موسوعة التفسير

سُورةُ ق
الآيات (16-22)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ

غريب الكلمات:

تُوَسْوِسُ: أي: تُلْقي وتُحَدِّثُ، والوَسْوَسةُ: الخَطرةُ الرَّديئةُ وحديثُ النَّفْسِ، والصَّوتُ الخفىُّ، وبه سُمِّيَ صَوتُ الحلْيِ وَسْواسًا، وأصلُ (وسوس): يدُلُّ على صَوتٍ غَيرِ رَفيعٍ .
حَبْلِ الْوَرِيدِ: الحَبلُ هو الوَريدُ؛ فهو مِن إضافةِ الشَّيءِ إلى نَفْسِه لاختِلافِ اللَّفظَينِ، وهو عِرقٌ في باطِنِ العُنُقِ مُعَلَّقٌ بالقَلبِ .
قَعِيدٌ: أي: قاعِدٌ رَاصِدٌ مُلازِمٌ لا يَبرَحُ .
رَقِيبٌ: أي: مُراقِبٌ لأعمالِه، حافِظٌ لها، شاهِدٌ عليها، وأصلُ (رقب): يدُلُّ على انتِصابٍ لِمُراعاةِ شَيءٍ .
عَتِيدٌ: أي: حاضِرٌ لا يَغيبُ، مُعَدٌّ للحِفظِ والشَّهادةِ، وأصلُ (عتد): يدُلُّ على حُضورٍ وقُربٍ .
سَكْرَةُ الْمَوْتِ: أي: غَمْرَتُه وشِدَّتُه الَّتي تَغشَى الإنسانَ، وتَغلِبُ على عَقلِه، وأصلُ (سكر): يدُلُّ على حَيرةٍ .
تَحِيدُ: أي: تَفِرُّ منه، وتَميلُ عنه، وأصلُ (حيد): يدُلُّ على مَيلٍ وعُدولٍ عن طَريقِ الاستِواءِ .
الصُّورِ: أي: القَرنِ يَنفُخُ فيه إسرافيلُ .
حَدِيدٌ: أي: نافِذٌ حادٌّ قويٌّ، وحِدَّةُ البَصَرِ: قُوَّةُ نَفاذِه في المَرئيِّ، وأصلُ (حدد): يدُلُّ على مَنعٍ، وسُمِّيَ الحديدُ حَديدًا؛ لامتناعِه وصلابَتِه وشِدَّتِه .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى مبيِّنًا شمولَ عِلمِه لكلِّ شَيءٍ: ولقد خَلَقْنا كلَّ إنسانٍ ونحنُ نعلَمُ ما تُحدِّثُه به نفْسُه مِن خَيرٍ أو شَرٍّ، ونحن أقرَبُ إليه مِن حَبلِ الوَريدِ الَّذي في عُنُقِه، إذ يَتلَقَّى المَلَكانِ ما يَصدُرُ منه فيُحصيانِه عليه: أحَدُهما عن يمينِه، والآخَرُ عن شِمالِه.
ما يَتلفَّظُ إنسانٌ بقَولٍ إلَّا وعِندَه مَلَكٌ حافِظٌ لكَلامِه، حاضِرٌ لا يُفارِقُه.
ثمَّ يُبيِّنُ الله سبحانَه حالةَ الإنسانِ عندَ الاحتضارِ، فيقولُ: وجاءت شِدَّةُ الموتِ بالحَقِّ الَّذي يكونُ بعدَ الموتِ مِن ثَوابٍ أو عِقابٍ، ذلك الموتُ هو ما كُنتَ تَهرُبُ منه أيُّها الإنسانُ!
ثمَّ يَذكُرُ سبحانَه يومَ القيامةِ وحالَ النَّاسِ فيه، فيقولُ: ونَفَخ المَلَكُ في القَرنِ لِبَعثِ النَّاسِ، وذلك يَومُ القيامةِ الَّذي توعَّد اللهُ الكافِرينَ والظَّالِمينَ فيه بالعَذابِ، وجاءتْ كلُّ نَفسٍ معها سائِقٌ مِنَ الملائِكةِ يَسوقُها إلى اللهِ تعالى، وشَهيدٌ مِنَ الملائكةِ يَشهَدُ عليها بما عَمِلَته.
لقد كنتَ -أيُّها الإنسانُ- في غَفلةٍ مِن هذا اليَومِ، فأزَلْنا عنك الغِطاءَ، ورَفَعْنا عنك الحِجابَ يومَ القيامةِ؛ فظَهَرت لك حقائِقُ الآخِرةِ، فبَصَرُك يومَ القيامةِ حادٌّ قَويٌّ نافِذٌ.

تفسير الآيات:

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى خَلْقَ الخافِقَينِ -السَّماءِ والأرضِ-؛ أتْبَعَه خَلْقَ ما هو جامِعٌ لجميعِ ما هو فيهما .
وأيضًا بعد أن استدَلَّ على إمكانِ البعثِ بقولِه: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ [ق: 15] - أردف ذلك دليلًا آخَرَ على إمكانِه، وهو عِلمُه بما فى صدورِهم، وعدَمُ خَفاءِ شَىءٍ مِن أمرِهم عليه .
