موسوعة التفسير

سورة الزمر
الآيات (67-70)

ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ

غريب الكلمات:

وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ: أي: ومَا عظَّموا الله حقَّ عظمتِه، ولا وصَفوه بصِفَتِه الَّتي تَنْبَغي له تعالَى، ولا نزَّهوه عمَّا لا يليقُ به، وأصلُ (قدر): يدُلُّ على مَبْلَغِ الشَّيءِ وكُنْهِه ونِهايتِه .
قَبْضَتُهُ: أي: مَقْبوضةٌ له، والقَبْضُ: تَناولُ الشَّيءِ بجَميعِ الكَفِّ، وأصلُ (قبض): يَدُلُّ على شَيءٍ مأْخوذٍ وتَجَمُّعٍ في شَيءٍ .
مَطْوِيَّاتٌ: مِن الطَّيِّ الذي هو ضِدُّ النَّشرِ، وأصل (طوي): يدُلُّ على إدراجِ شَيءٍ حتَّى يُدرَجَ بعْضُه في بعضٍ .
الصُّورِ: أي: القَرْنِ الذي يَنفُخُ فيه إسرافيلُ .
فَصَعِقَ: أي: مات، وأصلُ (صعق): يدُلُّ على شَدَّةِ صَوتٍ .
وَأَشْرَقَتِ: أي: أضاءتْ، يُقالُ: شَرَقَت الشَّمسُ؛ إذا طَلَعت، وأشْرَقَت؛ إذا أضاءتْ، وأصلُ (شرق): يدُلُّ على إضاءةٍ وفتْحٍ .
وَوُفِّيَتْ: أي: جُوزِيَتْ مُكَمَّلًا، والتَّوفيةُ: إعطاءُ الشَّيءِ وقَضاؤُه وافيًا لا نَقْصَ فيه، وأصلُ (وفي): يدُلُّ على إكمالٍ وإتمامٍ .

المعنى الإجمالي:

يُبيِّنُ اللهُ تعالَى وَحْدانيَّتَه، وعظَمتَه، وكَمالَ قُدرتِه، وما عليه المشركونَ مِن جَهالةٍ، فيقولُ: وما عَظَّم المُشرِكونَ اللهَ سُبحانَه حَقَّ تَعظيمِه؛ حيثُ عَبَدوا معه غَيرَه، والحالُ أنَّ الأرضَ كُلَّها في قَبضتِه، يَقبِضُها سُبحانَه يومَ القِيامةِ، والسَّمَواتِ السَّبعَ كُلَّها يَطْويها اللهُ تعالَى بيَدِه اليُمنى، تَنزَّه اللهُ وعَلا عُلُوًّا عَظيمًا عن شِركِ أولئك المُشرِكينَ.
ثمَّ يُبيِّنُ اللهُ سُبحانَه بعضَ مَشاهدِ يومِ القِيامةِ، فيقولُ: ونُفِخَ في البُوقِ يومَ القِيامةِ نَفخةٌ، فصَعِقَ بها أهلُ السَّمَواتِ وأهلُ الأرضِ إلَّا مَن شاء اللهُ، ثمَّ نُفِخَ فيه نَفخةٌ ثانيةٌ فإذا الذين صَعِقوا قِيامٌ يَنظُرونَ، وأضاءتْ أرضُ المَحشَرِ بنُورِ رَبِّها إذا تَجلَّى لِفَصلِ القَضاءِ بيْنَ عِبادِه، ووُضِعَت كُتُبُ أعمالِ العبادِ لِمُحاسبتِهم ومُجازاتِهم، وجِيءَ بالنَّبيِّين وبالذين يَشهَدونَ على النَّاسِ بأعمالِهم، وحَكَم اللهُ بيْنَ العِبادِ يومَ القِيامةِ بالعَدلِ التَّامِّ، ولا يَظلِمُهم رَبُّهم شَيئًا، ووَفَّى اللهُ كُلَّ نَفسٍ جَزاءَ عَمَلِها مِن خيْرٍ أو شَرٍّ، واللهُ أعلَمُ بما يَفعَلُ عِبادُه في الدُّنيا.

