موسوعة التفسير

سورةُ البُرُوجِ
الآيات (12-16)

ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ

غريب الكلمات:

بَطْشَ: البطشُ: الانتقامُ، وأصلُ (بطش): يدُلُّ على أخذِ الشَّيءِ بقَهرٍ وغَلَبةٍ [111] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/282)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/262) و(4/472)، ((المفردات)) للراغب (ص: 129). .
الْوَدُودُ: أي: المحِبُّ لأوليائِه، والوُدُّ أصفَى الحُبِّ وألطفُه، وأصلُ (ودد): يدُلُّ على محَبَّةٍ [112] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/75)، ((تفسير القرطبي)) (19/296)، ((روضة المحبين ونزهة المشتاقين)) لابن القيم (ص: 47)، ((تفسير ابن كثير)) (8/372)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 238)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 948). .
ذُو الْعَرْشِ: أي صاحبُ العَرشِ، والعرشُ معروفٌ فوقَ السَّمَواتِ، وهو الَّذي استوى اللهُ عليه، وله قَوائِمُ تَحمِلُه المَلائكةُ، وهو كالقُبَّةِ على العالَمِ، وهو سَقْفُ المَخلوقاتِ وأعلاها وأكبَرُها، والعرشُ في اللُّغةِ سَريرُ المَلِكِ، وهو سريرٌ بالنِّسبةِ إلى ما فوقَه، وكالسَّقفِ بالنِّسبةِ إلى ما تحتَه، وقيل: هو في الأصلِ شيءٌ مُسقَّفٌ، وأصلُ (عرش): يدُلُّ على ارتفاعٍ في شَيءٍ مَبْنيٍّ، وسُمِّيَ العرشُ بذلك؛ لارتفاعِه [113] يُنظر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (1/263)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/264)، ((تفسير السمعاني)) (6/200)، ((المفردات)) للراغب (ص: 558)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/402)، ((تفسير ابن كثير)) (8/372)، ((البداية والنهاية)) لابن كثير (1/20)، ((شرح العقيدة الواسطية)) لابن عثيمين (1/374)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (4/282). قال ابنُ تيميَّةَ: (فإذا كان القرآنُ قد جعَل لله عرشًا وليس هو بالنِّسبةِ إليه كالسَّقفِ، عُلِم أنَّه بالنِّسبةِ إليه كالسَّريرِ بالنِّسبةِ إلى غيرِه). ((بيان تلبيس الجهمية)) (3/278). .
الْمَجِيدُ: أي: الكامِلُ الشَّرَفِ والرِّفعةِ والكَرَمِ والصِّفاتِ المحمودةِ، والمجْدُ: العُلُوُّ والعَظَمةُ، وأصلُ (مجد): يدُلُّ على بُلوغِ النِّهايةِ، ولا يكونُ إلَّا في محمودٍ [114] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/297)، ((البسيط)) للواحدي (11/487)، ((المفردات)) للراغب (ص: 760، 761)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 876). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى: إنَّ أخْذَ رَبِّك -يا محمَّدُ- وانتِقامَه مِنَ الكَفَرةِ والظَّلَمةِ لَقَويٌّ عَظيمٌ؛ إنَّه هو يَبدَأُ ويُوجِدُ ما يَشاءُ مِن خَلْقِه، ثمَّ يُعيدُه بَعْدَ فَنائِه، وهو الغَفورُ لذُنوبِ عِبادِه، المحِبُّ لعبادِه التَّائِبينَ والصَّالِحينَ، صاحِبُ العَرْشِ، الكامِلُ الشَّرَفِ والرِّفعةِ والكَرَمِ والصِّفاتِ المحمودةِ، وهو فَعَّالٌ في مُلْكِه وخَلْقِه ما يُريدُه سُبحانَه.

تفسير الآيات:

إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر تعالى وَعيدَ الَّذين فَتَنوا المؤمِنينَ والمؤمِناتِ أوَّلًا، وذَكَر وَعْدَ الَّذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالِحاتِ ثانيًا؛ أردَفَ ذلك الوَعدَ والوعيدَ بالتَّأكيدِ؛ فقال لتأكيدِ الوَعيدِ: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ، ثمَّ قال لتأكيدِ الوَعْدِ: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ [115] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/114). .
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12).