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ.
أي: ولقد خَلَقْنا كلَّ إنسانٍ ونحنُ نعلَمُ ما تُحدِّثُه به نفْسُه سِرًّا، فلا يخفَى علينا ما يَختَلِجُ في قَلْبِه .
قال تعالى: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه: 7].
وقال سُبحانَه: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر: 19] .
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ.
أي: ونحن أقرَبُ إليه مِن حَبلِ وَريدِه الَّذي في عُنُقِه .
كما قال تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ [الواقعة: 85] .
وقال سُبحانَه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة: 7] .
وعن أبي موسى الأشعريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((لَمَّا غَزا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَيبَرَ أشرَفَ النَّاسُ على وادٍ، فرَفَعوا أصواتَهم بالتَّكبيرِ: اللهُ أكبَرُ، اللهُ أكبَرُ، لا إلهَ إلَّا اللهُ، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ارْبَعوا على أنفُسِكم؛ إنَّكم لا تَدْعُونَ أصَمَّ، ولا غائِبًا، إنَّكم تَدْعُونَ سَميعًا قَريبًا، وهو معكم )) .
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا تَمَّ الإخبارُ مِنَ اللهِ تعالى بالخَلقِ والعِلمِ بخَطَراتِ الأنفُسِ، والقُربِ؛ أخبَرَ بذِكرِ الأحوالِ الَّتي تُصَدِّقُ هذا الخبَرَ، وتُعَيِّنُ وُرودَه عندَ السَّامعِ؛ فمِنها: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ، ومنها مجيءُ سَكرةِ الموتِ، ومنها: النَّفخُ في الصُّورِ، ومنها: مجيءُ كُلِّ نفْسٍ معها سائِقٌ وشَهيدٌ .
وأيضًا فإنَّه ذكَر سبحانَه أنَّه مع عِلمِه به وكَّل به مَلَكَينِ يَكتُبانِ ويَحفَظانِ عليه عمَلَه؛ إلزامًا للحُجَّةِ، فقال :
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17).
أي: نحن أقرَبُ إليه مِن حَبلِ الوَريدِ في الوَقتِ الَّذي يَتلَقَّى فيه المَلَكانِ جميعَ ما يَصدُرُ منه مِن أقوالٍ وأعمالٍ، فيُحصيانِها عليه: أحَدُهما ثابِتٌ عن يمينِه، والآخَرُ ثابتٌ عن شِمالِه، لا يُفارِقانِه .
مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18).
أي: ما يَتكلَّمُ الإنسانُ بقَولٍ إلَّا وعِندَه مَلَكٌ حافِظٌ يُراقِبُ كَلامَه لِيَكتُبَه، حاضِرٌ لا يُفارِقُه .
كما قال الله تبارك وتعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار: 10 - 12].
وعن عَلْقَمةَ بنِ وقَّاصٍ اللَّيثيِّ، عن بلالِ بنِ الحارِثِ المُزَنيِّ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ الرَّجُلَ لَيَتكَلَّمُ بالكَلِمةِ مِن رِضوانِ اللهِ عزَّ وجَلَّ ما يظُنُّ أنْ تَبلُغَ ما بَلَغَت، يَكتُبُ اللهُ عزَّ وجَلَّ له بها رِضوانَه إلى يومِ القيامةِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَتكَلَّمُ بالكَلِمةِ مِن سَخَطِ اللهِ عزَّ وجَلَّ ما يظُنُّ أن تَبلُغَ ما بلَغَت، يَكتُبُ اللهُ عزَّ وجَلَّ بها عليه سَخَطَه إلى يومِ القيامةِ !))، فكان عَلْقمةُ يقولُ: (كم مِن كَلامٍ قد مَنَعَنيه حديثُ بلالِ بنِ الحارِثِ!) .
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ إنكارَهم البَعثَ، واحتَجَّ عليهم بوصْفِ قُدرتِه وعِلمِه؛ أعلَمَهم أنَّ ما أنكَروه وجَحَدوه هم لاقوهُ عن قريبٍ عندَ مَوتِهم وعندَ قِيامِ السَّاعةِ .
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ.
أي: وجاءتْ شِدَّةُ الموتِ وغَمْرتُه الَّتي تَغشَى الإنسانَ، بما يكونُ بعدَ الموتِ مِن ثَوابٍ وعِقابٍ، وسَعادةٍ وشَقاوةٍ، فيَظهَرُ عندَ الموتِ صِدقُ ما أخبَرَتْ به الرُّسُلُ مِن ذلك .
عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حينَ حضَرَتْه الوَفاةُ جَعَل يُدخِلُ يَديه في الماءِ، فيَمسَحُ بهما وَجْهَه، يقولُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، إنَّ لِلْمَوتِ سَكَراتٍ )) .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ أحَدَكم إذا مات عُرِضَ عليه مَقعَدُه بالغَداةِ والعَشِيِّ؛ إنْ كان مِن أهلِ الجنَّةِ فمِن أهلِ الجَنَّةِ، وإنْ كان مِن أهلِ النَّارِ فمِن أهلِ النَّارِ، يُقال: هذا مَقعَدُك حتَّى يَبعَثَك اللهُ إليه يومَ القيامةِ )) .
ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ.
أي: ذلك الموتُ الَّذي جاءَتْك سَكْرتُه بالحَقِّ هو ما كُنتَ تَميلُ عنه وتَهرُبُ منه -أيُّها الإنسانُ- وقد أدركَك الآنَ !
كما قال الله تعالى: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ [الجمعة: 8] .
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20).
أي: ونَفَخ المَلَكُ في القَرنِ لِبَعثِ النَّاسِ يَومَ القيامةِ الَّذي توعَّد اللهُ الكافِرينَ والظَّالِمينَ فيه بالعَذابِ .
قال تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: 68] .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((جاء أعرابيٌّ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: ما الصُّورُ؟ قال: قَرْنٌ يُنفَخُ فيه )) .
وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21).
أي: وجاءت كلُّ نفْسٍ يومَ القيامةِ ومعها سائِقٌ مِنَ الملائِكةِ يَسوقُها إلى اللهِ تعالى، وشَهيدٌ مِنَ الملائكةِ يَشهَدُ عليها بما عَمِلَتْه في الدُّنيا .
كما قال تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم: 93 - 95] .
لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22).
لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا.
أي: لقد كنتَ -أيُّها الإنسانُ- في الدُّنيا في غَفلةٍ مِن هذا اليَومِ، فلمْ تستَعِدَّ له .
فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ.
أي: فأزَلْنا عنك الغِطاءَ، ورَفَعْنا عنك الحِجابَ يومَ القيامةِ؛ فظَهَرت لك حقائِقُ الآخِرةِ .
فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ.
أي: فبَصَرُك يومَ القيامةِ في غايةِ الحِدَّةِ والقُوَّةِ والنُّفوذِ، فتَرى به ما كُنتَ غافِلًا عنه في الدُّنيا .
كما قال الله تعالى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [مريم: 38] .
وقال سُبحانَه: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة: 12] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ [الأنبياء: 97] .

الفوائد التربوية:

1- قال الله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ في هذا زَجرٌ عن المعاصي الَّتي يَستَخفي الإنسانُ بها .
2- يُستفادُ مِن قَولِه تعالى: وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وُجوبُ مُراقبةِ اللهِ سُبحانَه وتعالى؛ وألَّا نُحَدِّثَ أنفُسَنا بما يُغضِبُه وبما يَكرَهُ؛ فعلينا أنْ يكونَ حديثُ نُفوسِنا كلُّه بما يُرضيه؛ لأنَّه يَعلمُ ذلك، أفَلا يَليقُ بنا أنْ نَستحيَ مِن ربِّنا عزَّ وجلَّ أنْ تُوسوِسَ نُفوسُنا بما لا يَرضاه؟! لكِنَّ الوَساوِسَ الَّتي تَطرَأُ على القَلبِ، ولا يَميلُ الإنسانُ إليها بل يُحارِبُها، ويُحاوِلُ البُعدَ عنها بقَدْرِ إمكانِه: لا تَضُرُّه شَيئًا، بل هي دَليلٌ على إيمانِه؛ لأنَّ الشَّيطانَ إنَّما يأتي إلى القَلبِ، فيُلقي عليه الوَساوِسَ إذا كان قَلبًا سَليمًا .
3- قَولُ اللهِ تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ فيه هَيبةٌ وفَزَعٌ وخَوفٌ لِقَومٍ، ورَوحٌ وسُكونٌ وأُنسُ قَلبٍ لِقَومٍ .
4- قَولُ اللهِ تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ هذا ممَّا يدعو الإنسانَ إلى مُراقَبةِ خالِقِه المُطَّلِعِ على ضَميرِه وباطِنِه، القَريبِ منه في جميعِ أحوالِه؛ فيَستَحي منه أن يَراه حيثُ نهاه، أو يَفقِدَه حيثُ أَمَره، وكذلك ينبغي له أن يَجعَلَ الملائِكةَ الكِرامَ الكاتِبينَ منه على بالٍ، فيُجِلَّهم ويُوَقِّرَهم، ويَحذَرَ أن يَفعَلَ أو يقولَ ما يُكتَبُ عنه مِمَّا لا يُرضي رَبَّ العالَمينَ؛ ولهذا قال: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ أي: يتَلَقَّيانِ عن العَبدِ أعمالَه كُلَّها .
5- قَولُ اللهِ تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ فيه إشارةٌ إلى أنَّ المُكَلَّفَ غَيرُ مَتروكٍ سُدًى .