تفسير الآيات:

وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا حكَى سُبحانَه عن المُشرِكينَ أنَّهم أمَروا الرَّسولَ بعِبادةِ الأصنامِ، ثمَّ إنَّه تعالَى أقام الدَّلائِلَ على فَسادِ قَولِهم، وأمَرَ الرَّسولَ بأنْ يَعبُدَ اللهَ ولا يَعبُدَ شَيئًا آخَرَ سِواه؛ بَيَّن أنَّهم لو عَرَفوا اللهَ حَقَّ مَعرفتِه لَما جَعَلوا هذه الأشياءَ الخَسيسةَ مُشارِكةً له المَعبوديَّةَ، فقال :
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.
أي: وما عظَّم المُشرِكونَ اللهَ كما يَنْبغي له؛ حيثُ عَبَدوا معه غَيرَه، ولم يَصِفُوه بصِفَتِه الَّتي تَنْبَغي له تعالَى .
وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
مناسبتها لما قبلها:
لَمَّا بَيَّن تعالَى أنَّهم ما عَظَّموه تَعظيمًا لائِقًا به، أردَفَه بما يدُلُّ على كَمالِ عَظَمتِه، ونِهايةِ جَلالتِه .
وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
أي: ما قَدَروا اللهَ حَقَّ قَدْرِه، والحالُ أنَّ الأرضَ كُلَّها في قَبضتِه، يَقبِضُها بيَدِه يومَ القِيامةِ .
عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما، عن رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((إنَّ اللهَ يَقبِضُ يومَ القِيامةِ الأرضَ، وتكونُ السَّمَواتُ بيَمينِه، ثمَّ يقولُ: أنا المَلِكُ !)) .
وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ.
أي: والسَّمَواتُ السَّبعُ كُلُّها يَطويها اللهُ بيَدِه اليُمنى .
كما قال تعالَى: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء: 104] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يَقبِضُ اللهُ الأرضَ، ويَطوي السَّمَواتِ بيَمينِه، ثمَّ يَقولُ: أنا المَلِكُ، أين مُلوكُ الأرضِ؟!)) .
وعن مُجاهِدٍ قال: قال ابنُ عبَّاسٍ: ((أتْدري ما سَعةُ جَهنَّمَ؟ قُلتُ: لا، قال: أجَلْ، واللهِ ما تَدري! حدَّثَتْني عائِشةُ أنَّها سَألَت رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن قَولِه: وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، قالت: قُلتُ: فأين النَّاسُ يَومَئذٍ يا رَسولِ اللهِ؟ قال: على جِسرِ جَهنَّمَ)) .
وعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((جاء حَبْرٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا محمَّدُ -أو يا أبا القاسِمِ- إنَّ اللهَ تعالى يُمسِكُ السَّمَواتِ يومَ القِيامةِ على إصْبَعٍ، والأَرَضينَ على إصْبَعٍ، والجِبالَ والشَّجَرَ على إصْبَعٍ، والماءَ والثَّرَى على إصْبَعٍ، وسائِرَ الخَلقِ على إصْبَعٍ، ثمَّ يَهُزُّهنَّ، فيَقولُ: أنا المَلِكُ، أنا المَلِكُ! فضَحِكَ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَعجُّبًا ممَّا قال الحَبرُ؛ تصديقًا له، ثمَّ قرأ: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)) .
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ.
أي: تَنزَّه اللهُ وعَلا عن شِركِ المُشرِكينَ عُلُوًّا عَظيمًا .
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا خَوَّفَهم تعالَى مِن عَظَمتِه؛ خَوَّفهم بأحوالِ يومِ القِيامةِ، ورَغَّبَهم ورَهَّبَهم .
وأيضًا لَمَّا قَدَّرَ كَمالَ عَظَمتِه بما سَبَق ذِكرُه؛ أردَفَه بذِكرِ طَريقةٍ أُخرَى تدُلُّ أيضًا على كَمالِ قُدرتِه وعَظَمتِه، وذلك بشَرحِ مُقَدِّماتِ يومِ القِيامةِ؛ لأنَّ نَفْخَ الصُّورِ يكونُ قبْل ذلك اليَومِ، فقال :
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ.
أي: ويُنفَخُ في البُوقِ العَظيمِ يومَ القِيامةِ نَفخةٌ يَموتُ بها أهلُ السَّمَواتِ وأهلُ الأرضِ إلَّا مَن استَثناه اللهُ منهم .