أي: إنَّ أخْذَ رَبِّك -يا محمَّدُ- وانتِقامَه مِنَ الكَفَرةِ والظَّلَمةِ لَقَويٌّ عَظيمٌ [116] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/281)، ((تفسير القرطبي)) (19/296)، ((تفسير ابن كثير)) (8/372)، ((تفسير السعدي)) (ص: 919)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 137). قال ابن عاشور: (وبَطْشُ اللهِ يَشملُ تَعذيبَه إيَّاهم في جهنَّمَ، ويَشملُ ما قَبْلَه مِمَّا يَقَعُ في الآخرةِ، وما يقَعُ في الدُّنيا). ((تفسير ابن عاشور)) (30/247، 248). !
كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102] .
وقال سُبحانَه: كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: 52] .
وقال عزَّ وجَلَّ: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [الدخان: 16] .
إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13).
أي: إنَّ اللهَ وَحْدَه هو مَن يَبدَأُ بإيجادِ ما يَشاءُ مِن خَلْقِه، ثمَّ يُعيدُه بَعْدَ فَنائِه [117] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/283)، ((تفسير ابن كثير)) (8/372)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/361)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/248). قيل: المرادُ: يَبدَأُ إنشاءَ الخَلْقِ مِنَ العَدَمِ، ثمَّ يُعيدُهم بعدَ مَوتِهم، فيَبعَثُهم أحياءً يومَ القيامةِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: الواحديُّ، والقُرطبيُّ ونسَبَه إلى أكثَرِ العُلَماءِ، واختاره: ابنُ كثير، والسعديُّ. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/462)، ((تفسير القرطبي)) (19/296)، ((تفسير ابن كثير)) (8/372)، ((تفسير السعدي)) (ص: 919). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: الضَّحَّاكُ، وابنُ جُرَيجٍ، وابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/282)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/471). قال الواحدي: (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ الخَلْقَ؛ يَخلُقُهم أوَّلًا في الدُّنيا، ويُعيدُهم أحياءً بعدَ الموتِ. وهذا قولُ المفسِّرينَ جميعًا). ((البسيط)) (23/392). وقيل: المعنى: يَبدأُ العَذابَ للكُفَّارِ في الدُّنيا، ثمَّ يُعيدُ عَذابَهم في الآخِرةِ. وممَّن ذهب إليه: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/283). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/283)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/471). وذهب ابنُ عُثيمينَ إلى العُمومِ، فقال: (يعني: أنَّ الأمرَ إليه ابتِداءً وإعادةً؛ فهو الَّذي بدأ الأشياءَ، وإليه تنتهي الأشياءُ، الأشياءُ منه وإليه في كلِّ شَيءٍ؛ الخَلقُ مِنَ اللهِ وإليه، الشَّرائِعُ مِنَ اللهِ وإليه، كُلُّ الأمورِ مِنَ اللهِ وإليه... لم يَذكُرْ ما الَّذي يَبدَؤُه، فمعناه: يَبدأُ كُلَّ شَيءٍ، ويُعيدُ كُلَّ شَيءٍ، فكُلُّ الأمرِ بيَدِه عزَّ وجَلَّ). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 137، 138). .
كما قال الله تبارك وتعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [العنكبوت: 19] .
وقال سُبحانَه: اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الروم: 11] .
وقال الله سبحانه وتعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم: 27] .
وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14).
أي: وهو الغَفورُ لذُنوبِ عِبادِه، فيَمحوها ويُذهِبُ آثارَها، ويَستُرُها، وهو المحِبُّ لعبادِه التَّائِبينَ والصَّالِحينَ [118] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/283)، ((تفسير القرطبي)) (19/296)، ((النبوات)) لابن تيمية (1/353، 361-363)، ((روضة المحبين)) لابن القيم (ص: 47)، ((تفسير ابن كثير)) (8/372)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/362)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 138). .