6- قَولُه تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ في اللِّسانِ آفَتانِ عَظيمتانِ إنْ خَلَص العبدُ مِن إحداهما لم يَخلُصْ مِنَ الأُخرى: آفةُ الكلامِ، وآفةُ السُّكوتِ، وقد يكونُ كُلٌّ منهما أعظَمَ إثمًا مِنَ الأخرى في وَقتِها؛ فالسَّاكِتُ عن الحَقِّ شَيطانٌ أخرَسُ، عاصٍ للهِ، مُراءٍ مُداهِنٌ، إذا لم يَخَفْ على نَفْسِه، والمتكَلِّمُ بالباطِلِ شَيطانٌ ناطِقٌ، عاصٍ للهِ، وأكثَرُ الخَلقِ مُنحَرِفٌ في كَلامِه وسُكوتِه، فهُم بيْنَ هذَينِ النَّوعَينِ، وأهلُ الوَسَطِ -وهم أهلُ الصِّراطِ المُستقيمِ- كَفُّوا ألسِنتَهم عن الباطِلِ، وأطلَقوها فيما يَعودُ عليهم نَفْعُه في الآخِرةِ .
7- في قَولِه تعالى: ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ التَّحذيرُ مِن التَّهاوُنِ بالأعمالِ الصَّالحةِ، والتَّكاسُلِ عن التَّوبةِ؛ وأنَّ الإنسانَ يجبُ أن يُبادِرَ؛ لأنَّه لا يدري متى يأتيه الموتُ .
8- قَولُ اللهِ تعالى: وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ يدُلُّ على اعتناءِ اللهِ بالعِبادِ، وحِفظِه لأعمالِهم، ومُجازاتِه لهم بالعَدلِ، فهذا الأمرُ مِمَّا يَجِبُ أن يَجعَلَه العبدُ منه على بالٍ، ولكِنَّ أكثَرَ النَّاسِ غافِلونَ !

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ فائِدةُ الإخبارِ بأنَّ اللهَ يَعلَمُ ما تُوسوِسُ به نفْسُ كُلِّ إنسانٍ: التَّنبيهُ على سَعةِ عِلمِ اللهِ تعالى بأحوالِهم كُلِّها، فإذا كان يَعلَمُ حَديثَ النَّفْسِ فلا عَجَبَ أن يَعلَمَ ما تَنقُصُ الأرضُ منهم .
2- مَن أنكَرَ عِلمَ اللهِ تعالى فهو كافِرٌ، سَواءٌ أنكَرَه فيما يَتعلَّقُ بفِعْلِه، أو فيما يتعلَّقُ بخَلْقِه؛ فلو قال: إنَّ اللهَ تعالى لا يَعلَمُ ما يَفعَلُه العبدُ فهو كافِرٌ، كما لو قال: إنَّ اللهَ لا يَعلَمُ ما يَفعَلُه بنَفْسِه؛ ولهذا كفَّر أهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ غُلاةَ القَدَريَّةِ الَّذين قالوا: إنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى لا يَعلَمُ أفعالَ العبادِ؛ فالَّذي يُنكِرُ عِلمَ اللهِ بأفعالِ العِبادِ لا شَكَّ أنَّه كافِرٌ؛ لأنَّ اللهَ تعالى يَقولُ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، ويَقولُ سُبحانَه وتعالى: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف: 80] .
3- النَّفْسُ لها وَسوَسةٌ، كما قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ؛ فهذا تُوسوِسُ به نَفْسُه لِنَفْسِه، فالَّذي يُوسوِسُ في صُدورِ النَّاسِ نُفوسُهم، وشَياطينُ الجِنِّ وشَياطينُ الإنسِ .
4- قال الله تعالى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ لم يَقُلْ: على اليَمينِ وعلى الشِّمالِ؛ لأنَّهما ليسا على كَتِفَيه، بل هما في مَكانٍ قَريبٍ أقرَبَ مِن حَبلِ الوَريدِ .
5- قولُه تعالى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ أي: يتَلَقَّى المُتلَقِّيانِ جميعَ ما يَصْدُرُ عن الإنسانِ، فيَكْتُبانِه عليه ، ويُؤخَذُ منه أنَّ لكُلِّ إنسانٍ ملَكَينِ يُحصِيانِ أعمالَه، وأنَّ أحدَهما يكونُ من جِهةِ يَمينِه، والآخَرَ من جِهةِ شِمالِه .
6- في قَولِه تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ أنَّ الملَكينِ يَكتُبانِ جميعَ أقوالِ العَبدِ؛ فإنَّه قال: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ نَكِرةٌ في سياقِ النَّفيِ مُؤكَّدةٌ بحَرفِ «مِن»؛ فهذا يَعُمُّ كُلَّ قَولِه ، قال بَعضُهم: يُكتَبُ عليه كُلُّ شَيءٍ حتَّى الأنينُ في المَرَضِ، وهذا هو ظاهِرُ قَولِه: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ، وهذا هو ظاهِرُ الآيةِ؛ لأنَّ قَولَه: مِنْ قَوْلٍ نَصٌّ صَريحٌ في العُمومِ ، فظاهِرُ الآيةِ الكريمةِ أنَّ القَولَ مهما كان يُكتَبُ، سواءٌ كان خيرًا أم شَرًّا أم لَغوًا يُكتَبُ، لكِنْ يُحاسَبُ على ما كان خَيرًا أو شرًّا، ولا يَلزَمُ مِن الكتابةِ أنْ يُحاسَبَ الإنسانُ عليها .
