موسوعة التفسير

سورةُ النُّورِ
الآيات (51-54)

ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ

غريب الكلمات:

جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ: أي: أقوى الأيمانِ وأغلَظَها مُجتَهِدينَ في تَوكيدِها. وحقيقةُ الجَهدِ: التَّعَبُ والمشَقَّةُ ومُنتهَى الطَّاقةِ، ثمَّ أُطلِقَ على أشَدِّ الفِعلِ ونِهايةِ قُوَّتِه؛ لِما بينَ الشِّدَّةِ والمَشقَّةِ مِن المُلازَمةِ [1237] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/484)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/486) (5/86)، ((المفردات)) للراغب (ص: 208)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 152)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/233). .
حُمِّلَ: أي: كُلِّفَ وأُمِرَ به، وأصلُ (حمل): يدُلُّ على إقلالِ الشَّيءِ [1238] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 306)، ((تفسير ابن جرير)) (17/345)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/106)، ((المفردات)) للراغب (ص: 257). .

مشكل الإعراب:

قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ
قوله تعالى: وَيَتَّقْهِ مُضارِعٌ مجزومٌ عَطفًا على ما قَبْلَه بحَذفِ حَرفِ العِلَّةِ؛ لأنَّه مُعتَلُّ الآخِرِ، والأصلُ (ويتَّقِهِ)، ثمَّ سُكِّنَت القافُ؛ تَخفيفًا لكَثرةِ الحَرَكاتِ على لُغةٍ للعَرَبِ في كُلِّ مُعتَلٍّ حُذِفَ آخِرُه، فيَقولونَ: لم أرْ زَيدًا، يُسقِطونَ الحَرفَ للجَزمِ، ثمَّ يُسَكِّنونَ ما قَبْلَه. وقيلَ غَيرُ ذلك [1239] يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (8/428)، ((تفسير الألوسي)) (9/390)، ((المجتبى من مشكل إعراب القرآن)) للخراط (2/802).  .
قَولُه تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ
جَهْدَ: منصوبٌ، وفي نَصبِه ثلاثةُ أوجُهٍ؛ الأوَّل: أنَّه مَصدرٌ مؤكِّدٌ، وناصبُه (أقسَموا) مِن مَعناه لا مِن لَفظِه، والمعنى: أَقسَموا إقْسامَ اجتِهادٍ في اليَمينِ.
الثَّاني: أنَّه مَنصوبٌ على الحالِ من ضَميرِ (أقسَموا) على تأويلِ المَصْدَرِ باسْمِ الفاعِلِ، أي: جاهِدِينَ، والتَّقديرُ: وأقْسَموا باللهِ جاهِدينَ أنفُسَهم في أَيمانِهم، أي: بالغِينَ بها أقْصى الطَّاقةِ.
الثَّالِثُ: أنَّه مَنصوبٌ على المَفعولِ المُطلَقِ الواقِعِ بَدَلًا مِن فِعْلِه، والفِعلُ المُقَدَّرُ في مَوضِعِ الحالِ مِن ضَميرِ (أقسَموا)، والتَّقديرُ: أقسَموا يَجْهَدونَ أيمانَهم جَهْدًا [1240] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/230)، ((تفسير الزمخشري)) ( 3/250)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/445)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (4/305) (8/432)، ((تفسير ابن عاشور)) (18 /277). .

المعنى الإجمالي:

يُبيِّنُ الله تعالى ما يَنبغي أنْ يكونَ عليه المؤمنونَ، فيقولُ: إنَّما المؤمِنونَ حقًّا الذين إذا دُعوا إلى التَّحاكُمِ في خُصوماتِهم إلى اللهِ ورَسولِه، أن يقولوا: سَمعًا وطاعةً، وأولئك هم الفائِزون بسَعادةِ الدَّارَينِ.
ثمَّ يُبيِّنُ الله تعالى جزاءَ مَن أطاع الله ورسولَه، فيقولُ: ومَن يُطِعِ اللهَ ورَسولَه، ويَخَفِ اللهَ تعالى، ويتَّقِ سَخَطَه وعذابَه، فيمتَثِلْ أوامِرَه، ويجتَنِبْ نواهيَه؛ فهؤلاء هم الفائِزونَ برِضوانِه تعالى.
ثم يعودُ الحديثُ مرَّةً أخرى عن المنافقينَ، فيقولُ الله تعالى: وأقسَمَ المنافِقونَ باللهِ تعالى أغلَظَ الأيمانِ وآكَدَها: لَئِنْ أمرْتَهم -أيُّها النبيُّ- بالخُروجِ إلى الجِهادِ لِيَخرُجُنَّ معك. قُلْ لهم: لا تَحلِفوا؛ فإنَّ أيمانَكم كاذِبةٌ، فطاعتُكم معروفةٌ؛ فهي باللِّسانِ دونَ القَلبِ، وبالقَولِ دونَ العَمَلِ، إنَّ اللهَ خَبيرٌ بما تَعمَلونَه، لا يخفى عليه شَيءٌ سُبحانَه.
ثم يأمُرُ نبيَّه بإرشادِهم إلى الطاعةِ الصادقةِ، فيقولُ تعالى: قُلْ -يا أيُّها النبيُّ- لهم: أطيعوا اللهَ وأطيعوا الرَّسولَ، فإنْ أعرَضوا فإنَّ على الرَّسولِ ما كُلِّفَ به مِن تَبليغِ الرِّسالةِ، وعليكم ما كُلِّفْتُم به مِنَ السَّمعِ والطَّاعةِ والامتِثالِ، وإن تُطيعوه تَرشُدوا إلى الحَقِّ، وليس على الرَّسولِ إلَّا التبليغُ الواضِحُ في نفْسِه، الموضِّحُ رسالةَ اللهِ.

تفسير الآيات:

إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا حكى اللهُ تعالى قَولَ المُنافِقين وما قالوه وما فعَلوه؛ أتبَعَه بذِكرِ ما كان يجِبُ أن يفعَلوه، وما يجِبُ أن يَسلُكَه المؤمِنون [1241] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/411). ، وهذا على عادتِه تعالى في إتْباعِ ذِكرِ المُحِقِّ المُبطِلَ، والتَّنبيهِ على ما يَنبغي بعْدَ إنكارِه لِما لا ينبغي [1242] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/112). .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ الله تعالى حالةَ المُعرِضينَ عن الحُكمِ الشَّرعيِّ؛ ذكَرَ حالةَ المؤمِنينَ الممدوحين، فقال [1243] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 571). :
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا.
أي: إنَّما يَنبغي على المؤمِنينَ الصَّادقينَ المُخلِصينَ إذا طُلِب منهم عندَ اختلافِهم التَّحاكُمُ إلى اللهِ ورَسولِه- أن يقولوا برَغبةٍ ومُبادرةٍ، وإقبالٍ دونَ مَطلٍ وتَسويفٍ وترَدُّدٍ: سَمِعْنا الدَّعوةَ، وأجَبْنا إلى كتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِه، ورَضِينا بحُكمِهما لنا أو علينا [1244] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/205)، ((تفسير ابن جرير)) (17/343)، ((تفسير القرطبي)) (12/294)، ((تفسير ابن كثير)) (6/75)، ((تفسير السعدي)) (ص: 572). قال ابن جرير: (لم يُعْنَ بـ كَانَ في هذا الموضِعِ الخبرُ عن أمرٍ قد مضَى فتقضَّى، ولكنَّه تأنيبٌ مِن اللهِ الذين أُنزِلت هذه الآيةُ بسَبَبِهم، وتأديبٌ منه آخَرينَ غيرَهم). ((تفسير ابن جرير)) (17/343). .
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
أي: وأولئك المُؤمِنونَ المُتحاكِمونَ إلى اللهِ ورَسولِه، هم المُدرِكونَ لِما يَطلبونَ، وفي الجنَّةِ هم خالِدون [1245] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/343)، ((تفسير ابن كثير)) (6/75)، ((تفسير السعدي)) (ص: 572). .
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى فَضلَ الطَّاعةِ في الحُكمِ خُصوصًا؛ ذكَرَ فَضلَها عُمومًا في جميعِ الأحوالِ، فقال [1246] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 572). :
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ.
أي: ومَن يُطِعِ اللهَ ورَسولَه فيما يأمُرانِه ويَنهيانِه، ويَخَفِ اللهَ العظيمَ خَوفًا مُقتَرِنًا بعِلمٍ وتَعظيمٍ، ويتَّقِ سَخَطَه وعذابَه، فيَمتَثِلْ أوامِرَه، ويَترُكْ نواهيَه- فأولئك هم الظَّافِرونَ بكُلِّ خَيرٍ، النَّاجونَ مِن كُلِّ شَرٍّ في الدُّنيا والآخرةِ [1247] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/343)، ((تفسير السمرقندي)) (2/520)، ((تفسير ابن كثير)) (6/75)، ((تفسير السعدي)) (ص: 572). .
كما قال تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران: 185] .
وقال سُبحانَه: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [النساء: 13] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 71] .
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ الله سُبحانَه ما رَتَّب على الطَّاعةِ الظَّاهِرةِ التي هي دَليلُ الانقيادِ الباطِنِ؛ ذكَرَ حال المنافِقينَ فيه، فقال [1248] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/299). :
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ.
أي: وحلَفَ باللهِ أولئك المُنافِقونَ أغلَظَ أيمانِهم وأشَدَّها، مُبالِغينَ في تأكيدِها: لَئِنْ أمَرْتَهم -أيُّها النبيُّ- بالخروجِ إلى الجهادِ لَيَخْرُجُنَّ معك [1249] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/344)، ((تفسير أبي السعود)) (6/188)، ((تفسير الشوكاني)) (4/54)، ((تفسير الألوسي)) (9/390)، ((تفسير السعدي)) (ص: 572). .
قال تعالى: يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [التوبة: 96] .
قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ.