كما قال تعالى حاكيًا قَولَ شُعَيبٍ عليه السَّلامُ لِقَومِه: إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ [هود: 90] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ قال: مَن عادى لي وليًّا فقد آذَنْتُه [119] آذَنْتُه: أي: أعلَمْتُه. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (4/1544). بالحَرْبِ، وما تقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عبدي يتقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّه، فإذا أحبَبْتُه كُنتُ سَمْعَه الَّذي يَسمَعُ به، وبَصَرَه الَّذي يُبصِرُ به، ويَدَه الَّتي يَبطِشُ بها، ورِجْلَه الَّتي يَمشي بها [120] أي: يَجعَلُ اللهُ حواسَّه وآلاتِه وسائِلَ إلى رِضائِه، فلا يَسمَعُ إلَّا ما يُحِبُّه اللهُ ويَرضاه. وقيل: أي: يجعَلُ اللهُ سُلطانَ حُبِّه غالِبًا عليه حتَّى لا يرى إلَّا ما يُحِبُّه اللهُ تعالى، ولا يَسمَعَ إلَّا ما يحِبُّه، ولا يَفعَلُ إلَّا ما يحِبُّه، ويكونُ اللهُ سُبحانَه في ذلك له يدًا وعَونًا ووكيلًا يَحمي سَمْعَه وبَصَرَه ويَدَه ورِجْلَه عمَّا لا يَرضاه. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (4/1544). وقال ابن رجب: (المرادُ بهذا الكلامِ: أنَّ مَنِ اجتهَد بالتَّقرُّبِ إلى الله بالفرائضِ، ثمَّ بالنَّوافلِ؛ قرَّبه إليه، ورقَّاه مِن درجةِ الإيمانِ إلى درجةِ الإحسانِ، فيَصيرُ يَعبُدُ اللهَ على الحُضورِ والمُراقَبةِ كأنَّه يَراه، فيَمتلئُ قلبُه بمعرفةِ الله تعالى، ومحَبَّتِه، وعظَمَتِه، وخَوفِه، ومَهابَتِه، وإجلالِه، والأُنسِ به، والشَّوقِ إليه، حتَّى يَصيرَ هذا الَّذي في قلبِه مِن المعرفةِ مُشاهَدًا له بعَينِ البصيرةِ... فمتى امتلأ القلبُ بعَظَمةِ الله تعالى، مَحَا ذلك مِن القلبِ كلَّ ما سِواه، ولم يَبْقَ للعبدِ شَيءٌ مِن نفْسِه وهَواه، ولا إرادةٌ إلَّا لِما يُريدُه منه مَولاه، فحينَئذٍ لا يَنطِقُ العبدُ إلَّا بذِكْرِه، ولا يتحرَّكُ إلا بأمْرِه، فإنْ نطَقَ نطَقَ بالله، وإنْ سَمِعَ سمِعَ به، وإنْ نظَرَ نظَرَ به، وإنْ بطَشَ بطَشَ به). ((جامع العلوم والحكم)) (2/345-347). ) [121] رواه البخاري (6502). .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ تبارَك وتعالى إذا أحَبَّ عَبدًا نادى جِبريلَ: إنَّ اللهَ قد أحَبَّ فُلانًا فأَحِبَّه، فيُحِبُّه جِبْريلُ، ثمَّ يُنادي جِبْريلُ في السَّماءِ: إنَّ اللهَ قد أحَبَّ فُلانًا فأَحِبُّوه، فيُحِبُّه أهلُ السَّماءِ، ويُوضَعُ له القَبولُ في أهلِ الأرضِ )) [122] رواه البخاري (7485) واللَّفظُ له، ومسلم (2637). .
ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى مِن صِفاتِه ما تعَلُّقُه بمَخلوقاتِه بحَسَبِ ما يَستأهِلونَه مِن جزاءٍ؛ أعقَبَ ذلك بصِفاتِه الذَّاتيَّةِ على وَجهِ الاستِطرادِ والتَّكْملةِ [123] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/249). .
ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15).
القِراءاتُ ذاتُ الأَثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ الْمَجِيدِ بكَسْرِ الدَّالِ، صِفةً للعَرْشِ، أي: العَرْشُ المتَّصِفُ بالمجْدِ [124] قرأ بها حمزةُ، والكِسائيُّ، وخلَفٌ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/399). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((معاني القراءات)) للأزهري (3/136)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 757). .
2- قِراءةُ الْمَجِيدُ بضَمِّ الدَّالِ، صِفةً لله سُبحانَه وتعالى، أي: اللهُ المتَّصِفُ بالمجْدِ [125] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/399). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((معاني القراءات)) للأزهري (3/136)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 757). .
ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15).
أي: هو الَّذي له العَرْشُ العظيمُ، وهو الَّذي له صِفاتُ الكَمالِ الكَثيرةُ الواسِعةُ [126] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/284)، ((تفسير ابن كثير)) (8/372)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/363)، ((تفسير السعدي)) (ص: 919)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 140). .
فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16).
أي: مهما أراد شيئًا فعَله، ولا يَمنَعُه مانعٌ مِن فِعلِ ما أراد في مُلْكِه وخَلْقِه، ومِن ذلك مَغفِرةُ ذُنوبِ عِبادِه المؤمِنينَ، وشِدَّةُ البَطْشِ بالكافِرينَ والظَّالِمينَ [127] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/284)، ((تفسير القرطبي)) (19/297)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 95-97)، ((تفسير ابن كثير)) (8/372)، ((تفسير السعدي)) (ص: 919)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 141). .

الفوائد التربوية:

1- اقتِرانُ هذينِ الاسمَينِ الْغَفُورُ الْوَدُودُ في قَولِه تعالى: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ فيه ما يَهِيجُ القلبَ السَّليمَ، ويأخُذُ بمَجامعِه، ويجعَلُه عاكِفًا على ربِّه -الَّذي لا إلهَ إلَّا هو، ولا رَبَّ له سِواه- عُكوفَ المُحِبِّ الصَّادقِ على محبوبِه الَّذي لا غِنَى له عنه، ولا بُدَّ له منه، ولا تَندَفِعُ ضَرورتُه بغَيرِه أبدًا [128] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 233). . و(الوَدودُ) أصلُه مِن المَوَدَّةِ، بمعنى: وادٍّ. ويَشهَدُ لذلك أنَّ (فَعولًا) في صِفاتِ اللهِ سُبحانَه وتعالى (فاعِلٌ)؛ كغَفورٍ بمعنى غافرٍ، وشَكورٍ بمعنى شاكِرٍ، وصَبورٍ بمعنى صابِرٍ، وأيضًا لاقتِرانِه بالغَفورِ في قَولِه: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ، وبالرَّحيمِ في قَولِه: إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ [هود: 90] ، وفيه سِرٌّ لطيفٌ، وهو أنَّه يحِبُّ التَّوَّابينَ، وأنَّه يحِبُّ عَبْدَه بَعْدَ المغفرةِ، فيَغفِرُ له ويُحِبُّه، كما قال: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة: 222] ، فالتَّائِبُ حبيبُ اللهِ [129] يُنظر: ((روضة المحبين ونزهة المشتاقين)) لابن القيم (ص: 47). .
2- قَولُه تعالى: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فيه تَنبيهٌ للعِبادِ إلى وُجوبِ عِبادتِه لاستِحقاقِه العِبادةَ لجَلالِه، كما يَعبُدونه لاتِّقاءِ عِقابِه، ورَجاءِ نَوالِه [130] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/249). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ، وقَولِه تعالى: وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ [هود: 90] لَطيفةٌ في اقترانِ اسمِ «الوَدودِ» بـ «الرَّحيمِ» وبـ «الغَفورِ»؛ فإنَّ الرَّجُلَ قد يَغْفِرُ لِمَن أساء إليه، ولا يُحِبُّه، وكذلك قد يَرْحَمُ مَن لا يُحِبُّ، والرَّبُّ تعالى يَغْفِرُ لعَبْدِه إذا تاب إليه، ويَرحَمُه ويُحِبُّه مع ذلك؛ فإنَّه يُحِبُّ التَّوَّابينَ، وإذا تاب إليه عَبْدُه أَحَبَّه، ولو كان منه ما كان [131] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 93). . فلا يُقالُ: بل تُغفَرُ ذُنوبُهم، ولا يَرجِعُ إليهم الوُدُّ، كما قاله بَعضُ الغالِطِينَ [132] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 919). . فاقتِرانُ الاسمَينِ فيه ردٌّ وإنكارٌ على مَن قال: لا يَعودُ الوُدُّ والمحبَّةُ منه سبحانَه لعَبْدِه أبدًا [133] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 233). !
2- في قَولِه تعالى: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ أنَّ ثُبوتَ الصِّفاتِ لا يَستَلْزِمُ تَعَدُّدَ القُدَماءِ؛ فإنَّ اللهَ تعالى وَصَفَ نفْسَه بأوصافٍ كثيرةٍ، مع أنَّه الواحِدُ الأحَدُ [134] يُنظر: ((القواعد المثلى)) لابن عثيمين (ص: 9). .