7- في قَولِه تعالى: رَقِيبٌ حُجَّةٌ في تَسميةِ المخلوقينَ ووصفِهم باسمِ الخالِقِ ووصفِه ، وذلك فيما كان له معنًى كُلِّيٌّ تتفاوتُ فيه أفرادٌ مِنَ الأسماءِ والصِّفاتِ -كالمَلِكِ، والعَزيزِ، والجَبَّارِ- فيَجوزُ تَسميةُ غَيرِ الله بها؛ فقد سَمَّى اللهُ نَفْسَه بهذه الأسماءِ، وسَمَّى بَعضَ عِبادِه بها، أمَّا ما كان مِن أسمائِه لا يقبل الشَّرِكةَ -كالخالِقِ والبارئِ- فلا تجوزُ التَّسميةُ به .
8- الرَّقيبُ هو العَتيدُ وليس غيرَه؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: رَقِيبٌ عَتِيدٌ، ولم يَقُلْ سُبحانَه: رَقيبٌ وعَتيدٌ !
9- في قَولِه تعالى: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ أنَّ الموتَ له سَكَراتٌ، وله شِدَّةٌ .
10- في قَولِه تعالى: ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ سُؤالٌ: أنَّ يومَ القيامةِ يومُ الوَعيدِ للكُفَّارِ، ويَومُ الوَعدِ للمُؤمِنينَ؛ فلماذا ذَكَرَ اللهُ تعالى هنا الوَعيدَ دونَ الوَعدِ؟
الجوابُ: لأنَّ السُّورةَ كلَّها مَبدوءةٌ بتَكذيبِ المكذِّبينَ للرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ فناسَبَ أنْ يُغَلَّبَ فيها جانبُ الوَعيدِ؛ قال تعالى: ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ إلخ؛ فكان مِن الحِكمةِ أنْ يُذْكَرَ الوَعيدُ دونَ الوَعدِ، ومع ذلك فقد ذَكَرَ اللهُ تعالى أصحابَ الجنَّةِ فيما بعدُ؛ لأنَّ القُرآنَ مَثانٍ .
11- في قَولِه تعالى: فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ أنَّ النَّفْسَ إذا تَمَّ تَجَرُّدُها بالموتِ مِن تَعَلُّقِها بالبَدَنِ، رأتْ ما لم تكُنْ تَراه !

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ هذا تَفصيلٌ لبعضِ الخَلْقِ الأوَّلِ بذِكرِ خَلْقِ الإنسانِ، وهو أهمُّ في هذا المَقامِ؛ للتَّنبيهِ على أنَّه المُرادُ من الخلْقِ الأوَّلِ، ولِيُبنى عليه وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ الَّذي هو تَتميمٌ لإحاطةِ صِفةِ العِلمِ في قَولِه: قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ [ق: 4] ، وليُنتَقَلَ منه إلى الإنذارِ بإحصاءِ أعمالِ النَّاسِ عليها، وهو ما استُرْسِلَ في وَصْفِه مِن قولِه: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ [ق: 17] إلخ .
- قولُه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ تأكيدُ هذا الخبَرِ باللَّامِ و(قدْ) مُراعًى فيه المُتعاطِفاتُ، وهي (نَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ)؛ لأنَّهم وإنْ كانوا يعلَمون أنَّ اللهَ خلَقَ النَّاسَ؛ فإنَّهم لا يَعلَمون أنَّ اللهَ عالمٌ بأحوالِهم .
- والإنسانُ يَعُمُّ جميعَ النَّاسِ، ولكنَّ المَقصودَ منهم أوَّلًا المشرِكون؛ لأنَّهم المَسوقُ إليهم هذا الخبَرُ، وهو تَعريضٌ بالإنذارِ، كما يدُلُّ عليه قولُه بعْدَه: ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق: 19] ، وقولُه: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا [ق: 22] ، وقولُه: ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ [ق: 20] . وذلك على قولٍ.
- قولُه: وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ الباءُ في قَولِه: بِهِ صِلةٌ؛ لتأكيدِ اللُّصوقِ .
- والإخبارُ عن فِعلِ الخَلْقِ بصِيغةِ المُضيِّ خَلَقْنَا ظاهرٌ، وأمَّا الإخبارُ عن عِلمِ ما تُوسوِسُ به النَّفْسُ بصِيغةِ المُضارِعِ؛ فلِلدَّلالةِ على أنَّ تَعلُّقَ عِلمِه تعالى بالوَسوسةِ مُتجدِّدٌ، غيرُ مُنقَضٍ ولا مَحدودٍ؛ لإثباتِ عُمومِ عِلمِ اللهِ تعالى، والكِنايةِ عن التَّحذيرِ مِن إضمارِ ما لا يُرضي اللهَ .
