موسوعة التفسير

سورةُ الرُّومِ
الآيات (54-57)

ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ

غَريبُ الكَلِماتِ:

يُؤْفَكُونَ: أي: يُصرَفون عن الحقِّ، ويُصَدُّون عن الصوابِ، يُقالُ: أفَكَ الرَّجلُ عن كذا: إذا عدَل عنه، والإفْكُ: كلُّ مصروفٍ عن وجهِه الَّذي يحقُّ أن يكونَ عليه، وأصلُ (أفك): قلْبُ الشَّيءِ، وصَرْفُه عن جهتِه [688] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 145)، ((تفسير ابن جرير)) (9/424)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/118)، ((المفردات)) للراغب (ص: 79)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 85). .
يُسْتَعْتَبُونَ: أي: يُطلَبُ منهم أن يُزيلوا غَضَبَ رَبِّهم بالتَّوبةِ وصالحِ العَمَلِ؛ مِن الاستِعتابِ: وهو الرُّجُوعُ عن الإساءةِ، والتَّعَرُّضُ لِطَلَبِ الرِّضا، وأصلُ الكَلِمةِ مِن (العَتْبِ): وهو الغضَبُ والمَلامةُ، يُقالُ: عتَبَ عليه يَعتِبُ: إذا غَضِبَ عليه ولامَه، وأعتَبَه: إذا أزالَ عنه عَتْبَه، واستَعْتَبَه: إذا طلَبَ منه الإعتابَ، أي: الرِّضا [689] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 537)، ((البسيط)) للواحدي (13/165)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 293)، ((تاج العروس)) للزبيدي (3/309)، ((فتح القدير)) للشوكاني (3/223). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى مذكِّرًا الناسَ بمراحلِ حياتِهم، وسَعةِ عِلمِه وعظيمِ اقتِدارِه، وكمالِ حكمتِه: اللهُ الَّذي خَلَقَكم -أيُّها النَّاسُ- مِن ضَعفٍ، ثمَّ جَعَل لكم مِن بَعدِ ضَعفِكم قُوَّةً، ثمَّ جَعَل فيكم مِن بَعدِ قُوَّتِكم ضَعفًا بالشَّيبِ والهرَمِ، يخلُقُ اللهُ ما يشاءُ، وهو العَليمُ القَديرُ.
ثمَّ يُذكِّرُهم بأحوالِهم يومَ القيامةِ، فيقولُ: ويومَ تقومُ القيامةُ يُقسِمُ الكُفَّارُ بأنَّهم ما مَكَثوا غيرَ ساعةٍ واحدةٍ، كذلك كانوا يُكَذِّبونَ ويُصرَفونَ عن الحَقِّ في الدُّنيا.
وقال الَّذين أُعطوا العِلمَ لأولئك الكُفَّارِ الكاذِبينَ: لقد مكَثْتُم الوَقتَ الَّذي كتَبَه اللهُ في اللَّوحِ المحفوظِ إلى يومِ بَعثِكم، ولم تَلبَثوا ساعةً كما زعمتُم! فهذا هو يومُ القيامةِ، ولكِنَّكم كُنتُم في الدُّنيا لا تَعلَمونَ -أيُّها الكُفَّارُ- أنَّكم تُبعَثونَ بعدَ مَوتِكم وتُحاسَبونَ، فيومَ القيامةِ لا يَنفَعُ المكَذِّبينَ بالبَعثِ اعتِذارُهم، ولا يُطلَبُ منهم أن يَرجِعوا إلى ما يُرضي اللهَ عنهم بالتَّوبةِ والإيمانِ حتَّى تُزالَ عنهم المُعاتبةُ.

تَفسيرُ الآياتِ:

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا أعاد سُبحانَه مِنَ الدَّلائِل الَّتي مَضَت دليلًا مِن دلائِلِ الآفاقِ، وهو قَولُه تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا [الروم: 48] ، وذكَرَ أحوالَ الرِّيحِ مِن أوَّلِه إلى آخِرِه؛ أعاد دليلًا مِن دلائِلِ الأنفُسِ، وهو خَلقُ الآدميِّ، وذكَرَ أحوالَه [690] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/111). ، فقال:
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ.
