موسوعة التفسير

سورةُ الواقِعةِ
الآيات (75-82)

ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ

غَريبُ الكَلِماتِ:

بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ: أي: مَطالِعِ النُّجومِ ومَغارِبِها، ومَساقِطِها ومَنازِلِها، وأصلُ (نجم): يدُلُّ على طُلوعٍ وظُهورٍ، وأصلُ (وقع): يدُلُّ على سُقوطِ شَيءٍ [446] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 451)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/396، 6/134)، ((المفردات)) للراغب (ص: 792)، ((تفسير البغوي)) (8/22)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 389)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 312). .
مَكْنُونٍ: أي: مَصونٍ مَحفوظٍ، وأصلُ (كنن): يدُلُّ على سَترٍ وصَونٍ [447] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/363)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/123)، ((المفردات)) للراغب (ص: 727)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 389، 390). .
مُدْهِنُونَ: أي: مُكَذِّبونَ، يُلاينُ بَعضُكم بَعضًا، ويتَّبِعُه على الكُفرِ؛ مِنَ الإدهانِ: وهو الجَريُ في الباطِنِ على خِلافِ الظَّاهِرِ، هذا أصلُه، ثمَّ قِيلَ للمُكَذِّبِ: مُدْهِنٌ وإنْ صَرَّح بالتَّكذيبِ والكُفرِ، والمُداهَنةُ: عِبارةٌ عن المُداراةِ والمُلايَنةِ، مَأخوذةٌ مِنَ الدُّهنِ؛ لِلِينِه وإملاسِه، وأصلُ (دهن): يَدُلُّ على لِينٍ وسُهولةٍ [448] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 451)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 451)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/308)، ((المفردات)) للراغب (ص: 320)، ((تفسير البغوي)) (8/24)، ((تفسير ابن عطية)) (5/252)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 390). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى مُثنيًا على كتابِه المجيدِ: فلا أُقسِمُ بمواقِعِ النُّجومِ في السَّماءِ -وإنَّ هذا القَسَمَ لَقَسَمٌ عَظيمٌ، لو تَعلَمونَ قَدْرَه وعَظَمتَه- إنَّ هذا القُرآنَ لَعَظيمُ النَّفعِ والخَيرِ، مُنزَّهٌ عن كُلِّ نَقصٍ وعَيبٍ، في كِتابٍ مَصونٍ مِن كُلِّ سُوءٍ، لا يَمَسُّه إلَّا الملائِكةُ المطَهَّرونَ مِنَ الذُّنوبِ والعُيوبِ، وهذا القُرآنُ الكريمُ مُنزَّلٌ مِن رَبِّ العالَمينَ.
ثمَّ يقولُ تعالى منكِرًا على الكافرينَ: أفبِهذا القُرآنِ أنتم كافِرونَ مُكذِّبونَ، وتَجعَلونَ شُكرَ رِزقِكم التَّكذيبَ ؟!
تَفسيرُ الآياتِ:
فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّن أنَّه خالقُ الخلْقِ والرِّزقِ وله العَظَمةُ بالدَّليلِ القاطِعِ، ولم يؤمِنوا؛ قال: لم يَبْقَ إلَّا القسَمُ [449] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/425). .
فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75).
أي: فلا أُقسِمُ بمواقِعِ النُّجومِ في السَّماءِ [450] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/361)، ((تفسير الزمخشري)) (4/468)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/227)، ((تفسير القرطبي)) (17/223)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/197) و(2/192، 193)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 219، 220)، ((تفسير السعدي)) (ص: 836)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/330، 331). قال ابن الجوزي: (قولُه عزَّ وجلَّ: فَلَا أُقْسِمُ في «لا» قَولانِ: أحدُهما: أنَّها دخلت توكيدًا. والمعنى: فأُقسِمُ، ومِثلُه: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ [الحديد: 29] ، قاله الزَّجَّاجُ، وهو مذهبُ سعيدِ بنِ جُبَيرٍ. والثَّاني: أنَّها على أصلِها. ثمَّ في مَعناها قَولانِ: أحدُهما: أنَّها تَرجِعُ إلى ما تقدَّم، ومعناه: النَّهيُ [أي: ناهية]، تقديرُ الكلامِ: فلا تُكَذِّبوا، ولا تَجحَدوا ما ذَكَرْتُه مِن النِّعَمِ والحُجَجِ، قاله الماوَرْديُّ. والثَّاني: أنَّ «لا» ردٌّ لِما يقولُه الكفَّارُ في القرآنِ: إنَّه سِحرٌ، وشِعرٌ، وكِهانةٌ [أي: نافية]، ثمَّ استأنف القسَمَ على أنَّه قرآنٌ كريمٌ، قاله عليُّ بنُ أحمدَ النَّيْسابوريُّ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/227). ويُنظر: ((تفسير الماوردي)) (5/462)، ((الوسيط)) للواحدي (4/239). وممَّن قال: دَخَلَت (لا) توكيدًا. والمعنى: فأُقسِمُ: الزَّجَّاجُ، والواحديُّ، والزمخشري، وأبو السعود، وابن عاشور. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/115)، ((الوسيط)) للواحدي (4/239)، ((تفسير الزمخشري)) (4/468)، ((تفسير أبي السعود)) (2/197)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/330). ونسَبَ هذا القولَ إلى أكثَرِ المُفَسِّرينَ وجمهورِهم: البغويُّ، والقرطبي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (5/19)، ((تفسير القرطبي)) (17/223)، ((تفسير الشوكاني)) (5/192). ويُنظر أيضًا: ((تفسير السمعاني)) (5/358). وقيل غيرُ ذلك. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (17/223)، ((تفسير البيضاوي)) (5/182)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/220)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/80)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/234، 235)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/330). واختلف المُفَسِّرونَ في المُرادِ بالنُّجومِ: فقيل: المرادُ بها: نُجومُ السَّماءِ. ومِمَّن ذهب إلى هذا: ابنُ جرير، والزمخشريُّ، والقرطبي، وابن القيم، والسعدي، وهو ظاهرُ اختيارِ ابنِ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/361)، ((تفسير الزمخشري)) (4/468)، ((تفسير القرطبي)) (17/223)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/197) و(2/192، 193)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 219، 220)، ((تفسير السعدي)) (ص: 836)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/330، 331). ونسَبه ابنُ الجوزي إلى الجُمهورِ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/227). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: مجاهدٌ في روايةٍ عنه، وقَتادةُ، والحسَنُ، وابنُ جُرَيجٍ، والضَّحَّاكُ، وعطاءُ بنُ أبي رباحٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/361)، ((تفسير الماوردي)) (5/462)، ((تفسير البغوي)) (5/19)، ((تفسير ابن كثير)) (7/544). وعلى القولِ بأنَّ المرادَ نجومُ السَّماءِ فقد وقع خِلافٌ في المرادِ بمَواقِعِها، فقال ابنُ القيِّمِ: (... ففي مَواقِعِها أقوالٌ: أحَدُها: أنَّه انكِدارُها وانتِشارُها يومَ القيامةِ. وهذا قَولُ الحَسَنِ. والمُنَجِّمونَ يُكَذِّبونَ بهذا ولا يُقِرُّونَ به. والثَّاني: مَواقِعُها: مَنازِلُها. قاله عَطاءٌ وقَتادةُ [حكاه ابنُ الجوزي عنهما]. والثَّالِثُ: أنَّه مَغارِبُها. والرَّابعُ: أنَّه مَواقِعُها عندَ طُلوعِها وغُروبِها. حكاه ابنُ عطيَّةَ عن مجاهدٍ وأبي عُبَيدةَ. والخامِسُ: أنَّ مَواقِعَها: مَواضِعُها مِنَ السَّماءِ. وهذا الَّذي حكاه ابنُ الجوزي عن قَتادةَ حكاه ابنُ عطيَّةَ عنه، فيَحتَمِلُ أن يكونَا واحِدًا، وأن يكونَا قَولَينِ. السَّادِسُ: أنَّ مَواقِعَها: انقِضاضُها إثرَ العِفْريتِ وقْتَ الرُّجومِ. حكاه ابنُ عطيَّةَ أيضًا، ولم يَذكُرْ أبو الفَرَجِ بنُ الجوزيِّ سِوى الثَّلاثةِ الأُوَلِ). ((مفتاح دار السعادة)) (2/192). ويُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/252)، ((تفسير ابن عطية)) (5/251)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/227). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بمَواقِعِ النُّجومِ: مَساقِطُها ومَغايِبُها في السَّماءِ: ابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، والواحدي، والزمخشري، والشوكاني، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/361)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/115)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1063)، ((تفسير الزمخشري)) (4/468)، ((تفسير الشوكاني)) (5/192)، ((تفسير السعدي)) (ص: 836). ويُنظر أيضًا: ((تفسير القرطبي)) (17/223)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/330). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/361). وقيل: النُّجومُ: هي آياتُ القُرآنِ الكريمِ، ومَواقِعُها: هي نُزولُها شيئًا بعدَ شَيءٍ؛ فالقُرآنُ نَزَل جُملةً واحِدةً مِن اللَّوحِ المحفوظِ إلى السَّماءِ الدُّنيا، ثمَّ نَزَل مُنَجَّمًا -أي: مُفَرَّقًا- على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وممَّن قال بهذا القولِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، ورجَّحه الشنقيطيُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل ابن سليمان)) (4/223)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/463، 464). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ مسعودٍ، وابنُ عبَّاسٍ، وعِكْرِمةُ، ومجاهدٌ في روايةٍ عنه، والسُّدِّيُّ، وأبو حَزْرةَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/359)، ((تفسير الماوردي)) (5/462)، ((تفسير ابن كثير)) (7/544)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/26). قال ابنُ عطيَّة: (ويُؤَيِّدُ هذا القَولَ عَودُ الضَّميرِ على القُرآنِ في قَولِه: إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ؛ وذلك أنَّ ذِكْرَه لم يتقَدَّمْ إلَّا على هذا التَّأويلِ، ومَن لا يتأوَّلُ بهذا التَّأويلِ يَقولُ: إنَّ الضَّميرَ يَعودُ على القُرآنِ وإن لم يتقَدَّمْ ذِكرُه؛ لِشُهرةِ الأمرِ، ووُضوحِ المعنى، كقَولِه تعالى: حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ [ص: 32]، وكُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن: 26] وغيرِ ذلك. وقال جمهورٌ كَثيرٌ مِنَ المُفَسِّرينَ: النُّجومُ هنا: الكواكِبُ المعروفةُ). ((تفسير ابن عطية)) (5/251). .