عن أبي هُرَيرةَ رَضِي اللهُ عنه، قال: ((استَبَّ رَجُلانِ: رجُلٌ مِن المُسلِمينَ، ورجُلٌ مِن اليَهودِ؛ قال المُسلِمُ: والذي اصْطفَى محمَّدًا على العالَمينَ، فقال اليهوديُّ: والذي اصْطفَى موسَى على العالَمينَ، فرَفَع المُسلِمُ يَدَه عِندَ ذلك فلَطَم وَجْهَ اليَهوديِّ، فذهَبَ اليَهوديُّ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأخبَرَه بما كان مِن أمْرِه وأمْرِ المُسلِمِ، فدعا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المُسلِمَ، فسَألَه عن ذلك، فأخبَرَه، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا تُخَيِّروني على مُوسى؛ فإنَّ النَّاسَ يَصعَقونَ يومَ القِيامةِ فأَصعَقُ معهم، فأكونُ أوَّلَ مَن يُفيقُ، فإذا مُوسى باطِشٌ جانِبَ العَرشِ! فلا أدْري أكان فيمَن صَعِقَ فأفاقَ قَبْلي، أو كان ممَّن استَثنى اللهُ !)) .
ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ.
أي: ثمَّ يُنفَخُ في البُوقِ نَفخةٌ ثانيةٌ ، فإذا الذين صَعِقوا قدْ قاموا يَنظُرونَ .
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69).
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا.
أي: وأضاءت أرضُ المحشَرِ بنُورِ رَبِّها إذا تجلَّى لِفَصلِ القَضاءِ بيْنَ عِبادِه .
كما قال تعالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ [البقرة: 210] .
وقال سُبحانَه: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] .
وعن سَهلِ بنِ سَعدٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يُحشَرُ النَّاسُ يومَ القِيامةِ على أرضٍ بَيضاءَ عَفراءَ ، كقُرصةِ النَّقِيِّ ، ليس فيها عَلَمٌ لأحَدٍ)) .
وعن أبي مُوسى الأشعريِّ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ لا يَنامُ، ولا يَنْبغي له أن يَنامَ، يَخفِضُ القِسطَ ويَرفَعُه، يُرفَعُ إليه عَمَلُ اللَّيلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهارِ، وعَمَلُ النَّهارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيلِ، حِجابُه النُّورُ، لو كشَفَه لَأحْرَقَت سُبُحاتُ وَجْهِه ما انتهَى إليه بَصَرُه مِن خَلْقِه )) .
وعن عَبدِ اللهِ بنِ شَقيقٍ، قال: قُلتُ لأبي ذَرٍّ: لو رأيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَسَألتُه. فقال: عن أيِّ شَيءٍ كُنتَ تَسألُه؟ قال: كنتُ أسألُه: هلْ رأيتَ رَبَّك؟ قال أبو ذَرٍّ: قدْ سألتُ، فقال: ((رأيتُ نُورًا)) .
وَوُضِعَ الْكِتَابُ.
أي: وأُحضِرَت كُتُبُ أعْمالِ العِبادِ يومَ القِيامةِ، ووُضِعَتْ لِمُحاسبتِهم ومُجازاتِهم بما فيها مِن خَيرٍ أو شَرٍّ .
كما قال تعالَى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء: 13، 14].
وقال سُبحانَه: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49].
وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ.
أي: وجِيءَ بالنَّبِيِّينَ لِيَسألَهم رَبُّهم عمَّا أجابتَهْم به أُمَمُهم، وجِيءَ بالَّذين يَشهَدونَ على النَّاسِ بأعْمالِهم .
كما قال تعالَى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143] .
وقال سُبحانَه: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [النساء: 41] .
وعن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يُجاءُ بنُوحٍ يومَ القِيامةِ، فيُقالُ له: هل بلَّغْتَ؟ فيقولُ: نعَمْ يا رَبِّ، فتُسألُ أمَّتُه: هلْ بلَّغَكم؟ فيقولونَ: ما جاءَنا مِن نَذيرٍ! فيقولُ: مَن شُهودُك؟ فيقولُ: محمَّدٌ وأمَّتُه، فيُجاءُ بكم، فتَشهَدونَ. ثمَّ قرأَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا قال: عَدْلًا، لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143] )) .
وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ.
أي: ويَحكُمُ اللهُ بيْنَ العِبادِ يومَ القِيامةِ بالعَدلِ التَّامِّ، ولا يَظلِمُهم شَيئًا؛ فلا يُعاقِبُ أحَدًا بما لم يَعمَلْه، أو يُحَمِّلُه ذَنْبَ غَيرِه، أو يَنقُصُه مِن أجْرِه، أو يَزيدُ في سَيِّئاتِه .
