موسوعة التفسير

سُورةُ الأنعامِ
الآيات (145-147)

ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ

غريب الكلمات :

دَمًا مَسْفُوحًا: أي سائلًا مصبوبًا مهراقًا، وأصْلُ السَّفْحِ: إراقةُ الشَّيءِ [2196] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 162)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 415)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/81)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 875). .
رِجْسٌ: أي: قَذَرٌ مُنْتنٌ، وأَصْلُ (رجس): يَدُلُّ على اختِلاطٍ، ومنه الرِّجْسُ: بمعنى القَذَر؛ لأنَّه لَطْخٌ وخَلْطٌ [2197] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 145)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/490)، ((المفردات)) للراغب (ص: 342)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 199). .
أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ: أي: ذُكِر عندَ ذبحِه غيرُ اسمِ الله، أو ما ذُبِحَ لغَيرِ الله؛ وإنَّما قيلَ ذلك؛ لأنَّه يُذكَرُ عند ذَبْحِه غيرُ اسْمِ اللهِ فيُظْهَرُ ذلك، أو يُرفَع الصوتُ به، والإهلالُ: رَفْعُ الصَّوتِ عند رُؤيَةِ الهِلالِ، ثمَّ استُعْمِلَ لكلِّ صَوتٍ، وأهَلَّ بالحَجِّ، أي: رَفَعَ صَوْتَه بالتَّلبِيَةِ، وأَصْلُ (هلل): يدلُّ على رَفْعِ صَوْتٍ [2198] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 69)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/11)، ((المفردات)) للراغب (ص: 843)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 26)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 100)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 211). .
اضْطُرَّ: أُلجِئَ وأُحْوِجَ، وأصل الاضطرارِ: فِعلُ ما لا يَتهيَّأُ له الامتناعُ منه [2199] يُنظر: ((التبيان)) لابن الهائم (1/108)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 137). .
غير بَاغٍ: غيرَ طالبٍ ما ليْسَ له طَلَبُه [2200] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 118)، ((المفردات)) للراغب (ص: 137)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 100). .
وَلَا عَادٍ: ولا ظالمٍ، والاعتداءُ: التَّجاوُزُ، ومُنافاةُ الالتئامِ [2201] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 77)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/249)، ((المفردات)) للراغب (ص: 553)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 68). .
الَّذِينَ هَادُوا: أَي: اليهودُ، وَيُقَال: كَانَت الْيَهُودُ تُنْسَبُ إِلَى يهوذاء بن يَعْقُوب، ويُقال هَادَ فُلان: إذا تحرَّى طريقةَ اليَهُودِ في الدِّينِ [2202] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 495)، ((المفردات)) للراغب (ص: 847)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 89). .
الْحَوَايَا: الحَوَايَا: جمع حَوِيَّة، وهي الأمعاءُ، وأصله من: حَوَيْتُ كذا حَيًّا وحَوَايَةً، وأَصْلُ (حوي): جَمَعَ [2203] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 163)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 189)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/112)، ((المفردات)) للراغب (ص: 271)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 105)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 413). .
بِبَغْيِهِمْ: بتَجاوُزِهم الحقَّ إلى الباطِل، وأصل البَغي: طلبُ الشَّيءِ، وجِنسٌ من الفَسَادِ، والظُّلمُ، والترفُّع والعُلُوُّ، ومجاوزةُ المقْدار [2204] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/271)، ((المفردات)) للراغب (ص: 136)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 19)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 251 - 252). .

مشكل الإعراب :

1- قوله تعالى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ
 قَولُه أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً في محلِّ نصبٍ على الاستثناءِ بـإِلَّا، وهذا الاستثناءُ مُنقَطِعٌ؛ لأنَّ المُستثنى كَوْنٌ مسبوكٌ من أَنْ يَكُونَ وليس مَيْتَةً، وذلك ليس مِن جِنْسِ الطَّعامِ، وقيل: هو استثناء متَّصِلٌ مِنْ عُمومِ الأكوانِ التي دلَّ عليها وقوعُ النَّكرةِ في سياقِ النَّفيِ؛ أي: لا أجِدُ كائنًا مُحَرَّمًا إلَّا الكائِنَ مَيتةً.
فِسْقًا منصوبٌ على أنَّه مَعطوفٌ على لَحْمَ خِنْزِيرٍ، وجُملةُ فَإِنَّه رِجْسٌ اعتراضٌ بينَ المُتعاطِفَينِ، والتقديرُ: إلَّا أنْ يَكونَ لَحْمَ خِنزيرٍ- فإنَّه رِجسٌ- أو إلَّا أنْ يكونَ فِسقًا [2205] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/276)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/545)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (5/196-199)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-أ/138)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (8/311). .
2- قوله تعالى: ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ
 ذلك: اسمُ إشارةٍ مبنيٌّ، وفي مَحَلِّه ثلاثةُ أقوالٍ: أحَدُها: الرَّفَعُ على أنَّه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، أي: الأمرُ ذلك. الثاني: الرَّفْعُ على أنَّه مبتدأٌ، والخبرُ ما بعده، والعائِدُ محذوفٌ، أي: ذلك جَزَيْناهُمُوه. الثالث: النَّصْبُ على أنَّه مفعولٌ ثانٍ قُدِّمَ على عامِلِه؛ لأنَّ (جزى) يتعدَّى لاثنينِ، والتَّقديرُ: جزيناهم ذلكَ التحريمَ [2206] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/277)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/547-548)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (5/207). .

