موسوعة التفسير

سُورةُ عَبَسَ
الآيات (1-16)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ

غريب الكلمات:

عَبَسَ: أي: قَطَّبَ وَجْهَه، وقَبَضَ ما بيْنَ عينَيه، والعُبُوسُ: تَقطُّبُ الوَجهِ عندَ كراهيةِ أمرٍ، وأصلُ (عبس): يدُلُّ على تكَرُّهٍ [4] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/102)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/210)، ((المفردات)) للراغب (ص: 544)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 438). .
وَتَوَلَّى: أي: أعرَضَ، والتَّولِّي إذا وُصِلَ بـ (عن) لفظًا، أو تقديرًا -كما هنا- اقتضَى معنَى الإعراضِ، وتَركِ القُربِ [5] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/102)، ((المفردات)) للراغب (ص: 886)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 28). .
يَزَّكَّى: أي: يَتطَهَّرُ مِنَ الذُّنوبِ، وأصلُ (زكو): يدُلُّ على نَماءٍ، وزِيادةٍ، وطَهارةٍ [6] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 302)، ((تفسير ابن جرير)) (24/81)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/17)، ((المفردات)) للراغب (ص: 380)، (إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/46). .
الذِّكْرَى: أي: التَّذكيرُ والعِظَةُ، وأصلُ (ذكر): يدُلُّ على خِلافِ النِّسْيانِ [7] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/358)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 349)، ((تفسير القرطبي)) (19/214)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 457). .
تَصَدَّى: أي: تَتَعَرَّضُ، وتُقبِلُ عليه [8] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/107)، ((الوسيط)) للواحدي (4/423)، ((تفسير السمعاني)) (6/156). .
تَلَهَّى: أي: تُعْرِضُ، وتتشاغلُ عنه بغَيْرِه، يُقالُ: لهيتُ عن الشَّيءِ، وتلهَّيْتُ عنه، إِذا شُغِلْتَ عنه، وتركْتَه، وأصلُ (لهو) هنا: يَدُلُّ على شُغْلٍ عن شيءٍ بشيءٍ [9] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/107)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص:159، 160)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/213)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (5/1715)، ((الوسيط)) للواحدي (4/423). وأصلُه تتلَّهَى، فأُسْقِطتْ إحدَى التَّاءيْنِ استثقالًا لها في صدرِ الكلمةِ. يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 160). .
سَفَرَةٍ: السَّفَرةُ: هم الملائِكةُ الكِرامُ الكاتِبونَ، واحِدُهم سافِرٌ، يُقالُ: سَفَرْتُ: أي: كَتَبْتُ. ومنه قيل للكِتابِ: سِفْرٌ؛ لأنَّه يُبَيِّنُ الشَّيءَ ويُوضِّحُه. وقيل: هم الرُّسُلُ مِن الملائكةِ الَّذين يَسْفِرونَ بالوَحْيِ بيْن اللهِ ورُسُلِه، ومنه: سفيرُ القَومِ: الَّذي يَسعى بيْنَهم للصُّلحِ، وأصلُ (سفر): يدُلُّ على الانكِشافِ والجَلاءِ [10] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 514)، ((تفسير ابن جرير)) (24/108)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/82)، ((البسيط)) للواحدي (23/218)، ((المفردات)) للراغب (ص: 412)، ((تفسير البغوي)) (8/337)، ((تفسير القرطبي)) (19/216)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 449). .

المعنى الإجمالي:

افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ بمُعاتَبةِ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عِتابًا رقيقًا، فقال: قَطَّبَ محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وَجْهَه، وأعرَضَ؛ بسَبَبِ مَجيءِ الرَّجُلِ الأعمى إليه، وهو مَشغولٌ بدَعوةِ رَجُلٍ مِن أشرافِ قُرَيشٍ، وما يُدْرِيك -يا مُحمَّدُ- لعَلَّ هذا الأعمى يتطَهَّرُ مِن ذُنوبِه بما يتعَلَّمُه مِنَ القُرآنِ منك، أو يتذَكَّرُ؛ فيَتَّعِظَ ويَعتَبِرَ بما يَسمَعُ مِنَ القُرآنِ؟!
ثمَّ فصَّل اللهُ تعالى ما كان مِن نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: أمَّا الَّذي استَغْنى بمالِه وجاهِه عن الإيمانِ، وأعرَضَ عن هَدْيِك، فأنت تتعَرَّضُ له، وتُقبِلُ عليه، وتجتَهِدُ في وَعْظِه؛ رجاءَ هِدايتِه للحَقِّ، وأيُّ ضَرَرٍ عليك إذا لم يُسْلِمْ ويتطَهَّرْ مِن كُفْرِه وذُنوبِه؟! وأمَّا هذا الرَّجُلُ الأعمى الَّذي جاءك يَسْعى مُجتَهِدًا في الوُصولِ إليك؛ طَلَبًا للعِلْمِ وسَماعِ الحَقِّ، وهو يَخافُ اللهَ تعالى، فأنت تُعْرِضُ عنه!
ثمَّ قال تعالى: كَلَّا، لا تَفعَلْ ما فعَلْتَ -يا محمَّدُ- إنَّ آياتِ القُرآنِ تذكيرٌ للنَّاسِ جَميعًا، فمَن شاء مِن النَّاسِ ذَكَر هذا القُرآنَ، فاتَّعَظَ وعَمِلَ بما فيه، وهذا القُرآنُ الكريمُ مَكتوبٌ في صُحُفٍ مُكَرَّمةٍ عِندَ اللهِ تعالى، عاليةٍ رفيعةِ القَدْرِ، مُطَهَّرةٍ مِن كُلِّ دَنَسٍ وعَيبٍ، بأيدي طائِفةٍ مِنَ الملائِكةِ ذَوي خَلْقٍ حَسَنٍ وأخلاقٍ جَميلةٍ، كثيري الخَيرِ والطَّاعةِ والإحسانِ.

تفسير الآيات:

عَبَسَ وَتَوَلَّى (1).
سَبَبُ النُّزولِ:
عن مَعمَرٍ، عن قَتادةَ، عن أنسٍ -رَضِيَ اللهُ عنه- في قَولِه: عَبَسَ وَتَوَلَّى، قال: ((جاء ابنُ أُمِّ مَكتومٍ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو يُكَلِّمُ أُبَيَّ بنَ خَلَفٍ، فأعرَضَ عنه؛ فأنزل اللهُ عَبَسَ وَتَوَلَّى، فكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعْدَ ذلك يُكْرِمُه))، قال قَتادةُ: وأخبَرَني أنَسُ بنُ مالكٍ قال: رأَيْتُه يومَ القادسِيَّةِ وعليه دِرعٌ، ومعه رايةٌ سَوداءُ، يعني: ابنَ أُمِّ مَكتومٍ [11] أخرجه أبو يعلى (3123). قال الوادعي في ((صحيح أسباب النزول)) (267): (رجالُه رجالُ الصَّحيحِ). وأخرج الموقوفَ منه مِن طرُقٍ أخرى: الحارثُ في ((المسند)) (661)، وابنُ جرير في ((التفسير)) (24/218). وثَّق رجالَ إسنادِه البوصيريُّ في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (5/104). .
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1).