كما قال تعالَى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: 47] .
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70).
وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ.
أي: ويُوَفِّي اللهُ كُلَّ نَفْسٍ جَزاءَ عَمَلِها مِن خَيرٍ أو شَرٍّ .
وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ.
مناسبتها لما قبلها:
لَمَّا كان المرادُ بالشُّهَداءِ إقامةَ الحُقوقِ على ما يَتعارَفُه العِبادُ، وكان ذلك ربَّما أوهَمَ نَقْصًا في العِلمِ؛ قال :
وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ.
أي: واللهُ أعلَمُ مِنَ النَّبيِّينَ والشُّهَداءِ بما يَفعَلُ عِبادُه في الدُّنيا، وسيُجازيهم يومَ القِيامةِ بحَسَبِ أفعالِهم .

الفوائد التربوية :

1- في قَولِه تعالَى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أنَّه يَجِبُ أنْ يُعَظَّمَ اللهُ تعالَى حَقَّ تَعظيمِه بقَدْرِ المُستطاعِ؛ لقولِه تَبارَك وتعالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة: 286] ، ولقولِه تعالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] ، وإلَّا فمَن الذي يُحصي أنْ يُعظِّمَ اللهَ تعالىَ حَقَّ تَعظيمِه، على الوَجهِ الذي أرادَه اللهُ عزَّ وجلَّ ؟!
2- قولُه تعالَى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ رُوِي عن بعضِ السَّلفِ أنَّه قال: (مَن أراد أنْ يُشاهِدَ يوْمَ القيامةِ -يعني: بقَلْبِه- فلْيَقرَأْ آخِرَ سُورةِ الزُّمَرِ) .
3- في قَولِه تعالَى: وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ أنَّه يَجِبُ على الإنسانِ الحذرُ مِن العَمَلِ بما لا يُرضي اللهَ تعالَى؛ لأنَّ اللهَ تعالَى يَعلَمُ ذلك، والإنسانُ الحَيُّ القَلبِ لا شَكَّ أنَّه سيَخجَلُ إذا عَلِمَ أنَّ اللهَ تعالَى يَعلَمُ عَمَلَه، فعَمِلَ ما لا يُرضِيه .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال اللهُ عزَّ وجلَّ: وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، قولُه تعالَى: جَمِيعًا حالٌ، وهي دالةٌ على أنَّ المرادَ بالأرضِ الأرَضونَ السَّبعُ؛ فإنَّ هذا التَّأكيدَ لا يحسُنُ إدخالُه إلَّا على الجمْعِ، ويَشهَدُ لذلك قولُه الآتي: وَالسَّماوَاتُ، ولأنَّ الموضعَ مَوضعُ تَعظيمٍ، فهو مُقتضٍ للمبالَغةِ، والمعنى: الأرَضونَ جميعًا ذواتُ قبضتِه؛ يَقبِضُهنَّ قبْضةً واحدةً .
2- قَولُه تعالَى: قَبْضَتُهُ، وقَولُه تعالَى: بِيَمِينِهِ فيه إثباتُ اليَدِ للهِ تعالَى .
3- قولُه تعالَى: وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ فيه تَنبيهٌ على عَظَمتِه سُبحانَه، وحَقارةِ الأفعالِ العِظامِ الَّتي تَتحَيَّرُ فيها الأوهامُ بالإضافةِ إلى قُدرتِه، ودَلالةٌ على أنَّ تَخريبَ العالَمِ أهْوَنُ شَيءٍ عليه .
4- في قَولِه تعالَى: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ أنَّ الصَّعْقَ شاملٌ لكلِّ مَن في السَّمواتِ ومَن في الأرضِ إلَّا مَن شاء اللهُ تعالَى، وهمْ أقلُّ ممَّن يَصْعَقُون؛ لأنَّ الغالبَ أنَّ المُسْتَثْنَى يكونُ أقلَّ مِن المُسْتَثْنَى منه .
5- قال تعالَى: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ في قَولِه تعالَى: فَإِذَا هُمْ دَلالةٌ على أنَّ قِيامَهم يَحصُلُ عقِبَ هذه النَّفخةِ الأخيرةِ في الحالِ، مِن غيْرِ تَراخٍ؛ لأنَّ الفاءَ تدُلُّ على التَّعقيبِ .