المعنى الإجمالي :

يأمُرُ اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم أن يقولَ لهؤلاءِ المُشركينَ الَّذين حَرَّموا ما رَزَقَهم اللهُ تعالى افتراءً عليه: إنَّه لا يجِدُ فيما أَوْحاه اللهُ تعالى إليه شَيئًا مُحَرَّمًا أَكْلُه- مِمَّا زَعَمُوا أنَّ اللهَ حَرَّمَه- إلَّا أنْ يكونَ مَيْتةً أو دمًا مَسفوحًا، أو لَحْمَ خِنْزيرٍ؛ فإنَّ هذه الأشياءَ الثَّلاثةَ خَبَث ونَجَسٌ مُستَقْذَر، وإلَّا أنْ يَكونَ مِمَّا ذُبِحَ لغَيرِ الله؛ فإنَّه خُروجٌ عن طاعَةِ اللهِ إلى مَعْصِيَته والكُفْرِ به، فمَنْ أَلْجَأَتْه الضَّرورةُ لأكْلِ إحدى هذه المُحَرَّماتِ، وهو غيرُ مريدٍ لِأكْلِها تلذُّذًا مِن غَيرِ اضْطرارٍ، ولا متجاوِزٍ ما أباحَه اللهُ منها، فهذا لا حَرَجَ عليه في الأكْلِ منها؛ فإنَّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ.
وأخبَرَ تعالى أنَّهُ حَرَّمَ على اليهودِ أكْلَ كُلِّ حيوانٍ مِن ذَوِي الأَظْفارِ، وحَرَّمَ عليهم شُحُومَ البَقَرِ والغَنَمِ، إلَّا ما عَلِقَ بِظَهْرَيْهما من الشُّحومِ؛ فإنَّها مُباحَةٌ لهم، وتُباحُ لهم أيضًا الشُّحومُ التي تَحمِلُها الأمعاءُ، وما جرى مَجراها مِمَّا كان مُدَوَّرًا في البَطْنِ؛ كالمَصَارينِ ونحوها، وما اختَلَطَ مِنَ الشُّحومِ بالعِظامِ كشَحمِ الأَلْيةِ، ثم ذَكَرَ تعالى أنَّ ذلك التَّحريمَ والتَّضييقَ كان جزاءَ كُفْرِهم وظُلْمِهم، وأنَّه تعالى صادِقٌ في كُلِّ ما يقولُ ويفعلُ ويَحْكُمُ.
ثم خاطَبَ اللهُ تعالى نَبِيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم قائلًا له: إنْ كَذَّبُوك فَقُلْ لهم: إنَّ رَبَّهُم ذو رحمةٍ واسِعَةٍ لِمَن أطاعَه؛ فَلْيُسارِعوا إلى رَحْمَتِه بفِعْلِ أَسْبابِها، كما أنَّ مِن رَحْمَتِه بهم إمهالَه لهم، وعدَمَ إعجالِهم بالعِقابِ، وأَمَرَه أن يقولَ لهم أيضًا: إِنَّ سَطْوَتَه تعالى ونَكالَه وعَذَابَه لا يَرُدُّه شيءٌ عَنِ القَومِ المجْرمينَ.

تفسير الآيات :

قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (145).
مُناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قبْلَها:
لَمَّا ذَكَرَ تعالى ذمَّ المشركينَ على ما حَرَّمُوا من الحلالِ، ونَسَبُوه إلى الله، وأبْطَلَ قَوْلَهم- أَمَرَ تعالى رَسُولَه أن يُبَيِّنَ للنَّاسِ ما حَرَّمَه اللهُ عليهم؛ ليَعْلَموا أنَّ ما عدا ذلك حلالٌ؛ فمَنْ نَسَبَ تحريمَه إلى الله تعالى فهو كاذِبٌ مُبْطِلٌ؛ لأنَّ التَّحريمَ لا يكون إلَّا مِن عِند اللهِ على لِسانِ رسولهِ، فقال [2207] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/354)، ((تفسير السعدي)) (ص: 277). :
قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ.
أي: قل- يا مُحمَّد- لهؤلاءِ الَّذين حَرَّموا ما رَزَقَهم اللهُ افتراءً على اللهِ: لا أجِدُ فيما أَوْحاه اللهُ تعالى إليَّ شَيئًا مُحَرَّمًا على آكلٍ يأكُلُه مِمَّا تذكُرونَ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ حرَّمَه [2208] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/631)، ((تفسير ابن كثير)) (3/352)، ((تفسير السعدي)) (ص: 277). قال ابنُ كثيرٍ: (قيل: معناه: لا أجِدُ شيئًا ممَّا حَرَّمتم حرامًا سوى هذه. وقيل: معناه: لا أجِدُ من الحيوانات شيئًا حرامًا سوى هذه. فعلى هذا يكونُ ما ورد من التَّحريماتِ بعد هذا في سورة «المائدة»، وفي الأحاديثِ الواردة، رافعًا لمفهومِ هذه الآية. ومن النَّاسِ من يسمِّي ذلك نَسْخًا، والأكثرون من المتأخِّرينَ لا يُسَمُّونَه نسخًا؛ لأنَّه من بابِ رَفْعِ مباحِ الأَصْلِ، والله أعلم) ((تفسير ابن كثير)) (3/352). ويرى ابنُ تيميَّة أنَّها ليست منسوخةً. يُنظر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (6/225). وقال القرطبيُّ: (الآيَةُ مَكِّيَّةٌ، ولم يَكُنْ في الشَّريعة في ذلك الوَقْتِ مُحرَّمٌ غَيْرُ هذه الأشياءِ، ثُمَّ نزلَتْ سورةُ المائِدَةِ بالمدينةِ، وزِيد في المحرَّماتِ؛ كالمنخَنِقَة والموقُوذةِ والمترَدِّيةِ والنَّطيحةِ والخمرِ وغيرِ ذلك، وحَرَّم رسولُ اللَّه صلَّى اللَّهُ عليه بالمدينةِ أكلَ كلِّ ذي نابٍ مِن السِّباعِ وكلِّ ذي مخلبٍ مِن الطَّير). ((تفسير القرطبي)) (7/115). .
عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((ماتَتْ شَاةٌ لسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ، فقالت: يا رسولَ اللهِ، ماتَتْ فلانةُ؛ يعني: الشَّاةَ، فقال: فَلَوْلا أَخَذْتُم مَسْكَها [2209] المَسكُ- بفتحِ المِيمِ-: الجِلْد؛ لأنَّه يُمسَكُ فيه الشَّيءُ إذا جُعِل سِقاءً. يُنظر: ((غريب الحديث)) للحربي (2/568)، ((النهاية)) لابن الأثير (4/331).  ، فقالَتْ: نَأْخُذُ مَسْكَ شاةٍ قد ماتَتْ؟ فقال لها رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: إنَّما قالَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فإنَّكم لا تَطْعَمونَه؛ إنْ تَدْبُغوه فتَنْتَفِعوا به، فأَرْسَلَت إليها فسَلَخَتْ مَسْكَها فدَبَغَتْه فأَخَذَتْ منه قِرْبَةً حتى تَخَرَّقَتْ عندها )) [2210] أخرجه أحمد (3027)، وأبو يعلى (2334)، والطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (2713)، وابن حبان (1280)، والطبراني (11/289) (11765). صحَّح إسناده ابنُ جرير الطبري في ((مسند ابن عباس)) (2/799)، والنووي في ((المجموع)) (1/218)، وابن تيمية كما في ((نيل الأوطار)) للشوكاني (1/77)، وصححه الذهبي في ((المهذب)) (1/20)، وصحح إسناده ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/370)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (1/583)، وأحمد شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (5/13). والحديث أخرجه البخاريُّ (6686) بنحوه مختصرًا دون ذكرِ الآية؛ من حديث سودةَ بنت زمعة رضي الله عنها. .
إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ.
