موسوعة التفسير

سورةُ غافِرٍ
الآيتان (21-22)

ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ

غريب الكلمات:

وَآَثَارًا: أي: ما تُرِكَ في الأرضِ مِنَ البِناياتِ والمَعالِمِ والحُصونِ، وأثَرُ الشَّيءِ: حُصولُ ما يدُلُّ على وُجودِه، وأصلُ (أثر): يدُلُّ على رَسمِ الشَّيءِ الباقي .
وَاقٍ: أي: حافِظٍ ونافعٍ، والوِقايةُ: حِفظُ الشَّيءِ مِمَّا يُؤذيه ويَضُرُّه، وأصلُ (وقي): يدُلُّ على دَفعِ شَيءٍ عن شَيءٍ .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالَى: أوَلَم يَسِرْ أولئك المُشرِكونَ من قُريشٍ في الأرضِ، فيَنظُروا مُعتَبِرينَ كيف كانتْ نهايةُ مَن قَبلَهم مِنَ الأُمَمِ الماضِيةِ؛ كانوا أشَدَّ قُوَّةً مِنهم، وأعظَمَ آثارًا في الأرضِ مِنهم، فعاقَبَهمُ اللهُ بذُنوبِهم فأهلَكَهم، ولم يكُنْ لهم مَن يَقيهم مِنَ اللهِ تعالَى.
ثُمَّ يَذكُرُ تعالَى عِلَّةَ أخْذِه إيَّاهم، وذُنوبَهمُ الَّتي ارْتَكَبوها، فيقولُ: ذلك العَذابُ لأنَّهم كانتْ تأتيهم رسُلُهم بالبَيِّناتِ على توحيدِ اللهِ وصِدقِ رُسُلِه، فكَفَروا، فأخَذَهمُ اللهُ بعَذابِه فأهلَكَهم؛ إنَّ اللهَ قَويٌّ شَديدُ العِقابِ.

تفسير الآيتين:

أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا خَوَّفَ اللهُ تعالى الكُفَّارَ بعَذابِ الآخِرةِ؛ أردَفَه ببَيانِ تَخويفِهم بأحوالِ الدُّنيا .
وأيضًا لَمَّا وعَظَهمُ اللهُ سُبحانَه بصادِقِ الأخبارِ عن قَومِ نُوحٍ ومَن تَبِعَهم، وختَمَه بالإنذارِ بما يقَعُ في دارِ القَرارِ للظَّالِمينَ؛ أتْبَعَه الوَعظَ والتَّخويفَ بالمُشاهَدةِ مِن تتَبُّعِ الدِّيارِ والاعتبارِ .
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ.
أي: أوَلَم يَسِرْ أولئكَ المُشرِكونَ مِن كُفَّارِ قُرَيشٍ في الأرضِ، فيَنظُروا مُعتَبِرينَ نهايةَ أمْرِ مَن كان قَبلَهم مِنَ الأُمَمِ الماضيةِ ؟
كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ.
أي: كان كُفَّارُ الأُمَمِ الماضيةِ أشَدَّ قوَّةً مِن كُفَّارِ قُرَيشٍ، وأعظَمَ آثارًا في الأرضِ منهم .
كما قال تعالَى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ [الروم: 9] .
فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ.
أي: فلمْ تَنفَعْهم شِدَّةُ قُوَّتِهم ولا آثارُهم في الأرضِ؛ حيثُ عاقَبَهمُ اللهُ فأهلَكَهم بسَببِ ذُنوبِهم .
وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ.
أي: ولم يَكُنْ لهم حِينَ جاءَهم عذابُ اللهِ أحدٌ يَقيهم منه، ويدفعُه عنهم .
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ سُبحانَه أخْذَهم؛ ذكَرَ سبَبَه بما حاصِلُه أنَّ الاستِهانةَ بالرَّسولِ استِهانةٌ بمَن أرسَلَه .
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ.
أي: إنَّما نَزَل ذلك العَذابُ بهم؛ لأنَّهم كانتْ تأتيهم رسُلُهم بالدَّلالاتِ الواضِحاتِ على تَوحيدِ اللهِ وصِدقِ رُسُلِه، فكفَروا، وجَحَدوا توحيدَ اللهِ، وكَذَّبوا رسُلَه؛ فعاقَبَهم اللهُ بعَذابِه فأهلَكَهم .
إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ.
أي: إنَّ اللهَ ذو قُوَّةٍ عَظيمةٍ؛ فلا يُعجِزُه شَيءٌ، ولا يَقهَرُه شَيءٌ سُبحانَه، وعِقابُه شَديدٌ على مَن يَستَحِقُّه .
كما قال تعالَى: كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: 52] .