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76).
أي: وإنَّ هذا القَسَمَ لَقَسَمٌ عَظيمٌ، لو تَعلَمونَ قَدْرَه وعَظَمتَه [451] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/362)، ((تفسير أبي حيان)) (10/92)، ((تفسير ابن كثير)) (7/544)، ((تفسير السعدي)) (ص: 836). قال ابن كثير: (وقولُه: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ أي: وإنَّ هذا القسَمَ الَّذي أقسمتُ به لَقَسَمٌ عظيمٌ، لو تعلمون عظَمتَه لَعظَّمْتُم المُقسَمَ به عليه). ((تفسير ابن كثير)) (7/544). وقال أبو السعود: (جوابُ لَوْ إمَّا مَتروكٌ أُريدَ به نَفيُ عِلْمِهم، أو محذوفٌ ثِقةً بظُهورِه، أي: لَعَظَّمتُموه، أو لَعَمِلتم بمُوجبِه). ((تفسير أبي السعود)) (8/200). وقال أبو حيَّان: (في إقسامِه تعالى بمواقِعِ النُّجُومِ سِرٌّ في تعظيمِ ذلك لا نَعلَمُه نحن، وقد أعظَمَ ذلك تعالى، فقال: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ). ((تفسير أبي حيان)) (10/92). !
إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77).
أي: أُقسِمُ على أنَّ هذا القُرآنَ المُنزَّلَ على مُحمَّدٍ: قرآنٌ عَظيمُ الحُسْنِ والنَّفعِ، والخَيرِ والإنعامِ؛ مُتَّصِفٌ بصِفاتِ الكَمالِ والجَمالِ، مُنزَّهٌ عن كُلِّ شائِبةِ نَقصٍ وعَيبٍ وقُبحٍ [452] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/362)، ((تفسير الزمخشري)) (4/469)، ((تفسير ابن عطية)) (5/251)، ((تفسير الرازي)) (29/429)، ((تفسير القرطبي)) (17/223)، ((تفسير ابن كثير)) (7/544)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/237)، ((تفسير الشوكاني)) (5/192)، ((تفسير القاسمي)) (9/128)، ((تفسير السعدي)) (ص: 836)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/333). !
فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78).
أي: إنَّ القُرآنَ مَحفوظٌ عِندَ اللهِ -تعالى- في كِتابٍ مَصونٍ مِن كُلِّ سُوءٍ [453] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/362)، ((تفسير القرطبي)) (17/224)، ((تفسير ابن كثير)) (7/544)، ((تفسير الشوكاني)) (5/192)، ((تفسير القاسمي)) (9/128)، ((تفسير السعدي)) (ص: 836). نَقَل ابنُ عَطيَّةَ اتِّفاقَ المُفَسِّرينَ على أنَّ المكنونَ بمعنى: المَصُونِ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/251). واختَلَفوا في المرادِ بهذا الكِتابِ؛ فقيل هو: اللَّوحُ المحفوظُ، كما قال تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج: 21، 22]. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والواحديُّ، والرازي، والخازن، والعُلَيمي، والسعدي، ونسَبَه ابنُ عثيمينَ إلى أكثَرِ المفَسِّرينَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/224)، ((الوسيط)) للواحدي (4/239)، ((تفسير الرازي)) (29/430)، ((تفسير الخازن)) (4/241)، ((تفسير العليمي)) (6/519)، ((تفسير السعدي)) (ص: 836)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 348). قال ابن جُزَي: (المرادُ بهذا الكتابِ المَكنونِ المصاحفُ الَّتي كُتِب فيها القرآنُ، أو صُحُفُ القُرآنِ الَّتي بأيدي الملائكةِ عليهم السَّلامُ). ((تفسير ابن جزي)) (2/339). ويُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 836). وقال ابنُ القَيِّم: (الصَّحيحُ أنَّه الكتابُ الَّذي بأيدي الملائكةِ، وهو المذكورُ في قولِه: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ [عبس: 13 - 16]، ويدُلُّ على أنَّه الكتابُ الَّذي بأيدي الملائكةِ قولُه: لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة: 79]، فهذا يدُلُّ على أنَّه بأيديهم يَمَسُّونَه، وهذا هو الصَّحيحُ في معنى الآيةِ). ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 226). وقيل: المرادُ: المصاحِفُ الَّتي بأيدي المُسلِمينَ، واستحسَنه ابنُ الفَرَس، وعليه فهذا إخبارٌ بغَيبٍ؛ وذلك لأنَّه لم تكُنْ مَصاحفُ يومَ نزلَتِ الآيةُ. يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن الفرس (3/517). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عطية)) (5/251)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/228). .
لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79).
أي: لا يَمَسُّ هذا الكِتابَ المكنونَ إلَّا الملائكةُ الَّذين طَهَّرهمُ اللهُ تعالى مِنَ الذُّنوبِ والعُيوبِ [454] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/224)، ((تفسير ابن جرير)) (22/367)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/115)، ((الوسيط)) للواحدي (4/239)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 348). قال الواحدي: (أكثَرُ المُفَسِّرين على أنَّ الكِنايةَ -الضَّميرَ- في قَولِه: لَا يَمَسُّهُ تعودُ إلى الكِتابِ المكنونِ، والمُطَهَّرونَ: هم الملائِكةُ، قال المُبَرِّدُ: لا يَمَسُّ ذلك اللَّوحَ المحفوظَ إلَّا الملائِكةُ الَّذين وُصِفوا بالطَّهارةِ. ومَذهَبُ قَومٍ: أنَّ الضَّميرَ يعودُ إلى القُرآنِ). ((الوسيط)) (4/239). وممَّن قال بأنَّ الضَّميرَ في قَولِه تعالى: لَا يَمَسُّهُ يعودُ إلى الكتابِ المكنونِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، ونسَبَه الواحديُّ إلى أكثَرِ المُفَسِّرينَ، وذهب إليه ابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/224)، ((تفسير ابن جرير)) (22/367)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/115)، ((الوسيط)) للواحدي (4/239)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 348). قال ابن جرير: (الصَّوابُ مِنَ القَولِ مِن ذلك عِندَنا: أنَّ اللهَ جَلَّ ثناؤُه أخبَرَ أنَّه لا يَمَسُّ الكتابَ المكنونَ إلَّا المُطَهَّرونَ، فعَمَّ بخَبَرِه المُطَهَّرينَ، ولم يَخْصُصْ بَعضًا دونَ بَعضٍ؛ فالملائِكةُ مِنَ المُطَهَّرينَ، والرُّسُلُ والأنبياءُ مِنَ المُطَهَّرينَ، وكُلُّ مَن كان مُطَهَّرًا مِنَ الذُّنوبِ فهو مِمَّن اسْتُثْنِيَ وعُنِيَ بقَولِه: إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ). ((تفسير ابن جرير)) (22/367). وتخصيصُ المُطَهَّرينَ هنا بالملائِكةِ: ذهب إليه مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والزَّجَّاجُ، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/224)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/115)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 348). ونسَبَ الواحديُّ، وابنُ عاشور هذا القولَ إلى جمهورِ المفَسِّرينَ. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/239)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/334). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: أنسٌ، وابنُ عبَّاسٍ، ومجاهدٌ، وعِكْرِمةُ، وأبو الشَّعْثاءِ جابرُ بنُ زَيدٍ، وأبو نَهِيكٍ، وباذانُ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ، وأبو العاليةِ، والضَّحَّاكُ، والكلبيُّ، وقَتادةُ، والسُّدِّيُّ، وعبدُ الرَّحمنِ بنُ زَيدِ بنِ أسْلَمَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/364، 365)، ((تفسير الثعلبي)) (9/219)، ((البسيط)) للواحدي (21/260)، ((تفسير ابن كثير)) (7/544). قال ابن تيميَّةَ: (والصَّحيحُ اللَّوحُ المحفوظُ الَّذي في السَّماءِ مُرادٌ مِن هذه الآيةِ، وكذلك الملائِكةُ مُرادُونَ مِن قَولِه: الْمُطَهَّرُونَ؛ لوُجوهٍ: أحدُهما: أنَّ هذا تفسيرُ جماهيرِ السَّلَفِ مِن الصَّحابةِ ومَن بعدَهم، حتَّى الفُقَهاءُ الَّذين قالوا: «لا يَمَسُّ القُرآنَ إلَّا طاهرٌ» مِن أئمَّةِ المذاهِبِ صَرَّحوا بذلك، وشَبَّهوا هذه الآيةَ بقَولِه تعالى: كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ [عبس: 11 - 16]. أنَّه أخبَرَ أنَّ القرآنَ جميعَه في كِتابٍ، وحينَ نزَلَتْ هذه الآيةُ لم يكُنْ نَزَلَ إلَّا بعضُ المكِّيِّ منه، ولم يُجْمَعْ جميعُه في المُصحَفِ إلَّا بعدَ وَفاةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم. وثالثُها: أنَّه قال: فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ والمَكنونُ: المصونُ المُحْرَزُ الَّذي لا تَنالُه أيدي المُضِلِّينَ؛ فهذه صِفةُ اللَّوحِ المحفوظِ. ورابِعُها: أنَّ قولَه: لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ صِفةٌ للكتابِ، ولو كان معناها الأمرَ لم يَصِحَّ الوَصفُ بها، وإنَّما يوصَفُ بالجُملةِ الخَبَريَّةِ. وخامِسُها: أنَّه لو كان معنى الكلامِ الأمرَ لَقيل: «فلا يَمَسَّه»؛ لِتَوسُّطِ الأمرِ بما قَبْلَه. وسادِسُها: أنَّه قال: الْمُطَهَّرُونَ، وهذا يَقتَضي أنْ يكونَ تَطهيرُهم مِن غَيرِهم، ولو أُريدَ طهارةُ بني آدمَ فقط لقِيلَ: المُتَطَهِّرونَ، كما قال تعالى: فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة: 108]، وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة: 222]. وسابِعُها: أنَّ هذا مَسوقٌ لبيانِ شَرَفِ القُرآنِ وعُلُوِّهِ وحِفْظِه، وذلك بالأمرِ الَّذي قد ثَبَتَ واستقرَّ أبلَغُ منه بما يَحْدُثُ ويكونُ. نعمْ، الوجهُ في هذا -واللهُ أعلمُ- أنَّ القرآنَ الَّذي في اللَّوحِ المحفوظِ هو القُرآنُ الَّذي في المُصحَفِ، كما أنَّ الَّذي في هذا المُصحَفِ هو الَّذي في هذا المُصحَفِ بعَينِه، سواءٌ كان المَحَلُّ وَرَقًا أو أَديمًا، أو حَجَرًا أو لِخَافًا، فإذا كان مِن حُكْمِ الكتابِ الَّذي في السَّماءِ ألَّا يَمَسَّه إلَّا المُطَهَّرونَ وَجَبَ أنْ يكونَ الكِتابُ الَّذي في الأرضِ كذلك؛ لأنَّ حُرمَتَه كحُرمَتِه، أو يكونُ الكِتابُ اسمَ جنسٍ يَعُمُّ كلَّ ما فيه القُرآنُ، سواءٌ كان في السَّماءِ أو الأرضِ، وقد أَوحى إلى ذلك قَولُه تعالى: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ [البينة: 2 - 3] ، وكذلك قولُه تعالى: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ [عبس: 13] ). ((شرح العمدة - كتاب الطهارة)) لابن تيمية (ص: 383). ويُنظر أيضًا: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/390)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 227). واستظهر أبو حيَّان أنَّ الضَّميرَ يعودُ إلى القُرآنِ، وذهب إليه السعديُّ، وكِلاهما على أنَّ المطَهَّرينَ هم الملائِكةُ. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/92)، ((تفسير السعدي)) (ص: 836). وقيل: المُطَهَّرونَ هم المُتَطَهِّرونَ مِنَ الجَنابةِ والحَدَثِ. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/545). .
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر الَّذي منه صيانتُه؛ أتْبَعَه شَرَفَه بشَرَفِ مُنزِلِه [455] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/239). :
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80).
أي: هذا القُرآنُ الكريمُ مُنزَّلٌ مِن رَبِّ العالَمينَ؛ فهو الحَقُّ الَّذي لا مِرْيةَ فيه [456] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/367)، ((تفسير ابن كثير)) (7/545)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 349). قال السعدي: (أي: إنَّ هذا القُرآنَ الموصوفَ بتلك الصِّفاتِ الجَليلةِ هو تنزيلُ رَبِّ العالَمينَ، الَّذي يُرَبِّي عِبادَه بنِعَمِه الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ، ومِنْ أجَلِّ تَربيةٍ رَبَّى بها عِبادَه إنزالُه هذا القُرآنَ الَّذي قد اشتَمَل على مصالِحِ الدَّارَينِ، ورَحِمَ اللهُ به العِبادَ رَحمةً لا يَقدِرونَ لها شُكورًا!). ((تفسير السعدي)) (ص: 836). .
قال تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [السجدة: 2] .
أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81).
أي: أفبِهذا القُرآنِ أنتم [457] هذا خِطابٌ للكفَّارِ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/252)، ((تفسير ابن جزي)) (2/340). وقال البغوي: (أَنْتُمْ، يا أهلَ مَكَّةَ). ((تفسير البغوي)) (5/21). ويُنظر: ((البسيط)) للواحدي (21/262). كافِرونَ مُكذِّبونَ [458] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/224)، ((تفسير ابن جرير)) (22/367)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/116)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1064)، ((تفسير ابن عطية)) (5/252)، ((تفسير القرطبي)) (17/227، 228)، ((تفسير ابن كثير)) (7/545)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/239، 240)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/338، 339). قيل: إنَّ المُدهِنَ هو الكذَّابُ المنافقُ. وممَّن قال بهذا: الزَّجَّاجُ، والبغوي، والبِقاعي. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/116)، ((تفسير البغوي)) (5/21)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/240). وقال السمعاني: (مكذِّبون تكذيبَ مُنافِقٍ). ((تفسير السمعاني)) (5/360). وقال البِقاعي: (أي: كذَّابون منافِقون، بسببِه تُظهِرون غيرَ ما تُبطِنون: أنَّه كذَّابٌ وأنتم تَعلَمون صِدقَه بحُسنِ مَعانيه، وعَجْزِكم عن مُماثَلَتِه في نُظومِه ومَبانِيه، وتقولونَ: لو شِئْنا لَقُلْنا مِثلَ هذا! وجميعُ أفعالِكم تُخالِفُ هذا). ((نظم الدرر)) (19/240). وقال البغوي: (وهو مِن الإدهانِ، وهو الجريُ في الباطنِ على خِلافِ الظَّاهرِ، هذا أصْلُه، ثُمَّ قيل للمكَذِّبِ مُدْهِنٌ وإنْ صَرَّح بالتَّكذيبِ والكفرِ). ((تفسير البغوي)) (5/21). وقيل: المعنى: مُتهاوِنون، كمَنْ يُدْهِنُ في الأمرِ أي: يُلينُ جانبَه ولا يَتصلَّبُ فيه تهاوُنًا به. وممَّن قال بهذا: الزمخشريُّ، والبيضاوي، والنسفي، وابنُ جُزَي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/469)، ((تفسير البيضاوي)) (5/183)، ((تفسير النسفي)) (3/429)، ((تفسير ابن جزي)) (2/340). قال ابن جرير: (يقولُ تعالى ذِكْرُه: أفبِهذا القُرآنِ الَّذي أنبَأْتُكم خَبَرَه، وقَصَصْتُ عليكم أمْرَه -أيُّها النَّاسُ- أنتم تُلِينونَ القَولَ للمُكَذِّبينَ به؛ مُمالأةً منكم لهم على التَّكذيبِ به والكُفرِ؟!). ((تفسير ابن جرير)) (22/367). وقال ابن عطية: (مُدْهِنُونَ معناه: يُلايِنُ بعضُكم بعضًا، ويَتبعُه في الكفرِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/252). قال ابن عاشور: (وعلى تفسيرِ مُدْهِنُونَ بمعنى الإلانةِ، فالمعنى: لا تَتراخَوْا في هذا الحديثِ، وتَدبَّروه، وخُذوا بالفورِ في اتِّباعِه). ((تفسير ابن عاشور)) (27/339). ؟!
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان هذا القُرآنُ مُتَكَفِّلًا بسَعادةِ الدَّارَينِ؛ قال تعالى [459] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/241). :
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82).
