موسوعة التفسير

سُورةُ يُونُس
الآيات (45-47)

ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ

المعنى الإجمالي:

يَقولُ تعالى: ويومَ يَجمَعُ اللهُ الكافرينَ في موقِفِ الحِسابِ، كأنَّهم لم يَمكُثوا في الدُّنيا إلَّا ساعةً مِن نهارٍ، يتعارَفُ النَّاسُ بينهم يومَ القيامةِ، كما كانوا يتعارَفونَ في الدُّنيا، قد خَسِرَ ثوابَ اللهِ وجَنَّتَه الذين كذَّبوا بلِقاءِ اللهِ، وما كانوا مُهتَدينَ.
وإمَّا نُرِكَ- يا مُحمَّدُ- عُقوبةَ الكُفَّارِ في حياتِك بأن نُعَجِّلَها لهم، أو نُمِتْك قبل أن نُرِيَك ذلك؛ فإلينا مَرجِعُهم ومَصيرُهم، ثمَّ اللهُ شاهِدٌ على ما كانوا يَفعَلونَه في الدُّنيا، وسيُجازيهم به.
ثمَّ يبَيِّنُ تعالى أنَّ لكُلِّ أمَّةٍ رَسولًا مِن اللهِ، يدعوهم إلى الإيمانِ وعِبادةِ اللهِ وَحدَه، فإذا جاء الأمةَ رَسولُهم يومَ القيامةِ لِيَشهَدَ عليهم، حكَمَ اللهُ بينهم بالعَدلِ، وهو غيرُ ظالمٍ لهم.

تفسير الآيات:

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (45).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا وصَفَ الكُفَّارَ بقِلَّةِ الإصغاءِ، وتَرْكِ التَّدبُّرِ؛ أتبَعَه بالوعيدِ لهم [623] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (17/259). .
وأيضًا لَمَّا كان في سابقِ الآياتِ ما ذُكِرَ مِن أفانينِ جِدالِهم في أباطيلِهم وضَلالِهم، وكان فِعلُ ذلك- ممَّن لا يرى حَشرًا ولا جزاءً، ولا نعيمًا وراء نعيمِ هذه الدَّارِ- فِعلَ فارِغِ السِّرِّ، مُستطيلٍ للزَّمانِ، آمِنٍ مِن نوازلِ الحَدَثانِ- حَسُنَ تَعقيبُه بأنَّهم يَرَونَ يومَ الحَشرِ مِن الأهوالِ ما يَستَقصِرونَ معه مُدَّةَ لُبثِهم في الدُّنيا، فقد خَسِروا إذَن دُنياهم بالنِّزاعِ، وآخِرتَهم بالعذابِ الذي لا يُستطاعُ، وليس له انقِطاعٌ [624] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/131). .
وأيضًا لمَّا جاء فيما مضَى ذكرُ يومِ الحشرِ، إذ هو حينُ افتضاحِ ضلالِ المشركينَ ببراءةِ شركائِهم منهم- أتبعَ ذلك بالتقريعِ على عبادتِهم الأصنامَ، مع وضوحِ براهينِ الوحدانيةِ للهِ تعالى، وإذ كان القرآنُ قد أبلغهم ما كان يعصمُهم مِن ذلك الموقفِ الذَّليلِ لو اهْتَدَوا به، أتْبَع ذلك بالتنويهِ بالقرآنِ، وإثباتِ أنَّه خارجٌ عن طوقِ البشرِ، وتسفيهِ الذين كذَّبوه، وتفنَّنوا في الإعراضِ عنه، واستوفَى الغرض حقَّه، عاد الكلامُ إلى ذِكرِ يومِ الحشرِ مرةً أُخرَى؛ إذ هو حينُ خيبةِ أولئك الذين كذَّبوا بالبعثِ، وهم الذين أشْرَكوا، وظهَر افتضاحُ شركِهم في يومِ الحشرِ، فكان مثلَ ردِّ العجزِ على الصدرِ [625] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/181). .
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ.