أي: قَطَّبَ محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وَجْهَه، وأعرَضَ غَضَبًا [12] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/102)، ((تفسير ابن عطية)) (5/436)، ((تفسير القرطبي)) (19/211)، ((تفسير السعدي)) (ص: 910)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/104)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 59). قال السمعاني: (قَولُه تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى هو الرَّسولُ في قولِ الجَميعِ... وقَولُه: أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى... هو عبدُاللهِ بنُ أُمِّ مكتومٍ في قَولِ الجَميعِ). ((تفسير السمعاني)) (6/155). ويُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (8/692). وقال ابنُ العربي: (لا خِلافَ أنَّها نَزَلَت في ابنِ أُمِّ مَكتومٍ الأَعمى). ((أحكام القرآن)) (4/362). قيل: معنى: وَتَوَلَّى: أعرَضَ بوَجْهِه. وممَّن اختاره: السمرقنديُّ، والثعلبي، والبغوي، والقرطبي، والخازن، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/546)، ((تفسير الثعلبي)) (10/130)، ((تفسير البغوي)) (5/209)، ((تفسير القرطبي)) (19/211)، ((تفسير الخازن)) (4/394)، ((تفسير العليمي)) (7/282). وقيل: المعنى: أعرَضَ ببدَنِه. وممَّن ذهب إليه: السعديُّ. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 910). .
أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2).
أي: بسَبَبِ مَجيءِ الرَّجُلِ الأعمى إليه، وهو مَشغولٌ بدَعوةِ رَجُلٍ مِن أشرافِ قُرَيشٍ [13] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/102)، ((الوسيط)) للواحدي (4/422)، ((تفسير القرطبي)) (19/211)، ((تفسير ابن كثير)) (8/321)، ((تفسير السعدي)) (ص: 910)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/103، 104). .
وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3).
أي: وما يُدْرِيك -يا مُحمَّدُ- لعَلَّ هذا الأعمى -الَّذي عَبَسْتَ وأعرَضْتَ عنه- يتَزكَّى بما يتعَلَّمُه مِنَ القُرآنِ منك؛ فيَتطَهَّرَ مِن ذُنوبِه [14] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/105)، ((الوسيط)) للواحدي (4/422)، ((تفسير القرطبي)) (19/213)، ((تفسير ابن كثير)) (8/319)، ((تفسير السعدي)) (ص: 910). قال البِقاعي: (وَمَا يُدْرِيكَ أي: وأيُّ شَيءٍ يَجعلُك داريًا بحالِه وإن اجتَهَدْتَ في ذلك؟ فإنَّ ذواتِ الصُّدورِ لا يَعلَمُها إلَّا اللهُ تعالى). ((نظم الدرر)) (21/251). .
أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4).
أي: أو لعَلَّه يَتذَكَّرُ ما غَفَل عنه؛ فيَتَّعِظَ ويَعتَبِرَ بما يَسمَعُ مِنَ القُرآنِ [15] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/106)، ((تفسير القرطبي)) (19/214)، ((تفسير ابن كثير)) (8/319)، ((تفسير السعدي)) (ص: 910)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/107)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 60). .
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5).
أي: أمَّا الَّذي استَغْنى عن الإيمانِ والقُرآنِ بما لَه مِنَ المالِ والجاهِ [16] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/107)، ((تفسير الرازي)) (31/54)، ((تفسير ابن كثير)) (8/319)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/22)، ((تفسير العليمي)) (7/284)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 60). قال الواحدي: (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى قال ابنُ عبَّاسٍ: عن الله تعالى، وعن الإيمانِ، بما لَه مِن المالِ). ((الوسيط)) (4/422). قيل: معنى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى أي: بمالِه. وممَّن اختاره: ابنُ جرير، ومكِّيٌّ، وابن عطية، وجلال الدين المحلي، والشربيني. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/107)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/8054)، ((تفسير ابن عطية)) (5/437)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 792)، ((تفسير الشربيني)) (4/484). وقال مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ وابنُ أبي زَمَنِين: استغنى عن الله. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/ 590)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/94). وقال السمرقندي: (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى يعني: استغنى بنَفْسِه عن ثوابِ الله). ((تفسير السمرقندي)) (3/546). وقيل: اسْتَغْنَى أي: أثرَى وكان ذا ثروةٍ وغِنًى. وممَّن اختاره: الثعلبيُّ، والقرطبي، وأبو حيان. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (10/131)، ((تفسير القرطبي)) (19/214)، ((تفسير أبي حيان)) (10/407). وقال البِقاعي: (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى أي: طلَبَ الغِنى -وهو المالُ والثَّروةُ- فوجَدَه). ((نظم الدرر)) (21/252). قال الرازي: (قال عَطاءٌ: يريدُ: عن الإيمانِ. وقال الكلبيُّ: استغنى عن اللهِ. وقال بعضُهم: استغنى: أَثْرَى. وهو فاسِدٌ هاهنا؛ لأنَّ إقبالَ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لم يكُنْ لثَروتِهم ومالِهم حتَّى يُقالَ له: أمَّا مَن أَثْرَى فأنت تُقبِلُ عليه! ولأنَّه قال: وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى [عبس: 8، 9]، ولم يقُلْ: وهو فقيرٌ عَديمٌ. ومَن قال: أمَّا مَنِ استغنَى بمالِه، فهو صحيحٌ؛ لأنَّ المعنى: أنَّه استغنَى عن الإيمانِ والقُرآنِ بما لَه مِنَ المالِ). ((تفسير الرازي)) (31/54). ويُنظر: ((البسيط)) للواحدي (23/213). وقال ابنُ عاشور: (الاستِغناءُ: عَدُّ الشَّخْصِ نَفْسَه غَنِيًّا في أمرٍ يدُلُّ عليه السِّياقُ: قَولٌ، أو فِعلٌ، أو عِلمٌ، فالسِّينُ والتَّاءُ للحِسْبانِ، أي: حَسِبَ نَفْسَه غَنِيًّا، وأكثَرُ ما يُستعمَلُ الاستغناءُ في التَّكَبُّرِ والاعتزازِ بالقُوَّةِ. فالمرادُ بـ مَنِ اسْتَغْنَى هنا: مَن عَدَّ نَفْسَه غَنِيًّا عن هَدْيِك، بأن أعرَضَ عن قَبُولِه... وليس المرادُ بـ مَنِ اسْتَغْنَى مَنِ استَغنى بالمالِ؛ إذ ليس المَقامُ في إيثارِ صاحِبِ مالٍ على فقيرٍ). ((تفسير ابن عاشور)) (30/107). .
كما قال تعالى: وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى [الليل: 8 - 11].
فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6).
أي: فأنت -يا مُحمَّدُ- تتعَرَّضُ له، وتُقبِلُ عليه، وتجتَهِدُ في وَعْظِه؛ رجاءَ هِدايتِه للحَقِّ [17] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/107)، ((الوسيط)) للواحدي (4/423)، ((تفسير القرطبي)) (19/214)، ((تفسير ابن كثير)) (8/319)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/252)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 60). !
وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7).
أي: وأيُّ ضَرَرٍ عليك -يا مُحمَّدُ- إذا لم يُسْلِمْ هذا الرَّجُلُ الَّذي استغنى، ويتطَهَّرْ من كُفْرِه وذُنوبِه؟ فلا تُبَالِ به، ولا تَكتَرِثْ بشأنِه؛ فإنَّه لا يَضُرُّك إثمُه، وليس عليك إلَّا البَلاغُ [18] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/107)، ((الوسيط)) للواحدي (4/423)، ((تفسير ابن عطية)) (5/437)، ((تفسير القرطبي)) (19/215)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/108)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 60). قوله: (ما) في الآية: وَمَا عَلَيْكَ: استفهاميَّةٌ، والمعنى: وأيُّ شَيءٍ عليك يا محمَّدُ؟ وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، ومكي، والواحدي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/107)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/284)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/8054)، ((الوسيط)) للواحدي (4/423)، ((تفسير الشوكاني)) (5/463). وقيل: هي نافيةٌ، والمعنى: ليس عليك بأسٌ، ولا حرَجَ عليك. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: البيضاويُّ، وابن جُزَي، والنسفي، والبِقاعي، والقاسمي، والألوسي، وابن عاشور، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/286)، ((تفسير ابن جزي)) (2/452)، ((تفسير النسفي)) (3/602)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/255)، ((تفسير القاسمي)) (9/405)، ((تفسير الألوسي)) (15/243)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/108)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 60). .