وتَجعَلونَ شُكْرَ رزقِكم التَّكذيبَ؛ فتَضَعونَ التَّكذيبَ مَوضِعَ الشُّكرِ، وتُقابِلونَ مِنَّةَ الله عليكم بالكُفرِ بها [460] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/368)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/116)، ((تفسير الزمخشري)) (4/469)، ((تفسير القرطبي)) (17/228)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/150)، ((تفسير السعدي)) (ص: 836)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 350). وممَّن ذهب في الجملةِ إلى المعنى المذكورِ: ابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، والزَّمخشريُّ، والقرطبيُّ، وابنُ تيميَّةَ، والسعديُّ، وابنُ عثيمين. يُنظر: المصادرُ السَّابقة. قال ابن عطيَّة: (وقولُه عزَّ وجلَّ: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ أجمَع المفسِّرونَ على أنَّ الآيةَ توبيخٌ للقائلينَ في المطَرِ الَّذي يُنزِلُه اللهُ للعِبادِ: هذا بنَوْءِ كذا وكذا... والمعنى: وتَجعَلونَ شُكرَ رِزْقِكم). ((تفسير ابن عطية)) (5/252). وقال الشنقيطي: (قولُه: رِزْقَكُمْ، أي: المطرَ؛ كما قال تعالَى: وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا [غافر: 13] . وقولُه: أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ، أي: بقوْلِكم: مُطِرْنا بنَوْءِ كذا). ((أضواء البيان)) (6/63). وقال الرازي: (تَجعلونَ شُكْرَ النِّعَمِ أنَّكم تَقولونَ: مُطِرْنا بنَوْءِ كذا! وهذا عليه أكثرُ المفسِّرينَ). ((تفسير الرازي)) (29/434). وقال ابن الجوزي: (وتَجعلونَ شُكرَ رِزقِكم تكذيبَكم. قاله الأكثَرونَ؛ وذلك أنَّهم كانوا يُمطَرونَ، فيَقولون: مُطِرْنا بنَوْءِ كذا!). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/229). وقال ابن القيِّم: (ومِن بَعضِ معنى الآيةِ قَولُهم: مُطِرْنا بنَوءِ كذا وكذا، فهذا يَصلحُ أن تَدُلَّ عليه الآيةُ ويُرادَ بها، وإلَّا فمعناها أوسَعُ منه وأعَمُّ وأعلى. واللهُ أعلَمُ). ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 236). وقيل: تَجعَلونَ شُكرَ اللهِ على ما رزَقَكم تكذيبَ رُسُلِه والكُفرَ به. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (5/465). ممَّن اختار أنَّ المعنى: وتَجعَلون حظَّكم ونصيبَكم مِن القرآنِ أنَّكم تُكَذِّبون: الثعلبيُّ، والبغويُّ، والخازنُ. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (9/221)، ((تفسير البغوي)) (5/21)، ((تفسير الخازن)) (4/242). وممَّن رُوِيَ عنه هذا القَولُ مِنَ السَّلَفِ: الحَسَنُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/372). قال ابن عثيمين: (قوله: رِزْقَكُمْ: الرِّزقُ هو العَطاءُ، والمرادُ به هنا ما هو أعَمُّ مِن المطرِ؛ فيَشملُ معنيَينِ: الأوَّل: أنَّ المرادَ به رِزقُ العِلمِ؛ لأنَّ اللهَ قال: فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الواقعة:75-82] ، أي: تَخافونَهم فتُداهِنونَهم، وتَجعَلون شُكرَ ما رزَقَكم اللهُ به مِن العِلمِ والوحيِ أنَّكم تُكَذِّبون به، وهذا هو ظاهرُ سياقِ الآيةِ. الثَّاني: أنَّ المرادَ بالرِّزقِ المطرُ، وقد... صحَّ عن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهما في تفسيرِ الآيةِ: أنَّ المرادَ بالرِّزقِ المطَرُ، وأنَّ التَّكذيبَ به نِسبتُه إلى الأنواءِ... والقاعدةُ في التَّفسيرِ: أنَّ الآيةَ إذا كانت تحتمِلُ المعنيَينِ جميعًا بدونِ مُنافاةٍ، تُحمَلُ عليهما جميعًا، وإن حصَل بيْنَهما مُنافاةٌ طُلِب المُرَجِّحُ. ومعنى الآيةِ: أنَّ اللهَ يوبِّخُ هؤلاء الَّذين يَجعلون شُكرَ الرِّزقِ التَّكذيبَ والاستِكبارَ والبُعدَ؛ لأنَّ شُكرَ الرِّزقِ يكونُ بالتَّصديقِ والقَبولِ والعمَلِ بطاعةِ المُنعِمِ...، سواءٌ قُلْنا: المرادُ بالرِّزقِ المطرُ الَّذي به حياةُ الأرضِ، أو قُلْنا: إنَّ المرادَ به القرآنُ الَّذي به حياةُ القُلوبِ؛ فإنَّ هذا مِن أعظَمِ الرِّزقِ؛ فكيف يليقُ بالإنسانِ أن يُقابِلَ هذه النِّعمةَ بالتَّكذيبِ؟!). ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) (2/19). وجوَّز الرَّازيُّ أن يكونَ المعنى: تَخافون أنَّكم إن صدَّقتُم ومَنعْتُم ضُعَفاءَكم عن الكُفرِ يَفوتُ عليكم مِن كَسْبِكم ما تَربَحونَه بسَبَبِهم، فتَجَعلونَ رِزقَكم أنَّكم تُكَذِّبونَ الرُّسُلَ. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/434). وقال ابنُ عاشور: (أي: تَجعَلونَ شُكرَ اللهِ على رِزْقِه إيَّاكم أن تُكَذِّبوا بقُدرتِه على إعادةِ الحياةِ؛ لأنَّهم عَدَلوا عن شُكرِ اللهِ تعالى فيما أنعَمَ به عليهم، فاستَنقَصوا قُدرتَه على إعادةِ الأجسامِ، ونَسَبوا الزَّرعَ لأنفُسِهم، وزَعَموا أنَّ المطَرَ تُمطِرُه النُّجومُ المُسَمَّاةُ بالأنواءِ؛ فلذلك قال ابنُ عبَّاسٍ: نزلت في قَولِهم: مُطِرْنا بنَوءِ كذا، أي: لأنَّهم يقولونَه عن اعتقادِ تأثيرِ الأنواءِ في خَلْقِ المطَرِ، فمعنى قَولِ ابنِ عبَّاسٍ: نَزَلت في قَولِهم: مُطِرْنا بنَوءِ كذا- أنَّه مُرادٌ مِن معنى الآيةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/340). قال ابن القيِّم: (إنَّ اللهَ تعالى تأذَّنَ أنَّه لا بدَّ أن يَزيدَ الشَّكورَ مِن نِعَمِه، ولا بدَّ أن يَسْلُبَها مَن لم يَشكُرْها، فلمَّا وضَعوا الكفرَ والتَّكذيبَ مَوضِعَ الشُّكرِ والإيمانِ، جعَلوا رِزقَهم نفْسَه تكذيبًا؛ فإنَّ التَّصديقَ والشُّكرَ لَمَّا كانا سببَ زيادةِ الرِّزقِ، وهما رِزقُ القلبِ حقيقةً، فهؤلاء جعَلوا مكانَ هذا الرِّزقِ التَّكذيبَ والكفرَ، فجعَلوا رِزقَهم التَّكذيبَ، وهذا المعنى هو الَّذي حامَ حوْلَه مَن قال: التَّقديرُ: وتَجعَلون شُكرَ رِزقِكم أنَّكم تُكَذِّبون). ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 235، 236). وقال القرطبي: (إنَّما صلَح أن يُوضَعَ اسمُ الرِّزقِ مكانَ شُكرِه؛ لأنَّ شُكرَ الرِّزقِ يَقتضي الزِّيادةَ فيه، فيكونُ الشُّكرُ رِزقًا على هذا المعنى، فقيل: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ، أي: شُكرَ رِزقِكم الَّذي لو وُجِد منكم لَعادَ رِزقًا لكم). ((تفسير القرطبي)) (17/228). ؟!
قال تعالى: يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ [النحل: 83] .
وقال سُبحانَه: وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه: 131، 132].
