزَّ وجَلَّ أنَّه مُهلِكُ الكافِرينَ ومُنَجِّيهم والمؤمِنينَ). ((تفسير القرطبي)) (15/336). ويُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/44)، ((تفسير ابن عطية)) (4/571). وممَّن قال بالقولِ الأوَّلِ (قولِ مجاهدٍ): ابنُ جَرير، والواحديُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/372)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 950). وقال الرَّسْعني: (وعِلْمُهم الذي فرِحوا به: إنكارُهم الوَحدانيةَ والبعثَ، بالشُّبهِ التي كانوا يدْفعون بها البيِّناتِ. وتَسميةُ ذلك علمًا؛ تهكُّمٌ بهم). ((تفسير الرسعني)) (6/634). وقال السمعاني: (قد كانَ فِي ظنِّهم أنَّهم عُلماء، فسمَّى ما عِندَهم عِلمًا على ظنِّهم، وكان الَّذي ظنُّوه أَن لَا بعثَ ولا جنَّةَ ولا نارَ ولا حياةَ بعدَ الموتِ). ((تفسير السمعاني)) (5/34). وقيل: هذا عامٌّ في جميعِ العُلومِ المناقِضةِ لدِينِ الرُّسُلِ. وممَّن ذهَب إلى هذا المعنى في الجُملة: الشَّوكاني، والسعدي. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 744)، ((تفسير الشوكاني)) (4/576). ويُنظر: ((الصفدية)) لابن تيمية (2/247)، ((تفسير ابن كثير)) (7/160)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 548-550). .
وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ.
أي: ونَزَل وأحاطَ بالكافِرينَ عَذابُ اللهِ الذي كانوا يَسخَرونَ منه ويُكَذِّبونَ بوُقوعِه [1187] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/372)، ((تفسير القرطبي)) (15/336)، ((تفسير ابن كثير)) (7/160)، ((تفسير السعدي)) (ص: 744)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/221). .
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84).
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ.
أي: فلَمَّا رأَوا عَذابَ اللهِ نازِلًا بهم قالوا: آمَنَّا بوَحدانيَّةِ اللهِ، فلا مَعبودَ بحَقٍّ سِواه [1188] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/373)، ((تفسير ابن كثير)) (7/160)، ((تفسير السعدي)) (ص: 744). .
وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ.
أي: وكفَرْنا بالآلِهةِ التي كُنَّا نَعبُدُها، وتبَرَّأْنا منها [1189] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/373)، ((تفسير القرطبي)) (15/336)، ((تفسير السعدي)) (ص: 744). قال ابنُ عثيمين: (وبِهِ يَحتَمِلُ أن تكونَ للسَّببيَّةِ، أي: بما كُنَّا بسَبَبِه مُشرِكينَ، وأن تكونَ مُتعَلِّقةً بـ مُشْرِكِينَ تعَلُّقَ الجارِّ بعامِلِه). ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 553). .
كما قال تعالَى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ * فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ [الأعراف: 4، 5].
وقال سُبحانَه: فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ [الأنبياء: 12 - 15].
فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85).
فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا.
أي: فلمْ يَنفَعْهم إيمانُهم بتَوحيدِ اللهِ حِينَ رأَوْا عذابَه نازِلًا بهم [1190] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/373)، ((تفسير القرطبي)) (15/336)، ((تفسير ابن كثير)) (7/160)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/132)، ((تفسير السعدي)) (ص: 744). !
كما قال تعالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ [الأنعام: 158] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء: 18] .
سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ.
أي: سَنَّ اللهُ تعالى أنَّه لا يَقبَلُ تَوبةَ الكافِرينَ حينَ نُزولِ العَذابِ، ولا يَنفَعُهم إيمانُهم في تِلك الحالِ، وقدْ مَضَت هذه السُّنةُ والطريقةُ في عِبادِه [1191] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/374)، ((تفسير القرطبي)) (15/336)، ((تفسير ابن كثير)) (7/160)، ((تفسير السعدي)) (ص: 744). قال القُرطبي: (سُنَّةَ اللَّهِ مصدرٌ؛ لأنَّ العربَ تقولُ: سَنَّ يَسُنُّ سَنًّا وسُنَّةً، أي: سَنَّ اللهُ عزَّ وجلَّ في الكفَّارِ أنَّه لا يَنفعُهم الإيمانُ إذا رأوُا العذابَ... وقيلَ: أي: احْذَروا يا أهلَ مكَّةَ سُنَّةَ اللهِ في إهلاكِ الكفرةِ؛ فـ سُنَّةَ اللَّهِ منصوبٌ على التَّحذيرِ والإغراءِ). ((تفسير القرطبي)) (15/336). .
وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ.
أي: وهلَكَ عِندَ مَجيءِ عَذابِ اللهِ الكافِرونَ برَبِّهم، المُشرِكونَ في عِبادتِه، فما رَبِحَت تجارتُهم [1192] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/374)، ((تفسير السعدي)) (ص: 744)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/223). .

الفوائد التربوية:

1- مَن تَرَك الانقيادَ للحَقِّ لأجْلِ طَلَبِ الرِّياسةِ، والتَّقَدُّمِ على الغيرِ في المالِ والجاهِ؛ فقدْ باع الآخِرةَ بالدُّنيا، فبَيَّنَ اللهُ تعالَى أنَّ هذه الطَّريقةَ فاسِدةٌ؛ لأنَّ الدُّنيا فانيةٌ ذاهِبةٌ، واحتَجَّ عليه بقَولِه تعالَى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [1193] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/534-535). .
2- قولُه تعالَى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فيه الحَثُّ على النَّظرِ في أحوالِ الأُممِ السابقةِ؛ وجْهُ الدَّلالةِ: أنَّ اللهَ وَبَّخَهُم على عدَمِ السَّيرِ، والسَّيرُ في الأرضِ لا بدَّ أنْ يَصحَبَه النَّظرُ والاعتبارُ؛ وإلَّا فإنَّه لا يَنفَعُ، ويَتفرَّعُ على هذا ما يَفعَلُه كَثيرٌ مِن النَّاسِ اليومَ مِن السَّيرِ إلى دِيارِ ثَمودَ للاطِّلاعِ على آثارِ القومِ الدَّالَّةِ على قُوَّتِهم! أو يَذهَبون للفُرجةِ والنُّزهةِ فقطْ دونَ أنْ يعتَبِروا، وهذا لا يَجوزُ، فالواجبُ على مَن سار إلى تلك الدِّيارِ أنْ يَدْخُلَها وهو باكٍ؛ لقولِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((فإنْ لم تَكونوا باكِينَ فلا تَدخُلوا عليهم )) [1194] أخرجه البخاري (433)، ومسلم (2980) مِن حديثِ عَبدِ اللهِ بنِ عُمرَ رَضيَ اللهُ عنهما. ، ولا يَنفَعُ التَّباكي؛ فإنَّه لم يَقُلْ: (فتَبَاكَوْا)! ومَن لم يُوَطِّنْ نفْسَه على هذا الوَصفِ فإنَّه لا يَجوزُ له أنْ يَدخُلَ [1195] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 545). .
3- قال اللهُ تعالَى: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ، هذه الآيةُ مُرشِدةٌ إلى أنَّه لا يَتعَلَّمُ إلَّا مَن ظَنَّ مِن نَفسِه القُصورَ؛ ولهذا كان أقبَلَ شَيءٍ على العِلمِ الصِّغارُ [1196] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/129). .