كما قال تعالى: وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا [آل عمران: 176] .
وقال سُبحانَه: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [النور: 54] .
وقال عزَّ وجَلَّ: وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ [لقمان: 23] .
وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8).
أي: وأمَّا هذا الرَّجُلُ الأعمى الَّذي جاءك -يا مُحمَّدُ- يَمْشي مُسْرِعًا مُجتَهِدًا في الوُصولِ إليك؛ طَلَبًا للعِلْمِ، وسَماعِ الحَقِّ [19] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/107)، ((تفسير ابن عطية)) (5/437)، ((تفسير القرطبي)) (19/215)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/255)، ((تفسير الشوكاني)) (5/463)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/108، 109)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 61). .
وَهُوَ يَخْشَى (9).
أي: والحالُ أنَّه يَخافُ اللهَ تعالى؛ لعِلْمِه بعَظَمتِه وشِدَّةِ عَذابِه [20] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/107)، ((تفسير القرطبي)) (19/215)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/109)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 61). .
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10).
أي: فأنت -يا مُحمَّدُ- تُعْرِضُ عن هذا الرَّجُلِ الحَريصِ على الحَقِّ، وتتشاغَلُ بدَعْوةِ ذلك الكافِرِ [21] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/107)، ((تفسير القرطبي)) (19/215)، ((تفسير ابن كثير)) (8/319)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 61). قال ابن عطية: (قال كثيرٌ مِن العلماءِ وابنُ زيدٍ وعائشةُ وغيرُها مِن الصحابةِ: لو كان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم كاتمًا شيئًا مِن الوحيِ، لكتَم هذه الآياتِ، وآياتِ قصةِ زيدٍ وزينبَ بنتِ جحشٍ). ((تفسير ابن عطية)) (5/436). !
كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
كأنَّه قيل: هذا القُرآنُ قد بلَغ في العَظَمةِ إلى هذا الحَدِّ العظيمِ، فأيُّ حاجةٍ به إلى أن يَقبَلَه هؤلاء الكُفَّارُ، فسَواءٌ قَبِلوه أو لم يَقبَلوه، فلا تلتَفِتْ إليهم، ولا تَشغَلْ قَلْبَك بهم، وإيَّاك وأن تُعرِضَ عمَّن آمَنَ به تطييبًا لقَلبِ أربابِ الدُّنيا [22] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/55). .
كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11).
أي: لا تَفعَلْ ما فعَلْتَ -يا مُحمَّدُ-؛ فليس الخَيرُ في الإعراضِ عن المؤمِنِ الحَريصِ على الحَقِّ، والتَّشاغُلِ عنه بدعوةِ غَيرِه مِن الكُفَّارِ المكابِرينَ؛ إنَّ آياتِ القُرآنِ تذكيرٌ للنَّاسِ جميعًا [23] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/591)، ((الوسيط)) للواحدي (4/423)، ((تفسير القرطبي)) (19/215)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 61). قال القرطبي: (كَلَّا كَلِمةُ رَدعٍ وزَجرٍ، أي: ما الأمرُ كما تفعَلُ مع الفريقينِ، أي: لا تَفعَلْ بَعْدَها مِثْلَها). ((تفسير القرطبي)) (19/215). ممَّن اختار أنَّ المرادَ بالضَّميرِ في قولِه: إِنَّهَا: القرآنُ: البِقاعي، والألوسي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/256)، ((تفسير الألوسي)) (15/244). قال البقاعي: (إِنَّهَا أي: القرآنَ، ولعَلَّه أنَّث الضَّميرَ باعتبارِ ما تُلِيَ عليهم في ذلك المجلِسِ مِن الآياتِ أو السُّوَرِ). ((نظم الدرر)) (21/256). وقال الرازي: (لَمَّا جَعَل القرآنَ تَذْكِرةً أخرَجه على لَفظِ التَّذكِرةِ، ولو ذَكَّره لَجازَ، كما قال في موضِعٍ آخَرَ: كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ [المدثر: 54] ، والدَّليلُ على أنَّ قولَه: إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ المُرادُ به القرآنُ قولُه: فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ). ((تفسير الرازي)) (31/55). وبمعنى هذا القولِ مَن قال: المرادُ: آياتُ القرآنِ. ومنهم: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والواحديُّ، والعُلَيمي، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/591)، ((الوسيط)) للواحدي (4/423)، ((تفسير العليمي)) (7/286)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 61). وقيل: المرادُ: السُّورةُ. وممَّن قال به: الفرَّاءُ، وابنُ قُتَيْبةَ، ونسَبَه الرازيُّ إلي الأخفَشِ. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/236)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 514)، ((تفسير الرازي)) (31/ 55). وقيل: المرادُ: الموعظةُ. وممَّن قال به: الزَّجَّاجُ، والسمرقندي، والبغوي. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/284)، ((تفسير السمرقندي)) (3/547)، ((تفسير البغوي)) (5/210). وجمَعَ ابنُ جريرٍ بيْن القولَينِ الأخيرَينِ، أي أنَّ المرادَ: هذه العِظةُ، وهذه السُّورةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/107). قال ابنُ كثيرٍ: (قَولُه: كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ أي: هذه السُّورةَ، أو الوَصِيَّةَ بالمساواةِ بيْن النَّاسِ في إبلاغِ العِلْمِ مِن شريفِهم ووضيعِهم). ((تفسير ابن كثير)) (8/321). وقال أيضًا: (مِنْ هاهنا أَمَر اللهُ عزَّ وجَلَّ رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ألَّا يَخُصَّ بالإنذارِ أحدًا، بل يُساوي فيه بيْن الشَّريفِ والضَّعيفِ، والفَقيرِ والغَنِيِّ، والسَّادةِ والعَبيدِ، والرِّجالِ والنِّساءِ، والصِّغارِ والكِبارِ، ثمَّ اللهُ يَهْدِي مَن يشاءُ إلى صراطٍ مُستقيمٍ، وله الحِكمةُ البالِغةُ، والحُجَّةُ الدَّامِغةُ). ((تفسير ابن كثير)) (8/319). وقال القاسمي: (قوله تعالى: إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ أي: إنَّ المعاتبةَ المذكورةَ). ((تفسير القاسمي)) (9/ 406). .
فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12).
أي: فمَن شاء مِن النَّاسِ ذَكَر هذا القُرآنَ، فاتَّعَظَ واعتَبَرَ وعَمِلَ بما فيه [24] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/107)، ((تفسير القرطبي)) (19/215)، ((تفسير السعدي)) (ص: 911)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/116)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 61). قال ابن كثير: (فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ أي: فمَن شاء ذكَرَ اللهَ في جميعِ أمورِه. ويحتملُ عَوْدُ الضَّميرِ على الوحيِ؛ لدَلالةِ الكلامِ عليه). ((تفسير ابن كثير)) (8/321). وقال ابن عاشور: (ويجوزُ أنْ يكونَ الضَّميرُ عائِدًا إلى اللهِ تعالى؛ فإنَّ إعادةَ ضميرِ الغَيبةِ على اللهِ تعالَى دونَ ذِكْرِ معادِه في الكلامِ كثيرٌ في القرآنِ؛ لأنَّ شُؤونَه تعالَى وأحكامَه نَزَل القرآنُ لأجْلِها، فهو مَلْحوظٌ لكُلِّ سامِعٍ للقرآنِ، أيْ: فمَنْ شاءَ ذَكَر اللهَ وتَوَخَّى مَرْضاتَه). ((تفسير ابن عاشور)) (30/115). .
كما قال الله تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: 29] .
وقال الله سُبحانَه وتعالى: وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ [الحاقة: 48-49] .