أي: ويومَ [626]  قال ابنُ عطيةَ: (ويَوْمَ ظرفٌ، ونصبُه يصحُّ بفعلٍ مضمَرٍ، تقديرُه: «واذكرْ يومَ»، ويصحُّ أن ينتصبَ بالفعلِ الذي يتضمَّنُه قولُه: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ، ويصحُّ نصبُه بـ يَتَعَارَفُونَ). ((تفسير ابن عطية)) (3/122). يَجمَعُ اللهُ الكافرينَ في موقِفِ الحِسابِ، فيَستِقلُّون حِينذاك مُدَّةَ مُكثِهم في الدُّنيا، كأنَّهم لم يَعيشوا فيها إلَّا ساعةً مِن نَهارٍ [627] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/187)، ((تفسير ابن عطية)) (3/122، 123)، ((تفسير الرازي)) (17/259)، ((تفسير ابن كثير)) (4/271)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/317)، ((تفسير السعدي)) (ص: 365)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/157). وممَّن اختار هذا المعنى المذكورَ: ابنُ كثيرٍ، والشوكانيُّ، ومحمد رشيد رضا، والسعدي، والشِّنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/271)، ((تفسير الشوكاني)) (2/510)، ((تفسير المنار)) (11/317)، ((تفسير السعدي)) (ص: 365)، ((أضواء البيان)) (2/157). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ مقاتلٌ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (2/333). وقيل: المعنى: كأنَّهم لم يَمكُثوا في قُبورِهم بين مَوتِهم وحَشْرِهم إلَّا ساعةً مِن نهارٍ. وممن اختار هذا القولَ: ابنُ الأنباريِّ، والسمعانيُّ، والقرطبيُّ. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (11/211)، ((تفسير السمعاني)) (2/386)، ((تفسير القرطبي)) (8/347). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السلفِ ابنُ عبَّاسٍ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (2/333). قال الشوكاني: (المرادُ باللُّبثِ: هو اللُّبثُ في الدُّنيا، وقيل: في القُبورِ، استَقَلُّوا المدَّةَ الطَّويلةَ؛ إمَّا لأنَّهم ضيَّعوا أعمارَهم في الدُّنيا، فجعلوا وجودَها كالعَدمِ، أو استقصَروها للدَّهَش والحَيرةِ، أو لِطُولِ وُقوفِهم في المَحشَرِ، أو لِشدَّةِ ما هم فيه من العذابِ، نسوا لذاتِ الدُّنيا، وكأنَّها لم تكُن). ((تفسير الشوكاني)) (2/510). ويُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (2/333)، ((تفسير البيضاوي)) (3/114). !
كما قال تعالى: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [المؤمنون: 112-114] .
وقال سبحانه: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا [طه: 102-104] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [الروم: 55-56] .
وقال سُبحانه: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا [النازعات: 46] .
يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ.
أي: يَعرِفُ النَّاسُ بَعضُهم بعضًا يومَ القيامةِ، كما كانوا في الدُّنيا يَعرِفونَ بَعضَهم [628] يُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (3/22)، ((تفسير القرطبي)) (8/347، 348)، ((تفسير ابن كثير)) (4/271، 272)، ((تفسير السعدي)) (ص: 365). قال الزجاج: (وفي معرفةِ بَعضِهم بعضًا، وعِلمِ بَعضِهم بإضلالِ بَعضٍ، التوبيخُ لهم، وإثباتُ الحجَّةِ عليهم). ((معاني القرآن)) (3/22). قال ابنُ عطيةَ: (وأما قوله: يَتَعَارَفُونَ فيحتملُ أن يكونَ معادلة لقولِه: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كأنَّه أخبَر أنَّهم يومَ الحشرِ يَتعارَفونَ، وهذا التعارفُ على جهةِ التلاومِ والخزي مِن بعضِهم لبعضٍ، ويحتملُ أن يكونَ في موضعِ الحالِ مِن الضمير في يَحْشُرُهُمْ، ويكونُ معنى التعارفِ كالذي قبلَه، ويحتملُ أن يكونَ حالًا مِن الضميرِ في يَلْبَثُوا، ويكونُ التعارفُ في الدُّنيا، ويجيءُ معنَى الآيةِ: ويومَ نحشرُهم للقيامةِ فتنقطعُ المعرفةُ بينَهم والأسبابُ، ويصيرُ تعارفُهم في الدُّنيا كساعةٍ مِن النَّهارِ لا قدرَ لها). ((تفسير ابن عطية)) (3/123). .