أي: اللهُ الَّذي خلَقَكم -أيُّها النَّاسُ- وابتدأَ إنشاءَكم مِن ضَعفٍ [691] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/525)، ((تفسير القرطبي)) (14/46)، ((تفسير ابن كثير)) (6/327)، ((تفسير السعدي)) (ص: 644). قيل: المرادُ بقَولِه تعالى: مِنْ ضَعْفٍ أي: مِن نُطفةٍ ضَعيفةٍ. ومِمَّن قال بذلك: مقاتلُ بنُ سُليمانَ، وابنُ جرير، والزجاج، والسمرقندي، والبغوي، والقرطبي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/420)، ((تفسير ابن جرير)) (18/525)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/191)، ((تفسير السمرقندي)) (3/18)، ((تفسير البغوي)) (3/582)، ((تفسير القرطبي)) (14/46). ومِمَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/526). وقيل: المرادُ: بدَأكم وأنشأكم على ضَعفٍ، وجعَلَ الخَلْقَ مِن ضَعفٍ؛ لكثرةِ ضَعفِ الإنسانِ أوَّلَ نشأتِه وطفوليَّتِه. وممَّن اختاره في الجملةِ: الخازنُ، وأبو حيان، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير الخازن)) (3/394)، ((تفسير أبي حيان)) (8/401)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 336). وذكر ابن عثيمين أنَّ هذا الضَّعفَ يَبتدئُ بعدَ نَفخِ الرُّوحِ في الجنينِ؛ إذا صار حيًّا في بطنِ أمِّه. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 336). وممَّن جمَع بينَ القولينِ في الجملةِ: ابنُ جُزَي، وابن كثير، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/135)، ((تفسير ابن كثير)) (6/327)، ((تفسير السعدي)) (ص: 644). .
  ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً.
أي: ثمَّ جَعَل اللهُ لكم قُوَّةً مِن بَعدِ ضَعفِكم [692] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/526)، ((تفسير ابن كثير)) (6/327)، ((تفسير السعدي)) (ص: 644). .
ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً.
أي: ثمَّ جَعَل اللهُ فيكم ضَعفًا مِن بَعدِ قُوَّتِكم، فتَهرَمونَ وتَشيبونَ [693] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/526)، ((تفسير ابن كثير)) (6/327)، ((تفسير السعدي)) (ص: 644). .
كما قال الله سبحانه وتعالى: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا [النحل: 70] .
وقال سُبحانَه: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ [يس: 68] .
يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ.
أي: يَخلُقُ اللهُ ما يَشاءُ في عِبادِه مِن ضَعفٍ وقُوَّةٍ، ويتصَرَّفُ في خَلقِه بما يريدُ بحَسَبِ حِكمتِه سُبحانَه [694] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/526)، ((تفسير القرطبي)) (14/47)، ((تفسير ابن كثير)) (6/327). .
وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ .
أي: واللهُ هو العَليمُ بكُلِّ شَيءٍ، ومِن ذلك عِلمُه بتدبيرِ عِبادِه، وهو القادِرُ على كُلِّ شَيءٍ [695] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/526)، ((تفسير السمرقندي)) (3/18)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/129). .
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ الله سبحانه وتعالى لَمَّا ذكَر الإبداءِ -والإعادةُ كالإبداءِ- ذكَر أحوالَ الإعادةِ وأوقاتَها [696] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/111). .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ الله تعالى عَدَمَ انتِفاعِ المُشرِكينَ بآياتِ القُرآنِ، وشُبِّهوا بالأمواتِ والصُّمِّ والعُمْيِ، فظَهَرت فَظاعةُ حالِهم في العاجِلةِ؛ أتْبع ذلك بوَصفِ حالِهم حينَ تقومُ السَّاعةُ [697] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/128). .
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ .
أي: ويومَ تأتي القيامةُ يُقسِمُ الكُفَّارُ بأنَّهم ما مَكَثوا مِن قَبْلُ [698] اختلف المفسِّرون في موضِعِ هذا المُكثِ الَّذي يُقسِمُ المجرِمونَ أنَّهم لم يَلبَثوا فيه سِوى ساعةٍ واحدةٍ. فقيلَ: المرادُ به: القَبرُ. ومِمَّن قال بذلك: ابن جرير، والواحدي، وابن عطية، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/526)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 845)، ((تفسير ابن عطية)) (4/343)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/129). ومِمَّن قال بهذا القَولِ مِن السَّلَفِ: الكلبيُّ. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/583). قال ابن عاشور: (يريدونَ أن يُقنِعوا أنفُسَهم بصحَّةِ دليلِهم القديمِ، ويلتَمِسونَ اعتلالًا لتخَلُّفِ المدلولِ بعِلَّةِ أنَّ بَعْثَهم ما كان إلَّا بعد ساعةٍ قليلةٍ مِن وقتِ الدَّفنِ قبْلَ أن تنعَدِمَ أجزاءُ أجسامِهم! فيُخيَّلُ إليهم أنَّهم مُحِقُّونَ في إنكارِه في الدُّنيا؛ إذ كانوا قد أُخبِروا أنَّ البعثَ يكونُ بعدَ فناءِ الأجسامِ، فهم أرادوا الاعتذارَ عن إنكارِهم البعثَ حين تحقَّقوه بما حاصِلُه: أنَّهم لو عَلِموا أنَّ البَعثَ يكونُ بعد ساعةٍ مِن الحلولِ في القبرِ لأقَرُّوا به. وقد أنبأ عن هذا تسميةُ كلامِهم هذا معذرةً بقَولِه عَقِبَه: فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ [الروم: 57] . وهذه فِتنةٌ أُصيبوا بها حينَ البَعثِ جَعَلَها اللهُ لهم؛ لِيَكونوا هُزْأةً لأهلِ النُّشورِ، ويتَّضِحَ غَلَطُهم وسوءُ فَهمِهم، كما دَلَّ عليه قَولُه تعالى بعدَ ذلك: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ  ... [الروم: 56] ، وقد أومأَ إلى أنَّ هذا هو المرادُ مِن الآيةِ أنَّه قال عَقِبَ ذلك: كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ أي: كهذا الخطأِ كانوا في الدُّنيا يُصرَفونَ عن الحَقِّ بمثلِ هذه التُّرَّهاتِ). ((تفسير ابن عاشور)) (21/129). وقيل: المرادُ: الدُّنيا. ومِمَّن قال بذلك: ابنُ كثير، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/328)، ((تفسير السعدي)) (ص: 645). ومِمَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ. يُنظر: ((الدر المنثور)) للسيوطي (6/502). قال ابن كثير: (ومقصودُهم بذلك عدَمُ قيامِ الحُجَّةِ عليهم، وأنَّهم لم يُنظَروا حتى يُعذَرَ إليهم). ((تفسير ابن كثير)) (6/328). وممَّن جمَع بيْنَ القَولَينِ: يحيى بنُ سلام، والبِقاعي. يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (2/667)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/130). غيرَ ساعةٍ واحِدةٍ [699] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/526)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 845)، ((تفسير ابن عطية)) (4/343)، ((تفسير ابن كثير)) (6/328)، ((تفسير السعدي)) (ص: 645)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/129). .
كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ.
أي: كما كذَّبَ الكُفَّارُ وصُرِفوا عن الحَقِّ في قَسَمِهم بأنَّهم ما لَبِثوا غيرَ ساعةٍ، كانوا يُكَذِّبونَ ويُصرَفونَ عن الحَقِّ والصَّوابِ في الدُّنيا أيضًا، فذاك خُلُقٌ قَبيحٌ تخَلَّقوا به، فصار لهم سَجِيَّةً وطَبعًا [700] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/526، 527)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 845)، ((تفسير القرطبي)) (14/47، 48)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/130، 131)، ((تفسير السعدي)) (ص: 644)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/129، 130). .
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا وصَفَ اللهُ تعالى الجاهِلينَ؛ أتبَعَه صِفةَ العُلَماءِ [701] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/131). .
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ.