وقال الله عزَّ وجَلَّ: إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا [المزمل: 19] .
فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13).
أي: وهذا القُرآنُ الكريمُ مَكتوبٌ في صُحُفٍ مُكَرَّمةٍ عِندَ اللهِ تعالى [25] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/108)، ((تفسير القرطبي)) (19/215، 216)، ((تفسير ابن كثير)) (8/321)، ((تفسير الكوراني)) (ص: 331)، ((تفسير السعدي)) (ص: 911)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 61). قال الواحدي: (قال المفَسِّرون: يعني: اللَّوحَ المحفوظَ). ((الوسيط)) (4/423). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/116، 117). .
مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14).
أي: وهي صُحُفٌ عاليةٌ، رفيعةُ المكانةِ والقَدْرِ، مُطَهَّرةٌ مِن كُلِّ دَنَسٍ وعَيبٍ [26] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/108)، ((تفسير القرطبي)) (19/216)، ((تفسير ابن كثير)) (8/321)، ((تفسير السعدي)) (ص: 911). قال ابنُ جريرٍ: (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ يعني: في اللَّوحِ المحفوظِ، وهو المرفوعُ المطَهَّرُ عندَ اللهِ). ((تفسير ابن جرير)) (24/108). .
قال سُبحانَه: بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج: 21-22] .
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15).
أي: وهذه الصُّحُفُ المكتوبُ فيها القُرآنُ هي بأيدي طائِفةٍ مِنَ الملائِكةِ [27] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/108، 109)، ((تفسير ابن كثير)) (8/321)، ((تفسير السعدي)) (ص: 911)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 62). قال ابن جُزَي: (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ هي الملائِكةُ، والسَّفَرةُ: جَمعُ سافِرٍ، وهو الكاتِبُ؛ لأنَّهم يَكتُبونَ القُرآنَ. وقيل: لأنَّهم سُفَراءُ بيْن اللهِ وبيْن عَبيدِه. وقيل: يعني: القرَّاءَ مِنَ النَّاسِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/453). وقال ابنُ عثيمين: (هذا لأنَّهم سُفَراءُ بيْنَ اللهِ وبيْنَ الخَلقِ؛ فجِبريلُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ واسِطةٌ بيْنَ اللهِ وبيْنَ الخَلقِ في النُّزولِ بالوَحْيِ، والكَتَبةُ الَّذين يَكتُبونَ ما يَعمَلُ الإنسانُ أيضًا يَكتُبونَه ويُبَلِّغونَه إلى اللهِ عزَّ وجَلَّ، واللهُ تعالى عالِمٌ به حينَ كتابتِه وقبْلَ كِتابتِه). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 62). .
كما قال تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة: 77 - 79] .
كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16).
أي: وأولئك الملائِكةُ ذَوُو خَلْقٍ حَسَنٍ شَريفٍ، وأخلاقٍ حَسَنةٍ جَميلةٍ، كثيرو الخَيرِ والطَّاعةِ والإحسانِ [28] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/321)، ((تفسير السعدي)) (ص: 911)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 62). .
عن عائِشةَ رَضِيَ الله عنها، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَثَلُ الَّذي يَقرَأُ القُرآنَ وهو حافِظٌ له: مع السَّفَرةِ الكِرامِ البَرَرةِ، ومَثَلُ الَّذي يقرَأُ وهو يَتعاهَدُه، وهو عليه شَديدٌ؛ فلَهُ أجْرانِ )) [29] رواه البخاري (4937) واللفظ له، ومسلم (798). .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى فيه الحَثُّ على التَّرحيبِ بمَن يَطلبُ الهدى، والإقبالِ عليهم في مجالِسِ العِلْمِ، وقَضاءِ حوائِجِهم، وعدمِ إيثارِ الأغنياءِ عليهم [30] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 281). .
2- في قَولِه تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى إلى آخرِ السِّياقِ تأديبٌ مِن اللهِ عزَّ وجَلَّ للخَلْقِ؛ أَلَّا يكونَ همُّهم همًّا شَخصيًّا، بل يكونُ همُّهم همًّا معنويًّا، وأَلَّا يُفَضِّلُوا في الدَّعوةِ إلى اللهِ شريفًا لِشَرَفِه، ولا عظيمًا لعَظَمتِه، ولا قريبًا لقُرْبِه، بل يكونُ النَّاسُ عندَهم سواءً في الدَّعوةِ إلى اللهِ؛ الفقيرُ والغنيُّ، الكبيرُ والصَّغيرُ، القَريبُ والبعيدُ [31] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 62). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى هذه فائِدةٌ كبيرةٌ هي المقصودةُ مِن بَعْثةِ الرُّسُلِ، ووَعْظِ الوُعَّاظِ، وتَذكيرِ المذَكِّرينَ؛ فإقبالُك على مَن جاء بنَفْسِه مُفتَقِرًا لذلك منك هو الأليقُ الواجِبُ، وأمَّا تصَدِّيك وتعَرُّضُك للغَنِيِّ المُسْتغني الَّذي لا يَسألُ ولا يَستفتي؛ لعَدَمِ رَغبتِه في الخَيرِ، مع تَرْكِك مَن هو أهَمُّ منه- فإنَّه لا يَنبغي لك؛ فإنَّه ليس عليك ألَّا يَزَّكَّى، فلو لم يتَزَكَّ فلَسْتَ بمُحاسَبٍ على ما عَمِلَه مِن الشَّرِّ؛ فدَلَّ هذا على القاعِدةِ المشهورةِ، أنَّه: «لا يُترَكُ أمرٌ مَعلومٌ لأمرٍ مَوهومٍ، ولا مصلحةٌ مُتحَقَّقةٍ لمَصلحةٍ مُتوَهَّمةٍ»، وأنَّه يَنبغي الإقبالُ على طالِبِ العِلْمِ المفتَقِرِ إليه الحَريصِ عليه؛ أَزْيَدَ مِن غَيرِه [32] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 910). .
- قولُه تعالى: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فيه مَزيدُ تَنفيرٍ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن مُصاحَبتِهم [33] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/108). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى فيه إشارةٌ إلى أنَّه يَجِبُ الاجتهادُ في تزكيةِ التَّابعِ الَّذي عُرِفَ منه القَبولُ [34] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/255). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى تَلَطُّفُ اللهِ عزَّ وجَلَّ بمُخاطَبةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم؛ فقال سُبحانَه ثلاثَ جُمَلٍ لَمْ يُخاطِبْ فيها النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم؛ لأنَّها عِتابٌ، فلو وُجِّهَتْ إلى الرَّسولِ بالخِطابِ لَكان شَديدًا عليه، لكنْ جاءتْ بالغَيبةِ عَبَسَ وإلَّا كان مقتضى الحالِ أنْ يقولَ: «عَبَسْتَ وتَوَلَّيتَ؛ أنْ جاءك الأعمى»، ولكِنَّه قال: عَبَسَ وَتَوَلَّى فجَعَلَ الحُكْمَ للغائِبِ؛ كراهيةَ أنْ يُخَاطِبَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم بهذه الكَلِماتِ الغَليظةِ الشَّديدةِ، ومِن أجْلِ ألَّا يَقَعَ بمِثْلِ ذلك مَن يَقَعُ مِن هذه الأُمَّةِ، واللهُ سُبحانَه وتعالى وَصَفَ كتابَه العزيزَ بأنَّه بلِسانٍ عَربيٍّ مُبينٍ، وهذا مِن بَيانِه [35] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 62). ويُنظر ما يأتي في بلاغةِ الآياتِ (ص: 240، 241). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى عَبَّرَ عن هذا الصَّحابيِّ الجَليلِ -الَّذي هو عبدُ اللهِ بنُ أُمِّ مَكتومٍ- بلَقَبٍ يَكرَهُه النَّاسُ، مع أنَّه قال: وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ [الحجرات: 11] ؟
الجوابُ مِن وجهينِ:
الأوَّلُ: أنَّ السِّرَّ في التَّعبيرِ عنه بلَفظِ: (الأعمَى) للإشعارِ بعُذرِه في الإقدامِ على قَطْعِ كلامِ الرَّسولِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّه لو كان يَرَى ما هو مُشْتَغِلٌ به معَ صناديدِ الكفَّارِ، لَمَا قَطَع كلامَه [36] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 252). ويُنظر أيضًا: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/251). .