وعن زَيدِ بنِ خالِدٍ الجُهَنيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((صلَّى بنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلاةَ الصُّبحِ بالحُدَيْبِيَةِ في إِثْرِ السَّماءِ [461] السَّمَاءِ: أي: المَطَرِ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (2/60). كانت مِنَ اللَّيلِ، فلمَّا انصَرَف أقبَلَ على النَّاسِ فقال: هل تَدْرُونَ ماذا قال رَبُّكم؟ قالوا: اللهُ ورَسولُه أعلَمُ. قال: قال: أصبَحَ مِن عِبادي مُؤمِنٌ بي وكافِرٌ؛ فأمَّا مَن قال: مُطِرْنا بفَضلِ اللهِ ورَحمتِه فذلك مُؤمِنٌ بي، كافِرٌ بالكوكَبِ، وأمَّا مَن قال: مُطِرْنا بنَوءِ [462] بنَوءِ كذا: أي: بنَجْمِ كذا، والنَّوءُ عندَ العَرَبِ: سُقوطُ نَجمٍ مِن نُجومِ المنازِلِ الثَّمانيةِ والعِشرينَ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/199). كذا وكذا فذلك كافِرٌ بي، مُؤمِنٌ بالكوكَبِ)) [463] رواه البخاريُّ (1038)، ومسلمٌ (71) واللَّفظُ له. .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ألم تَرَوا إلى ما قال رَبُّكم؟! قال: ما أنعَمْتُ على عبادي مِن نِعمةٍ إلَّا أصبَحَ فَريقٌ منهم بها كافِرينَ، يقولونَ: الكواكِبُ، وبالكواكِبِ !)) [464] رواه مسلم (72). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قال تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ فوصَفه بما يَقتَضي حُسْنَه، وكَثرةَ خَيرِه ومَنافعِه، وجلالتَه؛ فإنَّ الكريمَ هو البَهيُّ، الكثيرُ الخَيرِ، العَظيمُ النَّفعِ، وهو مِن كلِّ شيءٍ أحسَنُه وأفضَلُه، واللهُ سُبحانَه وَصَف نفْسَه بالكَرَمِ، ووَصَف به كلامَه، ووَصَف به عرْشَه، ووَصَف به ما كَثُرَ خيْرُه وحَسُنَ منْظَرُه مِن النَّباتِ وغيرِه؛ ولذلك فَسَّرَ السَّلَفُ «الكريمَ» بالحَسَنِ. وبالجُملةِ فالكريمُ: الَّذي مِن شأنِه أنْ يُعطيَ الخَيرَ الكثيرَ بسُهولةٍ ويُسْرٍ، وضِدُّهُ: اللَّئيمُ: الَّذي لا يُخرِجُ خيْرَه النَّزْرَ إلَّا بعُسْرٍ وصُعوبةٍ، وكذلك الكريمُ في النَّاسِ واللَّئيمُ [465] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 225). ، والقُرآنُ يُعطي أهلَه مِن الخَيراتِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ والجِسْميَّةِ والقَلبيَّةِ؛ قال تعالى: فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان: 52] ؛ فهو سِلاحٌ لِمَن تمسَّكَ به، ولكنْ يَحتاجُ إلى أنْ نتمَسَّكَ به بالقَولِ والعَمَلِ والعَقيدةِ، فلا بُدَّ أنْ يُصَدِّقَ العَقيدةَ العَمَلُ؛ قال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ألَا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغةً إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجسَدُ كلُّه، وإذا فَسَدَتْ فَسَد الجَسَدُ كلُّه، ألَا وهي القَلبُ )) [466] أخرجه البخاريُّ (52)، ومسلمٌ (1599) من حديثِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رضيَ الله عنهما. ، ووَصَفَ اللهُ القرآنَ في آيةٍ أُخرى بأنَّه مَجيدٌ، والمَجْدُ صِفةُ العَظَمةِ والعِزَّةِ والقُوَّةِ، والقُرآنُ جامِعٌ بيْنَ الأمْرَينِ: فيه قُوَّةٌ وعَظَمةٌ، وكذا خَيراتٌ كثيرةٌ وإحسانٌ لِمَن تمسَّكَ به [467] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (2/35). .
2- في قَولِه تعالى: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ إشارةٌ إلى أنَّه يَجِبُ علينا أنْ نَعمَلَ به؛ لأنَّ الَّذي أنزَلَه هو الرَّبُّ المُطاعُ الخالِقُ الرَّازِقُ الَّذي يَجِبُ أنْ نُطيعَه بما أمَرَ، وننتهيَ عمَّا نهى عنه وزَجَرَ [468] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 349). .
3- في قَولِه تعالى: أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ إنكارٌ على مَن سَمِعَ أحَدًا يتكَلَّمُ في القُرآنِ بما لا يَليقُ، ثمَّ لا يُجاهِرُه بالعَداوةِ [469] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/240). !
4- في قَولِه تعالى: أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ أنَّ الواجِبَ على مَنْ آمَنَ بأنَّه تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وأنَّه قرآنٌ كريمٌ، وأنَّه لا يَمَسُّه إلَّا المطهَّرونَ- الواجِبَ أنْ يُصارِحَ ويُصَرِّحَ، ولا يُدْهِنَ، وقد قال اللهُ تعالى في آيةٍ أُخرى: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم: 9] ، ولكنْ هذا ليس بحاصِلٍ، فالواجِبُ على المؤمِنِ أنْ يَبرُزَ بدينِه، ويَفتَخِرَ به، ويُظهِرَه، بخِلافِ ما عليه كثيرٌ مِن النَّاسِ اليومَ مع الأسفِ؛ تَجِدُ الرَّجُلَ منهم إذا قام ليصَلِّيَ يَستحي أنْ يُصَلِّيَ، ورُبَّما يُداهِنُ ويُؤَخِّرُ الصَّلاةَ عن وقتِها؛ موافَقةً لهؤلاء الَّذين لا يُصَلُّونَ! وهذا غلَطٌ عظيمٌ، بلِ الواجبُ أنْ يكونَ الإنسانُ صَريحًا، فلا يُداهِنَ في دِينِ اللهِ عزَّ وجلَّ [470] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 349). .
5- في قَولِه تعالى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ بَيانُ أنَّ ما أصاب العِبادَ مِن خَيرٍ فلا يَنبغي أن يَرَوه مِن قِبَلِ الوَسائِطِ الَّتي جَرَت العادةُ بأن تكونَ أسبابًا، بل ينبغي أن يَرَوه مِن قِبَلِ الله تعالى، ثمَّ يُقابِلوه بشُكرٍ إنْ كان نِعمةً، أو صَبرٍ إن كان مَكروهًا؛ تعَبُّدًا له تعالى وتذَلُّلًا [471] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (17/228)، ((تفسير ابن عادل)) (18/441). .
6- قَولُه تعالى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ أي: تَجعَلونَ عَطاءَ اللهِ إيَّاكم تَكذيبًا له، كما قال عزَّ وجلَّ: يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا [النحل: 83] ، ومِن ذلك أنْ يَنسُبَ الإنسانُ نِعمةَ اللهِ عزَّ وجلَّ إلى السَّبَبِ مُتناسيًا المُسَبِّبَ سُبحانَه وتعالى، كقَولِه مثلًا: مُطِرْنا بنَوءِ كذا، فيَنْسُبُ المطرَ إلى النَّوءِ لا إلى الخالقِ عزَّ وجلَّ، فهذا نَوعٌ مِن الشِّركِ [472] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 350). قال ابن عثيمين: (نِسبةُ المطرِ إلى النَّوءِ تَنقسِمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ: 1- نِسبةُ إيجادٍ، وهذه شِركٌ أكبَرُ. 2- نِسبةُ سببٍ، وهذه شِركٌ أصغَرُ. 3- نِسبةُ وقتٍ، وهذه جائزةٌ، بأن يريدَ بقولِه: مُطِرْنا بنَوْءِ كذا؛ أي: جاءنا المطرُ في هذا النَّوءِ، أي: في وقتِه). ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) (2/31). !

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ تَنبيهٌ على فَضيلةِ القُرآنِ لِيَتدَبَّروه؛ فإنَّه ليس بشِعرٍ ولا سِحرٍ ولا كِهانةٍ، كما زَعَموا [473] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (17/223)، ((تفسير ابن عادل)) (18/430). !
2- في قَولِه تعالى: فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ سؤالٌ: ما الفائدةُ مِن إقسامِه سُبحانَه مع أنَّه صادقٌ بلا قَسَمٍ؛ لأنَّ القَسَمَ إنْ كان لقَومٍ يؤمِنون به ويُصَدِّقون كلامَه فلا حاجةَ إليه، وإنْ كان لقَومٍ لا يُؤمِنونَ به فلا فائدةَ منه؛ قال تعالى: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ [البقرة: 145] ؟
الجوابُ: أنَّ فائدةَ القَسَمِ مِن وُجوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ هذا أُسلوبٌ عربيٌّ لتأكيدِ الأشياءِ بالقَسَمِ، وإنْ كانت مَعلومةً عندَ الجميعِ، أو كانت مُنكَرةً عندَ المخاطَبِ، والقرآنُ نَزَلَ بلسانٍ عربيٍّ مُبِينٍ.
الثَّاني: أنَّ المؤمِنَ يَزدادُ يقينًا مِن ذلك، ولا مانِعَ مِن زيادةِ المؤكِّداتِ الَّتي تَزيدُ في يقينِ العَبدِ؛ قال تعالى عن إبراهيمَ عليه السَّلامُ: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260] .
الثَّالثُ: أنَّ اللهَ تعالى يُقْسِمُ بأمورٍ عظيمةٍ دالَّةٍ على كَمالِ قدرتِه وعَظَمتِه وعِلْمِه، فكأنَّه يُقيمُ في هذا المُقسَمِ به البَراهينَ على صِحَّةِ ما أقسَمَ عليه بواسِطةِ عِظَمِ ما أقسَمَ به.
الرَّابعُ: التَّنويهُ بحالِ المُقسَمِ به؛ لأنه لا يُقسَمُ إلَّا بشَيءٍ عَظيمٍ، وهذانِ الوَجهان لا يَعودانِ إلى تصديقِ الخَبَرِ، بل إلى ذِكْرِ الآياتِ الَّتي أقسَمَ بها تَنويهًا له بها، وتنبيهًا على عِظَمِها.