أي: قُلْ -يا أيُّها النبيُّ- لأولئك المُنافِقين: لا تَحلِفوا؛ فقد عرَفْتُ أنَّ طاعتَكم مجرَّدُ قَولٍ بلا فِعلٍ، وطاعةٌ نِفاقيَّةٌ لم تكُنْ عن اعتِقادٍ، ومعروفٌ عنكم الكَذِبُ دونَ الإخلاصِ، وقد عرَفتُ كَذِبَكم في دعواكم طاعتي إن أمَرْتُكم بالخُروجِ للجِهادِ [1250] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/344)، ((تفسير القرطبي)) (12/296)، ((تفسير ابن كثير)) (6/76)، ((تفسير الشوكاني)) (4/54)، ((تفسير السعدي)) (ص: 572). وممَّن قال بهذا المعنى المذكورِ في الجملةِ: ابنُ جرير، وابن كثير، والشوكاني، والسعدي. يُنظر: المصادِرُ السَّابِقةُ. قال الثعلبي: (لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ أي: هذه طاعةٌ بالقَولِ واللِّسانِ دونَ الاعتِقادِ، فهي مَعروفةٌ منكم بالكَذِبِ؛ أنَّكم تَكذِبونَ فيها، وهذا معنى قَولِ مجاهِدٍ). ((تفسير الثعلبي)) (7/114). قال السمعاني: (وقَولُه: طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِيهِ أقوالٌ؛ أحدُها: ليكُنْ مِنكم طاعةٌ مَعروفةٌ. والآخَرُ: طاعةٌ معروفةٌ أمثَلُ مِن يمينٍ بالقَولِ لا يُوافِقُها الاعتِقادُ. والثَّالِثُ: هذه طاعةٌ مَعروفةٌ منكم أن تَحلِفوا كاذِبينَ، وأن تَقولوا ما لا تَفعَلونَ، ومعناه: هذا أمرٌ مَعروفٌ منكم). ((تفسير السمعاني)) (3/543). وقال ابن عثيمين: (الظاهِرُ أنَّ طَاعَةٌ مبتدأٌ، والخبَرُ محذوفٌ، تقديرُه: (عليكم)، أي: عليكم طاعةٌ معروفةٌ، أو طَاعَةٌ خبَرٌ، والمبتدأُ محذوفٌ، أي: طاعتُكم معروفةٌ، فمعنى ذلك أنَّ الإنسانَ عليه أن يُطيعَ طاعةً معروفةً. والطَّاعةُ المعروفةُ مِن المؤمنينَ تكونُ بدونِ حَلِفٍ؛ لأنَّ الذي يحلِفُ على أن يفعلَ، كأنَّه لا يريدُ أن يفعَلَ؛ يفعَلُ لكنَّه يُلزِمُ نَفسَه، فالطَّاعةُ المعروفةُ: الانقيادُ بدونِ قَسَمٍ). ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 343، 344). وقال البقاعي: (قولُه: طَاعَةٌ أي: هذه الحقيقةُ مَعْرُوفَةٌ أي: منكم ومِن غيرِكم، ... والمعنى: أنَّ الطاعةَ وإنِ اجتهَد العبدُ في إخفائِها لا بدَّ أن تظهَرَ مخايلُها على شمائِلِه، وكذا المعصيةُ). ((نظم الدرر)) (13/300). .
إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.
أي: إنَّ اللهَ خبيرٌ بجَميعِ ما تَعمَلونَ مِن طاعةٍ أو مَعصيةٍ، ويعلَمُ ما في بواطِنِكم، وهو مُجازيكم بكُلِّ ذلك؛ فإنَّه إنْ خَفِيَ على النَّاسِ حَقيقةُ حالِكم؛ لنِفاقِكم وكَذِبِكم، فإنَّه لا يخفى على اللهِ العالِمِ بالسَّرائِرِ، المطَّلِعِ على بواطِنِ الأمورِ [1251] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/344)، ((تفسير ابن كثير)) (6/76)، ((تفسير السعدي)) (ص: 572). قال البقاعي: ( إِنَّ اللَّهَ أي: الذي له الإحاطةُ بكلِّ شيءٍ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وإنِ اجتهدتُم في إخفائِه، فهو ينصبُ عليه دلائلَ يعرفُه بها عبادُه، فالحلفُ غيرُ مُغْنٍ عن الحالفِ، والتسليمُ غيرُ ضارٍّ للمسلمِ). ((نظم الدرر)) (13/301). .
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا بكَّت اللهُ تعالى المُنافِقين بأنَّه مُطَّلِعٌ على سَرائِرِهم؛ تلطَّفَ بهم فأمَرَهم بطاعةِ اللهِ والرَّسولِ، وهو أمرٌ عامٌّ للمُنافِقين وغَيرِهم [1252] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/64). .
وأيضًا لَمَّا نَبَّه اللهُ تعالى على خِداعِ المُنافِقين، وأشار إلى عدَمِ الاغترارِ بإيمانِهم، وإلى قَبولِ شَهادةِ التوسُّمِ فيهم؛ أمَرَ بتَرغيبِهم وترهيبِهم، مُشيرًا إلى الإعراضِ عن عُقوبَتِهم، فقال [1253] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/301، 302). :
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ.
أي: قُلْ -أيُّها النبيُّ- لهؤلاء المُنافِقين: أطيعوا اللهَ باتِّباعِ كِتابِه، وأطيعوا الرَّسولَ باتِّباعِ سُنَّتِه طاعةً ظاهِرةً وباطِنةً بصِدقٍ وإخلاصٍ [1254] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/344)، ((تفسير ابن كثير)) (6/76)، ((تفسير الشوكاني)) (4/54). .
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ.
أي: فإنْ تُعرِضوا -أيُّها المُنافِقونَ- عمَّا جاءكم به الرَّسولُ، فإنَّما عليه مسؤوليَّةُ تبليغِكم الرِّسالةَ، وأداءُ الأمانةِ، وعليكم مسؤوليةُ طاعتِه، واتِّباعُ شَريعتِه [1255] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/344، 345)، ((تفسير القرطبي)) (12/296)، ((تفسير ابن جزي)) (2/74)، ((تفسير ابن كثير)) (6/76)، ((تفسير السعدي)) (ص: 572)، ((تفسير سورة النور)) للشنقيطي (ص: 180). قال السعدي: (وإنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ مِن الرِّسالةِ، وقد أدَّاها. وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ مِن الطاعةِ، وقد بانت حالُكم وظهَرت، فبان ضلالُكم وغَيُّكم، واستحقاقُكم العذابَ). ((تفسير السعدي)) (ص: 572). .
وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا.
أي: وإنْ تُطيعوا الرَّسولَ في أمرِه ونَهيِه، تَرشُدوا إلى الخَيرِ، وتُصيبوا الحَقَّ في جميعِ أمورِكم [1256] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/345)، ((تفسير الشوكاني)) (4/55)، ((تفسير القاسمي)) (7/402)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/282). .
كما قال تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] .
وعن العِرباضِ بنِ ساريةَ رَضِيَ الله عنه، قال: ((صلَّى بنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الصُّبحَ ذاتَ يومٍ، ثمَّ أقبَلَ علينا، فوعَظَنا مَوعِظةً بَليغةً، ذَرَفَت [1257] ذَرَفَت: أي: دَمَعَت. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (1/251). منها العُيونُ، ووَجِلَت [1258] وَجِلَت: أي: خافَت، والوَجَلُ: خَوفٌ مع الحَذَرِ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (1/251). منها القُلوبُ، فقال قائِلٌ: يا رسولَ اللهِ، كأنَّ هذه مَوعِظةُ مُوَدِّعٍ! فماذا تعهَدُ إلينا؟ فقال: أُوصيكم بتَقوى اللهِ، والسَّمعِ والطَّاعةِ وإن كان عبدًا حَبَشيًّا؛ فإنَّه مَن يَعِشْ منكم بعدي فسَيَرى اختِلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ المَهديِّينَ، تمسَّكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ [1259] عَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ: أي: تمسَّكوا بها كما يتمَسَّكُ العاضُّ بجَميعِ أضراسِه. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (5/20). ، وإيَّاكم ومُحدَثاتِ الأُمورِ؛ فإنَّ كُلَّ مُحدَثةٍ بِدعةٌ، وكُلَّ بِدعةٍ ضَلالةٌ )) [1260] أخرجه أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (42)، وأحمد (17145). صحَّحه الترمذيُّ (2676)، والحاكم (1/176)،، وابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/1164)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (42). .
وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ.
أي: ولا يَجِبُ على الرَّسولِ إلَّا التَّبليغُ الظَّاهِرُ الواضِحُ في نفْسِه، الموضِّحُ لكم رسالةَ اللهِ، بحيثُ لا يبقَى لدى أحَدٍ شَكٌّ ولا شُبهةٌ، وقد أدَّى ذلك، وقام بوظيفتِه، وبَقِيَ عليكم ما حُمِّلْتُم، وليس هو مَن كَلَّفَكم، وليس عليه هدايتُكم ولا حِسابُكم، فطاعتُه يعودُ نَفعُها إليكم، ومَعصيتُه يعودُ وبالُها عليكم [1261] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/345)، ((تفسير البيضاوي)) (4/112)، ((تفسير النسفي)) (2/515)، ((تفسير الألوسي)) (9/392)، ((تفسير السعدي)) (ص: 572)، ((تفسير سورة النور)) للشنقيطي (ص: 180)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 352). قال الشوكاني: (اللامُ: إمَّا للعهد، فيُرادُ بالرَّسولِ نبيُّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ وإمَّا للجِنسِ، فيُرادُ كُلُّ رَسولٍ). ((تفسير الشوكاني)) (4/55). وقال ابنُ عثيمين: (الْمُبِينُ تَصِحُّ بمعنى البَيِّنِ، وتَصِحُّ بمعنى المُبَيِّنِ). ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 352). ممَّن اختار أنَّها بمعنى البَيِّنِ الواضِحِ الظَّاهِرِ: مكِّي، والسمعانيُّ، والبغوي، والنسفي، والخازن، وجلال الدين المحلي، والعليمي، والسعدي. يُنظر: ((الهداية الى بلوغ النهاية)) لمكي (8/5140)، ((تفسير السمعاني)) (3/543)، ((تفسير البغوي)) (3/425)، ((تفسير النسفي)) (2/515)، ((تفسير الخازن)) (3/302)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 467)، ((تفسير العليمي)) (4/554)، ((تفسير السعدي)) (ص: 573). وممَّن اختار أنَّها بمعنى الموضِّحِ المُظهِرِ: البيضاويُّ، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/112)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 352). وممَّن جمع بين المعنيَينِ السَّابِقَينِ: الرازيُّ. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/412). .
كما قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة: 272] .
وقال سُبحانَه: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [الرعد: 40] .
وقال تبارك وتعالى: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [النحل: 35] .

