موسوعة التفسير

سورةُ الرُّومِ
الآيات (58-60)

ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ

غَريبُ الكَلِماتِ:

مُبْطِلُونَ: أي: أصحابُ باطلٍ، والباطِلُ: نقيضُ الحقِّ، والإِبطالُ يُقالُ في إفسادِ الشَّيءِ وإزالتِه؛ حقًّا كان ذلك الشيءُ أو باطلًا، وأصلُ (بطل): ذَهابُ الشَّيءِ وقِلَّةُ مُكْثِه ولُبْثِه [740] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/258)، ((البسيط)) للواحدي (18/87)، ((المفردات)) للراغب (ص: 129)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 293). .
يَطْبَعُ: أي: يختِمُ، وطبْعُ القلبِ: الختمُ عليه حتَّى لا يَصِلَ إليه هُدًى، والطَّبْعُ: أنْ تصوِّرَ الشَّيءَ بصورةٍ ما، وهو أعمُّ مِن الختمِ وأخصُّ مِن النَّقشِ، وبه اعتُبِرُ الطَّبْعُ والطَّبيعةُ الَّتي هي السَّجيَّةُ؛ فإنَّ ذلك هو نقْشُ النَّفْسِ بصورةٍ ما؛ إمَّا مِن حيثُ الخِلقةُ، وإمَّا مِن حيثُ العادةُ، وأصلُ (طبع): هو مَثَلٌ على نهايةٍ يَنْتَهي إليها الشَّيءُ حتَّى يُخْتَمَ عندَها [741] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/438)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 321)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (4/1157)، ((المفردات)) للراغب (ص: 515)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 184). .
يَسْتَخِفَّنَّكَ: أي: يُزعِجَنَّك ويَستفِزَّنَّك عن اعتِقادِك، وأصلُ (خفف): يدُلُّ على خِلافِ الثِّقَلِ والرَّزانةِ [742] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/154)، ((المفردات)) للراغب (ص: 289)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 293). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى مبَيِّنًا فضائلَ القرآنِ، وشِدَّةَ تعنُّتِ الكافرين: ولقدْ ذكَرْنا للنَّاسِ في هذا القُرآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ، ولَئِنْ جِئتَ الكُفَّارَ -يا محمَّدُ- بدَلالةٍ تُثبِتُ صِدقَك، لَيَقولُنَّ: ما أنتم إلَّا مُتَّبِعونَ للباطِلِ! كذلك الخَتمِ يخَتِمُ اللهُ على قُلوبِ الكُفَّارِ، فَلا يُؤمِنونَ أبدًا.
ثمَّ يأمُرُ الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ بالصَّبرِ والثَّباتِ، فيقولُ: فاصبِرْ -يا محمَّدُ- على دَعوةِ الكُفَّارِ وعِنادِهم؛ فإنَّ ما وعَدَك اللهُ به حَقٌّ، ولا يَستفِزَّك عن اتِّباعِ الحقِّ الَّذين لا يُوقِنونَ بوَعدِ اللهِ، فتَترُكَ الثَّباتَ على الحَقِّ.

تَفسيرُ الآياتِ:

وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآَيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا انتهَى ما أُقيمَت عليه السُّورةُ مِن دلائِلِ الوحدانيَّةِ، وإثباتِ البَعثِ؛ عقَّبَ ذلك بالتَّنويهِ بالقُرآنِ، وبلوغِه الغايةَ القُصوى في البيانِ والهُدى [743] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/133، 134). .
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ.
أي: ولقَدْ ذكَرْنا للنَّاسِ في هذا القُرآنِ كُلَّ مَثَلٍ تتبيَّنُ به الحقائِقُ، وتنقَطِعُ به الحُجَّةُ [744] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/528)، ((تفسير ابن عطية)) (4/344)، ((تفسير القرطبي)) (14/49)، ((تفسير ابن كثير)) (6/328)، ((تفسير الشوكاني)) (4/268)، ((تفسير السعدي)) (ص: 645). .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا [الإسراء: 89] .
وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآَيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ.
أي: ولَئِنْ جِئتَ الكُفَّارَ -يا محمَّدُ- بأيِّ علامةٍ ودَلالةٍ تُثبِتُ صِدقَك، لَيقولُنَّ: ما أنتُم -أيُّها الرَّسولُ والمُؤمِنونَ به- إلَّا مُتَّبِعونَ للباطِلِ [745] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/528)، ((تفسير القرطبي)) (14/49)، ((تفسير ابن كثير)) (6/328)، ((تفسير السعدي)) (ص: 645). !
كما قال تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام: 7] .
كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59).
أي: مِثْلَما خَتَمَ اللهُ على قُلوبِ أولئك الكُفَّارِ فلا يَفقَهونَ آياتِ اللهِ، يَختِمُ أيضًا على قُلوبِ غَيرِهم مِنَ الكُفَّارِ، فلا يُؤمِنونَ بالحَقِّ أبدًا [746] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/529)، ((تفسير القرطبي)) (14/49)، ((تفسير السعدي)) (ص: 645)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/134). قيل: المرادُ بالَّذين لا يَعلَمونَ: أي: الَّذين لا يَعلَمونَ حَقيقةَ ما يأتيهم به محمَّدٌ مِن عندِ الله مِن هذه العِبَرِ والعِظاتِ، والآياتِ البيِّناتِ؛ فلا يَفقَهونَ عن الله حُجَّةً، ولا يَفهَمونَ عنه ما يَتلو عليهم مِن آيِ كتابِه؛ فهم لذلك في طُغيانِهم يَتردَّدونَ. قاله ابن جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/529). ويُنظر أيضًا: ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (9/5707). وقيل: الذين لا يَعلَمونَ توحيدَ الله. ومِمَّن قال به: الواحديُّ، والبغوي، وابن الجوزي، والقرطبي، والخازن، والعُلَيمي. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/439)، ((تفسير البغوي)) (3/583)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/428)، ((تفسير القرطبي)) (14/49)، ((تفسير الخازن)) (3/395)، ((تفسير العليمي)) (5/297). ويُنظر أيضًا: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/136)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/134). وقيل المعنى: لا يَطلُبون عِلمَ ما يَجهَلونه، ولا يَتحرَّون الحقَّ، بل يُصِرُّون على خرافاتٍ اعتقَدوها، وتُرَّهاتٍ ابتدعُوها. وممَّن قال به في الجملةِ: البيضاوي، والبقاعي، وأبو السعود، والألوسي. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/211)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/136)، ((تفسير أبي السعود)) (7/67)، ((تفسير الألوسي)) (11/61). .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة: 6، 7].
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60).
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ.
أي: فاصبِرْ -يا مُحمَّدُ- على دَعوةِ الكُفَّارِ وتَعَنُّتِهم وعِنادِهم؛ فإنَّ ما وعَدَ اللهُ به مِن نَصرِ المؤمِنينَ، وإهلاكِ الكافِرينَ في الدُّنيا والآخرةِ: آتٍ لا مَحالةَ [747] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/529)، ((تفسير القرطبي)) (14/49)، ((تفسير ابن كثير)) (6/328)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/136، 137)، ((تفسير السعدي)) (ص: 645)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/135). .
وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ.
أي: ولا يَستَفِزَّك -يا مُحمَّدُ- عن اتِّباعِ الحقِّ وتَبليغِه: الَّذين لا يُوقِنونَ بوَعدِ اللهِ، فيَحمِلوك بأقوالِهم أو أفعالِهم على الطَّيشِ وعدَمِ الصَّبرِ، فتَترُكَ الثَّباتَ على الحَقِّ [748] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/529)، ((الوسيط)) للواحدي (3/439)، ((تفسير ابن عطية)) (4/344)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/204)، ((تفسير ابن كثير)) (6/328)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/137-139)، ((تفسير السعدي)) (ص: 645)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/135). قال القرطبي: (الخِطابُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والمرادُ أمَّتُه). ((تفسير القرطبي)) (14/49). .
كما قال تعالى: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا [الإسراء: 73 - 75].
وقال سُبحانَه: فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم: 8، 9].