الخامِسُ: الاهتِمامُ بالمُقسَمِ عليه، وأنَّه جديرٌ بالعِنايةِ والإثباتِ [474] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (2/33). .
3- في قَولِه تعالى: فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ سُؤالٌ: أنَّ هذه الآيةَ تَقتَضي أنَّه لم يُقسِمْ بهذا القَسَمِ، وقَولُه تعالى: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ يدُلُّ على خِلافِ ذلك، فما الجوابُ؟
الجوابُ على وَجهَينِ:
الأوَّلُ: أنَّ «لا» النَّافيةَ يَتعَلَّقُ نَفيُها بكَلامِ الكُفَّارِ، فمعناها إذَنْ: ليس الأمرُ كما يَزعُمُه الكُفَّارُ المُكَذِّبونَ للرَّسولِ، وعليه فقَولُه: أُقْسِمُ إثباتٌ مُؤتَنَفٌ.
الثَّاني: أنَّ لَفظةَ «لا» صِلةٌ، وهذا على عادةِ العَرَبِ؛ فإنَّها رُبَّما لَفَظَت «لا» مِن غيرِ قَصدِ مَعناها الأصليِّ، بل لمُجَرَّدِ تَقويةِ الكلامِ وتَوكيدِه، كقَولِه تعالى: مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ [طه: 92، 93] يعني: أن تتَّبِعَني [475] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 229، 263). .
4- في قَولِه تعالى: فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ مُناسَبةٌ بيْنَ ذِكْرِ النُّجومِ في القَسَمِ وبيْنَ المُقْسَمِ عليه -وهو القُرآنُ- مِن وُجوهٍ:
 منها: أنَّ النُّجومَ جَعَلَها اللهُ يُهتدَى بها في ظُلُماتِ البَرِّ والبحرِ، وآياتُ القُرآنِ يُهتدَى بها في ظُلُماتِ الجَهلِ والغَيِّ، فتلك هدايةٌ في الظُّلماتِ الحِسِّيَّةِ، وآياتُ القُرآنِ هِدايةٌ في الظُّلُماتِ المَعنويَّةِ، فجَمَعَ بيْنَ الهدايتَينِ. معَ ما في النُّجومِ مِن الرُّجومِ للشَّياطينِ، وفي آياتِ القُرآنِ مِن رُجومِ شياطينِ الإنسِ والجِنِّ.
والنجومُ آياتُه: المشهودةُ المُعايَنةُ، والقرآنُ آياتُه: المَتلوَّةُ السَّمعيَّةُ، معَ ما في مَواقِعِها عندَ الغُروبِ مِن العِبرةِ والدَّلالةِ على آياتِه القُرآنيَّةِ ومَواقعِها عندَ النُّزولِ [476] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 220). .
5- تأمَّلْ جُمَلَ القَسَمِ الَّتي في القُرآنِ، المُصَدَّرَةَ بحَرفِ النَّفيِ: كيفَ تجِدُ المُقْسَمَ عليه مَنفِيًّا ومُتَضَمِّنًا للنَّفيِ، ولا يخرِمُ هذا قولُه تعالى: فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ؛ فإنَّه لَمَّا كان المقصودُ بهذا القَسَمِ نَفيَ ما قاله الكُفَّارُ في القُرآنِ مِن أنَّه شِعرٌ أو كِهانةٌ أو أساطيرُ الأوَّلينَ، صَدَّرَ القَولَ بأداةِ النَّفيِ، ثمَّ أثبَتَ له خِلافَ ما قالوه، فتَضمَّنتِ الآيةُ معنى: ليس الأمرُ كما يَزعُمونَ، ولكِنَّه قُرآنٌ كَريمٌ [477] يُنظر: ((الرسالة التبوكية)) لابن القيم (ص: 27، 28). . وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
6- في قَولِه تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ أنَّ القُرآنَ لا يَهُونُ بكَثرةِ التِّلاوةِ؛ لأنَّ الكلامَ متى أُعيدَ وكُرِّرَ استُهِينَ به، والقُرآنُ يكونُ إلى آخِرِ الدَّهرِ ولا يَزدادُ إلَّا عِزًّا [478] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/429)، ((تفسير ابن عادل)) (18/432). .
7- في قَولِه تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ وقولِه: بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت: 49] أنَّ القرآنَ حروفٌ وكلماتٌ؛ لأنَّ اللهَ أَخبرَ بأنه محفوظٌ في صدورِ أهلِ العلمِ، ومكتوبٌ في اللَّوحِ المحفوظِ؛ ولا يُحفَظُ ويُكتَبُ إلَّا ما هو حروفٌ وكلماتٌ، والقرآنُ كلامُ الله حروفُه ومعانيه [479] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (5/42). .
8- في قَولِه تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ أنَّه مِن كَرَمِ هذا القرآنِ العَظيمِ كَونُه مِن المَلِكِ الأعلى إلى خَيرِ الخَلقِ بسِفارةِ رُوحِ القُدُسِ، مُشتَمِلًا على أُصولِ العُلومِ المُهِمَّةِ في إصلاحِ المَعاشِ والمَعادِ، وبلِسانِ العَرَبِ -الَّذين اتَّفَقَت عُلَماءُ الفِرَقِ على أنَّ لِسانَهم أفصَحُ الأَلسُنِ-، وعلى وَجهٍ أعجَزَ العَرَبَ كافَّةً، وبَقيَّةَ الخَلقِ أجمَعينَ [480] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/195). !
9- في قَولِه تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ دَلالةٌ مِن أظهرِ الأدِلَّةِ على نُبُوَّةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وأنَّ هذا القُرآنَ جاء مِن عِندِ اللهِ تعالى، وأنَّ الَّذي جاء به رُوحٌ مُطَهَّرٌ، فما للأرواحِ الخَبيثةِ عليه سَبيلٌ، وأنَّ الآيةَ أُختُ قَولِه تعالى: وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ [481] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/172). [الشعراء: 210، 211].
10- في قَولِه تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ تفضيلٌ للقُرآنِ على أفرادِ نَوعِه مِنَ الكُتُبِ الإلهيَّةِ، مثل التَّوراةِ والإنجيلِ والزَّبورِ، وفَضْلُه عليها: بأنَّه فاقها في استيفاءِ أغراضِ الدِّينِ، وأحوالِ المَعاشِ والمَعادِ، وإثباتِ المعتَقَداتِ بدَلائلِ التَّكوينِ، والإبلاغِ في دَحْضِ الباطِلِ دَحْضًا لم يَشتَمِلْ على مِثْلِه كِتابٌ سابِقٌ -وخاصَّةً الاعتقادَ-، وفي وُضوحِ معانيه، وفي كثرةِ دَلالتِه مع قِلَّةِ ألفاظِه، وفي فصاحتِه، وفي حُسنِ آياتِه، وحُسنِ مواقِعِها في السَّمعِ، وذلك مِن آثارِ ما أراد اللهُ به مِن عُمومِ الهدايةِ به، والصَّلاحيةِ لكُلِّ أمَّةٍ ولكُلِّ زَمانٍ؛ فهذا وصْفٌ للقُرآنِ بالرِّفعةِ على جميعِ الكُتُبِ حَقًّا، لا يستطيعُ المخالِفُ طَعنًا فيه [482] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/333). .
11- في قَولِه تعالى: لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ إشارةٌ إلى أنَّه لا يَمَسُّ المُصحَفَ إلَّا طاهِرٌ؛ لأنَّه إذا كانت تلك الصُّحُفُ لا يَمَسُّها إلَّا المُطهَّرونَ لكَرامتِها على اللهِ، فهذه الصُّحُفُ أَولى ألَّا يَمَسَّها إلَّا طاهِرٌ [483] يُنظر: ((المستدرك على مجموع الفتاوى لابن تيمية)) (1/170). ، فدلَّت الآيةُ بتَنبيهِها على أنَّه لا يجوزُ أن يَمَسَّ القُرآنَ إلَّا طاهِرٌ؛ ولهذا قيل: إنَّ الآيةَ خَبَرٌ بمعنى النَّهيِ، أي: لا يَمَسَّ القُرآنَ إلَّا طاهِرٌ [484] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 836). واتَّفَقت المذاهبُ الفقهيَّةُ الأربعةُ على عدَمِ جوازِ مسِّ المصحفِ مِن غيرِ وُضوءٍ. يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزَّيْلَعي (1/57)، ((الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي)) (1/107)، ((المجموع)) للنووي (2/67)، (الفروع)) لابن مفلح (1/241). .