الفوائد التربوية:

قال اللهُ تعالى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ المعنى: أنَّ العاقِلَ مَن اعتبَرَ بغَيرِه؛ فإنَّ الذين مضَوْا مِنَ الكُفَّارِ كانوا أشَدَّ قُوَّةً مِن هؤلاء الحاضِرينَ مِنَ الكُفَّارِ، وأقْوى آثارًا في الأرضِ مِنهم، فلمَّا كَذَّبوا رُسُلَهم أهلكَهمُ اللهُ بضُروبِ الهلاكِ مُعَجِّلًا، حتى إنَّ هؤلاء الحاضِرينَ مِنَ الكُفَّارِ يُشاهِدونَ تلك الآثارَ؛ فحَذَّرهمُ اللهُ تعالَى مِن مِثلِ ذلك بهذا القَولِ، وبَيَّنَ بقَولِه: وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ [غافر: 21] أنَّه لَمَّا نَزَل العذابُ بهم عِندَ أخْذِه تعالَى لهم لم يَجِدوا مَن يُعينُهم ويُخَلِّصُهم، ثمَّ بَيَّن أنَّ ذلك نَزَل بهم؛ لأجْلِ أنَّهم كَفَروا وكَذَّبوا الرُّسلَ، فحَذَّر قَومَ الرَّسولِ مِن مِثلِه، وخَتَم الكَلامَ بقولِه: إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ [غافر: 22] ؛ مُبالَغةً في التَّحذيرِ والتَّخويفِ .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالَى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ أنَّ السَّيرَ في أرضِ المُكَذِّبِين، وتَبَيُّنَ ما أحَلَّ اللهُ بهم مِنَ النَّكالِ، إذا كان على سَبيلِ العِبرةِ بما جرَى لهم مِنَ الهَلاكِ؛ فلا بأسَ به، وبِناءً على ذلك نَعرِفُ أنَّ الذين يَذهَبونَ الآنَ إلى دِيارِ ثمودَ للاطِّلاعِ على قُوَّتِهم والاعتِبارِ بصَنعَتِهم: هُمْ على خَطأٍ عَظيمٍ؛ لأنَّهم لم يَسيروا في الأرضِ السَّيرَ الذي أمَرَ اللهُ به، بل ساروا في الأرضِ السَّيرَ الذي نهَى عنه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فقد قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((لا تَدْخُلوا على هؤلاءِ القَومِ المُعَذَّبِينَ، إلَّا أنْ تَكونوا باكِينَ، فإنْ لَمْ تَكونوا باكِينَ فلا تَدْخُلوا عليهم؛ أَنْ يُصيبَكُم مِثلُ ما أصابَهُم )) .
2- قَولُ اللهِ تعالَى: وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ نَبَّه على آثارِهم؛ لأنَّ آثارَهم لم يَندَرِسْ بَعضُها إلى هذا الزَّمانِ، وقد مضَى عليها أُلوفٌ مِنَ السِّنينَ، وأمَّا المتأخِّرونَ فتَنطَمِسُ آثارُهم في أقَلَّ مِن قَرنٍ .
3- في قَولِه تعالَى: كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ أنَّ هؤلاء الذين كانوا مِن قَبلِهم كانوا أشدَّ منهم قوةً في الأبْدانِ، وقوةً في الصِّناعةِ، وقوةً في الآثارِ؛ ومع هذا لم تمنَعْهم قوَّتُهم هذه مِن أخْذِ اللهِ لهم، وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ فلا يقي دونَ ما أرادَ اللهُ؛ لا قصورٌ ولا مدافعُ، ولا طائراتٌ ولا أيُّ شيءٍ، فإذا أرادَ بقومٍ سُوءًا فلا مَرَدَّ له، قال تعالى: وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ [الرعد: 11] .
4- قولُه تعالَى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فيه إثباتُ عَدْلِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وأنَّه لا يُؤاخِذُ أحدًا بدونِ ذنْبٍ .
5- في قَولِه تعالَى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إثباتُ الأسبابِ، وأنَّ اللهَ تعالى ربَطَ المُسَبَّباتِ بأسبابِها، وهذا يدُلُّ على تمامِ حِكمةِ اللهِ، وأنَّه عزَّ وجلَّ لم يَفعَلْ شيئًا عَبَثًا، ولا لِمُجَرَّدِ المشيئةِ، خِلافًا لِمَن قال مِن الجَبريَّةِ وغَيرِهم: إنَّ اللهَ تعالى يَفعَلُ ما يَشاءُ لِمُجَرَّدِ المشيئةِ، وليس لحِكمةٍ، وأنكَروا حِكمةَ اللهِ! فيُقالُ لهم: الحِكمةُ هي غايةُ الحُكمِ، أي: أنَّ الحِكمةَ أكبَرُ ما يَدُلُّ على البُعدِ عن السَّفَهِ واللَّعِبِ، والحِكمةُ التي يَشرَعُ اللهُ الشَّرائِعَ مِن أجْلِها لا تعودُ إلى نَفسِها إلَّا مِن حيثُ الكَمالُ فقط، أمَّا المَصلحةُ فالذي يَنتَفِعُ بها هم الخَلقُ، أمَّا اللهُ عزَّ وجلَّ فإنَّ حِكمتَه لا تعودُ إليه بشَيءٍ سِوى بيانِ كَمالِ صِفاتِه عزَّ وجَلَّ .

