موسوعة التفسير

سُورةُ الأنعامِ
الآيات (148-150)

ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ

غريب الكلمات :

الْحُجَّةُ البَالِغةُ: الحجةُ: البُرهانُ والسُّلطانُ، والدَّلالةُ المُبَيِّنةُ للمَحجَّة، والبالِغةُ: هي التي تبلغُ مرادَه في ثبوتِها على مَنْ احتجَّ بها عليه مِن خلقِه، وقطعِ عذرِه إذا انتهَتْ إليه، وأَصْلُ (حجج) يدلُّ على القَصْدِ؛ ومنه اشتُقَّت الحُجَّة؛ لأنَّها تُقْصَد، أو بها يُقْصَد الحقُّ المطلوبُ. وأَصْلُ (بلغ): الوُصولُ إلى الشَّيءِ .
هَلُمَّ أَي: أقبِلْ، وهَلُمَّ دعاءٌ إلى الشَّيءِ، وقيل أَصْلُهَا: (هَلْ أَؤُمُّ)، كلامُ مَن يُريدُ إتيانَ الطَّعامِ، ثم كَثُرَتْ حتى تكَلَّم بها الدَّاعي، وتُستعمَلُ لازِمةً؛ نحو: هَلُمَّ إلَينا، أي: أقبِلْ، ومتعَدِّيةً؛ نحو: هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمْ، أي: أحْضِرُوهُمْ .

المعنى الإجمالي :

يخبِرُ تعالى أنَّ الَّذين أشْرَكوا سيقولونَ: لو أرادَ اللهُ، ما وَقَعَ منَّا ولا مِن آبائِنا الشِّرْكُ، ولا حَرَّمْنا مِن شيءٍ، فلَمَّا لم يَفْعَلْ دَلَّ ذلك على رِضاه بذلك، ثم بَيَّنَ تعالى أنَّ هؤلاءِ المشركينَ كَذَّبوا بنفْسِ الطَّريقةِ التي كَذَّب بها الَّذين مِن قَبْلِهم، والَّذين لم يَزَلِ التَّكذيبُ دَأْبَهم؛ حتى ذاقُوا بأْسَ الله، ثم أمَرَ اللهُ نَبِيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم أن يسأَلَ هؤلاءِ المُشركينَ: هل عِنْدَهم مِن عِلْمٍ يقينيٍّ بأنَّ اللهَ راضٍ عنهم؛ فلْيُظْهِروه ولْيُبَيِّنوه، ولْيَقُلْ لهم إنَّهم لا يَتَّبِعون إلَّا مُجَرَّدَ ظُنونٍ، وإنْ هم إلَّا يتَقَوَّلونَ على اللهِ الباطِلَ، ويَكْذِبونَ عليه فيما يَدَّعونَه. ولْيَقُلْ لهم: إنَّ للهِ الحُجَّةَ القاطِعَةَ؛ فلو أرادَ لهَداهُم أجمعينَ. ولْيَطْلُبْ منهم أن يُحْضِروا شُهداءَهم الَّذين يَشْهَدونَ أنَّ اللهَ حَرَّمَ عليهم هذا الذي حَرَّموه؛ افتراءً على الله، ونهاه تعالى أن يَشْهَدَ معهم إنْ شَهِدوا، كما نهاه أن يَتَّبِعَ أهواءَ الَّذين كذَّبُوا بآياتِ اللهِ، وكَفَروا باليومِ الآخِرِ، وهم مع ذلك يُشْرِكونَ باللهِ تعالى.

تفسير الآيات :

سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ (148) .
مُناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قبْلَها:
لَمَّا حَكى اللهُ تعالى عن أهْلِ الجاهليَّةِ إقدامَهم على الحُكْمِ في دِينِه بغيرِ حُجَّةٍ ولا دليلٍ؛ حكى سبحانه شُبْهَةً يقولونَها؛ اعتذارًا عن كُلِّ ما يُقْدِمونَ عليه مِنَ الكُفْرِيَّاتِ، ثم أبْطَلَها فقال :
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ.
أي: سيقولُ المُشركونَ- احتجاجًا بالقَضاءِ والقَدَرِ على عَدَمِ إذْعانِهم للحَقِّ لَمَّا تَبيَّنَ لهم-: لو أرادَ اللهُ- المطَّلِعُ على ما نحْنُ عليه مِنَ الشِّرْك، والتَّحريمِ لِمَا حَرَّمناه- أن نُؤْمِنَ به ونُفْرِدَه بالعبادَةِ، وأن نُحلِّلَ ما حَرَّمْنا؛ لفَعَلَ، ولَمَا جعَلْنا له شريكًا، ولا آباؤُنا مِن قبلِنا، ولا حرَّمنا ما نحرِّمُه مِن هذه الأشياءِ التي نحن على تحريمِها مقيمونَ؛ لأنَّه قادِرٌ على أنْ يُلهِمَنا الإيمانَ، أو يَحُولَ بَيننا وبين الكُفْرِ والعِصيانِ، فلمَّا لم يفعَلْ دَلَّ على رضاه بما نحن عليه مُقيمونَ .
كما قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [النحل: 35] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ * وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الزخرف: 19-20] .
كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا.
أي: كما كذَّب هؤلاءِ المشركونَ ما جئتَهم به- يا محمَّدُ- مِن عِنْد اللهِ؛ مِنَ النَّهْيِ عن عبادَةِ شيءٍ غيرِ الله تعالى، وتحريمِ غيرِ ما حرَّم اللهُ سبحانه؛ كذلك كذَّب مَن قَبْلَهم مِنَ فسقةِ الأُمَمِ الماضِيَةِ ما جاءَتْهم به أنبياؤُهم مِن آياتِ اللهِ، وواضحِ حُجَجِه، ولم يَزَلْ هذا التَّكذيبُ دَأْبَهم حتى أحْلَلْنا بهم عقابَنا، فذاقوا طَعْمَ ألمِ العذابِ والنَّكَالِ .
قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا.
أي: قُلْ- يا محمَّد- لهؤلاءِ المشركينَ: هل عِندَكم مِن علْمٍ وبرهانٍ يقينيٍّ بأنَّ الله تعالى راضٍ عنكم فيما أنتم فيه؛ فتُظْهِروه وتبيِّنوه لنا ؟
إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ.
أي: قلُ لهم- يا مُحمَّدُ: ما أنتم في ذلك كُلِّه إلَّا تتقوَّلونَ على اللهِ تعالى الباطِلَ، وتَكْذِبونَ عليه فيما ادَّعَيْتُموه وَفْقًا لظُنونٍ منكم، بغيرِ عِلمٍ، ولا بُرهانٍ يقينيٍّ .
قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149).
قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ.
أي: قل- يا مُحمَّدُ- لهؤلاء المُشركينَ: فللَّهِ وَحْدَه الحُجَّةُ القاطِعَةُ التي تُظْهِرُ الحَقَّ، وتقطَعُ العُذْرَ؛ فلا تُبقِي لأحدٍ منهم عُذرًا .
فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ.
أي: فلو شاءَ اللهُ تعالى هدايَتَكم لوَفَّقَكم أجمعينَ لاتِّباعِ الحَقِّ، ولكِنَّه لم يَشَأْ ذلك، فخالَفَ بين خَلْقِه؛ فمنهم كافرٌ، ومنهم مؤمِنٌ .
كما قال تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة: 13] .
وقال سبحانه: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى [الأنعام: 35] .
وقال سبحانه: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [يونس: 99]
قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّهَ حَرَّمَ هَـذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150).
مُناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قبْلَها:
لَمَّا أبطَلَ اللهُ تعالى على الكُفَّارِ جميعَ أنواعِ حُجَجِهم؛ بَيَّنَ أنَّه ليس لهم على قَوْلِهم شهودٌ البَتَّةَ ، فقال تعالى:
قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّهَ حَرَّمَ هَـذَا.
أي: قل- يا مُحمَّدُ- لهؤلاءِ المفْترينَ على ربِّهم، الزَّاعمينَ أنَّ اللهَ حَرَّمَ عليهم ما هم مُحَرِّموه: أحْضِروا شُهَداءَكم الَّذين يَشْهَدون على اللهِ أنَّه حَرَّمَ عليكم هذا الذي حَرَّمتُموه، وافتَرَيْتم فيه على اللهِ عزَّ وجلَّ .
فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ.
أي: فإنْ جاؤُوك- يا مُحمَّد- بِشُهَداءَ يَشْهَدون أنَّ الله حَرَّمَ ما يَزْعُمونَ أنَّ اللهَ حَرَّمَه عليهم؛ فلا تَشْهَدْ معهم؛ لأنَّهم كَذَبةٌ فَجَرةٌ، وشُهودُ زورٍ في شَهادَتِهم .
وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ.
أي: ولا تتَّبِعْ أهواءَ هؤلاءِ القَوْمِ الَّذين كذَّبوا بوَحْيِ الله تعالى وتَنْزِيلِه في تحريمِ ما حَرَّمَ، وتحليلِ ما أحَلَّ، وكَفَروا باليومِ الآخِرِ، وهُم بالإضافةِ إلى ذلك يُشْرِكون به، فيَجْعلونَ له عديلًا ونظيرًا يُساوونَه به .