أي: إلَّا أن يكونَ المطعومُ مَيْتَةً، قد ماتَتْ بغيرِ ذكاةٍ شَرعيَّةٍ، أو دَمًا مُنْصَبًّا مُسالًا، كالذي يخرُجُ من الذَّبيحةِ عند ذَكاتِها [2211] قال الشنقيطيُّ: (الدمُ المسفوح: هو الذي صُبَّ من شيءٍ حي، كفصدِ عِرقِ الدابةِ، أو جَرحها فيسيلُ منها دَمٌ، أو هو الذي يَسِيلُ عِنْدَ التَّذْكِيَةِ، كأن تُذْبَح فَيَسِيل من عروقِها، أو عندَ العَقرِ كأن يرمِيَها بالنَّبلِ، فيسيل الدَّمُ، هذا هو الدَّمُ المسفوحُ) ((العذب النمير)) (2/361). ، أو إلَّا أن يكونَ لَحْمَ خِنزيرٍ- ويدخُل فيه شَحْمُه بالإجماعِ- فإنَّ هذه الأشياءَ الثَّلاثةَ، خَبَثٌ ونَجَسٌ ونَتَنٌ مُستقْذَرٌ [2212] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/582)، ((تفسير ابن كثير)) (3/158)، ((تفسير السعدي)) (ص: 240)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة المائدة)) (2/217-218). قال الشنقيطي: (واللهُ جلَّ وعلا كأنَّه علَّله، قال: إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ وقَدْ تَقَرَّر في الأصول، في مَسْلَكِ النَّصِّ، وفي مسلَكِ الإيماءِ والتَّنبيه: أنَّ الفاءَ مِن حُروفِ العِلَّةِ) ((العذب النمير)) (2/379). .
أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ.
أي: لا أجِدُ أيضًا فيما أَوْحاه اللهُ تعالى إليَّ شَيئًا مُحَرَّمًا أكلُه- إضافة إلى ما سبق من كونِه مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ- إلَّا أن يكونَ مَذْبوحًا ذُبِحَ لغَيرِ اللهِ، فذُكِرَ عليه غيرُ اسْمِه سبحانه؛ فإنَّه خروجٌ عن طاعَةِ الله تعالى إلى مَعْصِيَتِه والكُفْرِ به [2213] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/631-635)، ((تفسير السعدي)) (ص: 277)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-أ/137-139)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/357-380). وليس المقصودُ في الآيةِ حصرَ المحرَّمات فى هذه الأربعةِ، وإنما المقصودُ منها الردُّ على مزاعمِ المشركين، وذلك أنَّ الكفَّار- كما قال الشافعيُّ- لَمَّا حرَّموا ما أحلَّ الله، وأحلُّوا ما حرَّمه اللهُ، وكانوا على المضادَّةِ والمحادَّةِ، جاءت الآيةُ مُناقضةً لغرضِهم، فكأنَّه قال سبحانَه: لا حلالَ إلا ما حرَّمتموه، ولا حرامَ إلا ما أحْلَلْتموه. ينظر: ((الإتقان)) للسيوطي (1/109). .
فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.
أي: فمَنْ ألجَأَتْه الضَّرورةُ إلى أكْلِ شَيءٍ مِن هذه المحَرَّماتِ الأربعةِ، بأنْ لم يكُنْ لَدَيه شَيءٌ حلالٌ يَطْعَمُه، وخاف على نَفْسِه الموتَ فأَكَلَ منها، غيرَ مُريدٍ التلذُّذَ بأكلِها، ولا عادٍ في أكْلِها بتجاوُزِ ما أباحَه اللهُ له، فيأكُلُ بِقَدْرِ ما يَدْفَعُ عنه الهلاكَ، ولا يأكُلُ زيادةً عن حاجَتِه؛ فمَنْ كانت هذه حالَه فلا حَرَجَ عليه في الأَكْلِ منها حِينَئذٍ؛ فإنَّ رَبَّكَ غفورٌ لِما فَعَلَ من ذلك، يتجاوَزُ عنه ويرفَعُ الإثمَ عنه، ويستُرُ عليه بتَرْكِه عُقوبَتَه على ذلك، ولو شاءَ لَعَاقَبَه عليه، رحيمٌ بإباحَتِه أكْلَ ذلك عند الضَّرورةِ، ولو شاء لَحَرَّمه عليه [2214] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/637-638)، ((تفسير السعدي)) (ص: 277)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/380-383). .
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ (146).
مُناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قبْلَها:
لَمَّا بيَّن اللهُ جلَّ وعلا أشياءَ حَرَّمَها على هذه الأُمَّةِ على لِسانِ نَبِيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم، وكان قد حَرَّمَها عليهم لمصالِحَ مَعْلُومةٍ عنده جلَّ وعلا؛ بيَّنَ أنَّهُ حَرَّمَ على اليهودِ بَعْضَ الأشياءِ؛ مؤاخذةً لهم، وجزاءً لهم باجْتِرامِهم السَّيِّئاتِ [2215] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/386). .