4- قال اللهُ عزَّ وجَلَّ: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ في قولِه تعالى: بِالْبَيِّنَاتِ أنَّ آياتِ الرُّسُلِ بَيِّنَةٌ لا تَحْتَمِلُ الشَّكَّ، ويَتَفَرَّعُ على ذلك أنَّه يَنْبغي للعالِمِ الذي يَنْشُرُ شَريعةَ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ إذا نَشَرَها بيْنَ الناسِ أنْ يكونَ نَشْرُه إيَّاها على وجْهٍ بَيِّنٍ لا اشتباهَ فيه؛ أوَّلًا: اقتداءً بالرُّسُلِ، وثانيًا: لِيزدادَ المخاطَبُ طُمأنينةً؛ لأنَّ الطُّمأنينةَ لها أثَرٌ في قَبولِ ما يُلْقَى وفي القيامِ به؛ فإنَّ الإنسانَ إذا لم يُبَيَّنْ له الحقُّ على وجْهٍ تَحْصُلُ به الطُّمأنينةُ قدْ يَحصُلُ له تردُّدٌ؛ لكنْ إذا زِيدَ طُمأنينةً انْتَفَع بذلك [1197] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص:551). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قولِه تعالَى: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالَى أرْسَلَ الرُّسلَ بالآياتِ البيِّناتِ الدَّالَّةِ على صِدْقِهم، ويَتَفَرَّعُ على هذا فائدتانِ؛ وهما: رَحمةُ اللهِ بالعِبادِ، وحِكمةُ اللهِ تعالَى في فِعْلِه؛ أمَّا رَحمةُ اللهِ بالعِبادِ فلأنَّ اللهَ تعالَى لوْ أرسَلَ إليهم رُسلًا بدونِ آياتٍ، لكان في ذلك تَكليفٌ بما لا يُطاقُ؛ لأنَّ الإنسانَ لا يُمكِنُ أنْ يُصَدِّقَ برَسولٍ بدونِ آياتٍ تدُلُّ على صِدْقِه، وإلَّا لأمْكَنَ كلَّ كاذبٍ أنْ يقولَ: إنَّه رسولٌ! وأمَّا الحِكمةُ فظاهرةٌ أنَّ اللهَ سُبحانه وتعالَى لمّا أَرْسَلَ الرُّسُلَ لم يَتْرُكْهم هَمَلًا! بلْ أعطاهم ما على مثلِه يُؤمِنُ البشرُ، كما أخبَرَ بذلك نَبيُّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((ما مِن الأنبياءِ مِن نَبيٍّ إلَّا قدْ أُعطِيَ مِن الآياتِ ما مِثلُه آمَنَ عليه البشرُ ))، والذي أُوْتِيَه الرَّسولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ هو الوحيُ؛ القرآنُ؛ ولهذا قال: ((فأرْجو أنْ أكونَ أكثَرَهم تابِعًا يومَ القيامةِ )) [1198] أخرجه البخاري (4981)، ومسلم (152) مِن حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه. ؛ لأنَّ القرآنَ آيةٌ باقيةٌ إلى يومِ القِيامةِ، أو إلى أنْ يَأْذَنَ اللهُ تعالى بفَسَادِ العالَمِ، أمَّا آياتُ الرُّسُلِ فغالِبُها تَنْقضي في زمانِها [1199] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص:550). .
2- في قولِه تعالَى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا أنَّ التَّوبةَ مَقْبولةٌ -ولو في شِدَّةِ مَرضِ الموتِ- حتَّى يَصِلَ الإنسانُ إلى المعايَنةِ؛ فلا تُقبَلُ توبتُه [1200] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (7/196). ؛ فقدْ بيَّن تعالَى أنَّ التَّوبةَ بعْدَ رُؤيةِ البَأْسِ لا تَنْفَعُ، وأنَّ هذه سُنَّةُ اللهِ التي قدْ خَلَتْ في عِبادِه [1201] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (18/191). ، وبيَّن أنَّ الإيمانَ النَّافِعَ الذي يُنَجِّي صاحِبَه هو الإيمانُ الاختياريُّ الذي يكونُ إيمانًا بالغَيبِ، وذلك قبْلَ وُجودِ قَرائنِ العَذابِ [1202] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:743). ، وفيه حَضٌّ على المبادَرةِ إلى الإيمانِ، وتَخويفٌ مِن التَّأنِّي [1203] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/277). .
3- في قولِه تعالَى: وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ مع ما سَبَقَ: وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ [غافر: 78] بَيانُ أنَّ كلَّ كافرٍ فهو مُبْطِلٌ ليْس معه حقٌّ، وكلَّ مُبْطِلٍ -لا يَقولُ إلَّا الباطِلَ- فهو كافِرٌ، أي: أنَّ المُبْطِلَ في كلِّ أحْوالِه كافرٌ ليْس معه شَيءٌ مِن الحقِّ؛ فاختلافُ التَّعبيرِ لزِيادةِ المعنى [1204] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص:557). .
4- في قولِه تعالَى: وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ظُهورُ الخُسرانِ لهؤلاء المُكَذِّبِينَ قبْلَ أنْ يَموتوا؛ لقولِه: وَخَسِرَ هُنَالِكَ، أي: حينَ جاءَهم البأسُ تَبَيَّنَ لهم الخُسرانُ [1205] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص:558). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ
- قولُه: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَلامٌ مُستأنفٌ مَسوقٌ للشُّروعِ في تَوبيخِهم، والهَمزةُ في أَفَلَمْ للاستِفهامِ الإنكاريِّ التَّوبيخيِّ [1206] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/524). .