الفوائد التربوية :

1- على العبدِ أن يَتْبَعَ أمْرَ اللهِ تعالى، وليس له أن يتعَلَّقَ بمشيئَتِه؛ فإنَّ مَشيئَتَه لا تكون عُذرًا لأحدٍ؛ يُرْشِدُ إلى ذلك قولُه تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا .
2- قولُ اللهِ تعالى: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ فيه المُطالَبَةُ بالعِلْمِ، والذَّمُّ لِمَن يَتَّبِعُ الظَّنَّ، وما عنده عِلْمٌ؛ إذِ الظَّنُّ حَزْرٌ وتَخمينٌ، لا يُمكِنُ أن يستَقِرَّ عنده الحُكْمُ .
3- الإيمانُ بالآخرةِ- دارِ الجزاءِ- مانِعٌ مِنَ الاجتراءِ على الفُجُورِ؛ يُرْشِدُ إلى ذلك قولُ الله تعالى: وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ .

الفوائد العلمية واللطائف :

1- قولُ اللهِ تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فيه ردٌّ على من احتَجَّ على تعطيلِ الأَمْرِ والنَّهْيِ بالقَدَرِ .
2- قال تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ هذه الآيَةُ الكريمةُ مِنْ مُعْجِزاتِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنَّه أخْبَرَ فيها عن أمرٍ غَيْبٍ، سيقولونَه في المستقبَلِ، ثم تحقَّقَ ذلك الغيبُ، ووَقَعَ كما قال، وطِبقًا لِمَا ذُكِرَ؛ وقد بيَّنه في (النحل) و (الزخرف)؛ حيث قال في (النحل): وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ [النحل: الآية 35] وقال في (الزخرف): وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم [الزخرف: 20] فتحَقَّقَ ما قال أنَّهم سيقُولونَه .
3- قولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَمَّا وَصَفَهم بالتَّكذيبِ، أَتْبَعَه الوَصْفَ بعَدَمِ الإيمانِ، ودَلَّ بالنَّسَقِ بالواوِ على العَراقَةِ في كُلٍّ مِنَ الوَصْفينِ .

بلاغة الآيات :

