موسوعة التفسير

سورةُ الرَّعدِ
الآيات (8-11)

ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ

غريب الكلمات:

تَغِيضُ: أي: تَنقُصُ، يُقالُ: غاض الماءُ، فهو يَغيضُ؛ إذا نقَص، وأصلُ (غيض): يدُلُّ على نُقصانٍ في شَيءٍ .
وَسَارِبٌ: أي: بارِزٌ ظاهِرٌ في سَرْبِه، أي: طريقِه، وأصلُ (سرب): يدُلُّ على الاتِّساعِ والذَّهابِ في الأرضِ .
مُعَقِّبَاتٌ: أي: مَلائِكةٌ يَخْلُفُ بعضُها بعضًا في اللَّيلِ والنَّهارِ، وأصلُ (عقب): يدُلُّ على تأخيرِ شَيءٍ، وإتيانِه بعدَ غَيرِه .
وَالٍ: أي ملجأٍ وناصرٍ، وأصْلُ (ولي): يدلُّ على القُرْبِ، سواء مِن حيثُ: المكانُ، أو النِّسبةُ، أو الدِّينُ، أو الصَّداقةُ، أو النُّصرةُ، أو الاعتقادُ، وكلُّ مَن وَلِي أمرَ آخَرَ فهو وَلِيُّه .

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ اللهُ تعالى عن تمامِ عِلمِه الذي لا يخفى عليه شيءٌ؛ فهو سُبحانَه يعلَمُ ما تحمِلُ كلُّ أنثى في بَطنِها، أذكَرٌ هو أم أُنثى؟ وشقيٌّ هو أم سعيدٌ؟ إلى غيرِ ذلك من الأحوالِ، وهو تعالى عالمٌ بما تَنقُصُه الأرحامُ وما تزيدُه في بدنِ الجنينِ، ومدةِ الحملِ، وغيرِ ذلك، وكلُّ شَيءٍ مُقدَّرٌ عند اللهِ بمقدارٍ لا يتَجاوزُه، وهو- سبحانَه- عالِمٌ بما خَفيَ عن الأبصارِ، وبما هو مُشاهَدٌ، الكبيرُ في ذاتِه وأسمائِه وصِفاتِه، المُتَعالِ على جميعِ خَلقِه بذاتِه وقَدْرِه وقَهرِه. ويَستوي في عِلمِه تعالى مَن أخفَى القَولَ ومَن جهَرَ به، ويستوي عنده مَن استتَرَ بأعمالِه في ظُلمةِ اللَّيلِ، ومن جهرَ بها في وضَحِ النَّهارِ. وللعبدِ ملائِكةٌ يتعاقبونَ عليه  مِن بينِ يديه ومِن خَلْفِه، يحفظونَه بأمرِ اللهِ. إنَّ اللهَ- سبحانه وتعالى- لا يغيِّرُ نِعمةً أنعَمَها على قومٍ إلَّا إذا غيَّروا ما أمَرَهم به فعَصَوه، وإذا أراد اللهُ بقَومٍ بلاءً فلا مفَرَّ منه، وليس لهم مِن دونِ اللهِ مِن والٍ يتولَّى أمورَهم، فيجلِبُ لهم المحبوبَ، ويدفَعُ عنهم المكروهَ.

تفسير الآيات:

اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ (8).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لمَّا تقَدَّم إنكارُهم البَعثَ؛ لتفَرُّقِ الأجزاءِ، واختِلاطِ بَعضِها ببعضٍ، بحيثُ لا يتهيَّأُ الامتيازُ بينها؛ نَبَّه على إحاطةِ عِلمِه، وأنَّ مَن كان عالِمًا بجَميعِ المعلوماتِ هو قادِرٌ على إعادةِ ما أنشأَ .
وأيضًا لمَّا قامت البَراهينُ العديدةُ بالآياتِ السَّابِقةِ على وحدانيَّةِ اللهِ تعالى بالخَلقِ والتَّدبيرِ، وعلى عظيمِ قُدرتِه التي أودَعَ بها في المَخلوقاتِ دَقائِقَ الخِلقةِ؛ انتقَلَ الكلامُ إلى إثباتِ العِلمِ له تعالى عِلمًا عامًّا بدقائِقِ الأشياءِ وعظائِمِها، وجُعِلَت هذه الجُملةُ في هذا المَوقِعِ؛ لأنَّ لها مُناسَبةً بقَولِهم: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ، فإنَّ ما ذُكِرَ فيها مِن عِلمِ اللهِ وعَظيمِ صُنعِه صالِحٌ لِأنْ يكونَ دَليلًا على أنَّه لا يُعجِزُه الإتيانُ بما اقتَرَحوا مِنَ الآياتِ، ولكِنَّ بَعثةَ الرَّسولِ ليس المَقصِدُ منها المُنازَعاتِ، بل هي دَعوةٌ للنَّظَرِ في الأدلَّةِ .
اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى.
أي: اللهُ يعلَمُ ما تحمِلُه كلُّ أنثى مِن بني آدمَ وغيرِهم، يعلمُ ما تحملُه على أيِّ حالٍ هو؛ مِن ذُكورةٍ وأنُوثةٍ، وحُسْنٍ وقُبحٍ، وطُولٍ وقِصَرٍ، وسَعادةٍ وشَقاوةٍ، إلى غيرِ ذلك من الأحوالِ .
كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ [آل عمران: 5- 6] .
وقال سُبحانه: وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فاطر: 11] .
وقال عزَّ وجَلَّ: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ [النجم: 32] .
وعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: حدَّثَنا رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو الصَّادِقُ المصدوقُ: ((إنَّ أحَدَكم يُجمَعُ في بَطنِ أمِّه أربعينَ يومًا، ثمَّ يكونُ علَقةً مثلَ ذلك، ثمَّ يكونُ مُضغةً مثلَ ذلك، ثمَّ يَبعَثُ اللهُ إليه مَلَكًا بأربعِ كَلِماتٍ، فيكتُبُ عَمَلَه، وأجَلَه، ورِزْقَه، وشَقيٌّ أو سعيدٌ، ثم يُنفَخُ فيه الرُّوحُ )) .
وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ.
أي: وهو تعالى عالمٌ بما تَنقُصُه الأرحامُ وما تزيدُه؛ سواءٌ في بدنِ الجنينِ، أو مدةِ الحملِ، وغيرِ ذلك مما يعرِضُ أثناءَ الحملِ مِن الزيادةِ والنقصانِ .
عن ابنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مفاتِحُ الغَيبِ خَمسٌ لا يعلَمُها إلَّا اللهُ: لا يعلَمُ ما في غدٍ إلَّا اللهُ، ولا يعلَمُ ما تغيضُ الأرحامُ إلَّا اللهُ، ولا يعلَمُ متى يأتي المطَرُ أحدٌ إلَّا اللهُ، ولا تدري نفسٌ بأيِّ أرضٍ تموتُ، ولا يعلَمُ متى تقومُ السَّاعةُ إلَّا اللهُ )) .
وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ.
أي: وكلُّ شَيءٍ عندَ الله بقَدْرٍ وحَدٍّ، لا يتجاوَزُه ولا يَقصُرُ عنه، كما لا يزدادُ حَملُ أنثى على ما قُدِّرَ له، ولا ينقُصُ عما حُدَّ له .
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ أنَّه عالِمٌ بأشياءَ خَفيَّةٍ لا يعلَمُها إلَّا هو، وكانت أشياءَ جُزئيَّةً مِن خفايا عِلمِه؛ ذكَرَ أنَّ عِلمَه مُحيطٌ بجميعِ الأشياءِ .
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ.
أي: اللهُ عالِمٌ بكُلِّ ما غاب عنكم، وكُلِّ ما تُشاهِدونَه بأبصارِكم، لا يخفَى عليه شيءٌ مِن ذلك كُلِّه .
الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ.
أي: هو الكبيرُ في ذاتِه وأسمائِه وصِفاتِه، وهو أكبَرُ مِن أيِّ شيءٍ، وكُلُّ شَيءٍ دُونَه، وهو المُستَعلي على جميعِ خَلْقِه، بذاتِه وقَدْرِه وقَهرِه .
سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ هذا تأكيدُ بَيانِ كَونِه عالِمًا بكُلِّ المَعلوماتِ .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ الله تعالى أنَّه عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ على العُمومِ؛ ذكَرَ تعالى تعلُّقَ عِلمِه بشَيءٍ خاصٍّ مِن أحوالِ المُكَلَّفينَ .
وأيضًا لَمَّا كانت العادةُ قاضيةً بتفاوُتِ العِلمِ بالنِّسبةِ إلى السِّرِّ والجَهرِ، والقُدرةِ بالنِّسبةِ إلى المتحَفِّظِ بالحَرَسِ وغَيرِه؛ أتبَعَ ذلك سبحانَه بما نفى هذا الاحتمالَ عنه، على وَجهِ الشَّرحِ والبَيانِ؛ لاستواءِ الغَيبِ والشَّهادةِ بالنِّسبةِ إلى عِلمِه ، فقال:
سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ.