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ .
أي: قد خَسِرَ ثوابَ اللهِ وجَنَّتَه الجاحِدونَ لِلِقاءِ اللهِ، يومَ القيامةِ، فاستحَقُّوا دخولَ النَّارِ، وما كانوا موفَّقينَ للحَقِّ بتكذيبِهم بالبَعثِ بعدَ المَوتِ [629] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/187)، ((البسيط)) للواحدي (11/215)، ((تفسير القرطبي)) (8/348)، ((تفسير السعدي)) (ص: 365). .
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ هذه الآيةَ تتمَّةُ الرَّدِّ على المُشرِكينَ في تكذيبِ ما لم يُحيطوا بعِلمِه، ولَمَّا يأتِهم تأويلُه، مِن العقابِ الذي سبَقَ ذِكرُه [630] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/319). .
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ.
أي: وإمَّا نُعجِّلْ عُقوبةَ الكُفَّارِ في حياتِك- يا مُحمَّدُ- فتَراها [631] قال الشوكاني: (وقد أراه اللهُ سُبحانه قَتْلَهم وأسْرَهم، وذُلَّهم وذَهابَ عِزِّهم، وانكسارَ سَورةِ كِبرِهم؛ بما أصابهم به في يومِ بَدرٍ وما بعدَه مِن المواطِنِ، فلله الحَمدُ). ((تفسير الشوكاني)) (2/511). ، أو نُمِتْك قبل أن نُرِيَك ذلك فيهم؛ فمَصيرُهم إلينا بكلِّ حالٍ [632] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/188)، ((تفسير ابن عطية)) (3/123)، ((تفسير القرطبي)) (8/348، 349)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/184). وممَّن اختار المعنَى المذكورَ، على اعتبارِ أنَّ قَولَه تعالى: فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ جوابٌ للشَّرطِ إِمَّا نُرِيَنَّكَ، وما عُطِفَ عليه نَتَوَفَّيَنَّكَ: ابنُ جريرٍ، وابنُ عطيةَ، والقرطبي، وابنُ عاشورٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/188)، ((تفسير ابن عطية)) (3/123)، ((تفسير القرطبي)) (8/348)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/184).  وقال الزمخشري: (فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ جوابُ نَتَوَفَّيَنَّكَ، وجوابُ نُرِيَنَّكَ محذوفٌ، كأنَّه قيل: وإمَّا نُرينَّك بعضَ الذي نَعِدُهم في الدُّنيا فذاك، أو نتوفَّينَّك قبلَ أن نُرِيَكه فنحن نُريكَه في الآخرةِ). ((تفسير الزمخشري)) (2/350). .
ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ.
أي: ثمَّ اللهُ شاهدٌ على ما كانوا يفعَلونَه في الدُّنيا، وسيُجازيهم به [633] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/188)، ((البسيط)) للواحدي (11/216)، ((تفسير القرطبي)) (8/349)، ((تفسير السعدي)) (ص: 365). .
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (47).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بَيَّنَ حالَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في قَومِه؛ بيَّنَ حالَ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ مع أقوامِهم؛ تسليةً له، وتطمينًا لِقَلبِه [634] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/67). .
وأيضًا لَمَّا كان في الآيةِ السَّابقةِ التَّهديدُ بالعذابِ- إمَّا في الدُّنيا أو في الآخرةِ- غيرَ مُعَيَّنٍ له صلَّى الله عليه وسلَّم واحدةٌ منهما- أتبَعَها بما هو صالحٌ للأمرَينِ بالنِّسبةِ إلى كلِّ رَسولٍ؛ إشارةً إلى أنَّ أحوالَ الأُمَمِ على غيرِ نِظامٍ؛ فلذلك لم يَجزِمْ بتعيينِ واحدةٍ مِن الدارَينِ للجَزاءِ، وجعل الأمرَ مَنوطًا بالقِسطِ [635] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/133). .