1- قوله: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لو شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكنَا وَلَا آبَاؤُنا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ استئنافٌ رَجَعَ به الكلامُ إلى مجادَلَةِ المُشركينَ بَعْدَ أن اعتَرَضَ بِقَوْلِه: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلى قوله: فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، وفيه: إظهارٌ في مقامِ الإضمارِ؛ حيث قال: الَّذين أشركوا لزيادَةِ تفظيعِ أقوالِهم . وتنصيصًا عليهم، وتبكيتًا لهم .
- وقد قال هنا سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لو شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكنَا وَلَا آبَاؤُنا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ، وقال في النحل: لَو شَاءَ اللهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ منْ شيءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيء فكَرَّرَ مِنْ دُونهِ مرَّتينِ، مع زيادةِ نَحْنُ؛ لأنَّ الإِشراك يدلُّ على إثباتِ شريكٍ لا يجوز إثباتُه، وعلى تحريمِ أشياءَ مِن دون الله، فلم يحتَجْ إلى مِنْ دُونِهِ فحُذِفَ، وتبعَهُ في الحذفِ نَحْنُ طردًا للتَّخفيفِ. بخلافِ العبادةِ؛ فإنَّها غيرُ مستنكَرَةٍ، وإنَّما المستنكَرُ عبادةُ شيءٍ مع اللهِ، ولا يدلُّ لفْظُها على تحريمِ شَيْءٍ، كما دلَّ عليه «أَشْرَك» فلم يكنْ بُدٌّ مِن تقييدِه بِقَوْلِه: مِنْ دُونِهِ، وناسَبَ استيفاءُ الكلامِ فيه زيادةَ «نحنُ» وظاهرٌ أنَّ زيادة َذِكْرِ التَّحريمِ في آية لَوْ شَاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنَا تصريحٌ بما أفادَه لفْظُ «أَشْرَكْنا» .
2- قوله: حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا إضافةُ البَأْسِ إلى ضميرِ الله تعالى؛ لتَعْظِيمه وتَهويلِه .
3- الاستفهامُ في قَوْلِه: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ على معنى التهَكُّمِ بهم، وهو إنكارٌ؛ أي: ليس عِنْدَكم مِن عِلْمٍ تَحْتَجُّونَ به فتُظْهِرونَه لنا، ما تَتَّبِعونَ في دعاواكم إلَّا الظَّنَّ الكاذِبَ الفاسِدَ ، فأظْهَرَ لهم مِنَ القَوْلِ ما يُظْهِرُه المُعجَب بِكَلامِهم. وقرينةُ التهكُّمِ بادِيَةٌ؛ لأنَّه لا يُظَنُّ بالرَّسولِ عليه الصَّلاة والسَّلام والمؤمنينَ أن يَطْلُبوا العِلْمَ مِنَ المشركينَ، كيف وهو يصارِحُهم بالتَّجهيلِ والتَّضليلِ صَبَاحَ مَسَاءَ ؟!
4- قوله: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ جملةٌ مُستأنَفَةٌ؛ لأنَّها ابتداءُ كلامٍ بإضرابٍ عَنِ الكَلامِ الذي قَبْلَه، فبَعْدَ أنْ تَهَكَّم بهم؛ جَدَّ في جوابِهم، فقال: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ .
5- قوله: قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ... استئنافٌ ابتدائيٌّ؛ للانتقالِ مِن طَريقَةِ الجَدَلِ والمناظَرَةِ في إبطالِ زَعْمِهم، إلى إِبْطالِه بطريقةِ التَّبيينِ .
- قوله تعالى: قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا إضافَةُ الشُّهَداءِ إليهم تدُلُّ على أنَّهم غيرُهم، وهذا أمْرٌ على سبيلِ التَّعجيزِ، أي: لا يُوجَدُ مَن يَشْهَدُ بذلك شهادَةَ حَقٍّ؛ لأنَّها دَعْوى كاذِبَةٌ ، وإضافَةُ الشُّهَداءِ إليهم ووَصْفُهم بـ(الَّذين) دليلٌ على أنَّهم مَعروفونَ مَوْسومونَ بنُصْرَةِ مَذْهَبِهم بالباطِلِ، ولو قال: (شُهَداء) من غيرِ إضافةٍ، لأَفْهَمَ أنَّ المَطْلوبَ مَنْ يَشْهَدُ بالحَقِّ، وليس كذلك؛ لأنَّه أُقِيمَ الدَّليلُ العَقليُّ على أنَّه لا حُجَّةَ لهم، وأنَّ الحُجَّةَ لله على خِلافِ ما ادَّعَوْه؛ فبَطَلَ قَطْعًا أنْ يكونَ أحَدٌ يَشْهَدُ على ذلك بِحَقٍّ .
6- قوله: فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ فيه: كِنَايةٌ عن تَكذيبِهم؛ لأنَّ الذي يُصَدِّقُ أحدًا يُوافِقُه في قَوْلِه، فاستُعْمِلَ النَّهيُ عن موافَقَتِهم في لازِمِه، وهو التَّكذيبُ .
7- قوله: وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وُضِعَ المُظْهَر مَوْضِعَ المُضْمَرِ؛ إذ لم يقُلْ: (ولا تتَّبِعْ أهواءَهم)؛ تعميمًا، وتعليقًا للحكمِ بالوصفِ، وللدَّلالةِ على أنَّ مُكَذِّبَ الآياتِ مُتَّبِعٌ الهَوى لا غيرُ، وأنَّ مُتَّبِعَ الحُجَّةِ لا يكون إلَّا مُصَدِّقًا بها .
8- قوله: فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فيه: تقديمُ المجرورِ على المبتدأِ الْحُجَّةُ؛ لإفادَةِ الاختصاصِ؛ أي: للهِ لا لكم، ففُهِمَ منه أنَّ حُجَّتَهم داحِضَةٌ .