- وتَفريعُ هذا الاستِفهامِ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ عقِبَ قولِه: وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ [غافر: 81] ؛ يَقْتضي أنَّه مُساوِقٌ للتَّفريعِ الذي قبْلَه، وهو فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ [غافر: 81] ؛ فيَقْتضي أنَّ السَّيرَ المُستفهَمَ عنه بالإنكارِ على تَرْكِه هو سيْرٌ تَحصُلُ فيه آياتٌ ودَلائلُ على وُجودِ اللهِ ووَحْدانيَّتِه، وكِلَا التَّفريعينِ مُتَّصِلٌ بقولِه: وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [غافر: 80] ، فذلك هو مُناسَبةُ الانتقالِ إلى التَّذكيرِ بعِبرةِ آثارِ الأُمَمِ التي استأْصَلَها اللهُ تعالَى لَمَّا كذَّبَت رُسلَه، وجَحَدتْ آياتِه ونِعَمَه. وحصَلَ بذلك تَكريرُ الإنكارِ الذي في قولِه قبْلَ هذا: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا ... [غافر: 21] الآيةَ؛ فكان ما تَقدَّمَ انتقالًا عقِبَ آياتِ الإنذارِ والتَّهديدِ، وكان هذا انتقالًا عَقِبَ آياتِ الامتنانِ والاستدلالِ، وفي كِلا الانتقالَينِ تَذكيرٌ وتَهديدٌ ووَعيدٌ، وهو يُشِيرُ إلى أنَّهم إنْ لم يَكونوا ممَّن تَكُفُّهم النِّعَمُ عن كُفرانِ مُسْدِيها، كشأْنِ أهلِ النُّفوسِ الكريمةِ، فلْيَكونوا ممَّن يَردَعُهم الخوفُ مِن البطْشِ كشأْنِ أهلِ النُّفوسِ اللَّئيمةِ، فلْيَضَعوا أنفُسَهم حيثُ يَختارون مِن إحْدى الخُطَّتَينِ [1207] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/219). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ...، وقال قبْلُ في نفْسِ السُّورةِ: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ... [غافر: 21] ؛ فخُولِفَ في عَطْفِ جُملةِ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ...، فعُطِفَت بالفاءِ للتَّفريعِ؛ لِوُقوعِها بعْدَما يَصلُحُ لأنْ يُفرَّعَ عنه إنكارُ عَدَمِ النَّظرِ في عاقبةِ الذين مِن قبْلِهم، بخِلافِ نَظيرتِها التي قبْلَها؛ فقدْ وقَعَتْ بعْدَ إنذارِهم بيَومِ الآزفةِ [1208] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/220). .
- وقولُه: كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً ... إلخ، استِئنافٌ مَسوقٌ لِبَيانِ مَبادِي أحوالِ الأُمَمِ السَّابقةِ وعَواقِبِها [1209] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/286)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/524). .
- وجُملةُ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ مُعترِضةٌ، والفاءُ للتَّفريعِ على قولِه: كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ، وفائدةُ هذا الاعتراضِ التَّعجيلُ بإفادةِ أنَّ كَثرتَهم وقُوَّتَهم، وحُصونَهم وجنَّاتِهم؛ لم تُغْنِ عنهم مِن بأْسِ اللهِ شيئًا [1210] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/220). .
- وأيضًا في قولِه: فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ... [غافر: 82- 85] جاءتِ الفاءُ، ثمَّ تَرادَفَت بعْدَها فاءاتٌ؛ فأمَّا قولُه تعالى: فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ فهو نَتيجةُ قولِه: كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ، وأمَّا قولُه: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فجارٍ مَجْرى البَيانِ والتَّفسيرِ لقولِه تعالَى: فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ، كقولِك: رُزِقَ زيْدٌ المالَ، فمنَعَ المعروفَ، فلمْ يُحسِنْ إلى الفُقراءِ، وقولُه: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا تابعٌ لِقولِه: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ؛ كأنَّه قال: فكَفَروا، فلمَّا رَأَوا بأْسَنا آمَنوا، وكذلك فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ تابعٌ لإيمانِهم لَمَّا رَأَوا بأْسَ اللهِ [1211] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/183)، ((تفسير البيضاوي)) (5/65)، ((تفسير أبي حيان)) (9/277، 278)، ((تفسير أبي السعود)) (7/287). .