وأيضًا فإنَّها بمنزلةِ السَّبَبِ لِمَضمونِ الجملةِ التي قبلَها؛ فقد بيَّنتْ أنَّ مَجيءَ الرَّسولِ للأمَّةِ هو مُنتهى الإمهالِ، وأنَّ الأمَّةَ إن كذَّبَت رسولَها استحقَّت العقابَ على ذلك، فهذا إعلامٌ بأنَّ تكذيبَهم الرَّسولَ هو الذي يجُرُّ عليهم الوعيدَ بالعقابِ [636] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/187). .
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ.
أي: ولكلِّ أمَّةٍ من الأُمَمِ الماضيةِ رَسولٌ أرسَلَه اللهُ إليهم، يدعوهم إلى الإيمانِ، وعبادةِ اللهِ وَحْدَه [637] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/188)، ((تفسير الشوكاني)) (2/511)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/320)، ((تفسير السعدي)) (ص: 365). .
فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ.
أي: فإذا أتَى الأمةَ رسولُهم يومَ القيامةِ؛ لِيَشهَدَ عليهم، حَكَم اللهُ بينهم بالعَدلِ، وهو غيرُ ظالمٍ لهم [638] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/188، 189)، ((تفسير القرطبي)) (8/349)، ((تفسير ابن كثير)) (4/272)، ((تفسير القاسمي)) (6/30). وممَّن اختار هذا المعنَى المذكورَ: ابنُ جريرٍ، والقرطبيُّ، وابنُ كثيرٍ، والقاسميُّ. يُنظر: المصادر السابقة. وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: مجاهدٌ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/189). وقيل: فإذا أتَى الأمةَ رسولُهم في الدُّنيا فكذَّبوه، حَكَم الله بين الرُّسُلِ وأتباعِهم وبين المكَذِّبينَ بالعَدلِ، فأنجَى عبادَه المؤمنينَ، وعذَّب الكافرينَ في الدُّنيا بعذابِ الاسئصالِ، وهو غيرُ ظالمٍ لهم، كما قال سبحانه: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] . وممَّن اختار هذا المعنى: أبو السعودِ، والشوكانيُّ، والسعديُّ، وابنُ عاشورٍ. يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/151)، ((تفسير الشوكاني)) (2/511)، ((تفسير السعدي)) (ص: 365)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/187).  وممَّن قال بهذا القولِ من السَّلفِ: الحسنُ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (2/333). .
كما قال تعالى: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [الزمر: 69] .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ تنبيهٌ على قِصَرِ الأمَلِ، وهو العِلمُ بقُرْبِ الرَّحيلِ، وسرعةِ انقضاءِ مدةِ الحياةِ، وهو مِن أنفعِ الأمورِ للقَلبِ؛ فإنه يبعَثُه على مبادرةِ طَيِّ صحائِفِ الأعمالِ، ويثيرُ ساكِنَ عَزَماتِه إلى دارِ البقاءِ، ويَحُثُّه على قضاءِ جَهازِ سَفَرِه، وتدارُكِ الفارِط، ويُزَهِّدُه في الدنيا، ويرَغِّبُه في الآخرة، فيقومُ بقَلبِه- إذا داومَ مُطالعةَ قِصَرِ الأمَلِ- شاهِدٌ من شواهِد اليَقينِ، يُريهِ فَناءَ الدُّنيا، وسُرعةَ انقضائِها، وقلَّةَ ما بَقِيَ منها، وأنَّها قد ترحَّلَت مُدبِرةً، وأنَّها لم يبقَ مِنها إلَّا كما بَقِيَ مِن يومٍ صارت شَمسُه على رؤوسِ الجبالِ، ويُريه بقاءَ الآخرةِ ودوامَها، وأنَّها قد ترحَّلَت مُقبِلةً، وقد جاء أشراطُها وعلاماتُها، وأنَّه مِن لقائِها كمُسافرٍ خرج صاحِبُه يتلقَّاه، فكلٌّ منهما يسيرُ إلى الآخَرِ، فيُوشِكُ أن يلتَقيا سريعًا [639] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/448). .