3- في قَولِه تعالى: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ إثباتُ صِفةِ المحبَّةِ للهِ تعالى، وهي مِن صِفاتِه الفِعْليَّةِ؛ فإنَّ الوُدَّ: خالِصُ المحبَّةِ، ولا يجوزُ تفسيرُ المحبَّةِ بالثَّوابِ؛ لأنَّه مخالِفٌ لظاهرِ اللَّفظِ، وإجماعِ السَّلَفِ، وليس عليه دَليلٌ [135] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (4/271). .
4- في قَولِه تعالى: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ إثباتُ إرادةِ اللهِ سُبحانَه وتعالى، وهو كذلك؛ فإنَّه تعالى له إرادةٌ كامِلةٌ تامَّةٌ في خَلْقِه، حتَّى فيما يتعَلَّقُ بأفعالِ الخَلْقِ، لا يكونُ فِعْلٌ مِن النَّاسِ إلَّا بإرادةِ اللهِ، كما قال اللهُ تعالى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير: 28-29] ؛ فعَلَّقَ مَشيئتَهم بمشيئتِه سُبحانَه وتعالى [136] يُنظر: ((لقاء الباب المفتوح)) لابن عثيمين (اللقاء رقْم: 42). .
5- لَفظُ الإرادةِ في كِتابِ اللهِ تعالى نَوعانِ:
إرادةٌ كَونيَّةٌ شامِلةٌ لجَميعِ المخلوقاتِ، كقَولِه تعالى: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، وقَولِه تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً [الإسراء: 16] ، وقَولِه تعالى: إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ [هود: 34] ، ونظائِرِ ذلك.
وإرادةٌ دِينيَّةٌ أَمْريَّةٌ لا يجِبُ وُقوعُ مُرادِها، كقَولِه تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ [البقرة: 185] ، وقَولِه تبارك وتعالى: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ [137] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 32). [النساء: 27] .
6- في قَولِه تعالى: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ رَدٌّ على المُعتَزِلةِ القائلِينَ: إنَّه تعالى لا يُريدُ الشَّرَّ. وقد دَلَّت هذه الآيةُ أنَّ جَميعَ أفعالِ العِبادِ مَخلوقةٌ للهِ تعالى [138] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 285)، ((تفسير الشربيني)) (4/515). .
7- قَولُه تعالى: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ دليلٌ على أُمورٍ:
أحَدُها: أنَّه سُبحانَه يَفعَلُ بإرادتِه ومَشيئتِه.
الثَّاني: أنَّه لم يَزَلْ كذلك؛ لأنَّه ساق ذلك في مَعرِضِ المدحِ والثَّناءِ على نَفْسِه، وأنَّ ذلك مِن كَمالِه سُبحانَه؛ فلا يجوزُ أن يكونَ عادمًا لهذا الكَمالِ في وَقتٍ مِن الأوقاتِ، وقد قال تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [النحل: 17] ، وما كان مِن أوصافِ كَمالِه ونُعوتِ جَلالِه لم يكُنْ حادِثًا بَعْدَ أنْ لم يكُنْ.
الثَّالِثُ: أنَّه إذا أراد شيئًا فَعَلَه؛ فإنَّ «ما» مَوصولةٌ عامَّةٌ، أي: يَفعَلُ كلَّ ما يريدُ أن يفعَلَه، وهذا في إرادتِه المتعلِّقةِ بفِعْلِه، وأمَّا إرادتُه المتعلِّقةُ بفِعلِ العَبدِ فتلك لها شأنٌ آخَرُ؛ فإنْ أراد فِعْلَ العَبْدِ ولم يُرِدْ مِن نَفْسِه أن يُعِينَه عليه ويجعَلَه فاعِلًا، لم يُوجَدِ الفِعلُ وإن أراده، حتَّى يُريدَه مِن نَفْسِه أن يجعَلَه فاعِلًا.
الرَّابعُ: أنَّ فِعْلَه سُبحانَه وإرادتَه مُتلازِمانِ؛ فما أراد أن يَفعَلَه فَعَلَه، وما فَعَلَه فقد أرادَه، بخِلافِ المخلوقِ؛ فإنَّه يُريدُ ما لا يَفعَلُ، وقد يَفعَلُ ما لا يُريدُ، فما ثَمَّ فعَّالٌ لِما يُريدُ إلَّا اللهُ وَحْدَه.