6- قَولُه تعالَى: بِنُورِ رَبِّهَا فيه إثباتُ النُّورِ صِفةً للهِ تعالَى .
7- في قَولِه تعالَى: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا أنَّ الأنوارَ الموجودةَ تَذهَبُ يومَ القِيامةِ وتَضمَحِلُّ -وهو كذلك-؛ فإنَّ اللهَ تعالَى أخبَرَ أنَّ الشَّمسَ تُكَوَّرُ، والقَمَرَ يُخسَفُ، والنُّجومَ تَندَثِرُ، ويكونُ النَّاسُ في ظُلمةٍ، فتُشرِقُ عندَ ذلك الأرضُ بنُورِ رَبِّها عندما يَتجَلَّى ويَجيءُ للفَصلِ بيْنهم، وذلك اليومَ يَجعَلُ اللهُ للخَلقِ قُوَّةً، ويُنشِئُهم نَشأةً يَقوَونَ على ألَّا يُحرِقَهم نُورُه سُبحانَه وتعالَى، ويَتمَكَّنونَ أيضًا مِن رُؤيتِه؛ وإلَّا فنُورُه تعالَى عَظيمٌ، لو كشَفَه لَأحرَقَت سُبُحاتُ وَجْهِه ما انتهى إليه بَصَرُه مِن خَلْقِه .
8- قولُه تعالَى: وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ فيه انتفاءُ الظُّلمِ في ذلك اليومِ، وانتفاءُ الظُّلمِ هنا ليس المرادُ به نفْيَ الظُّلمِ فقط، بلِ المرادُ به إثباتُ كَمالِ العدْلِ الذي ليس فيه ظُلمٌ بوَجْهٍ مِن الوُجوهِ .
9- قولُه تعالَى: وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ فيه عَدْلُ اللهِ تعالَى في جَزائِه؛ لِقَولِه عزَّ وجَلَّ: مَا عَمِلَتْ لا زِيادةً ولا نَقصًا، ويُؤكِّدُ ذلك قولُه تعالَى: وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ؛ فإذا كان أعلمَ بما يَفعَلونَ، وهو حَكَمٌ عَدْلٌ، عُلِمَ أنَّه لن يَنْقُصَ الإنسانَ مِن أجْرِه شَيئًا .
10- لمَّا بيَّن اللهُ تعالَى أنَّه يَحضُرُ في مَحفِلِ القيامةِ جميعُ ما يُحتاجُ إليه في فصْلِ الحكوماتِ وقطْعِ الخُصوماتِ؛ بيَّن تعالَى أنَّه يُوصَلُ إلى كلِّ أحدٍ حقُّه، وعبَّر تعالَى عن هذا المعنى بأربعِ عباراتٍ؛ أوَّلُها قولُه تعالَى: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ، وثانيها قولُه: وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، وثالثُها قولُه: وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ أي: وُفِّيَت كلُّ نفْسٍ جَزاءَ ما عَمِلَت، ورابعُها قولُه: وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ، يعني أنَّه تعالَى إذا لم يكُنْ عالمًا بكَيفيَّاتِ أحوالِهم، فلعلَّه لا يَقْضي بالحقِّ لأجْلِ عدَمِ العلمِ، أمَّا إذا كان عالمًا بمَقاديرِ أفعالِهِم وبكَيْفيَّاتِها امتَنَعَ دُخولُ الخطأِ في ذلك الحكمِ، فثَبَتَ أنَّه تعالَى عبَّر عن هذا المقصودِ بهذه العباراتِ المختلفةِ، والمقصودُ المبالغةُ في تَقْريرِ أنَّ كلَّ مُكلَّفٍ فإنَّه يَصِلُ إلى حقِّه .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ
- قوله: وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يجوزُ أنْ يكونَ معطوفًا على جُملةِ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الزمر: 63] ، ويَكونَ قولُه: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ إلخ مُعتَرِضًا بيْن الجُملَتَينِ، اقتَضاها التَّناسُبُ مع جُملةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [الزمر: 63] .
ويَجوزُ أنْ تَكونَ مَعطوفةً على جُملةِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر: 62] ؛ فتَكونَ جُملةُ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وجُملةُ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِلْتاهُما مَعطوفتَينِ على جُملةِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر: 62] . والمعنى هو هو، إلَّا أنَّ الحالَ أوضَحُ إفصاحًا عنه.