بلاغة الآيتين:

1- قولُه تعالَى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ هذا انتقالٌ مِن إنذارِهم بعَذابِ الآخِرةِ على كُفْرِهم، إلى مَوعظتِهم وتَحذيرِهم مِن أنْ يَحُلَّ بهم عذابُ الدُّنيا قبْلَ عَذابِ الآخِرةِ كما حَلَّ بأُمَمٍ أمثالِهم .
- والواوُ في أَوَلَمْ عاطفةٌ جُملةَ: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ... على جُمْلةِ: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ ... إلخ [غافر: 18] . والاستفهامُ تَقريريٌّ، والتَّقريرُ مُوجَّهٌ للَّذين ساروا مِن قُريشٍ ونَظَروا آثارَ الأُمَمِ الذين أبادَهم اللهُ جَزاءَ تَكذيبِهم رُسلَهم؛ فهُمْ شاهَدوا ذلك في رِحلتَيْهم رِحلةِ الشِّتاءِ ورِحلةِ الصَّيفِ، وإنَّهم حَدَّثوا بما شاهَدوه مَن تَضُمُّهم نَوادِيهم ومَجالِسُهم؛ فقد صار مَعلومًا للجميعِ، فبهذا الاعتبارِ أُسنِدَ الفِعلُ المقرَّرُ به إلى ضَميرِ الجمْعِ على الجُملةِ . أو تكونُ الهمزةُ للاستِفهامِ الإنكاريِّ؛ أنكَرَ عليهم عدَمَ الاعتبارِ بأحوالِ غَيرِهم، والواوُ عاطفةٌ على مُقدَّرٍ يَقْتضيهِ المقامُ، أي: أَغَفُلُوا ولم يَسِيروا .
- وجُملةُ: كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ... مُستأنَفةٌ استِئنافًا بَيانيًّا؛ لِتَفصيلِ الإجمالِ الذي في قولِه: كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ؛ لأنَّ العِبرةَ بالتَّفريعِ بعْدَها بقولِه: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ .
- وضَميرُ الفصْلِ (هُمْ) في جُملةِ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ...؛ لِتَوكيدِ الحُكْمِ وتَقويتِه، وليسَ مُرادًا به قَصرُ المُسْنَدِ على المُسْنَدِ إليه؛ إذْ ليسَ للقَصْرِ معنًى هنا .
- والفاءُ في فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ لِتَفريعِ الأخْذِ على كَونِهم أشدَّ قوَّةً مِن قُريشٍ؛ لأنَّ القوَّةَ أُرِيدَ بها هنا الكِنايةُ عن الإباءِ مِن الحَقِّ والنُّفورِ مِن الدَّعوةِ؛ فالتَّقديرُ: فأعْرَضوا، أو فكَفَروا فأخَذَهم اللهُ، والأخْذُ: الاستِئصالُ والإهلاكُ؛ كُنِّيَ عن العِقابِ بالأخْذِ .
- قولُه: وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (مِن) الأُولى مُتعلِّقةٌ بلَفظِ وَاقٍ، قُدِّمَ الجارُّ والمجرورُ؛ للاهتمامِ بالمجرورِ، و(مِن) الثَّانيةُ صِلةٌ؛ لِتَأكيدِ النَّفْيِ بحرْفِ (ما) .