أي: وقال أهلُ العِلمِ المُؤمِنونَ باللهِ [702] قال الشوكاني: (اختُلِفَ في تعيينِ هؤلاء الَّذين أُوتوا العِلمَ؛ فقيل: الملائِكةُ. وقيل: الأنبياءُ. وقيل: عُلماءُ الأُمَمِ. وقيل: مؤمِنو هذه الأمَّةِ. ولا مانِعَ مِن الحَملِ على الجميعِ). ((تفسير الشوكاني)) (4/267). لأولئك الكُفَّارِ الكاذِبينَ: واللهِ لقد مكَثْتُم الوَقتَ الَّذي قدَّرَه اللهُ لكم وكَتَبه في اللَّوحِ المحفوظِ إلى يومِ بَعثِكم، ولم تَلبَثوا ساعةً كما زعَمْتُم [703] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/528)، ((الوسيط)) للواحدي (3/439)، ((تفسير القرطبي)) (14/48)، ((تفسير ابن كثير)) (6/328)، ((تفسير السعدي)) (ص: 645). قال البيضاوي: (لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ في عِلمِه أو قَضائِه، أو ما كتَبَه لكم، أي: أوجَبَه، أو اللَّوحِ، أو القرآنِ). ((تفسير البيضاوي)) (4/211). ممَّن اختار أنَّ المعنى: فيما كتَب الله لكم في سابِقِ عِلمِه: الثعلبيُّ، والبغوي، والخازن، وابن عادل. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (7/307)، ((تفسير البغوي)) (3/583)، ((تفسير الخازن)) (3/394)، ((تفسير ابن عادل)) (15/430). وقيل: إنَّ في الآيةِ تقديمًا وتأخيرًا، تقديرُه: وقال الَّذين أُوتوا العِلمَ بكتابِ الله والإيمانَ بالله عزَّ وجَلَّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/527)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/428). .
فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.
أي: فهذا هو يومُ القيامةِ الَّذي يَبعَثُ اللهُ فيه النَّاسَ مِن قُبورِهم، ولكِنَّكم كنتُم في الدُّنيا -أيُّها الكُفَّارُ- لا تَعلَمونَ أنَّكم تُبعَثونَ بعدَ مَوتِكم، بل كان دَأْبُكم الإنكارَ والتَّكذيبَ بذلك [704] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/528)، ((تفسير الثعلبي)) (7/308)، ((تفسير السعدي)) (ص: 645)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/131، 132). .
فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كانت الآياتُ دالَّةً على أنَّ هذه الدَّارَ دارُ عمَلٍ، وأنَّ الآخِرةَ دارُ جزاءٍ، وأنَّ البَرزخَ حائِلٌ بيْنَهما، فلا يكونُ في واحدةٍ منهما ما للأخرى؛ تسَبَّب عن ذلك قَولُه تعالى [705] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (3/178). :
فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ.
أي: فيومَ القيامةِ لا يَنفَعُ المكَذِّبينَ بالبَعثِ اعتِذارُهم [706] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/528)، ((تفسير ابن كثير)) (6/328)، ((تفسير السعدي)) (ص: 645). قيل: المرادُ: اعتذارُهم بقَولِهم: ما عَلِمْنا أنَّ القيامةَ كائنةٌ، ولا أنَّا نُبعَثُ. ومِمَّن قال بذلك: ابن جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/528). ويُنظر أيضًا: ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (9/5706). وقال ابنُ كثير: (أي: لا ينفَعُهم اعتذارُهم عَمَّا فَعَلوا). ((تفسير ابن كثير)) (6/328). وقال السعدي: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ فإن كَذَّبوا وزَعَموا أنَّهم ما قامت عليهم الحُجَّةُ، أو ما تمكَّنوا من الإيمانِ؛ ظهَر كَذِبُهم بشهادةِ أهلِ العلمِ والإيمانِ، وشهادةِ جُلودِهم وأيديهم وأرجُلِهم، وإن طَلَبوا الإعذارَ وأنَّهم يُرَدُّونَ ولا يعودونَ لِما نُهُوا عنه، لم يُمَكَّنوا؛ فإنَّه فات وقتُ الإعذارِ، فلا تُقبَلُ مَعذِرتُهم). ((تفسير السعدي)) (ص: 645). .
وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ.
أي: ولا يُطلَبُ يومَ القيامةِ مِن الظَّالِمينَ أن يَرجِعوا إلى ما يُرضي اللهَ -عزَّ وجَلَّ- بالتَّوبةِ والإيمانِ والطَّاعةِ، حتى تُزالَ عنهم المُعاتَبةُ والمُؤاخَذةُ [707] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/528)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 846)، ((تفسير القرطبي)) (14/49)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (4/181)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/133). .
كما قال تعالى: وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ [فصلت: 24] .

الفَوائِدُ التَّربويَّةُ:

1- بعدَ الأربعينَ يأخُذُ ابنُ آدَمَ في النُّقصانِ وضَعفِ القُوى على التَّدريجِ، كما أخَذ في زيادتِها على التَّدريجِ؛ قال الله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً، فقُوَّتُه بيْنَ ضَعفَينِ، وحياتُه بيْن مَوتَينِ [708] يُنظر: ((تحفة المودود)) لابن القيم (ص: 301). .
2- قَولُ الله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ مِن حِكمتِه تعالى أن يُريَ العَبدَ ضَعْفَه، وأنَّ قُوَّتَه محفوفةٌ بضَعفَينِ، وأنَّه ليس له مِن نَفْسِه إلَّا النَّقصُ، ولولا تقويةُ اللهِ له لَما وصَلَ إلى قوَّةٍ وقُدرةٍ، ولو استمرَّت قوَّتُه في الزِّيادةِ لطغَى وبغَى وعتا، ولِيَعلمَ العبادُ كَمالَ قُدرةِ اللهِ التي لا تزالُ مُستَمِرَّةً يَخلَقُ بها الأشياءَ، ويُدبِّرُ بها الأمورَ، ولا يَلحَقُها إعياءٌ ولا ضَعفٌ ولا نَقصٌ بوَجهٍ مِن الوُجوهِ [709] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 644). .
3- قال الله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ والمعنَى: أنَّ ذلك خُلُقٌ تَخَلَّقوا به وصارَ لهم كالسَّجِيَّةِ في حياتِهم الدُّنْيا، حتَّى إذا أعاد اللهُ إليهم أرواحَهم صَدَرَ عنهم ما كانوا تَخَلَّقوا به، وفي هذا الخبَرِ أدَبٌ عظيمٌ للمُسلِمينَ: أن يَتحامَوُا الرَّذائلَ والكبائرَ في الحياةِ الدُّنيا؛ خشيةَ أن تَصيرَ لهم خُلُقًا، فيُحشَروا عليها [710] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/130). .
4- قَولُ الله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ الظَّاهِرُ أنَّ المؤمِنينَ يَسمَعونَ تحاجَّ المُشرِكينَ بَعضِهم مع بَعضٍ، فيُبادِرونَ بالإنكارِ عليهم؛ لأنَّ تغييرَ المنكَرِ سَجيَّتُهم التي كانوا عليها، وفي هذا أدَبٌ إسلاميٌّ، وهو أنَّ الذي يَسمَعُ الخطأَ في الدِّينِ والإيمانِ: لا يُقِرُّه، ولو لم يكُنْ هو المخاطَبَ به [711] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/131). .
5- قَولُ الله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ في التَّعبيرِ بنَفي العِلمِ وقَصدِ نَفيِ الاهتمامِ به والعنايةِ بتلقِّيه: إشارةٌ إلى أنَّ التصَدِّيَ للتعلُّمِ وَسيلةٌ لحُصولِه [712] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/132). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قَولُ الله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ سُمِّيَت القيامةُ بالسَّاعةِ؛ إعلامًا بيُسْرِها عليه سُبحانَه وتعالى [713] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/130). .