الثَّاني: جاء لَفظُ (الأعمى)؛ إشعارًا بما يُناسِبُ مِنَ الرِّفقِ به، والصَّغْوِ لِما يَقصِدُه [37] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/406). ؛ وتَرقيقًا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ ليكونَ العِتابُ ملحوظًا فيه أنَّه لَمَّا كان صاحبَ ضَرارةٍ، فهو أجدَرُ بالعنايةِ به؛ لأنَّ مِثلَه يكونُ سريعًا إلى انكسارِ خاطِرِه [38] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/104). .
3- في قَولِه تعالى: أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى دَليلٌ على جوازِ أنْ يُلَقَّبَ الإنسانُ بوصْفِه؛ مِثلُ: الأعمى، والأعرَجِ، والأعمَشِ، وقد كان العلماءُ يَفعلون هذا، فيقولون: رواه الأعرجُ عن أبي هُرَيرةَ، رواه الأعمشُ... وهكذا، قال أهلُ العلمِ: واللَّقَبُ بالعَيبِ إذا كان المقصودُ به تعيينَ الشَّخصِ -حيث لا يُعرَف إلَّا به- فلا بأسَ به، وأمَّا إذا كان المقصودُ به تعييرَ الشَّخصِ فإنَّه حرامٌ؛ لأنَّ الأوَّلَ: إذا كان المقصودُ به تبيينَ الشَّخصِ فإنَّه تدعو الحاجةُ إليه، والثَّاني: إذا كان المقصودُ به التَّعييرَ فإنَّه لا يُقصَدُ به التَّبيينُ، وإنَّما يُقصدُ به الشَّماتةُ [39] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 63). !
4- قولُه تعالى: وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى تَحقيرٌ لأمرِ الكافرِ، وحضٌّ على الإعراضِ عنه، وتركِ الاهتمامِ به [40] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/407). ، والمعنى: عدَمُ تَزكِّيهِ ليس محمولًا عليك، أي: لستَ مؤاخَذًا بعَدمِ اهتدائِه حتَّى تَزيدَ مِن الحِرصِ على تَرغيبِه في الإيمانِ ما لم يُكلِّفْك اللهُ به، وهذا رِفقٌ مِن اللهِ برسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [41] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/108). .
5- قَولُ اللهِ تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى فيه دَليلٌ لِما تقَرَّر في أُصولِ الفِقْهِ مِن جوازِ الاجتهادِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ووُقوعِه، وأنَّه جرَى على قاعدةِ: إعمالِ أرجَحِ المصلحتَينِ بحسَبِ الظَّاهِرِ [42] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/111). .
6- قَولُ اللهِ تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى غرَضُه تَعليمُ اللهِ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المُوازَنةَ بيْنَ مراتِبِ المصالِحِ، ووُجوبَ الاستقراءِ لخفيَّاتِها؛ كَيْلا يُفيتَ الاهتمامُ بالمهمِّ منها في بادئِ الرَّأيِ مُهِمًّا آخَرَ مُساوِيًا في الأهمِّيَّةِ أو أرجَحَ. ولذلك يقولُ علماءُ أصولِ الفقهِ: إنَّ على المجتَهِدِ أنْ يَبحَثَ عن مُعارِضِ الدَّليلِ الَّذي لاحَ له [43] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/102). .
7- في قَولِه تعالى: فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ أنَّ العَبدَ فاعِلٌ على الحقيقةِ، وله مَشيئةٌ ثابتةٌ، وله إرادةٌ جازمةٌ، وقوَّةٌ صالِحةٌ [44] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/393). .
8- قولُه تعالى: فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ فيه تَعريضٌ بأنَّ موعظةَ القُرآنِ نافعةٌ لكلِّ أحدٍ تَجرَّدَ عن العِنادِ والمُكابَرةِ، فمَن لم يَتَّعِظْ بها فلأنَّه لم يَشَأْ أنْ يَتَّعِظَ [45] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/116). ، وفيه ترغيبٌ في التَّذكرةِ، وحَثٌّ على حِفظِها [46] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/109). .
9- قال تعالى بِأَيْدِي سَفَرَةٍ في وصْفِهم بالسَّفَرةِ ثناءٌ عليهم؛ لأنَّهم يُبلِّغونَ القُرآنَ للنَّاسِ وهم حُفَّاظُه ووُعاتُه، فهذا معنى السَّفَرةِ، وفيه بِشارةٌ بأنَّهم سيَنشُرونَ الإسلامَ في الأُممِ [47] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/118، 119). . وذلك على أنَّ المرادَ كُتَّابُ الوَحْيِ مِن الصحابةِ.
10- الغالبُ في اصطلاحِ القُرآنِ أنَّ البَرَرةَ الملائكةُ، والأبرارَ الآدَميُّونَ؛ لأنَّ (بَرَرةً) أبلَغُ مِن (أبرارٍ)؛ إذ هو جمعُ بَرٍّ، وأبرارٌ جمعُ بارٍّ -على قولٍ-، وبَرٌّ أبلَغُ مِن بارٍّ، كما أنَّ عَدْلًا أبلَغُ مِن عادلٍ [48] يُنظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 115)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/119). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى
- قولُه: عَبَسَ وَتَوَلَّى افتِتاحُ هذه السُّورةِ بفِعلينِ مُتحمِّلينِ لضميرٍ لا مَعادَ له في الكلامِ تَشويقٌ لِما سيُورَدُ بعدَهما، والفِعلانِ يُشعِرانِ بأنَّ المحكيَّ حادثٌ عظيمٌ، فأمَّا الضَّمائرُ فيُبيِّنُ إبهامَها قولُه: فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى [عبس: 6] ، وأمَّا الحادثُ فيَتبيَّنُ مِن ذِكرِ الأَعمى ومَن استَغنى [49] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/103). .
- وحُذِف مُتعلَّقُ (تَوَلَّى)؛ لظُهورِ أنَّه تَوَلٍّ عن الَّذي مَجيئُه كان سَببَ التَّولِّي [50] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/104). .
- وصِيغةُ الخبرِ في قولِه: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى مُستعمَلةٌ في العِتابِ على الغَفلةِ عن المقصودِ الَّذي تَضمَّنَه الخبرُ، وهو اقتِصارُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على الاعتناءِ بالحِرصِ على تَبليغِ الدَّعوةِ إلى مَن يَرْجو منه قَبولَها مع الذُّهولِ عن التَّأمُّلِ فيما يُقارِنُ ذلك مِن تَعليمِ مَن يَرغَبُ في عِلمِ الدِّينِ ممَّنْ آمَنَ. ولَمَّا كان صُدورُ ذلك مِن اللهِ لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، لم يَشَأِ اللهُ أنْ يُفاتِحَه بما يَتبادَرُ منه أنَّه المقصودُ بالكلامِ، فوَجَّهَه إليه على أسلوبِ الغَيبةِ؛ ليكونَ أوَّلُ ما يَقرَعُ سمْعَه باعثًا على أنْ يَترقَّبَ المَعنيَّ مِن ضميرِ الغائبِ فلا يُفاجِئَه العِتابُ، وهذا تلطُّفٌ مِن اللهِ برسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لِيقَعَ العِتابُ في نفْسِه مُدَرَّجًا، وذلك أهوَنُ وقعًا [51] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/406)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/104، 105)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/375). . وقيل: التَّعرُّضُ لعُنوانِ عَماهُ؛ لزيادةِ الإنكارِ؛ كأنَّه قيلَ: توَلَّى لكَونِه أَعْمى، كما أنَّ الالتفاتَ في قولِه تعالَى: وَمَا يُدْرِيكَ لذلكَ؛ فإنَّ المُشافَهةَ أدْخَلُ في تشديدِ العتابِ [52] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/701)، ((تفسير البيضاوي)) (5/286)، ((تفسير أبي السعود)) (9/107). .