2- قولُه تعالَى: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
- جُملةُ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ... الآيةَ، مُفرَّعةٌ على جُملةِ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ، أي: كانوا كذلك إلى أنْ جاءتْهم رُسلُ اللهِ إليهم بالبيِّناتِ، فلمْ يُصدِّقوهم فرَأَوا بأْسَنا [1212] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/220). .
- وأفادَتْ (لَمَّا) في قولِه: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ معنى أنَّ اللهَ لم يُغيِّرْ ما بهم مِن النِّعَمِ العُظْمى حتَّى كذَّبوا رُسلَه؛ لِما فيها مِن معنَى التَّوقيتِ [1213] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/220). .
- والفرَحُ هنا مُكنًّى به عن آثارِه، وهي الازدهاءُ، كما في قولِه تعالَى: إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ [القصص: 76] ، أي: بما أنْت فيه، مُكنًّى به هنا عن تَمسُّكِهم بما همْ عليه؛ فالمعنَى: أنَّهم جادَلوا الرُّسلَ، وكابَروا الأدلَّةَ [1214] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/221). .
- وفي قولِه: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ما يُعرَفُ في البَلاغةِ بالتَّهكُّمِ، وهو الاستِهزاءُ والسُّخريةِ مِن المتكبِّرينَ لِمُخاطَبتِهم بلَفظِ الإجلالِ في مَوضعِ التَّحقيرِ، والبِشارةِ في مَوضعِ التَّحذيرِ، والوَعدِ في مَوضعِ الوَعيدِ، والعِلمِ في مَوضعِ الجَهلِ؛ تَهاوُنًا مِن القائلِ بالمقولِ له، واستِهزاءً به [1215] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/182)، ((تفسير البيضاوي)) (5/65)، ((تفسير أبي حيان)) (9/276، 277)، ((تفسير أبي السعود)) (7/287)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/526، 527). .
- وقولُه: وَحَاقَ بِهِمْ أي: أحاطَ، وهو هنا مُعبَّرٌ به عن الشِّدَّةِ الَّتي لا تَنْفيسَ بها؛ لأنَّ المُحِيطَ بشَيءٍ لا يَدَعُ له مَفْرَجًا [1216] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/221). .
- وفي ذِكرِ فِعلِ الكونِ في قولِه: وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ تَنبيهٌ على أنَّ الاستهزاءَ بوَعيدِ الرُّسلِ كان شِنْشنةً -أي: عادةً مُستقِرَّةً- لهم. وفي الإتيانِ بالفِعلِ يَسْتَهْزِئُونَ مُضارِعًا إفادةٌ لِتَكرُّرِ استِهزائِهم [1217] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/221). .
- وهذِه الآيةُ مِن الاحتِباكِ: إثباتُ الفَرَحِ أولًا دَليلٌ على حذْفِ ضِدِّه ثانيًا، وإثباتُ الاستهزاءِ ثانيًا دليلٌ على حذْفِ مِثلِه أولًا [1218] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/129، 130). .
3- قولُه تعالَى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ
- مَوقعُ جُملةِ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا مِن قولِه: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ [غافر: 83] كمَوقعِ جُملةِ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِن قولِه: كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ [غافر: 82] ، وهو التَّفريعُ عليها؛ لأنَّ إفادةَ (لَمَّا) معْنى التَّوقيتِ يُثِيرُ معْنى تَوقيتِ انتِهاءِ ما قبْلَها، أي: دامَ دُعاءُ الرُّسلِ إيَّاهم، ودامَ تَكذيبُهم واستِهْزاؤهم إلى أنْ رَأَوا بأْسَنا، فلمَّا رَأَوا بأْسَنا قالوا: آمنَّا باللهِ وحْدَه [1219] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/221، 222). .