2- ليس العِلمُ في الحقيقةِ إلَّا ما أخبَرَت به الرُّسُلُ عن اللهِ عَزَّ وجَلَّ طَلبًا وخَبرًا، فهو العِلمُ المزكِّي للنُّفوسِ، المكَمِّلُ للفِطَرِ، المصَحِّحُ للعُقولِ، الَّذي خَصَّه الله باسمِ العِلمِ، وسمَّى ما عارَضَه ظَنًّا لا يُغْني من الحَقِّ شًيئًا، وخَرْصًا وكَذِبًا؛ فقال تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ [آل عمران: 61] ، وشَهِدَ لأهلِه أنَّهم أولو العِلمِ، فقال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، وقال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ [آل عمران: 18] ، والمرادُ أولو العِلمِ بما أنزَلَه على رُسُلِه ليس إلَّا، وليس المرادُ أولي العِلمِ بالمنطِقِ والفَلسفةِ وفُروعِهما [714] يُنظر: ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (3/876). .
3- في قَولِه تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ حُجَّةٌ على المُعتَزِلةِ فيما يَزعُمونَ «أنَّ الإيمانَ مُكتسَبٌ غيرُ مَوهوبٍ» [715] يُنظر: ((النُّكَت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (3/622). !
4- قال الله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ قولُه تعالى: وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ لا يُنافي قولَه تعالى: وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات: 36] المُقْتضيَ نفْيَ وُقوعِ الاعتذارِ منهم؛ لأنَّ الاعتذارَ المَنفيَّ هو الاعتذارُ المأذونُ فيه، أي: المقبولُ؛ لأنَّ اللهَ لو أذِنَ لهم في الاعتذارِ لكان ذلك تَوطئةً لِقَبولِه اعتذارَهم، نظيرُ قولِه: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: 255] ، والمُثبَتُ هنا مَعذِرةٌ مِن تِلقاءِ أنفُسِهم لم يُؤذَنْ لهم بها، فهي غيرُ نافعةٍ لهم، كما قال تعالى: قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 106 - 108] ، وقَولِه: لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ [716] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/132، 133). [المؤمنون: 65] .
5- قَولُ الله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ فيه سؤالٌ: كيف جُعِلوا غيرَ مُستَعتَبينَ في بعضِ الآياتِ، وغَيرَ مُعتَبِينَ في بَعضِها، وهو قَولُه: وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ [فصلت: 24] ؟
الجوابُ: أمَّا كَونُهم غيرَ مُستَعتَبِينَ، فمعناه: أي: لا يُقالُ لهم: أرْضُوا ربَّكم بتوبةٍ وطاعةٍ، وأمَّا كَونُهم غيرَ مُعتَبِينَ، فمعناه: أنَّهم غيرُ راضينَ بما هم فيه؛ فشُبِّهَت حالُهم بحالِ قَومٍ جُنيَ عليهم، فهم عاتِبونَ على الجاني، غيرُ راضينَ منه، فإنْ يَستعتِبوا اللهَ، أي: يَسألوه إزالةَ ما هم فيه، فما هم مِنَ المجابِينَ إلى إزالتِه [717] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/403). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قَولُه تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ
- قولُه: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ استِئنافٌ يُفِيدُ الاستِدلالَ على عَظيمِ القُدْرةِ في مُختلَفِ المَصنوعاتِ مِن العوالِمِ، ولِتَقريرِ إمكانيَّةِ البَعثِ، وتَقريبِ حُصولِه إلى عُقولِ مُنْكرِيه؛ لأنَّ تَعدُّدَ صُوَرِ إيجادِ المَخلوقاتِ وكيفيَّاتِه؛ مِن ابتدائِها عن عدَمٍ، أو مِن إعادتِها بعدَ انعدامِها، وبِتَطوُّرٍ وبدونِه؛ ممَّا يَزِيدُ إمكانَ البعثِ وُضوحًا عندَ مُنكرِيه؛ فمَوقِعُ هذه الآيةِ كمَوقِعِ قولِه: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا [الروم: 48] ونَظائرِها؛ ولذلك جاءتْ فاتحتُها على أُسلوبِ فواتِحِ نظائرِها، وهذا ما يُؤذِنُ به تَعقيبُها بقولِه: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ [الروم: 55] الآيةَ [718] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/127). .