أي: يستوي في عِلمِ اللهِ- تعالى- وسَمعِه مَن أسرَّ مِنكم بقَولٍ، ومن جهَرَ به؛ مِن خيرٍ أو شَرٍّ، فالسِّرُّ والجهرُ عنده سواءٌ .
كما قال تعالى: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 13- 14] .
وقال سُبحانه: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه: 7] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ [ق: 16] .
وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((الحمدُ للهِ الذي وَسِعَ سَمعُه الأصواتَ؛ لقد جاءت المجادِلةُ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنا في ناحيةِ البَيتِ، تَشكو زَوجَها، وما أسمَعُ ما تقولُ، فأنزلَ اللهُ: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة: 1] )) .
وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ.
أي: ويستوي في عِلمِ اللهِ وبَصَرِه مَن هو مُختَفٍ في ظُلمةِ اللَّيلِ، ومَن هو ظاهِرٌ يمشي في ضَوءِ النَّهارِ؛ فكِلا الحالَينِ عنده سَواءٌ .
كما قال تعالى: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [يونس: 61] .
وقال سُبحانَه: أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [هود: 5] .
لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ (11).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه لَمَّا تقَدَّمَ أنَّ مَن أسَرَّ القَولَ ومَن جهرَ به، ومَن استخفَى باللَّيلِ وسَرَب بالنَّهارِ؛ مُستَوٍ في عِلمِ اللهِ تعالى، لا يخفَى عليه مِن أحوالِهم شَيءٌ- ذكَرَ أيضًا أنَّ لذلك المذكورِ مُعَقِّباتٍ: جماعاتٍ مِن الملائكةِ تَعقُبُ في حِفظِه وكِلاءتِه .
لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ.
أي: للعَبدِ ملائِكةٌ يتعاقَبونَ عليه، فيأتيه بعضُهم عَقِبَ بَعضٍ، مِن بينِ يَدَيه ومِن خَلْفِه فيَحفظُونَه ويَحرُسونَه بأمرِ الله وإذنِه، فإذا جاء القدرُ خلَّوا بينَه وبينَه
إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ
أي: إنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بقَومٍ مِن نِعمةٍ فيُزيلُها عنهم، حتى يغَيِّروا ما كانوا عليه مِن طاعةِ اللهِ بمَعصيتِه، وشُكرِه بكُفرِه، وأسبابِ رِضاه بأسبابِ سَخَطِه، فإذا غيَّروا غيَّرَ عليهم؛ جزاءً وِفاقًا .
كما قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ [الأنفال: 53- 54] .
وقال سُبحانه: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30] .
وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ
أي: وإذا شاء اللهُ أن يُصيبَ قَومًا بهلاكٍ وعَذابٍ وشِدَّةٍ، فإرادتُه لا بُدَّ أن تنفُذَ فيهم؛ فإنَّه لا رادَّ لِمَا قضاه اللهُ .
كما قال تعالى: وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام: 147] .
وقال سُبحانه: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج: 16] .
وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ
أي: وما للقومِ الذين أرادَهم الله بسوءٍ مِن أحدٍ سِواه يتولَّى أمرَهم، ولا ناصِرٍ مِن دُونِه يمنَعُهم مِن عذابِه .
كما قال تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ [يونس: 107] .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ الله تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ * سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ فيه أنَّه تعالى مُحيطٌ عِلمُه بأقوالِ المكَلَّفينَ وأفعالِهم، لا يَعزُبُ عنه شيءٌ مِن ذلك .
2- الذُّنوبُ تُزيلُ النِّعَمَ ولا بُدَّ، فما أذنبَ عبدٌ ذنبًا إلَّا زالت عنه نِعمةٌ مِن الله بحسَبِ ذلك الذَّنبِ، فإن تاب وراجَعَ رجَعَت إليه أو مِثلُها، وإن أصَرَّ لم ترجِعْ إليه، ولا تزالُ الذُّنوبُ تُزيلُ عنه نِعمةً، حتى تُسلَبَ النِّعَمُ كُلُّها؛ قال الله تعالى: إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ .
3- متى رأيتَ تكديرًا في حالٍ، فاذكُرْ نِعمةً ما شُكِرتْ، أو زَلَّةً قد فُعِلتْ، واحذَرْ مِن نِفارِ النِّعَم، ومُفاجأةِ النِّقَم، ولا تغتَرِرْ بِسَعةِ بِساطِ الحِلْم؛ فرُبَّما عُجِّلَ انقباضُه، وقد قال اللهُ عَزَّ وجلَّ: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ، ومَن تأمَّلَ ما قَصَّ اللهُ تعالى في كتابِه مِن أحوالِ الأُمَمِ الذين أزال نِعَمَه عنهم، وجدَ سبَبَ ذلك جميعِه إنَّما هو مُخالَفةُ أمرِه وعِصيانُ رُسُلِه، وكذلك من نظَرَ في أحوالِ أهلِ عَصرِه وما أزال اللهُ عنهم مِن نِعَمِه، وجد ذلك كُلَّه مِن سُوءِ عواقِبِ الذُّنوبِ، فما حُفِظَت نعمةُ اللهِ بشَيءٍ قَطُّ بمثلِ طاعتِه، ولا حَصَلت فيها الزِّيادةُ بمِثلِ شُكرِه، ولا زالت عن العبدِ بمِثلِ مَعصيتِه لرَبِّه؛ فإنَّها نارُ النِّعَم التي تعمَلُ فيها كما تعمَلُ النَّارُ في الحطَبِ اليابِسِ، ومن سافَرَ بفِكرِه في أحوالِ العالَمِ، استغنى عن تعريفِ غَيرِه له .
4- قَولُ الله تعالى: وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ يتولَّى أمورَهم، فيجلِبُ لهم المحبوبَ، ويدفَعُ عنهم المكروهَ؛ فلْيَحذَروا من الإقامةِ على ما يكرهُ اللهُ؛ خشيةَ أن يحُلَّ بهم من العقابِ ما لا يُرَدُّ عن القومِ المُجرمينَ .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ استَدلَّ به من قال: إنَّ الحامِلَ تحيضُ ، وذلك على أحدِ الأقوالِ في التفسيرِ.
2- قولُ الله تعالى: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ استدَلَّ به من قال: إنَّ مُدَّةَ الحَملِ تكونُ أقَلَّ مِن تِسعةِ أشهُرٍ وأكثَرَ منها .
3- أهلُ السنةِ يثبتونَ للهِ العلوَّ والعظمةَ بكلِّ اعتبارٍ، ومثلُ هذا وصفُه سبحانَه بأنَّه (الكبيرُ المتعالي)، فالكبيرُ يُوصفُ به الذاتُ وصفاتُها القائمةُ، فهم يُثبتونَ للهِ سبحانَه العظمةَ الذاتيةَ والمعنويةَ، والعلوَّ الذاتيَّ والمعنويَّ، والجمالَ والجلالَ الذاتيَّ والمعنويَّ .
4- الإرادةُ في قَولِه تعالى: وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ إرادةٌ كونيَّةٌ، والإرادةُ الكونيَّةُ هي مشيئتُه سُبحانه وتعالى لِمَا خلَقَه، وجميعُ المخلوقاتِ داخِلةٌ في مشيئتِه وإرادتِه الكونيَّةِ، وتُقابِلُها الإرادةُ الدِّينيَّةُ الشَّرعيَّةُ، وهي المتضَمِّنةُ لمحبَّتِه ورِضاه؛ المُتناوِلةُ لِمَا أَمَرَ به وجَعلَه شَرعًا ودِينًا، وهذه مُختصَّةٌ بالإيمانِ والعمَلِ الصَّالحِ، كقَولِه تعالى: وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185] .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ
- قولُه: اللَّهُ يَعْلَمُ... استئنافٌ؛ لبيانِ بُطلانِ قولِهم ذلك ونظائرِه مِن استعْجالِ العذابِ وإنكارِ البعْثِ .
- قولُه: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ صِيغَ الخبَرُ يَعْلَمُ بصيغَةِ المُضارِعِ المُفيدِ للتَّجدُّدِ والتَّكريرِ؛ لإفادةِ أنَّ ذلك العِلْمَ مُتكرِّرٌ، مُتجدِّدُ التَّعلُّقِ بمُقْتضى أحوالِ المعلوماتِ المُتنوِّعةِ والمُتكاثِرةِ .
2- قوله تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ
- جُملةُ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ تذْييلٌ وفَذْلَكَةٌ ؛ لتعْميمِ العِلْمِ بالخَفِيَّاتِ والظَّواهرِ، وهما قِسْما الموجوداتِ .
- وقَولُه: الْمُتَعَالِ أخرَجَه مَخرجَ (التَّفاعُل)؛ ليكونَ أدَلَّ على المعنى وأبلغَ فيه .
3- قوله تعالى: سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ
- قولُه: سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ... هذه الجُملةُ استئنافٌ بيانيٌّ؛ لأنَّ مضمونَها بمنزِلةِ النَّتيجةِ لعُمومِ عِلْمِ اللَّهِ تعالى بالخَفِيَّاتِ والظَّواهرِ ، وهذا مِن بابِ ذِكْرِ الخاصِّ بعد العامِّ .