12- قَولُه تعالى: لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ فيه إشارةٌ إلى أنَّه لا يُدْرِكُ مَعانيَ القُرآنِ ولا يَفهَمُه إلَّا القُلوبُ الطَّاهِرةُ، وحَرامٌ على القَلبِ المُتلوِّثِ بنَجاسةِ البِدَعِ والمُخالَفاتِ أنْ يَنالَ مَعانيَه، وأنْ يَفهَمَه كما ينبغي؛ قال البُخاريُّ في صَحيحِه في هذه الآيةِ: «لا يَجِدُ طَعْمَه ونفْعَه إلَّا مَنْ آمَنَ به» [485] يُنظر: ((صحيح البخاري)) (كتاب التوحيد- باب قول الله تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا [آل عمران: 93]) (4/413). ، وهذا أيضًا مِن إشارةِ الآيةِ وتَنبيهِها، وهو أنَّه لا يَلْتَذُّ به وبقِراءتِه وفَهْمِه وتدَبُّرِه إلَّا مَن شَهِدَ أنَّه كلامُ اللهِ، تكلَّمَ بها حقًّا، وأَنزَلَه على رَسولِه وَحْيًا، ولا يَنالُ مَعانيَه إلَّا مَن لم يكُنْ في قلْبِه حَرَجٌ منه بوَجهٍ مِن الوُجوهِ [486] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 230). ويُنظر أيضًا: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/242)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/172). ! وقد قيل: إنَّه لا يَبلُغُ حقائِقَ مَعرفةِ القُرآنِ إلَّا مَن يُطَهِّرُ نفْسَه مِن دَرَنِ الفَسادِ والجَهالاتِ والمُخالَفاتِ [487] يُنظر: ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (3/528). !
13- قَولُه تعالى: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَتضَمَّنُ أُمورًا؛ أحدُها: أنَّه تعالى فوقَ خلْقِه كلِّهم، وأنَّ القرآنَ نَزَلَ مِن عندِه. والثَّاني: أنَّه تَكَلَّمَ به حقيقةً؛ لِقَولِه: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ولو كان غيرُه هو المتكلِّمَ به لَكان مِن ذلك الغَيرِ. الأمرُ الثَّالثُ: ما تضمَّنَه قولُه: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أنَّ رُبوبيَّتَه الكامِلةَ لِخَلْقِه تأبى أنْ يَترُكَهم سُدًى؛ لا يأمُرُهم ولا ينهاهُم، ولا يُرشِدُهم إلى ما يَنفَعُهم، ويُحَذِّرُهم ما يَضُرُّهُم، بل يَترُكُهم هَمَلًا بمنزلةِ الأنعامِ السَّائمةِ! فمَن زَعَمَ ذلك لم يَقْدُرْ رَبَّ العالَمينَ قَدْرَه، ونَسَبَه إلى ما لا يَليقُ به تعالى. فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [488] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 176 - 179). [المؤمنون: 116] .
14- في قَولِه تعالى: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أنَّ القُرآنَ ليس بمَخلوقٍ؛ لأنَّه نَزَلَ مِنَ اللهِ تعالى، فهو كَلامُه، وكَلامُه مِن صِفاتِه تعالى، وصِفاتُه غيرُ مَخلوقةٍ [489] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 349). .
15- في قَولِه تعالى: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أنَّ القُرآنَ نازِلٌ لجَميعِ الخَلْقِ؛ ففيه دَليلٌ على عُمومِ رسالةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم [490] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (2/38). .
16- في قَولِه تعالى: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أنَّ القُرآنَ نازِلٌ مِن رَبِّهم، وإذا كان كذلك فهو الحَكَمُ بَيْنَهم، الحاكِمُ عليهم [491] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (2/38). .
17- في قَولِه تعالى: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أنَّ نُزولَ القُرآنِ هو مِن كَمالِ رُبوبيَّةِ اللهِ تعالى، فإذا أُضيفَ إلى هذه الآيةِ قولُه تعالى: تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ [فصلت: 2، 3] عُلِمَ أنَّ القُرآنَ رَحمةٌ للعِبادِ أيضًا، ورُبوبيَّةُ اللهِ تعالى مَبنيَّةٌ على الرَّحمةِ؛ قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة: 2، 3]، وكلُّ ما أمَرَ اللهُ به عبادَه أو نهاهم عنه فهو رَحمةٌ بهم [492] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (2/38). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ
- قولُه: فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ تَفريعٌ على جُملةِ قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ [الواقعة: 49، 50]، يُعرِبُ عن خِطابٍ مِن اللهِ تعالى مُوجَّهٍ إلى المُكذِّبين بالبعثِ القائلينَ: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الواقعة: 47]، انتُقِلَ به إلى التَّنويهِ بالقرآنِ؛ لأنَّهم لَمَّا كذَّبوا بالبعثِ، وكان إثباتُ البعثِ مِن أهمِّ ما جاء به القرآنُ، وكان ممَّا أغْراهُم بتَكذيبِ القرآنِ اشتِمالُه على إثباتِ البعثِ الَّذي عَدُّوه مُحالًا، زِيادةً على تَكذيبِهم به في غَيرِ ذلك ممَّا جاء به مِن إبطالِ شِرْكِهم وأكاذيبِهم؛ فلمَّا قامَتِ الحُجَّةُ على خَطَئِهم في تَكذيبِهم، فقد تَبيَّنَ صِدقُ ما أنْبَأَهم به القرآنُ، فثبَتَ صِدْقُه؛ ولذلك تَهيَّأَ المقامُ للتَّنويهِ بشَأْنِه [493] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/329). .
- والفاءُ لتَفريعِ القسَمِ على ما سبَقَ مِن أدلَّةِ وُقوعِ البَعثِ؛ فإنَّ قولَه: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ [الواقعة: 49، 50] إخبارٌ بيَومِ البعثِ، وإنذارٌ لهم به، وهم قد أنْكَروه، ومِن أجْلِ استِحالتِه في نَظَرِهم القاصرِ كذَّبوا القرآنَ، وكذَّبوا مَن جاء به، ففُرِّعَ على تَحقيقِ وُقوعِ البعثِ والإنذارِ به تَحقيقُ أنَّ القرآنَ مُنزَّهٌ عن النَّقائصِ، وأنَّه تَنزيلٌ مِن اللهِ، وأنَّ الَّذي جاء به مُبلِّغٌ عن اللهِ؛ فتَفريعُ القسَمِ تَفريعٌ مَعنويٌّ باعتبارِ المُقسَمِ عليه، وهو أيضًا تَفريعٌ ذِكريٌّ باعتبارِ إنشاءِ القسَمِ إنْ قالوا لك: أَقْسِمْ بمَواقعِ النُّجومِ [494] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/329). .
- قولُه: فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ بمعْنى: أُقسِمُ، و(لا) مَزيدةٌ للتَّوكيدِ، وأصْلُها نافيةٌ تدُلُّ على أنَّ القائلَ لا يُقدِمُ على القسَمِ بما أقسَمَ به خَشيةَ سُوءِ عاقبةِ الكذِبِ في القسَمِ، وبمعْنى أنَّه غيرُ مُحتاجٍ إلى القسَمِ؛ لأنَّ الأمرَ واضحُ الثُّبوتِ، ثمَّ كثُرَ هذا الاستِعمالُ فصارَ مُرادًا به تأْكيدُ الخبرِ، فساوى القسَمَ؛ بدليلِ قولِه عَقِبَه: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ، وعلى الوجْهينِ فهو إدماجٌ [495] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرضًا في غَرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ؛ فهو مِن أفانينِ البَلاغةِ، ويكونُ مرادُ البليغِ غَرَضينِ فيَقرِنُ الغرضَ المَسوقَ له الكلامُ بالغرضِ الثَّاني، وفيه تَظهرُ مَقدرةُ البليغِ؛ إذ يأتي بذلك الاقترانِ بدونِ خروجٍ عن غَرَضِه المسوقِ له الكلامُ ولا تَكلُّفٍ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمِّنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70]؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ، وقيل: أُدمِجتِ المبالَغةُ في المطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواه- مبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفِرادِ بالحَمْدِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). للتَّنويهِ بشأْنِ ما لو كان مُقسِمًا لأقسَمَ به. وعلى الوجْهِ الثَّاني يكونُ قولُه: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ بمعْنى: وإنَّ المذكورَ لَشيءٌ عظيمٌ يُقسِمُ به المُقسِمون، فإطلاقُ (قَسَم) عليه مِن إطلاقِ المصدرِ وإرادةِ المفعولِ، كالخلْقِ بمعْنى المَخلوقِ. ويجوزُ أنْ يكونَ (لا) حرْفًا مُستقِلًّا عن فِعلِ أُقْسِمُ، واقعًا جَوابًا لكلامٍ مُقدَّرٍ يدُلُّ عليه ما بعْدَه مِن قولِه: إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ، ردًّا على أقوالِهم في القرآنِ: إنَّه شِعرٌ، أو سِحرٌ، أو أساطيرُ الأوَّلين، أو قولُ كاهنٍ، ويكونَ قولُه: أُقْسِمُ استئنافًا، فمَعنى الكلامِ مع فاءِ التَّفريعِ: أنَّه تفرَّعَ على ما سطَعَ مِن أدلَّةِ إمكانِ البعثِ ما يُبطِلُ قولَكم في القرآنِ، فهو ليس كما تَزعُمون، بلْ هو قرآنٌ كريمٌ... إلخ [496] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/468)، ((تفسير البيضاوي)) (5/182)، ((تفسير أبي حيان)) (10/92)، ((تفسير أبي السعود)) (8/199)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/329، 330). .