الخامِسُ: إثباتُ إراداتٍ متعدِّدةٍ بحَسَبِ الأفعالِ، وأنَّ كلَّ فعلٍ له إرادةٌ تخصُّه، وهذا هو المعقولُ في الفِطَرِ، وهو الَّذي يَعقِلُه النَّاسُ مِن الإرادةِ، فشَأنُه تعالى أنْ يُريدَ على الدَّوامِ، ويَفعَلَ ما يُريدُ.
السَّادِسُ: أنَّ كُلَّ ما صحَّ أن تتعَلَّقَ به إرادتُه جازَ فِعْلُه؛ فإذا أراد أن يَنزِلَ كُلَّ لَيلةٍ إلى سماءِ الدُّنيا، وأن يَجيءَ يومَ القيامةِ لِفَصلِ القَضاءِ، وأن يُرِيَ نفْسَه لِعِبادِه، وأنْ يَتجلَّى لهم كيف شاء، وأن يُخاطِبَهم، ويَضحَكَ إليهم، وغيرَ ذلك ممَّا يريدُ سُبحانَه- لم يمتَنِعْ عليه فِعْلُه؛ فإنَّه فعَّالٌ لِما يُريدُ، وإنَّما يتوقَّفُ صحَّةُ ذلك على إخبارِ الصَّادِقِ به، فإذا أخبَرَ به وجَبَ التَّصديقُ به، وكان رَدُّهُ ردًّا لكمالِه الَّذي أخبَرَ به عن نَفْسِه، وهذا عَينُ الباطِلِ، وكذلك إذا أمكَنَ إرادتُه سُبحانَه مَحْوَ ما شاء، وإثباتَ ما شاء؛ أمكَنَ فِعْلُه، وكانت تلك الإرادةُ والفِعلُ مِن مُقتَضَياتِ كَمالِه المقَدَّسِ [139] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 95-97). .
8- قدِ اشتملتْ هذه السُّورةُ الكريمةُ -على اختِصارِها- مِن التَّوحيدِ على: وَصْفِه سُبحانَه بالعِزَّةِ المتضَمِّنةِ للقُدرةِ والقوَّةِ وعدمِ النَّظيرِ، والحمدِ المتضمِّنِ لصِفاتِ الكمالِ والتَّنزيهِ عن أضْدادِها، مع محَبَّتِه وإلَهيَّتِه ومُلْكِه السَّمواتِ والأرضَ المتضَمِّنِ لكمالِ غِناه وسَعَةِ مُلْكِه، وشَهادتِه على كلِّ شيءٍ المتضمِّنِ لعُمومِ اطِّلاعِه على ظَواهرِ الأمورِ وبَواطنِها، وإحاطةِ بصرِه بمَرئيَّاتِها، وسمْعِه بمَسموعاتِها، وعِلْمِه بمعلوماتِها، ووَصْفِه بشِدَّةِ البَطشِ المتضمِّنِ لكمالِ القوَّةِ والعِزَّةِ والقُدرةِ، وتَفَرُّدِه بالإبداءِ والإعادةِ المتضمِّنِ لتوحيدِ رُبوبيَّتِه، وتصرُّفِه في المخلوقاتِ بالإبداءِ والإعادةِ، وانقيادِها لقُدرتِه، فلا يَستعصي عليه منها شيءٌ، ووَصْفِه بالمغفرةِ المتضمِّنِ لكمالِ جُوْدِه وإحسانِه وغِناه ورحمتِه، ووصْفِه بالوَدودِ المتضمِّنِ لكَونِه حبيبًا إلى عبادِه، مُحِبًّا لهم، ووصْفِه بأنه ذو العرشِ الَّذي لا يَقْدُرُ قَدْرَه سِواه، وأنَّ عَرْشَه المختصَّ به لا يليقُ بغيرِه أنْ يستويَ عليه! ووصْفِه بالمَجْدِ المتضمِّنِ لسَعَةِ العِلمِ والقدرةِ والمُلْكِ والغِنى والجُودِ والإحسانِ والكرمِ، وكَونِه فعَّالًا لِما يُريدُ المتضمِّنِ لحياتِه وعِلْمِه وقدرتِه ومشيئتِه وحِكمتِه وغيرِ ذلك مِن أوصافِ كمالِه. فهذه السُّورةُ كتابٌ مستقِلٌّ في أصولِ الدِّينِ تَكفي مَن فَهِمَها؛ فالحمدُ للهِ الَّذي أَنْزَلَ على عبْدِه الكتابَ، وتبارَك الَّذي نَزَّلَ الفُرقانَ على عبْدِه [140] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 97، 98). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ استِئنافٌ خُوطِبَ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ إيذانًا بأنَّ لكُفَّارِ قَومِه نَصيبًا مَوفورًا مِن مَضمونِه، كما يُنْبئُ عنه التَّعرُّضُ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ، معَ الإضافةِ إلى ضَميرِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ فهو كَلامٌ مُستَأنَفٌ مَسوقٌ لتَسلِيةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عمَّا يُكابِدُه مِن كُفَّارِ قَومِه. أو هو عِلَّةٌ لمَضمونِ قولِه: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج: 10] ، أي: لأنَّ بَطْشَ اللهِ شَديدٌ على الَّذين فَتَنوا الَّذين آمَنوا به؛ فمَوقِعُ (إِنَّ) في التَّعليلِ يُغْني عن فاءِ التَّسبُّبِ [141] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/138)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/247)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/435). .