وكذلِك في إسنادِ عَبَسَ وَتَوَلَّى إلى ضَميرِ الرَّسولِ في حالِ الغَيبةِ إشعارٌ بأنَّ ذلك ممَّا لا يَليقُ بمنزلةِ مَن في صَدَدِ الرِّسالةِ، لا سيَّما أنَّه ما أُرسِلَ إلَّا رحمةً للعالَمينَ، وأنَّه لَعلى خُلُقٍ عظيمٍ؛ فكأنَّ العابسَ والمتولِّيَ غيرُه، ثمَّ الْتفَتَ يُخاطِبُه قائلًا: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى تأنيبًا، أي: مِثلُك بتلك المنزلةِ لا يَنبغي له ذلك، وكذلك في صِفةِ الأعمى؛ مِن حيثُ اعتبارُ الجِبِلَّةِ النَّفْسانيَّةِ: مَنقصةٌ تُوجِبُ الإعراضَ والتَّولِّيَ عمَّن هو مُتَّصِفٌ بها، ومِن حيثُ مَرتبتُك مِن الخُلُقِ العظيمِ: قمْعُ النَّفْسِ، والعملُ بمُقتضى الخُلُقِ العظيمِ لا بمُقتضى شَهوةِ النَّفْسِ، أو في تلك الصِّفةِ إشعارٌ باستعمالِ التَّعطُّفِ والتَّرؤُّفِ، والتَّقريبِ والتَّرحيبِ، لا سيَّما مِن مِثلِك، وقد وصَفَك اللهُ بالخُلُقِ العظيمِ، أو في تلك الصِّفةِ مِن تمهيدِ العُذرِ، وأنَّه أَعْمى لم يَهتدِ إلى عدمِ الإقدامِ بيْنَ يدَيْك، وقطْعِ كلامِك عن كلامِ القومِ: اعتذارٌ عِندَ الكِرامِ، خُصوصًا عِندَ مِثلِك، وكنتَ للعالَمينَ بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى اللهِ بإذْنِه وسِراجًا منيرًا [53] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/291، 292). .
2- قولُه تعالَى: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى
- قولُه: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى الاستِفهامُ في هذا التَّركيبِ وَمَا يُدْرِيكَ مُرادٌ منه التَّنبيهُ على مَغفولٍ عنه، والمعنى: أيُّ شيءٍ يَجعَلُك داريًا بحالِه؟ وإنَّما يُستعمَلُ مِثلُ هذا الأسلوبِ لقَصدِ الإجمالِ ثمَّ التَّفصيلِ [54] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/701)، ((تفسير البيضاوي)) (5/286)، ((تفسير أبي السعود)) (9/107)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/105، 106). .
- وفي قولِه: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى إيماءٌ إلى عُذرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في تأخيرِه إرشادَ ابنِ أمِّ مَكْتومٍ؛ لأنَّ تَركيبَ وَمَا يُدْرِيكَ يُستعمَلُ في التَّنبيهِ على أمْرٍ مَغفولٍ عنه -كما سبَق-، والمعنى: لعلَّه يَزَّكَّى تزكيةً عظيمةً كانتْ نفْسُه متهيِّئةً لها ساعتَئذٍ؛ إذ جاءَ مُسترشِدًا حريصًا، وهذه حالةٌ خفيَّةٌ، وكذلك عُذرُه في الحرصِ على إرشادِ المُشرِكِ بقولِه: وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى [عبس: 7] ؛ إذ كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَخْشى تَبِعةً مِن فَواتِ إيمانِ المُشرِكِ بسببِ قطعِ المُحاوَرةِ معه، والإقبالِ على استجابةِ المؤمنِ المُسترشِدِ [55] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/112). .
- وأيضًا في معْنى التَّرجِّي الَّذي يُعطيهِ لَعَلَّهُ تَمهيدُ عُذرٍ له صلواتُ اللهِ عليه؛ جَبرًا لذلك الخِطابِ المشتمِلِ على التَّوبيخِ، يعني: أَعْذَرْناك لأنَّك حريصٌ على إسلامِ القَومِ، فأدَّى اجتهادُك إلى أنْ تُقبِلَ عليهم وتُعرِضَ عن الأعمَى، ولو دَرَيْتَ ذلك لَما فَرَطَ ذلك منك، أي: وإنْ كان خفيًّا عليك يا رسولَ اللهِ [56] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/701)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/292). .
- وقولُه: لَعَلَّهُ يَزَّكَّى قيل: هو استِئنافٌ واردٌ لبَيانِ ما يُلوِّحُ به ما قبْلَه؛ فإنَّه معَ إشعارِه بأنَّ له شأنًا مُنافيًا للإعراضِ عنه خارجًا عن دِرايةِ الغيرِ وإِدْرائِه مُؤْذِنٌ بأنَّه تعالى يُدْريهِ ذلكَ، أي: لعلَّه يَتطهَّرُ بما يَقتبِسُ منكَ مِن أَوضارِ الأوزارِ بالكُلِّيَّةِ، وكلمةُ (لعلَّ) مع تحقُّقِ التَّزكِّي واردةٌ على سَننِ الكِبْرياءِ، أو على اعتبارِ مَعْنى التَّرجِّي بالنِّسبةِ إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ الإعراضَ عنه عِندَ كَونِه مَرْجُوَّ التَّزكِّي ممَّا لا يجوزُ، فكيفَ إذا كان مقطوعًا بالتَّزكِّي كما في قولِك: لعلَّك ستَندَمُ على ما فعَلتَ؟ وفيه إشارةٌ إلى أنَّ مَن تَصدَّى لتزكيتِهم مِن الكفَرةِ لا يُرجَى منهم التَّزكِّي والتَّذكُّرُ أصلًا [57] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/107). .
- وفي قولِه: فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى اكتِفاءٌ [58] الاكتفاءُ: هو أنْ يَقتضيَ المقامُ ذِكْرَ شيئَينِ بَيْنَهما تَلازُمٌ وارتباطٌ، فيُكتفَى بأحدِهما عن الآخَرِ؛ لنُكتةٍ بلاغيَّةٍ؛ ومثالُ ذلك قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ [النحل: 81] ؛ ففي قولِه تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ إيجازٌ بالحذفِ على سبيلِ الاكتِفاءِ، إذِ التَّقْديرُ: تَقيكُمُ الحَرَّ والبَرْدَ. يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/118)، ((خزانة الأدب)) لابن حجة الحموي (1/282)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 335)، ((البلاغة العربية)) للميداني (2/48). عن أنْ يقولَ: (فيَنفَعَه التَّزكِّي وتَنفَعَه الذِّكرى)؛ لظهورِ أنَّ كِلَيْهما نفعٌ له [59] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/107). .
3- قولُه تعالَى: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى
- قولُه: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، أي: مهْما يكُنِ الَّذي استَغنى فأنتَ له تَصدَّى، أو مهْما يكنْ شيءٌ فالَّذي استَغنى تَتصدَّى له، والمقصودُ: أنت تَحرِصُ على التَّصدِّي له، فجُعِل مضمونُ الجوابِ -وهو التَّصدِّي له- معلَّقًا على وجودِ مَن استَغنى، وملازِمًا له ملازَمةَ التَّعليقِ الشَّرْطيِّ على طريقةِ المبالغةِ [60] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/107). .