- وذِكرُ (مَواقع النُّجومِ) تَنويهٌ بها، وتَعظيمٌ لأمْرِها؛ لدَلالةِ أحوالِها على دَقائقِ حِكمةِ اللهِ تعالى في نِظامِ سَيرِها، وبدائعِ قُدرتِه على تَسخيرِها [497] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/468)، ((تفسير البيضاوي)) (5/182)، ((تفسير أبي السعود)) (8/199)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/331). .
- قولُه: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ اعتراضٌ في اعتراضٍ، قُصِدَ به المُبالَغةُ في تَحقيقِ مَضمونِ الجُملةِ القَسَميَّةِ وتأْكيدِه؛ حيث اعتُرِضَ بقولِه: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ بيْن القسَمِ وجَوابِه الَّذي هو قولُه تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ، وبقولِه تعالى: لَوْ تَعْلَمُونَ بيْن المَوصوفِ وصِفتِه [498] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/468)، ((تفسير البيضاوي)) (5/182)، ((تفسير أبي السعود)) (8/199)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/331). ، فجاء هذا الاعتراضُ في ضِمْنِ هذا الاعتراضِ ألطَفَ شَيءٍ وأحسَنَه مَوقِعًا، وأحسَنُ ما يَقَعُ هذا الاعتِراضُ إذا تَضَمَّنَ تأكيدًا أو تَنبيهًا أو احتِرازًا [499] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 221). .
- والعِلمُ الَّذي اقْتَضَى شَرْطُ (لو) الامتِناعيَّةِ عدَمَ حُصولِه لهم -إنْ كان ضَميرُ إِنَّهُ عائدًا على القسَمِ- هو الِعلمُ التَّفصيليُّ بأحوالِ مَواقعِ النُّجومِ؛ فإنَّ المُشرِكين لا يَخْلُون مِن عِلمٍ إجماليٍّ مُتفاوِتٍ بأنَّ في تلك المواقعِ عِبرةً للنَّاظِرينَ، أو نُزِّلَ ذلك العِلمُ الإجماليُّ مَنزِلةَ العدَمِ؛ لأنَّهم بكُفْرِهم لم يَجْرُوا على مُوجَبِ ذلك العِلمِ مِن تَوحيدِ اللهِ، فلو عَلِموا ما اشتَمَلَت عليه أحوالُ مَواقعِ النُّجومِ مِن مُتعلِّقاتِ صِفاتِ اللهِ تعالى، لَعَلِموا أنَّها مَواقعُ قُدْسيَّةٌ لا يَحلِفُ بها إلَّا بارٌّ في يَمينِه، ولكنَّهم بمَعزِلٍ عن هذا العِلمِ؛ فإنَّ جَلالةَ المُقسَمِ به ممَّا يَزَعُ الحالِفَ عن الكذبِ في يَمينِه [500] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/331، 332). .
- وجوابُ (لو) إمَّا محذوفٌ بالكليَّةِ؛ لأنَّه لا يتعلَّقُ بذِكرِه غرضٌ؛ إذ المقصودُ هو نفْيُ عِلْمِهم، أى: أُقسِمُ بمواقِعِ النُّجومِ، وإنَّه لقَسَمٌ عظيمٌ، ولكنَّكم لا تَعْلمونَ منزلتَه. وإمَّا أنْ يكونَ جوابُها مقدَّرًا، أي: لَعظَّمْتموه، ولآمنْتُم بما أقْسَمْنا عليه، لكنَّكم ما عظَّمتُموه ولا آمنْتُم، فعُلِم أنَّكم لا تَعْلمونَ [501] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/164)، ((تفسير أبي السعود)) (8/200)، ((التفسير الوسيط)) لطنطاوي (14/183). .
- ومَفعولُ تَعْلَمُونَ مَحذوفٌ دلَّ عليه الكلامُ، أي: لو تَعلَمون عظَمَتَه، أي: دَلائلَ عَظَمتِه. ولك أنْ تَجعَلَ فِعلَ تَعْلَمُونَ مُنزَّلًا مَنزِلةَ اللَّازمِ، أي: لو كان لكم عِلمٌ، لَكِنَّكم لا تَتَّصِفون بالعِلمِ [502] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/332). .
- وضَميرُ إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ راجعٌ إلى غيرِ مَذكورٍ في الكلامِ؛ لكَونِه مَعلومًا مُستحضَرًا لهم [503] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/332). .
2- قولُه تعالَى: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ
- جُملةُ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُبيِّنةٌ لجُملةِ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة: 78، 79]، فهي تابِعةٌ لصِفةِ القرآنِ، أي: فبُلوغُه إليكم كان بتَنزيلٍ مِن اللهِ، أي: نزَّلَ به الملائِكةَ [504] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/335). .
- وسمَّاه باسمِ المَصدَرِ للمُبالَغةِ، ولأنَّ هذا المَصدَرَ أغلَبُ أحوالِه؛ ولذلك غَلَب عليه هذا الاسمُ [505] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/239). .
3- قولُه تعالَى: أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ
- قولُه: أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ، الفاءُ تَفريعٌ على ما سِيقَ لأجْلِه الكلامُ الَّذي قبْلَها في غرَضِه مِن التَّنويهِ بشأْنِ القرآنِ [506] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/337). .
- قولُه: أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ إشارةٌ إلى القرآنِ؛ لِمُناسَبةِ الانتِقالِ مِن التَّنويهِ بشأْنِ القرآنِ إلى الإنكارِ على المُكذِّبين به وتَوبيخِهم، فالتَّفريعُ على قولِه: إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ [الواقعة: 77] الآيةَ، والعدولُ عن الإضمارِ إلى اسمِ الإشارةِ بقولِه: أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ دونَ أنْ يقولَ: أفبِهِ أنتُم مُدهِنون، إخراجٌ للكلامِ على خِلافِ مُقْتضى الظَّاهرِ؛ لتَحصُلَ باسمِ الإشارةِ زِيادةُ التَّنويهِ بالقرآنِ الَّذي ذُكِرَتُ نُعوتُه الجليلةُ المُوجِبةُ لإعظامِه وإجلالِه [507] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/200)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/337، 338). .
- والاستِفهامُ مُستعمَلٌ في التَّوبيخِ والإنكارِ، أي: كَلامُكم لا يَنْبغي إلَّا أنْ يكونَ مُداهَنةً، كما يُقالُ لأحدٍ قال كلامًا باطلًا: أتَهزَأُ؟! أي: قد نهَضَ بُرهانُ صِدقِ القرآنِ بحيث لا يُكذِّبُ به مُكذِّبٌ إلَّا وهو لا يَعتقِدُ أنَّه كذِبٌ؛ لأنَّ حُصولَ العلمِ بما قام عليه البرهانُ لا يَستطيعُ صاحبُه دفْعَه عن نفْسِه، فليس إصرارُكم على التَّكذيبِ بعْدَ ذلك إلَّا مُداهنةً لقَومِكم، تَخشَون إنْ صدَّقْتُم بهذا الحديثِ أنْ تَزولَ رِئاستُكم [508] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/338، 339)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/447). .
- وتَقديمُ المجرورِ أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ؛ للاهتمامِ [509] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/339). .
- وصَوغُ الجُملةِ الاسميَّةِ في أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ؛ لأنَّ المُقرَّرَ عليه إدْهانٌ ثابتٌ مُستمِرٌّ [510] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/339). .
- قولُه: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ عطْفٌ على جُملةِ أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ [الواقعة: 81] عطْفَ الجُملةِ على الجُملةِ، فهي داخلةٌ في حيِّزِ الاستفهامِ ومُستقِلَّةٌ بمعْناها، والمعْنى: أفَتجْعَلون رِزقَكم أنَّكم تُكذِّبون؟! وهو تَفريعٌ على ما تَضمَّنَه الاستِدلالُ بتَكوينِ نسْلِ الإنسانِ، وخلْقِ الحَبِّ، والماءِ في المُزنِ، والنَّارِ مِن أعوادِ الاقتِداحِ؛ فإنَّ في مَجموعِ ذلك حُصولَ مُقوِّماتِ الأقواتِ، وهي رِزقٌ، والنَّسلُ رِزقٌ، يُقال: رُزِقَ فُلانٌ ولَدًا؛ لأنَّ الرِّزقَ يُطلَقُ على العطاءِ النَّافعِ، والاستفهامُ المُقدَّرُ بعْدَ العاطفِ إنكاريٌّ [511] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/339). .
- وإذ كان التَّكذيبُ لا يصِحُّ أنْ يُجعَلَ رِزقًا، تَعيَّنَ بدلالةِ الاقتضاءِ تَقديرُ مَحذوفٍ يُفيدُه الكلامُ، أي: شُكرَ رِزقِكم، أو نحْوه، أي: تَجعَلون شُكرَ اللهِ على رِزقِه إيَّاكم أنْ تُكذِّبوا بقُدرتِه على إعادةِ الحياةِ؛ لأنَّهم عَدَلوا عن شُكرِ اللهِ تعالى فيما أنْعَمَ به عليهم، فاسْتَنْقَصوا قُدرتَه على إعادةِ الأجسامِ، ونَسَبوا الزَّرعَ لأنفُسِهم، وزَعَموا أنَّ المطَرَ تُمطِرُه النُّجومُ المُسمَّاةُ بالأنواءِ [512] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/339، 340). ، وذلك على قولٍ.