- قولُه: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ في مَوضِعِ الحالِ من ضَميرِ وَنَعْلَمُ، والمَقصودُ منها تأكيدُ عاملِها، وتحقيقُ استِمرارِ العِلمِ بباطنِ الإنسانِ، والقُربُ هنا قيل: هو كِنايةٌ على إحاطةِ العِلمِ بالحالِ؛ لأنَّ القُربَ يَستلزِمُ الاطِّلاعَ، ومِن لَطائِفِ هذا التَّمثيلِ أنَّ حبْلَ الوريدِ مع قُربِه لا يَشعُرُ الإنسانُ بقُربِه؛ لِخَفائِه، وكذلك قُرْبُ اللهِ مِن الإنسانِ بعِلمِه -أو قُربُ ملائكتِه- قُربٌ لا يَشعُرُ به الإنسانُ؛ فلذلك اختِيرَ تَمثيلُ هذا القُربِ بقُربِ حبْلِ الوريدِ، وبذلك فاقَ هذا التَّشبيهُ لحالةِ القُربِ كُلَّ تَشبيهٍ مِن نَوعِه ورَدَ في كلامِ البُلغاءِ .
- وإضافةُ الحَبْلِ إلى الوريدِ: إمَّا للبَيانِ، كقولِهم: بعيرُ سانيةٍ ، وشَجَرُ الأراكِ. وإمَّا أنْ يُرادَ حبلُ العاتِقِ، فيُضافَ إلى الوَريدِ كما يُضافُ إلى العاتقِ؛ لاجتِماعِهما في عضْوٍ واحدٍ .
2- قولُه تعالَى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ هذا الكلامُ تَخلُّصٌ للمَوعظةِ والتَّهديدِ بالجزاءِ يومَ البعثِ والجزاءِ مِن إحصاءِ الأعمالِ خَيرِها وشَرِّها المعلومةِ مِن آياتٍ كثيرةٍ في القرآنِ. وهذا التَّخلُّصُ بكلمةِ (إذ) الدَّالَّةِ على الزَّمانِ مِن ألطَفِ التَّخلُّصِ .
- قولُه: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ مُقدَّرٌ بـ (اذكُرْ)، أو مُتعلِّقٌ بـ أَقْرَبُ [ق: 16] ، أي: هو أعلَمُ بحالِه مِن كلِّ قريبٍ حينَ يَتلقَّى -وذلك على قولٍ- أي: يَتلقَّنُ الحَفيظانِ ما يَتلفَّظُ به، وفيه إيذانٌ بأنَّه سُبحانَه غنيٌّ عن استِحفاظِ الملَكَينِ؛ فإنَّه أعلَمُ مِن الملَكَينِ، ومُطَّلِعٌ على ما يَخفَى عليهما، لكنَّه لِحِكمةٍ اقتَضَتْه، وهي ما فيه مِن تَشديدٍ يُثبِّطُ العَبدَ عن المعصيةِ، وتأكيدٍ في اعتِبارِ الأعمالِ وضَبطِها للجزاءِ، وإلزامٍ للحُجَّةِ يومَ يَقومُ الأَشهادُ .
- ومفعولُ التَّلَقِّي في الفعلِ الَّذي هو يَتَلَقَّى، والوصْفُ الَّذي هو الْمُتَلَقِّيَانِ مَحْذوفٌ، تَقديرُه: إذْ يتَلَقَّى المُتلَقِّيانِ جميعَ ما يَصْدُرُ عن الإنسانِ فيَكْتُبانِه عليه . وقيل: حُذِف مَفعولُ يَتَلَقَّى؛ لدَلالةِ قَولِه: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ، والتَّقديرُ: إذ تُحصى أقوالُهم وأعمالُهم .
- وتعريفُ الْمُتَلَقِّيَانِ تعريفُ العهدِ إذا كانتِ الآيةُ نزَلَت بعدَ آياتٍ ذُكِرَ فيها الحفَظةُ، أو تَعريفُ الجِنسِ، والتَّثنيةُ فيها للإشارةِ إلى أنَّ هذا الجِنسَ مُقسَّمٌ اثنَينِ اثنينِ .
- والتَّعريفُ في اليمينِ والشِّمالِ تَعريفُ العهدِ، أو اللَّامُ عِوَضٌ عن المُضافِ إليه، أي: عن يمينِ الإنسانِ وعن شِمالِه .
- ويَجوزُ أنْ يكونَ قولُه: قَعِيدٌ بدَلًا مِن الْمُتَلَقِّيَانِ بدَلَ بعضٍ، ويكونَ عَنِ الْيَمِينِ مُتعلِّقًا بـ قَعِيدٌ، وقُدِّمَ على مُتعلَّقِه؛ للاهتِمامِ بما دلَّ عليه مِن الإحاطةِ، وللرِّعايةِ على الفاصِلةِ. ويجوزُ أنْ يكونَ عَنِ الْيَمِينِ خبَرًا مُقدَّمًا، وقَعِيدٌ مُبتدأً، وتكونَ الجُملةُ بيانًا لِجُملةِ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ .
- وقالَ قَعِيدٌ ولم يقُلْ: قَعيدانِ -إذ إنَّه وصْفٌ للملَكَينِ المذكورَين-؛ لأنَّ معناه عن اليَمينِ قَعيدٌ، وعن الشِّمالِ قَعيدٌ، لكنَّه حُذِفَ أحدُهما لدَلالةِ المَذكورِ عليه، أو أنَّ (فَعيلًا) يَستوي فيه الواحدُ والاثنانِ والجمعُ، وقيل: معناه: مُقاعِدٌ، كما تقولُ: جليسٌ وخليطٌ، أي: مُجالِسٌ ومُخالِطٌ، فيَكونُ عُدِلَ مِن فاعلٍ إلى فَعيلٍ للمُبالَغةِ، كـ (عليمٍ) ، أو أنه قال ذلك رعايةً للفواصِلِ .
- وجُملةُ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ مُبيِّنةٌ لجُملةِ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ؛ فلذلك فُصِلَت .
- و(مِن) في قَولِه: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ صِلةٌ في مَفعولِ الفعلِ المنْفيِّ؛ للتَّنْصيصِ على الاستِغراقِ .
- قولُه: إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ استِثناءٌ مِن أحوالٍ عامَّةٍ، أي: ما يقولُ قولًا في حالةٍ إلَّا في حالةِ وُجودِ رَقيبٍ عتيدٍ لَدَيه، وإنَّما خُصَّ القولُ بالذِّكرِ؛ لأنَّ مِن الأقوالِ السَّيِّئةِ ما لَه أثرٌ شديدٌ في الإضلالِ، كالدُّعاءِ إلى عِبادةِ الأصنامِ، ونهْيِ النَّاسِ عن اتِّباعِ الحقِّ، وتَرويجِ الباطلِ بإلقاءِ الشُّبَهِ، وتَغريرِ الأغرارِ، ونحوِ ذلك، على أنَّه مِن المعلومِ بدَلالةِ الاقتِضاءِ أنَّ المُؤاخَذةَ على الأعمالِ أَوْلى مِن المُؤاخَذةِ على الأقوالِ، وتلك الدَّلالةُ كافيةٌ في تَذْكيرِ المؤمنينَ، وقيل غيرُ ذلك .
3- قولُه تعالَى: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ كلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لبَيانِ ما يُلاقونه مِن الموتِ والبَعثِ، وما يَترتَّبُ عليهما مِن الأهوالِ . أو هو عطْفٌ على جُملةِ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] ؛ لاشتِراكِهما في التَّنبيهِ على الجَزاءِ على الأعمالِ؛ فهذا تَنقُّلٌ في مَراحلِ الأُمورِ العارضةِ للإنسانِ الَّتي تُسلِّمُه مِن حالٍ إلى آخَرَ، حتَّى يقَعَ في الجزاءِ على أعمالِه الَّتي قدْ أحْصاها الحَفيظانِ .
- وعُبِّرَ بصِيغةِ الماضي (جاءتْ)؛ إيذانًا بتَحقيقِ ذلك، وغايةِ اقترابِه، وأنَّه لقُربِه صار بمَنزِلةِ ما حصَلَ؛ قَصدًا لإدخالِ الرَّوعِ في نُفوسِ المشركين .
- وفي التَّعبيرِ عن الحُصولِ والاعتراءِ بالمَجيءِ تَهْويلٌ لحالةِ احتِضارِ الإنسانِ، وشُعورِه بأنَّه مُفارِقٌ الحياةَ الَّتي ألِفَها، وتعلَّقَ بها قلبُه .
- وقولُه: ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ إشارةٌ إلى الموتِ بتَنْزيلِ قُربِ حُصولِه مَنزِلةَ الحاصِلِ المُشاهَدِ، والخِطابُ فيها للإنسانِ المَذكورِ في قَولِه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ على طَريقِ الالْتفاتِ، أو إشارةٌ إلى الحقِّ، والخِطابُ للفاجرِ .
- وتَقديمُ مِنْهُ على تَحِيدُ؛ للاهتِمامِ بما منه الحِيادُ، وللرِّعايةِ على الفاصِلةِ .
- وتَحِيدُ تَفِرُّ وتَهرُبُ، وهو مُعبَّرٌ به عن الكراهيةِ، أو تجنُّبِ أسبابِ الموتِ، والخِطابُ المقصودُ الأوَّلُ منه هم المُشرِكون؛ لأنَّهم أشدُّ كراهيةً للمَوتِ؛ لأنَّ حَياتَهم مادِّيَّةٌ مَحضةٌ، فهم يُريدونَ طُولَ الحياةِ؛ إذ لا أمَلَ لهم في حياةٍ أُخرى، ولا أملَ لهم في تَحصيلِ نَعيمِها، فأمَّا المؤمنون فإنَّ كراهتَهم للمَوتِ المُرتكِزةَ في الجِبِلَّةِ بمِقدارِ الإلْفِ لا تبلُغُ بهم إلى حدِّ الجزَعِ منه .
4- قولُه تعالَى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ
- صِيغةُ المُضيِّ وَنُفِخَ مُستعمَلةٌ في مَعنى المضارعِ، أي: يُنفَخُ في الصُّورِ؛ وإنَّما صِيغَ له المُضيُّ لتَحقُّقِ وُقوعِه .