ويَجوزُ أنْ تَكونَ جُملةُ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ عَطْفَ غَرَضٍ على غَرَضٍ انتُقِلَ به إلى وَصْفِ يَومِ القِيامةِ وأحوالِ الفَريقَينِ فيه، وجُملةُ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ اعتِراضًا .
- وهذا الأسلوبُ مِن بابِ الكِنايةِ؛ لأنَّ تَعظيمَكَ الشَّيءَ، واحتِرامَكَ إيَّاهُ، وقِيامَك بواجِبِه؛ مُستلزِمٌ لتَقديرِك إيَّاهُ في نفْسِكَ حَقَّ تَقْديرِه، وهو مُستلزِمٌ لأنْ تَكونَ قدْ عَرَفْتَه حَقَّ مَعرفتِه .
- والإخبارُ عن الأرضِ بهذا المَصدرِ قَبْضَتُهُ الَّذي هو بمعنَى المَفعولِ، أي: مَقبوضةٌ، كالخَلْقِ بمعنَى المَخلوقِ؛ للمُبالَغةِ في الاتِّصافِ بالمعنَى المَصدريِّ؛ لأنَّ المَوضِعَ مَوضِعُ تَفخيمٍ، فهو مُقتَضٍ المُبالَغةَ، وإنَّما صِيغَ لها وَزنُ المَرَّةِ؛ تَحقيرًا لها في جانِبِ عَظَمةِ مُلكِ اللهِ تعالَى، والقَبضةُ تدُلُّ على تَمامِ التَّمكُّنِ مِنَ المَقبوضِ، وأنَّ المَقبوضَ لا تَصَرُّفَ له ولا تَحرُّكَ .
- وقَدَّمَ الأرضَ على السَّمواتِ؛ لمُباشَرتِهم بها، ومَعرفتِهم بحَقيقتِها .
2- قولُه تعالَى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ
- قولُه: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ... انتِقالٌ مِن إجْمالِ عَظَمةِ القُدرةِ يَومَ القِيامةِ إلى تَفصيلِها؛ فالجُملةُ مِن عَطفِ القِصَّةِ على القِصَّةِ، ومُناسَبةُ العَطفِ ظاهِرةٌ .
- قولُه: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ... عبَرَّ بالماضي في قولِه: وَنُفِخَ وقولِه: فَصَعِقَ؛ لأنَّه مُحقَّقُ الوُقوعِ. وابتُدِئَتِ الجُملةُ بحَديثِ النَّفخِ في الصُّورِ؛ إذْ هو مِيقاتُ يَومِ القِيامةِ وما يَتقدَّمُه مِن مَوتِ كلِّ حَيٍّ على وَجْهِ الأرضِ .
- قولُه: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ لمَّا كان المقامُ للتَّهويلِ، وكان التَّصريحُ أهوَلَ، أعاد الفاعلَ بلفْظِه فقال: وَمَنْ فِي الْأَرْضِ .
- قولُه: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (ثُمَّ) حَرفُ عَطفٍ للتَّرتيبِ مع التَّراخي؛ لِبُعْدِ ما بيْن النَّفختَينِ. ويَجوزُ أنْ تُفيدَ مع ذلك المُهلةَ المُناسِبةَ لِما بيْن النَّفختَينِ .
- قولُه: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ إنَّما ذُكِرَتِ النَّفخةُ الأُخرَى في هذه الآيةِ، ولم تُذكَرْ في قولِه في سُورةِ (النَّمل): وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ [النمل: 87] ؛ لأنَّ تِلك في غَرَضِ المَوعظةِ بفَناءِ الدُّنيا، وهذه الآيةَ في غَرَضِ عَظَمةِ شَأنِ اللهِ في يَومِ القِيامةِ، وكذلك وَصْفُ النَّفخةِ بالواحِدةِ في سُورةِ (الحاقَّة): فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ [الحاقة: 13- 15] ، وذُكِرَتْ هنا نَفختانِ .
- قولُه: فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ضَميرُ (هُمْ) عائدٌ على مَن في السَّمواتِ ومَن في الأرضِ فيما بَقيَ مِن مَفهومِه بعْدَ التَّخصيصِ بـ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر: 68] ، و(إذَا) للمُفاجأةِ؛ للتَّنبيهِ على سُرعةِ حُلولِ الحَياةِ فيهم، وقِيامِهم إثْرَه .