2- قَولُ الله تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ فيه تحذيرٌ مِن مُشاقَّةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم [641] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/188). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ يدلُّ على أنَّه تعالى يُري رَسولَه أنواعًا مِن ذُلِّ الكافرينَ وخِزيِهم في الدُّنيا، وسيَزيدُ عليه بعد وفاتِه، ولا شكَّ أنَّه حصل الكثيرُ منه في زمانِ حياةِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وحصل الكثيرُ أيضًا بعد وفاتِه، والذي سيحصُلُ يومَ القيامةِ أكثَرُ، وهو تنبيهٌ على أنَّ عاقِبةَ المُحِقِّينَ مَحمودةٌ، وعاقبةَ المُذنِبينَ مَذمومةٌ [642] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (17/261). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ جاء الكلامُ على طريقةِ إبهامِ الحاصِلِ مِن الحالَينِ؛ لإيقاعِ النَّاسِ بين الخَوفِ والرَّجاءِ، وإن كان المخاطَبُ به النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [643] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/184). .
3- قَولُ الله تعالى: فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ رتَّبَ شَهادتَه تعالى على فِعلِهم، على رجوعِهم إليه في القيامةِ، مع أنَّه شهيدٌ عليهم في الدُّنيا أيضًا؛ لأنَّ المرادَ بما ذُكِرَ نَتيجتُه، وهو العذابُ والجزاءُ، كأنَّه قال: ثمَّ اللهُ مُعاقِبٌ، أو مُجازٍ على ما يَفعَلونَ [644] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص:247). وقال العكبري: (ثُمَّ هاهنا غيرُ مُقْتَضِيَةٍ ترتيبًا في المعنَى، وإنَّما رَتَّبَتِ الأخبارَ بعضَها علَى بعضٍ، كقولِك: زيدٌ عالمٌ، ثُمَّ هو كريمٌ). ((التبيان في إعراب القرآن)) (2/676). .
4- قَولُ الله تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ كُلَّ جمَاعةٍ ممَّن تقَدَّمَ، قد بَعثَ الله إليهم رسولًا، وأنَّ اللهَ تعالى ما أهمَلَ أمَّةً مِن الأمَمِ قَطُّ، ويتأكَّدُ هذا بقَولِه تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر: 24] .
فإنْ قيل: كيف يصِحُّ هذا مع أحوالِ الفَترةِ، ومع قَولِه سُبحانه: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ [يس:6] ؟ فالجواب: أنَّ الآيةَ لا تُوجبُ أن يكونَ الرَّسولُ حاضرًا مع القَومِ، لأنَّ تقدُّمَ الرَّسولِ لا يمنَعُ مِن كَونِه رسولًا إليهم، كما لا يَمنَعُ تقَدُّمُ رسولِنا من كونِه مَبعوثًا إلينا إلى آخِرِ الأبدِ، وتُحمَلُ الفَترةُ على ضَعفِ دَعوةِ الأنبياءِ، ووُقوعِ مُوجِباتِ التَّخليطِ فيها [645] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (17/261). .
وقيل: آباءُ القومِ الَّذين لم يُنْذَروا ليسوا أُمَّةً مستقلَّةً حتَّى يردَ الإشكالُ في عدمِ إنذارِهم، معَ قولِه: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ بل هم بعضُ أُمَّةٍ [646] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 126). .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ
قولُه: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ فيه تخصيصُ السَّاعةِ بالنَّهارِ؛ لأنَّ ساعاتِه أعرَفُ حالًا مِن ساعاتِ اللَّيلِ [647] يُنظر: ((تفسير أبي السعود))  (4/150). ، فكأنَّ هؤلاءِ يتحَقَّقونَ قِلَّةَ ما لَبِثوا؛ إذْ كلُّ أمَدٍ طَويلٍ إذا انقضى، فهو واليَسيرُ سَواءٌ [648] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/123). .