- وأُكِّدَ الكَلامُ بـ (إِنَّ) واللَّامِ [142] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/436). .
- والبَطْشُ: الأَخْذُ بالعُنفِ، ووُصِفَ بالشِّدَّةِ؛ للدَّلالةِ على تَضاعُفِه وتَفاقُمِه. ووُجِّهَ الخِطابُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّ بَطْشَ اللهِ بالَّذين فَتَنوا المُؤمِنينَ فيه نَصرٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتَثبيتٌ له [143] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/732)، ((تفسير أبي السعود)) (9/138)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/248). .
2- قولُه تعالَى: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ هذه الجُملةُ تَصلُحُ لأنْ تَكونَ استِئنافًا ابتِدائيًّا، انتُقِلَ به مِن وَعيدِهم بعَذابِ الآخِرةِ إلى تَوعُّدِهم بعَذابٍ في الدُّنيا يَكونُ مِن بَطْشِ اللهِ، أُردِفَ به وَعيدُ عَذابِ الآخِرةِ؛ لأنَّه أوقَعُ في قُلوبِ المُشرِكين؛ إذ هُم يَحسَبونَ أنَّهم في أَمْنٍ مِن العِقابِ؛ إذ هُم لا يُصدِّقون بالبَعثِ، فحَسِبوا أنَّهم فازوا بطِيبِ الحياةِ الدُّنيا، والمَعنى: أنَّ اللهَ يَبطِشُ بهم في البَدْءِ والعَوْدِ، أي: في الدُّنيا والآخِرةِ. وتَصلُحُ لأنْ تَكونَ تَعليلًا لجُملةِ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج: 12] ؛ لأنَّ الَّذي يُبْدئُ ويُعيدُ قادِرٌ على إيقاعِ البَطْشِ الشَّديدِ في الدُّنيا، وهو: الإبْداءُ، وفي الآخِرةِ، وهو: إعادةُ البَطْشِ. وتَصلُحُ لأنْ تَكونَ إدْماجًا [144] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرضًا في غَرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ؛ فهو مِن أفانينِ البَلاغةِ، ويكونُ مرادُ البليغِ غَرَضينِ فيَقرِنُ الغرضَ المَسوقَ له الكلامُ بالغرضِ الثَّاني، وفيه تَظهرُ مَقدرةُ البليغِ؛ إذ يأتي بذلك الاقترانِ بدونِ خروجٍ عن غَرَضِه المسوقِ له الكلامُ ولا تَكلُّفٍ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمِّنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ، وقيل: أُدمِجتِ المبالَغةُ في المطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواه- مبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفِرادِ بالحَمْدِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 344)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). للاستِدلالِ على إمْكانِ البَعثِ، أي: إنَّ اللهَ يُبْدِئُ الخَلْقَ ثمَّ يُعيدُه. وحُذِفَ مَفعولَا الفِعلَينِ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ؛ لإفادةِ أنَّه يُبدِئُ المَخلوقاتِ كلَّها ويُعيدُها بأَسْرِها، ولقَصْدِ عُمومِ تَعلُّقِ الفِعلَينِ بكُلِّ ما يَقَعُ ابتِداءً، ويُعادُ بعدَ ذلك؛ فشَمِلَ بَدْءَ الخَلْقِ وإعادتَه، وهو: البَعثُ، وشَمِلَ البَطْشَ الأوَّلَ في الدُّنيا، والبَطْشَ في الآخِرةِ، وشَمِلَ إيجادَ الأَجيالِ وإخْلافَها بعدَ هَلاكِ أوائِلِها، وفي هذه الاعتِباراتِ مِن التَّهديدِ للمُشرِكين مَحامِلُ كَثيرةٌ؛ فدَلَّ باقتِدارِه على الإبْداءِ والإعادةِ على شِدَّةِ بَطْشِه، وأَوعَدَ الكَفَرةَ بأنَّه يُعيدُهم كما أَبدَأَهم ليَبطِشَ بهم؛ إذ لم يَشْكروا نِعمةَ الإبْداءِ، وكَذَّبوا بالإعادةِ [145] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/732)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/375)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/248). .