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قَولُ الله تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ هذا ممَّا يُعينُ على الصَّبرِ؛ فإنَّ العَبدَ إذا عَلِمَ أنَّ عَمَلَه غَيرُ ضائعٍ، بل سيَجِدُه كامِلًا؛ هانَ عليه ما يَلْقاه مِنَ المكارِهِ، ويُسِّرَ عليه كلُّ عسيرٍ، واستقَلَّ مِن عَمَلِه كُلَّ كَثيرٍ [749] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 645). .
2- قولُه تعالى: وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ فيه الحثُّ على التَّصلُّبِ في الدِّينِ، وقد قال تعالى: أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ [الواقعة: 81] أي: متهانون؟! وقال السَّحرةُ لِفَرعونَ لَمَّا تَهدَّدَهم: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ [750] يُنظر: ((شجرة المعارف والأحوال)) للعز بن عبد السلام (ص: 63). [طه: 72] .
3- وفي هذا الخِتامِ الجليلِ لهذه السُّورةِ الجليلةِ: دَعوةٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وللمؤمنينَ معه إلى الصَّبرِ على المَكارهِ، واحتمالِ الشَّدائدِ، على طريقِ الإيمانِ، وذلك بما يمتلئُ به القلبُ من إيمانٍ باللهِ، ومِن يقينٍ راسخٍ في لِقاءِ ما وعَدَ اللهُ النَّبيَّ والمؤمنينَ مِن نصرٍ وإعزازٍ وتمكينٍ، وأنَّهم إذا كانوا على يَقينٍ مِن الفَوزِ والرِّضوانِ في الآخِرةِ، فلْيَكونوا على هذا اليقينِ مِن النَّصرِ والتَّمكينِ في الدُّنيا، وأنَّه إذا طالَ انتظارُهم لِمَا وُعِدَوا به في الدُّنيا، فهو -على أيِّ حالٍ- أقرَبُ ممَّا وُعِدَوا به في الآخرةِ. فلْيَصبِروا إذَنْ حتَّى يَلْقَوا ما وَعدَهم اللهُ به في الدُّنيا؛ لِيَزدادَ يقينُهم بما وعَدَهم اللهُ به في الآخِرةِ [751] يُنظر: ((التفسير القرآني للقرآن)) لعبد الكريم الخطيب (11/552). .
4- قال تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ، فمَن وَفَى الصَّبرَ حقَّه، وتيَقَّنَ أنَّ وعْدَ الله حقٌّ؛ لم يَستفِزَّه المُبطِلون، ولم يَستخِفَّه الَّذين لا يوقِنون، ومتى ضَعُفَ صبرُه ويقينُه أو كِلاهما، استفَزَّه هؤلاء، واستخَفَّه هؤلاء، فجذَبوه إليهم بحسَبِ ضَعفِ قوَّةِ صبرِه ويقينِه، فكُلَّما ضَعُف ذلك منه قَوِيَ جَذْبُهم له، وكُلَّما قَويَ صبرُه ويقينُه قَويَ انجذابُه منهم، وجَذْبُه لهم [752] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/204). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قَولُ الله تعالى: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فيه إشارةٌ إلى إزالةِ الأعذارِ، والإتيانِ بما فوقَ الكفايةِ مِن الإنذارِ، وإلى أنَّه لم يبقَ مِن جانبِ الرَّسولِ تقصيرٌ [753] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/112). .
2- في قَولِه تعالى: كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ حُجَّةٌ على المُعتَزِلةِ واضِحةٌ في إنكارِهم أنَّ الهِدايةَ والإضلالَ مِنَ اللهِ تعالى [754] يُنظر: ((النُّكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (3/623). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قَولُه تعالى: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآَيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ
- قوله: لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ضَميرُ جمْعِ المُخاطَبِ في إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لِقَصْدِ تَعظيمِه مِن جانبِ اللهِ تعالى، وإنَّما يقولُ الَّذين كَفَروا: إنْ أنت إلَّا مُبطِلٌ، فحُكِيَ كلامُهم بالمعنى؛ للتَّنويهِ بشأْنِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ. وقِيل: الخِطابُ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمُؤمِنينَ؛ فهو حِكايةٌ باللَّفظِ. وهذا تأْييسٌ للرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن إيمانِ مُعاندِيه، أي: أئمَّةِ الكُفْرِ منهم؛ ولذلك اعترَضَ بعْدَه بجُملةِ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ بيْنَ الجُملتينِ المُتعاطفتَينِ؛ تَمْهيدًا للأمْرِ بالصَّبرِ على غُلَوائِهم [755] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/134). .