- والإخبارُ عن النَّفخِ بأنَّه يَوْمُ الْوَعِيدِ بتَقديرِ مُضافٍ، أي: ذلك حُلولُ يومِ الوعيدِ. وإضافةُ يَوْمُ إلى الْوَعِيدِ مِن إضافةِ الشَّيءِ إلى ما يقَعُ فيه، أي: يومَ حُصولِ الوعيدِ الَّذي كانوا تُوُعِّدوا به، والاقتِصارُ على ذِكرِ الوعيدِ؛ لأنَّ المقصودَ الأوَّلَ مِن هذه الآيةِ هم المشرِكون. وفي الكلامِ اكتفاءٌ ، تَقديرُه: ويومُ الوعْدِ .
5- قولُه تعالَى: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ مَقولُ قَولٍ محذوفٍ دلَّ عليه تَعيُّنُه مِن الخِطابِ، أي: يُقالُ هذا الكلامُ لكلِّ نفْسٍ مِن نُفوسِ المشركين، فهو خِطابُ التَّهكُّمِ التَّوبيخيِّ للنَّفْسِ الكافرةِ؛ لأنَّ المؤمنَ لم يكُنْ في غَفلةٍ عن الحَشرِ والجَزاءِ. أو الخِطابُ لكُلِّ إنسانٍ، والخِطابُ للكُلِّ بذلك؛ لِمَا أنَّه ما مِن أحدٍ إلَّا وله غَفْلةٌ ما مِن الآخرةِ .
- وعَلاماتُ الخِطابِ في كَلماتِ كُنْتَ عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ مَفتوحةٌ؛ لتَأويلِ النَّفْسِ بالشَّخصِ أو بالإنسانِ، ثمَّ غُلِّبَ فيه التَّذكيرُ على التَّأنيثِ .
- قولُه: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ ... الغَفْلةُ: الذُّهولُ عمَّا شَأنُه أنْ يُعلَمَ، وأُطلِقَت هنا على الإنكارِ والجَحدِ على سَبيلِ التهكُّمِ -على قولٍ في التَّفسيرِ- ورَشَّحَ ذلك قولُه: فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ، بمعنى: بيَّنَّا لك الدَّليلَ بالحِسِّ، فهو أيضًا تهكُّمٌ .
- وأُوثِرَ قولُه: فِي غَفْلَةٍ على أنْ يُقالَ: (غَافلًا)؛ للدَّلالةِ على تمكُّنِ الغَفْلةِ منه .
- وقال: فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا ولم يَقُلْ: «عنه» كما قال: وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ [هود: 110] ، ولم يَقُلْ: «في شَكٍّ فيه»، وجاء هذا في المصدَرِ وإنْ لم يَجِئْ في الفِعلِ؛ فلا يُقالُ: «غَفَلْتُ منه»، ولا «شَكَكْتُ منه»، كأنَّ غَفلتَه وشَكَّه ابتِداءٌ منه، فهو مَبدَأُ غفلتِه وشَكِّه، وهذا أبلَغُ مِن أنْ يُقالَ: «في غفلةٍ عنه» و «شَكٍّ فيه»؛ فإنَّه جَعَلَ ما يَنبغي أنْ يكونَ مَبدأَ التَّذكِرةِ واليَقينِ ومَنشأَهما مَبدأً للغَفلةِ والشَّكِّ !
- وكَشفُ الغِطاءِ كِنايةٌ عن الغَفْلةِ، كأنَّها غطَّتْ جميعَه أو عينَيه فهو لا يُبصِرُ، فإذا كانتِ القِيامةُ زالَتْ عنه الغَفْلةُ فتكشَّفَتْ له الحقائقُ، وانجلَى عنه الرَّينُ الَّذي كان مَسدولًا أمامَه، فأبصَرَ ما لم يكُنْ يُبصِرُه في حياتِه .
- وأُسنِدَ الكَشفُ إلى اللهِ تعالى؛ لأنَّه الَّذي أظهَرَ لها أسبابَ حُصولِ اليَقينِ بشَواهِدِ عَينِ اليقينِ .
- وأُضيفَ (غِطاء) إلى ضَميرِ الإنسانِ المُخاطَبِ؛ للدَّلالةِ على اختِصاصِه به، وأنَّه ممَّا يُعرَفُ به .
- قولُه: فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ حِدَّةُ البصَرِ: قُوَّةُ نفاذِه في المَرْئيِّ، وحِدَّةُ كلِّ شيءٍ قُوَّةُ مَفعولِه، ومنه حِدَّةُ الذِّهنِ، والكلامُ يَتضمَّنُ تَشْبيهَ حُصولِ اليقينِ برُؤيةِ المَرئيِّ ببَصَرٍ قويٍّ. وتَقييدُه بقولِه: الْيَوْمَ تَعريضٌ بالتَّوبيخِ، أي: ليس حالُك اليَومَ كحالِكَ قبْلَ اليومِ؛ إذْ كنتَ في الدُّنيا مُنكِرًا للبَعثِ . وذلك على القولِ بأنَّ المرادَ به الكافرُ.