وأيضًا لَمَّا كان قولُه تعالى: طَاعِمٍ- نَكِرَة في سياقِ النَّفْيِ- يعُمُّ كُلَّ طاعِمٍ مِن أهْلِ شَرْعِنا وغَيْرِهم، وكان سبحانَه قد حَرَّمَ على اليهودِ أشياءَ غيرَ ما تَقَدَّم؛ فذَكَرَها هنا؛ مُبَيِّنًا لإحاطَةِ عِلْمِه، وتكذيبًا لليهودِ في قَوْلِهم: لَمْ يُحَرِّمِ اللهُ علينا شيئًا، إنَّما حَرَّمْنَا على أنفُسِنا ما حَرَّمَ إسرائيلُ على نَفْسِه [2216] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/308). .
وقيل: إنَّ ذلك بيانٌ مِنَ اللهِ تعالى لِمَا حَرَّمَه على بني إسرائيلَ خاصَّةً- عقوبةً لهم لا على أنَّه مِنْ أُصُولِ شَرْعِه على ألسِنَةِ رُسُلِه قَبْلَهم أو بَعْدَهم- إلحاقًا بالمسْتَثْنى في الآيَةِ السَّابِقَةِ بالعَطْفِ عليه، فإنَّه بعد نَفْيِه تعالى تحريمَ أيِّ طعامٍ على أيِّ طاعِمٍ، استثنى من هذا العامِّ ما حَرَّمَه تحريمًا عامًّا مُؤَبَّدًا على غيرِ المضْطَرِّ، ثم ما حرَّمَه تحريمًا عارِضًا على قومٍ مُعَيَّنينَ لسببٍ خاصٍّ [2217] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (8/149). .
وقيل: لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى أنَّ التَّحريمَ إنَّما يَستَنِدُ للوَحْيِ الإلهيِّ، أخْبَرَ أنَّه حَرَّمَ على بعضِ الأُمَمِ السَّابِقَةِ أشياءَ، كما حَرَّمَ على أهْلِ هذه المِلَّةِ أشياءَ مِمَّا ذكَرَها في الآيَةِ قَبْلُ؛ فالتَّحريمُ إنَّما هو راجِعٌ إلى الله تعالى في الأُمَمِ جَميعِها [2218] ينظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/676). ، فقال تعالى:
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ.
أي: وحرَّمْنا على اليهودِ أكْلَ كُلِّ حيوانٍ مِنْ ذَواتِ الأَظْفارِ (أي مِمَّا له ظُفرٌ في أُصْبُعِه)، كالنَّعامة والبَعيرِ والإِوَزِّ والبَطِّ [2219] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/638، 641)، ((تفسير السعدي)) (ص: 278)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/388-389). .
وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا.
أي: وحَرَّمنا على اليهودِ شُحُومَ البَقَرِ والغَنَم [2220] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/642)، ((تفسير السعدي)) (ص: 278). قال الشنقيطي: (التحقيقُ: أنَّ الشُّحومَ المحرَّمةَ عليهم مِن البَقَرِ والغَنَم مقصورةٌ على الثُّروب، وشحمِ الكُليتين. والثُّرُوب: جمع ثَرْب؛ وهو الغِطَاءُ- الغِشَاءُ- من الشَّحْمِ الرَّقِيقِ الذي يغطي الجوفَ فيكون على الكَرِشِ والمصَارِين، هذا وشَحمُ الكُلَى هو الحرامُ عليهم، أمَّا غيره فيدخُلُ في الاستِثناءاتِ الآتية) ((العذب النمير)) (2/389). وقال ابنُ عاشورٍ: (وقد أباح اللهُ لليَهودِ أكْلَ لُحومِ البَقَرِ والغَنَمِ، وحَرَّمَ عليهم شُحومَهما إلَّا ما كان في الظَّهرِ. والْحَوَايَا معطوفٌ على ظُهُورُهُمَا، فالمقصودُ العَطفُ على المُباحِ، لا على المُحَرَّم؛ أي: أو ما حَمَلَتِ الحوايا، وهي جَمعُ حَوِيَّةٍ، وهي الأكياسُ الشَّحميَّةُ التي تحوي الأمعاءَ. أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ هو الشَّحمُ الذي يكونُ مُلتَفًّا على عَظمِ الحَيوانِ مِنَ السِّمَن، فهو مَعفُوٌّ عنه؛ لِعُسرِ تَجريدِه عن عَظمِه، والظَّاهِرُ أنَّ هذه الشُّحومَ كانت مُحرَّمةً عليهم بشريعةِ موسى عليه السَّلامُ) ((تفسير ابن عاشور)) (8-أ/142).  .
عن جابرِ بنِ عبد اللهِ رضي الله عنه، أنَّهُ سَمِعَ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول عامَ الفَتْحِ، وهو بمكةَ: ((إنَّ اللهَ ورسولَه حرَّمَ بيعَ الخَمرِ والمَيْتةِ والخِنزيرِ والأَصْنامِ. فقيل: يا رسولَ اللهِ! أرأيتَ شُحُومَ المَيْتةِ؛ فإنَّهُ يُطْلَى بها السُّفُنُ، ويُدْهَنُ بها الجلودُ، ويَسْتَصْبِحُ بها الناسُ؟ فقال: لا؛ هو حرامٌ. ثم قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم عند ذلك: قاتَلَ اللهُ اليهودَ؛ إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لَمَّا حرَّمَ عليهم شُحُومَها؛ أَجْمَلوهُ [2221] أَجْمَلوهُ: أي أذابُوه، والضَّميرُ راجعٌ إلى الشَّحْمِ المفهومِ من الشُّحومِ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (11/6)، ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (5/1896).  ثم باعوهُ، فأكَلُوا ثَمَنَه )) [2222] رواه البخاري (2236)، ومسلم (1581) واللفظ له. .
إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا.
أي: ما عدا ما عَلِقَ بِظَهْرِ البَقَر والغَنَم من الشُّحُومِ؛ فإنَّها مُباحةٌ لهم [2223] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/643)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/389). .
أَوِ الْحَوَايَا.
أي: أو ما حَمَلَتْه الحوايا وهي الأمعاءُ، وما جرى مَجْرَاها مِنْ كُلِّ ما كان مُدَوَّرًا في البَطْنِ كالمَصَارينِ ونحو ذلك، فالمتَعَلِّقُ بهذا من الشَّحْمِ لا يَحْرُمُ عليهم أيضًا [2224] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/643)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/389-390). .
أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ.
أي: وما اختَلَطَ من الشُّحُومِ بالعِظامِ، كشَحْمِ الأَلْيةِ وغيرِه؛ حلالٌ لهم أيضًا [2225] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/646)، ((تفسير ابن كثير)) (3/355)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/391). وشحمُ الأَلْية داخلٌ فيما اختلط بعظمٍ بالإجماعِ. قال الواحديُّ: (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ يعني: شحمَ الأليةِ في قول جميعِهم) ((التفسير الوسيط)) (2/333). .
ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ.
أي: ذلك التَّضييقُ والتَّحريمُ على اليَهودِ إنَّما فَعَلْناه بهم عقوبةً لهم؛ بسبَبِ كُفْرِهم، وظُلْمِهم، ومُخالَفَتِهم أوامِرَنا، وتَعَدِّيهم في حقوقِ اللهِ، وحُقوقِ عبادِه، وإنَّا لَصَادِقونَ في كُلِّ ما نقولُ ونفعَلُ ونَحْكُم به، ومن ذلك ما ذَكَرْنا مِن تَحْرِيمنا عليهم ما حَرَّمْنا، وما جَزَيْناهم به [2226] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/647)، ((تفسير ابن كثير)) (3/355-356)، ((تفسير السعدي)) (ص: 278)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/391-394). .
كما قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء: 160-161] .
فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147).
فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ.
أي: فإِنْ كَذَّبَك- يا مُحمَّدُ- مخالِفُوكَ مِنَ المُشْركينَ واليهودِ، وتمرَّدوا؛ فَقُلْ لهم ترغيبًا وتَرْهيبًا وجَمْعًا بين الوَعْدِ والوَعيدِ: ربُّكم الذي أنشَأَكُم وأوجَدَكُم، ذو رحمةٍ واسِعَةٍ لِمَن أطَاعَهُ، فيَرْحَمُه ويُدْخِلُه جَنَّتَه؛ فسارِعُوا إلى رَحْمَتِه بأسبابِها، التي رَأْسُها تصديقُ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم فيما جاءَ به، وقد رَحِمَكُم ربُّكم؛ حيثُ أَمْهَلَكم، ولم يُعاجِلْكم بعُقُوبَتِه، وأَغْدَقَ عليكم نِعَمَه، وأنتم تُكذِّبونَ رُسُلَه، وتتمَرَّدونَ عليه [2227] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/648)، ((تفسير ابن كثير)) (3/357)، ((تفسير السعدي)) (ص: 278)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/403-407). .
وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ.
أي: ولكِنْ سَطْوَتُه ونَكَالُه وعَذابُه، لا يَرُدُّه شَيءٌ عَنِ الَّذين اكتَسَبوا الذُّنوبَ العَظيمةَ، إذا أحَلَّه عليهم؛ فاحذَرُوا الجرائِمَ الموصِلَة لعِقابِه، والتي أعْظَمُها ورَأْسُها تكذيبُ مُحَمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ [2228] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/648)، ((تفسير ابن كثير)) (3/357)، ((تفسير السعدي)) (ص: 278)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/407-409). .