2- قولُه تعالَى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ
- قولُه: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ (ذلك) إشارةٌ إلى المذكورِ، وهو أخْذُ اللهِ إيَّاهم بذُنوبِهم، والباءُ للسَّببيَّةِ، أي: ذلك الأخْذُ بسَببِ أنَّهم كانتْ تأْتِيهم رُسلُهم بالبيِّناتِ فكَفَروا بهم، وفي هذا تَفصيلٌ للإجمالِ الذي في قولِه: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ، والجُملةُ بعْدَ (أنَّ) المفتوحةِ في تأويلِ مَصدرٍ؛ فالتَّقديرُ: ذلك بسَببِ تَحقُّقِ مَجيءِ الرُّسلِ إليهم فكُفْرِهم بهم .
- وأفادَ المضارِعُ في قولِه: تَأْتِيهِمْ تَجدُّدَ الإتيانِ مرَّةً بعْدَ مرَّةٍ لِمَجموعِ تلك الأُمَمِ، أي: يأْتي لكلِّ أُمَّةٍ منهم رسولٌ؛ فجَمْعُ الضَّميرِ في تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ، وجمْعُ الرُّسلِ في قولِه: رُسُلُهُمْ مِن مُقابَلةِ الجمْعِ بالجمْعِ؛ فالمعنى: أنَّ كلَّ أُمَّةٍ منهم أتاها رسولٌ. ولم يُؤتَ بالمضارِعِ في قولِه: فَكَفَرُوا؛ لأنَّ كُفْرَ أولئك الأُمَمِ واحِدٌ، وهو الإشراكُ، وتكذيبُ الرُّسلِ .
- وكُرِّرَ قولُه: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بعْدَ أنْ تَقدَّمَ نَظيرُه في قولِه: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ... إلخ [غافر: 21] ؛ إطنابًا لِتَقريرِ أخْذِ اللهِ إيَّاهم بكُفْرِهم برُسلِهم، وتَهويلًا على المنذَرينَ بهم أنْ يُساوُوهم في عاقِبتِهم كما ساوَوْهُم في أسْبابِها .
- وجُملةُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ تَعليلٌ وتَبْيينٌ لأخْذِ اللهِ إيَّاهم، وكيفيَّتِه، وسُرعةِ أخْذِه المُستفادةِ مِن فاءِ التَّعقيبِ؛ فالقويُّ لا يُعجِزُه شَيءٌ، فلا يُعطِّلُ مُرادَه ولا يَتريَّثُ، وشَدِيدُ الْعِقَابِ بَيانٌ لذلك الأخْذِ على حَدِّ قولِه تعالَى: فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ [القمر: 42].
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ بجمْعِ الضَّميرِ بِأَنَّهُمْ، وقال في سُورةِ (التَّغابُن): ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ [التغابن: 6] بإفرادِه بِأَنَّهُ؛ وذلك مُوافقةٌ هنا لِما قبْلَه في قولِه: كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً إلى آخِرِه، وأفْرَدَه هناك؛ لأنَّه ضَميرُ الشَّأنِ زِيدَ توصُّلًا إلى دُخولِ «أنَّ» على «كان» .