- وفي قولِه: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ... الآيةَ، قال ذلك، مع أنَّ الضَّعفَ صِفةٌ، والمُخاطَبون لم يُخْلَقوا مِن صِفةٍ بلْ مِن عَينٍ، وهي الماءُ أو التُّرابُ؛ لأنَّ المُرادَ بالضَّعفِ الضَّعيفُ؛ مِن إطلاقِ المصدرِ على اسمِ الفاعلِ، كقولِهم: رجُلٌ عَدْلٌ، أي: عادلٌ، فمعناه: مِن ضَعيفٍ، وهو النُّطفةُ [719] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 444). . وقيل: (مِن) ابتِدائيَّةٌ، أي: مُبتدَأُ خلْقِه مِن ضَعفٍ، أي: مِن حالةِ ضَعفٍ، يدُلُّ على تمكُّنِ الوصْفِ مِن الموصوفِ حتَّى كأنَّه مُنتزَعٌ منه [720] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/127، 128). . وقيل: جعَلَ الخلْقَ مِن ضَعفٍ؛ لكثرةِ ضَعفِ الإنسانِ أوَّلَ نشْأتِه وطُفوليَّتِه [721] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/401). .
- وفي كلمةِ ضَعْفٍ تَنكيرٌ مع التَّكريرِ؛ لأنَّ المُتأخِّرَ ليس عَينَ المُتقدِّمِ [722] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/210)، ((تفسير أبي السعود)) (7/66). . وقيل: تَنكيرُ (ضَعْفٍ) و(قُوَّةٍ) للنَّوعيةِ؛ فـ (ضَعْفٌ) المذكورُ ثانيًا هو عينُ (ضَعْفٍ) المذكورِ أوَّلًا، و(قُوَّةٌ) المذكورةُ ثانيًا عَينُ (قُوَّةٍ) المذكورةِ أوَّلًا. وقولُهم: النَّكرةُ إذا أُعِيدَتْ نَكرةً كانتْ غيرَ الأُولى، يُرِيدون به التَّنكيرَ المقصودَ منه الفرْدُ الشَّائعُ، لا التَّنكيرَ المرادَ به النَّوعيَّةُ [723] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/128). .
- وعطَفَ وَشَيْبَةً على ضَعْفًا؛ للإيماءِ إلى أنَّ هذا الضَّعفَ لا قُوَّةَ بعْدَه، وأنَّ بعْدَه العدَمَ بما شاع مِن أنَّ الشَّيبَ نَذيرُ المَوتِ [724] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/128). .
- وفي قولِه: وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ذكَرَ وصْفَ العِلْمِ والقُدرةِ؛ لأنَّ التَّطوُّرَ هو مُقْتضى الحِكمةِ، وهي مِن شُؤونِ العِلْمِ، وإبرازُه على أحكَمِ وجْهٍ هو مَن أثَرِ القُدرةِ [725] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/66)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/128). .
2- قَولُه تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ
- جُملةُ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ استِئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ غَرابةَ حالِهم مِن فسادِ تَقديرِ المُدَّةِ والقَسَمِ عليه، مع كونِه تَوهُّمًا؛ يُثِيرُ سُؤالَ سائلٍ عن مَثارِ هذا الوهْمِ في نُفوسِهم، فكان قولُه: كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ بَيانًا لذلك. وكَذَلِكَ إشارةٌ إلى انصرافِهم عن الحقِّ يومَ البعْثِ، والمُشارُ إليه هو المُشبَّهُ به، والمُشبَّهُ مَحذوفٌ دلَّ عليه كافُ التَّشبيهِ، والتَّقديرُ: إفكًا مِثلَ إفْكِهم هذا كانوا يُؤفَكونَ به في حياتِهم الدُّنيا. والمقصودُ مِن التَّشبيهِ المُماثَلةُ والمُساواةُ [726] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/129، 130). .
- ولم يُسنَدْ إفْكُهم إلى آفكٍ مُعيَّنٍ في قولِه: كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ؛ لأنَّ بعضَ صَرْفِهم يكونُ مِن أوليائِهم وأئمَّةِ دِينِهم، وبعْضَه مِن طَبْعِ اللهِ على قُلوبِهم [727] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/130). . وقيل: لعلَّه بَنى الفِعلَ للمجهولِ؛ إشارةً إلى سُهولةِ انقيادِهم إلى الباطلِ مع أيِّ صارفٍ كان [728] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/131). .