- وضَميرُ (هُوَ) للتَّقَوِّي، أي: لتَحقيقِ الخَبَرِ، ولا مَوقِعَ للقَصرِ هُنا؛ إذْ ليس في المَقامِ ردٌّ على مَن يَدَّعي أنَّ غيرَ اللهِ يُبدِئُ ويُعيدُ [146] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/248). .
3- قولُه تعالَى: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ
- قولُه: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ مَعطوفٌ على جُملةِ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج: 12] ، ومَضمونُها قَسيمٌ لمَضمونِ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ؛ لأنَّه لَمَّا أُفيدَ تَعْليلُ مَضمونِ جُملةِ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [البروج: 10] إلى آخِرِه، ناسَبَ أنْ يُقابَلَ بتَعليلِ مَضمونِ جُملةِ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ [البروج: 11] إلى آخِرِه، فعُلِّلَ بقَولِه: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ، فهو يَغفِرُ للَّذين تابوا وآمَنوا وعَمِلوا الصَّالِحاتِ ما فَرَطَ منهم، وهو يُحِبُّ التَّوَّابين ويَوَدُّهم [147] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/249). .
- والوَدودُ مُبالَغةٌ في (الوادِّ) [148] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/446). .
- وخَصَّ العَرشَ في قولِه: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ بإضافةِ نفْسِه تَشْريفًا للعَرشِ، وتَنبيهًا على أنَّه أَعظَمُ المَخلوقاتِ [149] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/446). ، ولأنَّه أخصُّ المخلوقاتِ بالقُربِ منه تعالى [150] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 919). .
- وقدْ ذُيِّلَ ذلك بصِفةٍ جامِعةٍ لعَظَمتِه الذَّاتيَّةِ وعَظَمةِ نِعَمِه بقَولِه: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، أي: إذا تَعلَّقَتْ إرادتُه بفِعلٍ فَعَلَه على أكمَلِ ما تعَلَّقَتْ به إرادتُه، لا يَنقُصُه شَيءٌ، ولا يُبْطئُ به ما أَرادَ تَعجيلَه؛ فصِيغةُ المُبالَغةِ في قولِه: فَعَّالٌ للدَّلالةِ على الكَثرةِ في الكَمِّيَّةِ والكَيفيَّةِ [151] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/733)، ((تفسير أبي حيان)) (10/446)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/250). .
- وقولُه: فَعَّالٌ خبَرُ مُبتدأٍ مَحذوفٍ، وإنَّما فَصَلَه -أي: لم يَعطِفْه على ما قبْلَه-؛ لأنَّه كالفَذْلَكةِ [152] الفَذْلَكة: مِن فَذْلَكَ حِسابَه فَذْلَكةً، أي: أنْهاهُ وفَرَغ منه، وذكَر مُجمَلَ ما فُصِّل أوَّلًا وخُلاصتَه. والفَذْلَكةُ كلمةٌ منحوتةٌ كـ (البَسملةِ) و(الحَوقَلةِ)، مِن قولِهم: (فذَلِكَ كذَا وكذَا عددًا). ويُرادُ بالفَذْلَكةِ: النَّتيجةُ لِمَا سبَق مِن الكلام، والتَّفريعُ عليه. يُنظر: ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (27/ 293)، ((كناشة النوادر)) لعبد السلام هارون (ص: 17)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 638، 639). للأوصافِ السَّابِقةِ والخاتِمةِ لها. والتَّنكيرُ لضَرْبٍ مِن التَّعظيمِ، يَتَلاشى عندَه الأوْهامُ والعُقولُ [153] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/733)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/376). .