- وجُملةُ يَنْظُرُونَ حالٌ، وفائدةُ هذه الحالِ الدَّلالةُ على أنَّهم حَيُوا حَياةً كاملةً لا غِشاوةَ معها على أبصارِهم، أي: لا دَهَشَ فيها ، وهذا على قولٍ في التَّفسيرِ.
3- قولُه تعالَى: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ
- قولُه: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا التَّعريفُ في الأرضِ تَعريفُ العَهدِ الذِّكريِّ الضِّمنيِّ؛ فقدْ تَضمَّنَ قولُه: فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: 68] أنَّهم قِيامٌ على قَرارٍ؛ فإنَّ القِيامَ يَستَدعي مَكانًا تَقومُ فيه تلك الخَلائقُ، وهو أرضُ الحَشرِ، وليس المرادُ الأرضَ الَّتي كانوا عليها في الدُّنيا؛ قال تعالَى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ [إبراهيم: 48] .
- قولُه: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا إضافةُ (رَبٍّ) إلى ضَميرِ الأرضِ لتَشريفِ المُضافِ إليه ، وإضافةُ رُبوبيَّةِ اللهِ تعالَى إلى شَيءٍ مُعَيَّنٍ تَقتَضي تَعظيمَ هذا الشَّيءِ .
- وفي قَولِه: بِنُورِ رَبِّهَا عَدَل الكَلامَ عن الاسمِ الأعظَمِ (الله) إلى صِفةِ الإحسانِ رَبِّهَا؛ لغَلَبةِ الرَّحمةِ، لا سِيَّما في ذلك اليَومِ؛ فإنَّه لا يَدخُلُ أحَدٌ الجنَّةَ إلَّا بها .
- وتعريفُ الْكِتَابُ في قولِه: وَوُضِعَ الْكِتَابُ تَعريفُ الجِنسِ، أي: وُضِعَتِ الكُتُبُ، وهي صَحائفُ أعْمالِ العِبادِ، أُحضِرَتْ للحِسابِ بما فيها مِن صالحٍ وسَيِّئٍ، وأُعطيَ كلُّ واحدٍ كِتابَه وصَحائفَ أعمالِه المُدَوَّنةَ فيها حَسناتُه أو سَيِّئاتُه، ووُحِّدَ على اسمِ الجنسِ؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ له كِتابٌ على حِدَةٍ. والوَضعُ: الحَطُّ، والمُرادُ به هنا: الإحضارُ، والآيةُ تَهديدٌ جاءَ في سِياقِ الخبَرِ .
4- قولُه تعالَى: وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ
- قولُه: وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ أيْ: جُوزِيَتْ على أعْمالِها جَزاءً مُكَمَّلًا، واللهُ أعلَمُ بما يَفعَلونَ؛ فلا يَحتاجُ إلى كاتِبٍ ولا شاهِدٍ، وفي ذلك وَعيدٌ وزِيادةُ تَهديدٍ .
- وفي قولِه: وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مُضافٌ مَحذوفٌ، أي: جَزاءَ ما عَمِلَتْ؛ لظُهورِ أنَّ ما عَمِلَه المرءُ لا يُوَفَّاهُ بعْدَ أنْ عَمِلَه، وإنَّما يُوفَّى جَزاءَه .
- وعُبِّر بالماضي في قولِه: وَأَشْرَقَتِ، وَوُضِعَ، وَجِيءَ، وَوُفِّيَتْ؛ لأنَّه مُحَقَّقُ الوُقوعِ .
- قيل: في قَولِه: وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ احتِباكٌ ؛ فإنَّ ذِكرَ مَا عَمِلَتْ أولًا يدُلُّ على ما فَعَلت ثانيًا، وذِكرُ (ما يَفعَلون) ثانيًا يدُلُّ عليه ما يَفعَلونَ أوَّلًا، وسِرُّه أنَّ ما ذُكِر أوْفَقُ للمُرادِ مِن نفْيِ الظُّلمِ على حُكمِ الوَعدِ بالعدْلِ والفضلِ؛ لأنَّ فيه الجزاءَ على كلِّ ما بُنِي على عِلمٍ، وأمَّا المُشْتهَى فما ذكَر أنَّه يُجازَى عليه! بلِ اللهُ يَعلَمُه .