- قولُه: فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى الإتيانُ بضَميرِ المخاطَبِ مُظهَرًا قبْلَ المسنَدِ الفِعليِّ دونَ استتارِه في الفِعلِ يجوزُ أنْ يكونَ للتَّقَوِّي، كأنَّه قيل: تَتصدَّى له تصدِّيًا، فمَناطُ العِتابِ هو التَّصدِّي القويُّ. ويجوزُ أنْ يكونَ مفيدًا للاختِصاصِ، أي: فأنت لا غيرُك تَتصدَّى له، أي: ذلك التَّصدِّي لا يَليقُ بك، أي: لو تَصدَّى له غيرُك لَكان هَونًا، فأمَّا أنت فلا يَتصدَّى مِثلُك لمِثلِه، فمَناطُ العتابِ هو أنَّه وقَعَ مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في جليلِ قَدْرِه [61] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/702)، ((تفسير البيضاوي)) (5/286)، ((تفسير أبي السعود)) (9/108)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/108). .
- قولُه: وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى جملةٌ معترِضةٌ بينَ جملةِ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى [عبس: 5] وجملةِ وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى [عبس: 8] ، والواوُ اعتراضيَّةٌ [62] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/108). .
- قولُه: وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى، قيل: (ما) نافيةٌ، أي: وليسَ عليكَ بأسٌ في ألَّا يَتزكَّى بالإسلامِ حتَّى تَهتمَّ بأمرِه وتُعرِضَ عمَّن أسلَمَ. وقيلَ: (ما) استفهاميَّةٌ للإنكارِ، أيْ: أيُّ شيءٍ عليك في ألَّا يَتزكَّى؟! ومآلُه النَّفيُ أيضًا [63] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/108). .
4- قولُه تعالَى: وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى عطفٌ على جملةِ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى [عبس: 5] ، اقتضى ذِكرَه قصْدُ المقابلةِ مع المعطوفِ عليها مقابلةَ الضِّدَّينِ؛ إتمامًا للتَّقسيمِ [64] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/108). .
- والمرادُ بمَن جاءَ يَسْعى: هو ابنُ أمِّ مَكْتومٍ، فحصَلَ بمضمونِ هذه الجُملةِ تأكيدٌ لمضمونِ عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى [65] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/108، 109). [عبس: 1-2] .
- والسَّعيُ: شِدَّةُ المشيِ، كُنِّيَ به عن الحِرصِ على اللِّقاءِ، فهو مُقابِلٌ لحالِ مَن استَغنى؛ لأنَّ استغناءَه استغناءُ المُمتعِضِ مِن التَّصدِّي له [66] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/109). .
- وحُذِف مفعولُ يَخْشَى؛ لظهورِه؛ لأنَّ الخشيةَ في لسانِ الشَّرعِ تَنصرِفُ إلى خشيةِ اللهِ تعالى [67] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/109). .
- واختِيرَ الفعلُ يَخْشَى المضارِعُ؛ لإفادتِه التَّجدُّدَ [68] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/109). .
- قولُه: فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى الإتيانُ بضميرِ المخاطَبِ مُظهَرًا قبْلَ المسنَدِ الفِعليِّ دونَ استتارِه في الفِعلِ يجوزُ أنْ يكونَ للتَّقَوِّي، كأنَّه قيل: تتَلهَّى عنه تَلهِّيًا، فمناطُ العِتابِ هو التَّلهِّي القَويُّ. ويجوزُ أنْ يكونَ مفيدًا للاختصاصِ، أي: فأنت لا غيرُك تَتلهَّى عنه، أي: ذلك التَّلهِّي لا يَليقُ بك، أي: لو تَلهَّى غيرُك لَكان هَونًا، فأمَّا أنت فلا يَتلهَّى مِثلُك عن مِثلِه، فمناطُ العتابِ هو أنَّه وقَعَ مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في جليلِ قَدْرِه [69] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/702)، ((تفسير البيضاوي)) (5/286)، ((تفسير أبي السعود)) (9/108)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/108، 109). .
- وتقديمُ لَهُ في قولِه: فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، وعَنْهُ في قولِه: فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى؛ للتَّعريضِ باهتِمامِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بمَضمونِهما [70] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/108). .
- وما وقَعَ في خِلالِ هذا العِتابِ مِن ذِكرِ حالِ المؤمِنِ والكافرِ إنَّما هو إدْماجٌ [71] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرَضًا في غرَضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ؛ فهو مِن أفانينِ البَلاغةِ، ويكونُ مرادُ البليغِ غَرَضينِ فيَقرِنُ الغرضَ المَسوقَ له الكلامُ بالغرضِ الثَّاني، وفيه تَظهرُ مَقدرةُ البليغِ؛ إذ يأتي بذلك الاقترانِ بدونِ خروجٍ عن غَرَضِه المسوقِ له الكلامُ ولا تَكلُّفٍ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمِّنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ. وقيل: أُدمِجتِ المبالَغةُ في المطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه تعالى بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواهُ- مُبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفِرادِ بالحَمْدِ. يُنظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 449)، ((خِزانة الأدب)) لابن حِجَّةَ الحَمَوي (2/484)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((البلاغة العربية)) لعبدالرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). ؛ لأنَّ في الحادثةِ فُرصةً مِن التَّنويهِ بسُمُوِّ منزلةِ المؤمنِ؛ لانطواءِ قلبِه على أشعَّةٍ تُؤهِّلُه لأنْ يَستنيرَ بها ويُفيضَها على غيرِه، جمعًا بيْنَ المعاتَبةِ والتَّعليمِ، على سَننِ هَدْيِ القرآنِ الكريمِ في المناسَباتِ [72] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/114). .
5- قولُه تعالَى: كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ
- قولُه: كَلَّا رَدْعٌ عن المعاتَبِ عليه، أو عن مُعاوَدةِ مِثلِه؛ مِن التَّصدِّي لِمَنِ استَغنى عمَّا دعاهُ إليهِ مِن الإيمانِ والطَّاعةِ وما يُوجِبُهما مِن القرآنِ الكريمِ، مُبالِغًا في الاهتمامِ بأمرِه، مُتهالِكًا على إسلامِه، مُعرِضًا بسببِ ذلكَ عن إرشادِ مَن يَسترشِدُه. وهي إبطالٌ لِما جَرَى في الكلامِ السَّابقِ ولو بالمفهومِ، كما في قولِه: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [عبس: 3] ، ولو بالتَّعريضِ أيضًا، كما في قولِه: عَبَسَ وَتَوَلَّى [عبس: 1] . ويجوزُ أنْ يَنصرِفَ الإبطالُ إلى عَبَسَ وَتَوَلَّى خاصَّةً. ويجوزُ أنْ يكونَ تأكيدًا لقولِه: وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى [عبس: 7] ، أي: لا تظُنَّ أنَّك مسؤولٌ عن مُكابَرتِه وعِنادِه؛ فقد بلَّغتَ ما أُمِرتَ بتبليغِه [73] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/702)، ((تفسير البيضاوي)) (5/287)، ((تفسير أبي السعود)) (9/109)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/114)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/376). .