الفوائد التربوية :

1- الظلمُ سببٌ للعُقوباتِ وتحريمِ بعضِ الطيِّباتِ، كما وقعَ لليهودِ، حيث قال سبحانه: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ إلى قَوْلِه ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ فحَرَّم تعالى على اليَهودِ طائِفَةً من الطَّيِّباتِ، ولم يُحِلَّها لهم في حالٍ من الأحوالِ عقوبةً لهم، وفي ذلك أتَمُّ تحذيرٍ لهذه الأُمَّةِ مِنْ أنْ يَبْغُوا؛ فيُعاقَبُوا كما عُوِقَب مَن قَبْلَهم [2229] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (32/88)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/309). .
2- ينبغي ألَّا يغتَرَّ أحدٌ في سُوءِ أعمالِه وتحقيقِ ضَلالِه، بإمهالِ اللهِ تعالى له؛ يُرْشِدُنا إلى ذلك قولُ الله تعالى: فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ، فلمَّا أخبَرَ عن رحْمَتِه، نوَّهَ بعظيمِ سَطْوَتِه [2231] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/310). .

الفوائد العلمية واللطائف :

1- قولُ اللهِ تعالى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ استُدِلَّ بهذه الآيَةِ على أنَّه إنَّما حُرِّمَ مِنَ المَيْتَةِ أكْلُها، وأنَّ جِلْدَها يَطْهُرُ بالدِّباغِ [2232] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 123). .
2- قولُ اللهِ تعالى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً ظاهِرُ الآية- مع عَطْفِ ما حَرَّمَ على بني إسرائيلَ عليها- أنَّ حَصْرَ مُحَرَّماتِ الأطعِمَةِ في الأنواعِ الأربعةِ أَصْلٌ من أصولِ شَرائِعِ جَميعِ رُسُلِ اللهِ تعالى [2233] ينظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (8/131). .
3- تقييدُ الدَّمِ بـ (المَسْفُوح) للتَّنبيهِ على العَفْوِ عن الدَّمِ الذي يَنِزُّ مِنْ عُرُوقِ اللَّحْمِ عند طبْخِه؛ فإنَّه لا يُمْكِنُ الاحترازُ عنه [2234] ينظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-أ/138). .
4- قولُ اللهِ تعالى: أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ، لم يَقُلْ: (أو خِنْزِيرًا)؛ لِيُفيدَ تحريمَ لَحْمِه على كلِّ حالٍ سواءٌ ذُبِحَ أم لا، ولو قيل: (أو خِنزيرًا) لاحتمَلَ أنْ يُرادَ تحريمُ ما أُخِذَ منه حيًّا فقط [2235] ينظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/299). .
5- قولُ اللهِ تعالى: أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ لَمَّا ذَكَرَ المحَرَّم لِعَيْنِه، ذَكَرَ المحَرَّم لعارِضٍ، فقال مبالغًا في النَّفيِ عنه: أَوْ فِسْقًا، وهو ما ذُبِحَ لغَير اللهِ، وسَمَّاه اللهُ (فِسْقًا)، فجَعَلَه كأنَّه بِعَيْنِه هو عينُ الفِسْقِ الذي وَقَعَ النَّهيُ لأجْلِه؛ وذلك لتَوَغُّلِه في الفِسْقِ [2236] ينظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/299)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/379).. .
6- قوله: أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ صفةٌ أو بيانٌ لـ فِسْقًا، وفي هذا تنبيهٌ على أنَّ تحريمَ ما أُهِلَّ لغَيرِ اللهِ به ليس لأنَّ لَحْمَه مُضِرٌّ؛ بل لأنَّ ذلك كُفْرٌ باللهِ [2237] ينظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-أ/139). .
7- قولُ اللهِ تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ بُنِيَ للمَفعولِ؛ لأنَّ المعْتَبَر حصولُ الاضطرارِ، لا كَوْنُه مِن مُعَيَّنٍ [2238] ينظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/299). .
8- أُخِذَ مِنَ التَّعبيرِ بالاضطرارِ في قولِ اللهِ تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ حُرْمَةُ ما زادَ على سَدِّ الرَّمَق؛ لأنَّه حِينئذٍ لا يكون مُضْطَرًّا [2239] ينظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/299). .
9- قولُ الله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيه رحمةُ اللهِ تعالى بهذه الأُمَّةِ؛ حيث أَحَلَّ لها الخبائِثَ عند الضَّرورةِ رحمةً بها، وأزال عنها في تلك الحالَةِ ضُرَّها [2240] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/309). .
10- في قَوْلِه تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا...لم يَذْكُرِ اللهُ تحريمَ لَحْمِ الخِنزيرِ، مع أنَّه مِمَّا شَمِلَه نصُّ التَّوراةِ؛ لأنَّه إنَّما ذَكَرَ هنا ما خُصُّوا بتحريمِه مِمَّا لم يُحَرَّمْ في الإِسلامِ، أي: ما كان تحريمُه مُوَقَّتًا [2241] ينظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-أ/143). .
11- في قولِه: حَرَّمْنَا تكذيبُ اليَهودِ في قولِهم: إنَّ اللهَ لمْ يُحَرِّمْ علينا شيئًا، وإنَّما حَرَّمْنا على أنفُسِنا ما حَرَّمَه إسرائيلُ على نَفْسِه [2242] ينظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/676). .
12- قولُ اللهِ تعالى: وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا استدلَّ به الشَّافعيُّ على أنَّ مَن حَلفَ لا يأكُلُ الشَّحْمَ، حنَث بأكلِ ما على الظَّهْرِ؛ لأنَّه تعالى استثناه من جُملةِ الشُّحومِ [2243] ينظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 123). .
13- في قولِ اللهِ تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ذُكِرَ في الجوابِ سَعَةُ رَحْمَتِه تعالى، مع أنَّ المَحَلَّ مَحَلُّ عقوبةٍ؛ وذلك لمناسبةٍ حسنةٍ؛ أن يكونَ ذلك نفيًا للاغترارِ بِسَعَةِ رَحْمَتِه في الاجتراءِ على مَعْصِيَتِه، وذلك أبلَغُ في التهديدِ؛ فمعناه: لا تغْتَرُّوا بسَعَةِ رَحْمَتِه، فإنَّه مع ذلك لا يُرَدُّ عذابُه عنكم [2244] ينظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 179). .