وقولُه: قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ استئنافٌ فيه معنى التَّعجُّبِ، كأنَّه قيل: ما أخْسَرَهم [649] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/350)، ((تفسير أبي حيان)) (6/65). !
وفيه إظهارٌ في موضعِ الإضمارِ، والتَّعبيرُ عنهم بالموصولِ الَّذِينَ كَذَّبُوا مع كَونِ المقامِ مَقامَ إضمارٍ- حيث لم يَقُل: خَسِروا-؛ لِذَمِّهم بما في حيِّزِ الصِّلةِ، والإشعارِ بعِلِّيَّتِه لِما أصابَهم؛ فنبَّه على العِلَّةِ الموجبةِ للخُسرانِ، وهو التَّكذيبُ بلقاءِ اللهِ [650] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/65)، ((تفسير أبي السعود))  (4/150). .
2- قوله تعالى: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ
قولُه: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ فيه العدولُ إلى صيغةِ الاستقبالِ نَعِدُهُمْ؛ لاستحضارِ الصُّورةِ، أو للدَّلالةِ على التَّجدُّدِ والاستمرارِ، أي: نَعِدُهم وعدًا مُتجدِّدًا حسَبما تَقْتَضيه الحِكمةُ مِن إنذارٍ غِبَّ إنذارٍ، وفي تخصيصِ البعضِ بالذِّكرِ رمزٌ إلى العِدَةِ بإراءةِ بعضِ الموعودِ [651] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/150). .
وجملةُ: فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ اسميَّةٌ تُفيدُ الدَّوامَ والثَّباتَ، وتقديمُ المجرورِ فَإِلَيْنَا على عامِلِه، وهو مَرْجِعُهُمْ؛ للاهتمامِ [652] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/186). .
وقوله: ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ حرفُ ثُمَّ للتراخي الرتبي (أي: كون الجملةِ المعطوفةِ بها أعلَى رتبةً مِن المعطوفةِ عليها)؛ فإنَّ جملةَ: ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ لاشتمالِها على التعريضِ بالجزاءِ على سوءِ أفعالِهم كانت أهمَّ مرتبةً في الغرضِ، وهو غرضُ الإخبارِ بأنَّ مرجعَهم إلى اللهِ؛ لأنَّ إرجاعَهم إلى الله مجملٌ، واطلاعَه على أفعالِهم المكنى به عن مؤاخذتِهم بها هو تفصيلٌ للوعيدِ المجملِ، والتفصيلُ أهمُّ مِن الإجمالِ، وقد حصَل بالإجمالِ ثم بتفصيلِه تمامُ تقريرِ الغرضِ المسوقِ له الكلامُ، وتأكيدُ الوعيدِ [653] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/186). ، وقيل: جاء بـ(ثم) الدالةِ على التبعيدِ، مع كونِ الله سبحانَه شهيدًا على ما يفعلونَه في الدارين؛ للدلالةِ على أنَّ المرادَ بهذه الأفعالِ ما يترتَّب عليها مِن الجزاءِ، أو ما يحصلُ مِن إنطاقِ الجوارحِ بالشهادةِ عليهم يومَ القيامةِ، فجعَل ذلك بمنزلةِ شهادةِ اللهِ عليهم [654] يُنظر: ((تفسير القنوجي)) (6/72). .