- وقولُه: سَوَاءٌ مِنْكُمْ... فيه العُدولُ عنِ الغَيبةِ المُتَّبعَةِ في الضَّمائرِ فيما تقدَّمَ إلى الخطابِ هنا في قولِه: سَوَاءٌ مِنْكُمْ؛ لأنَّه تعليمٌ يصلُحُ للمؤمنين والكافرين، وفيه تعريضٌ بالتَّهديدِ للمُشركين المُتآمرين على النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ .
- وتقْديمُ الإسْرارِ والاستِخفاءِ على الجَهرِ والعَلانيةِ؛ لإظهارِ كَمالِ عِلْمِه تعالى؛ فكأنَّه في التَّعلُّقِ بالخَفِيَّاتِ أقْدَرُ منه بالظَّواهِرِ، وإلَّا فنِسْبتُه إلى الكلِّ سَواءٌ .
- والاستخفاءُ هنا: الخَفاءُ؛ فالسِّينُ والتَّاءُ للمُبالغَةِ في الفِعلِ مثلَ: استجابَ .
- ذُكِرَ الاستخفاءُ مع اللَّيلِ؛ لكَونِه أشَدَّ خَفاءً، وذُكِرَ السُّروبُ مع النَّهارِ؛ لِكونِه أشَدَّ ظُهورًا .
4- قوله تعالى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ
- قولُه: مُعَقِّبَاتٌ فيه مُبالغَةٌ؛ صِيغَةُ التَّفعيلِ فيه للمُبالغَةِ في العقب، وعَقَّبَه: إذا جاء على عَقِبِه؛ كأنَّ بعضَهم يَعْقُبُ بعضًا، أو لأنَّهم يعْقُبون أقوالَه وأفعالَه فيكتُبونها ، وجُمِعَت (المُعَقِّباتُ) باعتبارِ كثرةِ الجماعاتِ .
- قولُه: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ مُستعملٌ في معنى الإحاطةِ مِن الجِهاتِ كلِّها- على أحدِ القولينِ في التفسيرِ-. وأُفْرِدَ الضَّميرانِ في مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ؛ لأنَّ كلًّا منهما عائدٌ إلى أحدِ أصحابِ تلك الصِّلاتِ، حيث إنَّ ذِكْرَهم ذِكْرُ أقسامٍ مِن الَّذين جُعِلوا سواءً في عِلْمِ اللَّهِ تعالى .
- وجُملةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ مُعترِضَةٌ بين الجُمَلِ المُتقدِّمةِ المَسُوقَةِ للاستدلالِ على عظيمِ قُدرةِ اللَّهِ تعالى، وعِلْمِه بمَصْنوعاتِه، وبين التَّذكيرِ بقوَّةِ قُدرتِه، وبين جُملةِ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا [سورة الرعد: 12]، والمقصودُ تحذيرُهم مِن الإصرارِ على الشِّرْكِ بتحذيرِهم مِن حُلولِ العِقابِ في الدُّنيا في مُقابَلَةِ استعجالِهم بالسَّيِّئةِ قبلَ الحَسَنةِ.
- وجُملةُ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ تصريحٌ بمفهومِ الغايةِ المُستفادِ مِن حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ؛ تأكيدًا للتَّحذيرِ؛ لأنَّ المَقامَ لكونِه مَقامَ خوفٍ ووَجَلٍ يقْتَضي التَّصريحَ دون التَّعريضِ ولا ما يقْرُبُ منه.
- وجُملةُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ زيادةٌ في التَّحذيرِ مِن الغُرورِ؛ لئلا يَحسَبوا أنَّ أصنامَهم شُفعاؤهم عند اللَّهِ .
- قولُه: لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ في (ما) إبهامٌ، لا يتَّضِحُ المُرادُ منها إلَّا بسِياقِ الكلامِ، واعتقادِ مَحذوفٍ يتبيَّنُ به المَعْنى، والتقديرُ: لا يُغَيِّرُ ما بقومٍ مِن نعمةٍ وخَيرٍ إلى ضدِّ ذلك حتَّى يغيِّروا ما بأنْفُسِهم مِن طاعتِه إلى توالي مَعصيَتِه .
- قولُه: وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ فيه الاقتصارُ على قولِه: سُوءًا؛ لأنَّ سِياقَ الكلامِ في الانتقامِ مِن العُصاةِ، وإلَّا فالسُّوءُ والخيرُ إذا أرادَ اللَّهُ تعالى شيئًا منهما فلا مَردَّ له؛ فذِكْرُ السُّوءِ مُبالغَةٌ في التَّخويفِ .