بلاغة الآيات :

1- قوله: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أو دَمًا مَسْفُوحًا أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ استئنافٌ بيانيٌّ نشَأَ عن إبطالِ تحريمِ ما حَرَّمَه المشركونَ؛ إذ يتوجَّهُ سؤالُ سائلٍ مِنَ المسلمينَ عن المحَرَّماتِ الثَّابتةِ؛ إذ أُبْطِلَتِ المُحَرَّماتُ الباطِلَةُ [2245] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-أ/136). .
- وفيه: مبالغةٌ في بيانِ انحصارِها في ذلك المذكورِ [2246] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/194). .
2- تقديمُ المجرورِ على متعلَّقِه في قوله: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا لإفادةِ الاختصاصِ؛ أي: عليهم لا على غَيرِهم من الأُمَم [2247] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-أ/142). .
3- قوله: وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا الإضافةُ في قوله: شُحُومَهُمَا تدلُّ على تأكيدِ التَّخصيصِ والرَّبْطِ [2248] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/677). .
- وتقديمُ المجرورِ على عامِلِه في قوله: وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ للاهتمامِ ببيانِ ذلك [2249] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-أ/143). ، ولبيانِ الحَصْرِ، فالمعنى: ومِنَ البَقَر والغَنَم- دون غَيْرِهما- حَرَّمْنا عليهم ما ذُكِرَ [2250]  ينظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (8/152). .
4- قوله: ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ تذييلٌ يُبَيِّنُ علَّةَ تحريمِ ما حُرِّمَ عليهم [2251] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-أ/143). .
5- قوله: وَإِنَّا لَصَادِقُونَ تذييلٌ للجملةِ التي قبلها؛ قصدًا لتحقيقِ أنَّ اللهَ حَرَّمَ عليهم ذلك [2252] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-أ/144). ، وفيه: إخبارٌ يتضَمَّنُ التَّعريضَ بِكَذِبِهم في قولِهم: ما حَرَّمَ اللهُ علينا شَيئًا، وإنَّما اقتدَيْنا بإسرائيلَ فيما حَرَّمَ على نَفْسِه، ويتضَمَّنُ إدحاضَ قَوْلِهم، ورَدَّه عليهم [2253] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/680). .
6- قوله: فإنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِين تفريعٌ على الكلامِ السَّابقِ الذي أبطَلَ تحريمَ ما حَرَّموه، ابتداءً مِن قوله: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ... الآيات [2254] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-أ/144). .
- وفي قوله: فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ تنبيهٌ لهم بأنَّ تأخيرَ العذابِ عنهم هو إمهالٌ داخِلٌ في رَحمةِ اللهِ رحمةً مُؤَقَّتةً؛ لعلَّهم يُسلِمونَ. وعليه يكون معنى فِعْلِ: كَذَّبُوكَ الاستمرارَ؛ أي: إنِ اسْتَمَرُّوا على التَّكذيبِ بعد هذه الحُجَجِ [2255] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-أ/145). .
- وأَتَتْ جُملةُ: رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ اسميَّةً، وجملة وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ فعليَّةً؛ تنبيهًا على مبالغةِ سَعَةِ الرَّحمةِ؛ لأنَّ الجملةَ الاسميَّة أدَلُّ على الثُّبوتِ والتَّوكيدِ مِنَ الفِعْليةِ [2256] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (8/496). .