3- قولُ الله تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ فيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال تعالى هنا: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، وقال فيما بعدُ مِن هذه السُّورةِ: وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [يونس: 54] ، وقال في سورةِ الزُّمَرِ: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [الزمر: 69] ، وفي آخِرِ السُّورةِ: وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الزمر: 75] ؛ فورَد في الموضِعَين من سورةِ يونُسَ بِالْقِسْطِ، وفي الموضِعَين مِن سورةِ الزُّمرِ بِالْحَقِّ؛ وذلك لأنَّ القِسْطَ يُرادُ به العملُ، والتَّسويةُ في الحكمِ، فمَظِنَّةُ وُرودِه حيث يُرادُ مُوازَنةُ الجزاءِ بالأعمالِ مِن غيرِ زيادةٍ، والحقُّ: الصِّدقُ، فوُرودُه حيث يُرادُ تَصديقُ وعيدٍ، أو إخبارٌ متقدِّمٌ، وإنَّ اللهَ سبحانه وعَد المؤمِنين بزِيادةِ الأُجورِ والإحسانِ بما يَفوتُ الغاياتِ، ويَفوقُ الحصرَ، ولم يَجعَلْ جَزاءَهم على أعمالِهم الدِّينيَّةِ وِفاقًا لأعمالِهم في مَقاديرِ الجزاءِ، بل قال تعالى: وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ [البقرة: 58] ، وقال: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10] ، ومنه جعَل الحسَنةَ بعَشْرِ أمثالِها؛ ولَمَّا كان الواردُ في آيتَيِ الزُّمرِ مُنزَّلًا على الحُكمِ حقًّا بين النَّبيِّين والشُّهداءِ والملائكةِ قال تعالى: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ [الزمر: 69] ، وقال تعالى: وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ [الزمر: 75] ، والضميرُ في الأولى إمَّا أن يَكونَ للنَّبيِّين والشُّهداءِ، وهؤلاء ممَّن يُضاعَفُ أُجورُهم؛ فجيءَ بقولِه: بِالْحَقِّ [الزمر: 69] ؛ تصديقًا لما وُعِدوا مِن الزِّيادةِ، وليس مَوضع وُرودِ القِسْطِ، وإمَّا أن يكونَ للخَلقِ كافَّةً- وفيهم المؤمِنُ والكافرُ-؛ فورَد قولُه: بِالْحَقِّ [الزمر: 69] ؛ تصديقًا لِما ورَد في حقِّ الفريقَين: مِن الزِّيادةِ في أجْرِ المؤمنِ، والعدلِ في حقِّ الكافرِ، فلا يُظلَمُ مِثقالَ ذرَّةٍ، وإنَّما جَزاؤُه وِفاقُ عمَلِه، ولا يَصِحُّ هذا إنْ لو قيل: (وقُضي بينَهم بالقسطِ)، وعلى هذا ما ورَد في الآيةِ الأخيرةِ مِن فُروقٍ.
وأمَّا آيَتا يُونُسَ فقد تقدَّم الأولَى مِنهما آياتٌ في تأنيسِ نبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم، وتعنيفِ كفَّارِ قُريشٍ ووَعيدِهم، وتَسْليتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في إبراهيمَ؛ فخِتامُ الآياتِ قَبْلَها بقولِه: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ [يونس: 46] ، ثمَّ قال: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ [يونس: 47] ، أي: حضَرهم في القيامةِ وقد كذَّبوه في الدُّنيا قُضي بينَهم وبينَه، فنَجا المصدِّقُ، وهلَك المكذِّبُ، ولما لم يَقصِدْ هنا تفضيلَ أحوالِ المصدِّقين، بل لَحْظَ الطَّرَفين من التَّصديقِ والتَّكذيبِ، كان موضعُ التَّعبيرِ بـ(القِسْطِ) الَّذي هو العدلُ بينَ المصدِّقِ والمكذِّبِ، وبِناءُ الآياتِ على إرغامِ المكذِّبين، ولا يُناسِبُ هذا إلَّا ذِكْرُ العدلِ بحسَبِ ما بُنِيَت عليه الآياتُ قبلَه، وأمَّا قولُه في الآيةِ بعدُ: وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ، فمُسِرُّو نَدامتِهم هم المكذِّبون، وهم المشاهِدون العذابَ، والضَّميرُ في قولِه: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ عائدٌ عليهم؛ فليس موضع التَّعبيرِ بقولِه: بِالْحَقِّ؛ فوضَح وُرودُ كلٍّ مِن هذه الآياتِ على ما يُناسِبُ ويُلائِمُ [655] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (1/244-246). .