- ويجوزُ أنْ يكونَ قولُه: كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ استِئنافًا ابتدائيًّا موجَّهًا إلى مَن كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَدْعوهُ قُبيلَ نزولِ السُّورةِ ومَن معه، وكانوا لا يَستجيبونَ إلى ما دعاهُم، ولا يُصدِّقونَ بالبعثِ، فتكونَ (كَلَّا) إبطالًا لِما نعَتوا به القرآنَ مِن أنَّه أساطيرُ الأوَّلينَ أو نحو ذلك، فيكونَ ضميرُ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ عائدًا إلى الآياتِ الَّتي قرَأَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عليهم في ذلك المَجلِسِ، ثمَّ أُعيدَ عليها الضَّميرُ بالتَّذكيرِ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ المرادَ آياتُ القرآنِ الكريمِ. ويُؤيِّدُ هذا الوجهَ قولُه تعالى عَقِبَه: قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ [عبس: 17] الآياتِ، حيثُ ساقَ لهم أدِلَّةَ إثباتِ البعثِ، فكان تأنيثُ الضَّميرِ نُكتةً خصوصيَّةً؛ لتحميلِ الكلامِ هذه المَعانيَ [74] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/115). .
- قولُه: إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ تَعليلٌ للرَّدعِ عمَّا ذُكِرَ ببيانِ عُلُوِّ رُتبةِ القرآنِ العظيمِ الَّذي استَغنى عنه مَن تَصدَّى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لهُ، وتحقيقُ أنَّ شأنَه أنْ يكونَ موعظةً حقيقةً بالاتِّعاظِ بها، فمَن رَغِبَ فيها اتَّعَظَ بها، ومَن رَغِبَ عنها -كما فعَلَ المُستغني- فلا حاجةَ إلى الاهتمامِ بأمرِه [75] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/109). .
- وقولُه: إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ استِئنافٌ بعدَ حرفِ الإبطالِ (كلَّا)، وهو استِئنافٌ بيانيٌّ؛ لأنَّ ما تَقدَّمَ مِن العتابِ ثمَّ ما عَقِبَه مِن الإبطالِ يُثيرُ في خاطِرِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الحَيرةَ في كيف يكونُ العَملُ في دَعوةِ صَناديدِ قُريشٍ إذا لم يَتفرَّغْ لهم؛ لئلَّا يَنفِروا عن التَّدبُّرِ في القرآنِ، أو يُثيرُ في نفْسِه مخافةَ أنْ يكونَ قصَّرَ في شيءٍ مِن واجبِ التَّبليغِ [76] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/114، 115). .
- قولُه: فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ الضَّميرُ الظَّاهرُ في قولِه: ذَكَرَهُ يَجوزُ أنْ يعودَ إلى تَذْكِرَةٌ [عبس: 11] ؛ لأنَّ (ماصَدَقَها) [77] الماصَدَق: اسمٌ صِناعيٌّ مأخوذٌ في الأصلِ مِن كَلِمةِ (ما) الاستِفهاميَّةِ أو المَوصوليَّةِ، وكَلِمةِ (صَدَق) الَّتي هي فِعلٌ ماضٍ مِنَ الصِّدقِ، كأنْ يُقالَ مَثَلًا: على ماذا صَدَق هذا اللَّفظُ؟ فيُقالُ في الجوابِ: صدَقَ على كذا أو كذا؛ فاشتَقُّوا مِن ذلك أو نَحَتوا كَلِمةَ (ماصَدَق)، والمرادُ: الفَردُ أو الأفرادُ الَّتي يَنطَبِقُ عليها اللَّفظُ، أو: الأفرادُ الَّتي يَتحَقَّقُ فيها معنى الكُلِّيِّ. يُنظر: ((ضوابط المعرفة)) للميداني (ص: 45)، ((المعجم الوسيط)) (1/511). القرآنُ الَّذي كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَعرِضُه على صَناديدِ قُريشٍ قُبيلَ نزولِ هذه السُّورةِ، أي: فمَن شاءَ ذكَرَ القرآنَ وعَمِل به. ويجوزُ أنْ يكونَ الضَّميرُ عائدًا إلى اللهِ تعالى، والذِّكرُ على كِلا الوَجهينِ: الذِّكرُ بالقلبِ، وهو تَوَخِّي الوُقوفِ عِندَ الأمرِ والنَّهيِ. والَّذي اقتَضَى الإتيانَ بالضَّميرِ وكَوْنَه ضميرَ مُذكَّرٍ مُراعاةُ الفواصلِ، وهي: تَذْكِرَةٌ، مُكَرَّمَةٍ مُطَهَّرَةٍ، سَفَرَةٍ، بَرَرَةٍ [78] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/115، 116). .
- وجُملةُ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ مُعترِضةٌ بيْنَ قولِه: تَذْكِرَةٌ [عبس: 11] وقولِه: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ [عبس: 13] ، تَتضمَّنُ الوَعدَ والوعيدَ [79] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/408). ، والفاءُ لتفريعِ مضمونِ الجملةِ على جملةِ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ [عبس: 11] ، والفاءُ مِن جملةِ الاعتراضِ [80] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/116). .
- وأيضًا قولُه: فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ استطرادٌ، وبيانُه: أنَّه لَمَّا خاطَبَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بذلك الخِطابِ الهائلِ، قيل: كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ، أي: إنَّ تلك المُعاتَبةَ -على قولٍ- موعظةٌ للسَّامعينَ؛ فإنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بجلالتِه إذا عُوتِبَ بذلك الخِطابِ الفظيعِ لذلك التَّصدِّي والتَّلهِّي، فما بالُ غيرِه؟! وإذا كان كذلك، فتَذكَّرْها أيُّها السَّامعُ. وكان مِن الظَّاهِرِ أنْ يُؤخَّرَ قولُه: فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ عن وصفِ التَّذكرةِ، فقُدِّمَ؛ لشِدَّةِ العنايةِ بها، ولِعِظَمِ الحادثةِ عظَّمَ الكُتُبَ، ووصَفَها بتلك الأوصافِ العظيمةِ، ثمَّ قيل: قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ [عبس: 17] ، فجمَعَ في ألفاظٍ قليلةٍ معانيَ كثيرةً، ثمَّ فصَّلَ بقولِه: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [عبس: 18] إلى آخِرِه [81] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/702)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/296). .
6- قولُه تعالَى: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ
- قولُه: فِي صُحُفٍ متعلِّقٌ بمُضمَرٍ هو صِفةٌ لـ (تذكرةٌ)، أي: كائنةٌ في صُحُفٍ مُنتسَخةٍ مِن اللَّوحِ، أو خبرٌ ثانٍ لـ (إنَّ) [82] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/109). .
7- قولُه تعالَى: بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ
- لكلمةِ سَفَرَةٍ الوَقعُ العَظيمُ المُعجِزُ في هذا المَقامِ؛ فيجوزُ أنْ تكونَ جمعَ سافِرٍ، مِثلَ كاتِبٍ وكَتَبةٍ. ويجوزُ أنْ يكونَ اسمَ جمْعِ سَفيرٍ، وهو المرسَلُ في أمرٍ مهمٍّ، فهو فعيلٌ بمعنى فاعِلٍ [83] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/117 - 119). .
- قولُه: كِرَامٍ بَرَرَةٍ البَرَرةُ: جمعُ بَرٍّ، وهو الموصوفُ بكَثرةِ البِرِّ؛ فهذا مِن بابِ الوَصْفِ بالمصدرِ، وقد اختُصَّ البَرَرةُ بجمْعِ بَرٍّ، ولا يكونُ جمْعَ بارٍّ [84] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/119). .
- وفي الآياتِ السَّابقةِ تَنويهٌ بشأنِ القُرآنِ؛ لأنَّ التَّنويهَ بالآياتِ الواردةِ في أوَّلِ هذه السُّورةِ مِن حيثُ إنَّها بعضُ القُرآنِ، فأُثنِيَ على القُرآنِ بفضيلةِ أثرِه في التَّذكيرِ والإرشادِ، وبرِفعةِ مَكانتِه، وقُدسِ مَصدرِه، وكَرَمِ قَرارِه وطَهارتِه، وفَضائلِ حمَلَتِه ومُبلِّغيه؛ فإنَّ تلك المدائحَ عائدةٌ إلى القُرآنِ بطريقِ الكِنايةِ [85] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/119). .