- والبأْسُ في قولِه: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ هو العذابُ الخارقُ للعادةِ المنذِرُ بالفَناءِ؛ فإنَّهم لَمَّا رَأَوه عَلِموا أنَّه العذابُ الذي أُنذِروه، وفُرِّعَ عليه قولُه: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا، أي: حِين شاهَدوا العذابَ لم يَنفَعْهم الإيمانُ؛ لأنَّ اللهَ لا يَقبَلُ الإيمانَ عندَ نُزولِ عَذابِه، وعُدِلَ عن أنْ يُقالَ: (فلمْ يَنفَعْهم)، إلى قولِه: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ؛ لِدَلالةِ فِعلِ الكونِ على أنَّ خبَرَه مُقرَّرُ الثُّبوتِ لاسْمِه، فلمَّا أُرِيدَ نفْيُ ثُبوتِ النَّفعِ إيَّاهم بعْدَ فَواتِ وَقتِه، اجتُلِبَ لذلك نَفْيُ فِعلِ الكونِ الذي خبَرُه يَنْفَعُهُمْ، والمعنَى: أنَّ الإيمانَ بعْدَ رُؤيةِ بَوارقِ العذابِ لا يُفِيدُ صاحبَه، مِثلُ الإيمانِ عندَ الغَرْغرةِ، ومِثلُ الإيمانِ عندَ طُلوعِ الشَّمْسِ مِن مَغرِبِها [1220] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/222). .
- وجُملةُ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ مُستأنفةٌ استِئنافًا بَيانيًّا جَوابًا لِسُؤالِ مَن يَسأَلُ: لماذا لم يَنفَعْهم الإيمانُ وقدْ آمَنوا؟ فالجوابُ: أنَّ ذلك تَقديرٌ قدَّرَه اللهُ للأُمَمِ السَّالفةِ، أعْلَمَهم به وشرَطَهُ عليهم؛ فهي قَديمةٌ في عِبادِه، لا يَنفَعُ الكافرَ الإيمانُ إلَّا قبْلَ ظُهورِ البأْسِ [1221] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/222). .
- وجُملةُ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ كالفَذْلكةِ [1222] الفَذْلكةُ: مِن فَذْلَكَ حِسابَه فَذْلَكَةً، أي: أَنْهاهُ وفَرَغَ مِنْه، وذكَر مُجمَلَ ما فُصِّل أولًا وخُلاصتَه. و(الفَذْلكةُ) كلمةٌ مَنحوتةٌ كـ (البَسملة) و(الحوقلة)، مِن قولِهم: (فذَلِكَ كذَا وكذَا عددًا). ويُرادُ بالفَذلكةِ: النَّتيجةُ لِمَا سبَق مِن الكلامِ، والتفريعُ عليه، ومنها فَذْلَكةُ الحسابِ، أي: مُجمَلُ تفاصيلِه، وإنهاؤُه، والفراغُ منه، كقولِه تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ بعْدَ قولِه: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة: 196] . يُنظر: ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (27/293)، ((كناشة النوادر)) لعبد السلام هارون (ص: 17)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 638، 639). لقولِه: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا، وبذلك آذنَتْ بانتهاءِ الغرَضِ مِن السُّورةِ [1223] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/223). .
- وهُنَالِكَ اسمُ إشارةٍ إلى مَكانٍ، عُبِّرَ به عن الإشارةِ إلى الزَّمانِ، أي: خَسِروا وقْتَ رُؤيتِهم بأْسَنا؛ إذ انقضَتْ حياتُهم وسُلطانُهم، وصاروا إلى تَرقُّب عَذابٍ خالدٍ مُستقبَلٍ [1224] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/287)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/223). .
- والعُدولُ عن ضَميرِ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً [غافر: 21] إلى الاسمِ الظَّاهرِ -وهو الْكَافِرُونَ- إيماءٌ إلى أنَّ سَببَ خُسرانِهم هو الكفْرُ باللهِ، وذلك إعذارٌ للمُشركينَ مِن قُريشٍ [1225] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/223). .
- وقد الْتَفَّ آخرُ هذه السُّورةِ -بما بُيِّن مِن كمالِ العِزَّةِ، وتمامِ القدرةِ، وشُمولِ العِلمِ ممَّا رتِّب مِن أسبابِ الهداية والإضلالِ، والإشقاءِ والإسعادِ، والنَّجاةِ والإهلاكِ- بأوَّلِها أيَّ التفافٍ، واكتَنَفت البدايةُ والنِّهايةُ بيانَ ذلك معَ ما اشْتَمل عليه الوسطُ أيضًا منه أعظمَ اكتنافٍ؛ فسبحانَ مَن هذا إنزالُه، وتبارَك اسمُه، وجل جلاله [1226] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/133). .