- وذِكرُ فِعلِ كَانُوا في قولِه: كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ؛ للدَّلالةِ على أنَّ المُرادَ في زمانٍ قبْلَ ذلك الزَّمنِ، أي: في زمَنِ الحياةِ الدُّنيا، والمعنى: أنَّ ذلك خُلُقٌ تَخلَّقوا به، وصار لهم كالسَّجِيَّةِ في حياتِهم الدُّنيا، حتَّى إذا أعاد اللهُ إليهم أرواحَهم صَدَرَ عنهم ما كانوا تَخلَّقوا به [729] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/130). .
3- قَولُه تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ
- قولُه: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ ... فيه رَدٌّ لِمَا قاله المُجرِمون مِن إنكارِ البَعْثِ، وأكَّدَ باليمينِ في (لقد) [730] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 445)، ((تفسير أبي السعود)) (7/66). .
- وهذا الخبَرُ مُستعمَلٌ في التَّحزينِ والتَّرويعِ، باعتبارِ ما يَرِدُ بعْدَه مِن الإفصاحِ عن حُضورِ وقْتِ عذابِهم [731] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/131). .
- وعطَف الإيمانَ على العلمِ للاهتمامِ به؛ لأنَّ العلمَ بدونِ إيمانٍ، لا يرشدُ إلى العقائدِ الحقِّ التي بها الفوزُ في الحياةِ الآخرةِ [732] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/131). .
- وعَبَّرَ بقَولِه: أُوتُوا الْعِلْمَ؛ تنبيهًا على شُكرِ مَن آتاهموه، وبناه للمَجهولِ؛ إشارةً إلى تَسهيلِ أخْذِه عليهم مِنَ الجَليلِ والفَقيرِ [733] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/131). .
- والفاءُ في قولِه: فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ فاءُ الفصيحةِ؛ أفْصَحَتْ عن شَرطٍ مُقدَّرٍ، وتُفِيدُ معنى المُفاجأةِ، أي: إذا كان كذلك فهذا يَومُ البَعثِ [734] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/487)، ((تفسير البيضاوي)) (4/211)، ((تفسير أبي السعود)) (7/66)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/131). . وقيل: الفاءُ في فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ عاطفةٌ لهذه الجُملةِ المَقولةِ على الجُملةِ التي قبْلَها، وهي لَقَدْ لَبِثْتُمْ، اعْتَقَبها في الذِّكرِ [735] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/402). .
- قولُه: فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ هذا تَوبيخٌ لهم وتَهديدٌ، وتعْجيلٌ لإساءتِهم بما يَترقَّبُهم مِن العذابِ. والاقتِصارُ على فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ؛ لِيَتوقَّعوا كلَّ سُوءٍ وعذابٍ [736] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/131). . وفيه تبْكيتٌ واستهزاءٌ بهم [737] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/66). .
- وفي التَّعبيرِ بنفْيِ العِلْمِ في قولِه: وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ وقَصْدِ نفْيِ الاهتمامِ به، والعِنايةِ بتَلقِّيهِ: إشارةٌ إلى أنَّ التَّصدِّيَ للتَّعلُّمِ وسَيلةٌ لحُصولِه [738] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/132). .
4- قَولُه تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ
- قولُه: فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ تَفْريعٌ على جُملةِ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ [الروم: 55] ، والَّذِينَ ظَلَمُوا هم المُشرِكون الذين أقْسَموا: مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ؛ فالتَّعبيرُ عنهم بـ الَّذِينَ ظَلَمُوا إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ لِغرَضِ التَّسجيلِ عليهم بوَصْفِ الظُّلمِ، وهو الإشراكُ باللهِ؛ لأنَّه جامعٌ لفُنونِ الظُّلمِ؛ ففيه الاعتداءُ على حَقِّ اللهِ، وظُلْمُ المُشرِكِ نفْسَه بتَعريضِها للعذابِ، وظُلْمُهم الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالتَّكذيبِ، وظُلْمُهم المُؤمنينَ بالاعتداءِ على أمْوالِهم وأبشارِهم [739] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/132). .