- وفي تَوحيدِ الخِطابِ بقولِه: وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ، والجمْعِ في قولِه: إِنْ أَنْتُمْ لَطيفةٌ؛ وهي: أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قال: ولئنْ جِئتَهم بكلِّ آيةٍ جاءتْ بها الرُّسلُ، فيُمكِنُ أنْ يُجاوِبوه بقولِه: أنتم كلُّكم أيُّها المُدَّعون الرِّسالةَ مُبطِلون [756] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/113)، ((تفسير أبي حيان)) (8/403). .
2- قَولُه تعالى: كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ
- قولُه: الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مُرادٌ به الَّذين كَفَروا أنفُسُهم؛ فعُدِلَ عن الإضمارِ؛ لزِيادةِ وَصْفِهم بانتفاءِ العِلْمِ عنهم بعدَ أنْ وُصِفوا بالمُجْرِمين، والَّذين ظَلَموا، والَّذين كَفَروا [757] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/134). .
3- قَولُه تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ
- قولُه: فَاصْبِرْ الأمْرُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالصَّبرِ، تفرَّعَ على جُملةِ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآَيَةٍ [الروم: 58] ؛ لتَضمُّنِها تأْييسَه مِن إيمانِهم. وحُذِفَ مُتعلَّقُ الأمْرِ بالصَّبرِ؛ لدَلالةِ المَقامِ عليه، أي: اصبِرْ على تَعنُّتِهم. وجُملةُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ تَعليلٌ للأمْرِ بالصَّبرِ، وهو تأْنيسٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بتَحقيقِ وعْدِ اللهِ مِن الانتقامِ مِن المُكذِّبينَ، ومِن نصْرِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ [758] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/135). .
- وظاهرُ النَّظمِ الكريمِ في قولِه: وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ وإنْ كان نهْيًا للكَفَرةِ عن استِخفافِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، لكنَّه في الحَقيقةِ نهْيٌ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن التَّأثُّرِ مِن استخفافِهم على طَريقِ الكِنايةِ [759] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/67). .
- والاستخفافُ: مُبالَغةٌ في جَعْلِه خفيفًا؛ فالسِّينُ والتَّاءُ للتَّقويةِ، مِثْلُها في نحْوِ: استجابَ واستمسَكَ [760] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/135). .
- قولُه: الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ همُ المُشرِكون الذين أُجْرِيَت عليهم الصِّفاتُ المُتقدِّمةُ مِن الإجرامِ، والظُّلمِ، والكُفرِ، وعدَمِ العِلْمِ؛ فهو إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ للتَّصريحِ بمَساوِيهم [761] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/135، 136). .
- ومِن تناسُب فواتحِ سورة الرُّومِ مع خواتيمها: أنَّها بدأتْ بوعدِ الله تعالى بغلبة الروم غُلِبَتِ الرُّومُ ... إلى قوله: وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [الروم: 1- 6] ، وفي خاتمتِها قال تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ [الروم: 60] ؛ ففي البداية وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ ...، وفي الختام: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [762] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/ 138)، ((التفسير الوسيط)) لطنطاوي (11/ 103). !