الفوائد التربوية:

1- قال الله تعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ هذه الآيةُ -على إيجازِها- حاويةٌ لكُلِّ ما ينبغي للمُؤمِنينَ أن يفعَلوه [1262] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/411). .
2- قال أبو عثمانَ سعيدُ بنُ إسماعيلَ: (مَن أمَّرَ السنَّةَ على نفْسِه قَولًا وفِعلًا، نطقَ بالحِكمةِ، ومَن أمَّرَ الهوى على نفْسِه قَولًا وفِعلًا، نطَقَ بالبدعةِ؛ لقولِه تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) [1263] يُنظر: ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (10/244). .
3- في قَولِه تعالى: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ أنَّ المبلِّغِينَ لشريعةِ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم يجبُ عليهم أن يُبيِّنوها للنَّاسِ على أتمِّ الوُجوهِ [1264] يُنظر: ((تفسير سورة النور)) للشنقيطي (ص: 180). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- يَحرُمُ الإفتاءُ والحُكْمُ في دينِ اللهِ بما يخالِفُ النصوصَ؛ ويَسقطُ الاجتهادُ والتقليدُ عندَ ظهورِ النصِّ؛ قال تعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، وقال سبحانه: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب: 36] ، وقال أيضًا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [1265] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (2/199). [الحجرات: 1] .
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ حصَرَ الفلاحَ فيهم؛ لأنَّ الفلاحَ: الفَوزُ بالمطلوبِ، والنَّجاةُ مِن المكروهِ، ولا يُفلِحُ إلَّا مَن حكَّمَ اللهَ ورَسولَه، وأطاع اللهَ ورَسولَه [1266] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 572). .
3- قال الله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ ميَّزَ اللهُ عزَّ وجَلَّ بيْن حَقِّه وحَقِّ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في هذه الآيةِ؛ فالطاعةُ لله والرَّسولِ، والخَشيةُ للهِ وحْدَه، والتَّقوى للهِ وحْدَه، لا يُخْشَى مخلوقٌ، ولا يُتَّقَى مخلوقٌ؛ لا مَلَكٌ ولا نبيٌّ ولا غيرُهما [1267] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (27/428). .
4- قال الله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ فجمَعَ اللهُ في هذه الآيةِ أسبابَ الفوزِ؛ فالفاءُ في فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ جَزائيَّةٌ، مُؤذِنةٌ بأنَّ ما بعْدَها مُسبَّبةٌ عمَّا قبْلَها ممَّا تضمَّنَه الشَّرطُ مِن طاعةِ اللهِ وطاعةِ رسولِه؛ فخَشيةُ اللهِ على ما مَضى، إنْ فرَطَ منه تَقصيرٌ فيَتدارَكُه، وتَقْوى اللهِ فيما يُستقبَلُ مِن ترْكِ ما يجِبُ عليه أنْ يذَرَهُ، والإتيانِ بما يجِبُ عليه إتيانُه، فعَمَّ الأوقاتَ بأسْرِها، والأفعالَ بأجمَعِها، مِن فِعلِ ما يَنْبغي، وترْكِ ما لا يَنْبغي؛ ولذلك قِيل: فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ، أي: الكامِلونَ في الفوزِ بمَباغِيهم ومَطالبِهم [1268] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/249)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/128)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/275). .
5- في قَولِه تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا إشارةٌ إلى النَّهيِ عن النَّذرِ [1269] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (11/545). ، فهذا القَسَمُ نذرٌ؛ لأنَّ القَسَمَ إذا تضمَّن إلزامًا مِن الإنسانِ لله صار جامعًا بينَ القَسَمِ والنَّذرِ، فنهَى الله عن ذلك بقولِه: قُلْ لَا تُقْسِمُوا [1270] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 342). .
6- في قوله تعالى: طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ وجوبُ تقييدِ الطاعةِ بالمعروفِ، يعني أنْ تكونَ طاعةً بالمعروفِ، والمرادُ بالمعروفِ هنا المعروفُ مِن الشرعِ، وليست المعروفة بيْن الناسِ؛ لأنَّ الناسَ قد يَعرفون شيئًا يظنُّونه طاعةً وليس بطاعةٍ [1271] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 347). ! وذلك على أحدِ الأقوالِ في معنى الآيةِ.
7- في قوله تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ إعادةُ العاملِ (أطيعُوا) تدُلُّ على أنَّ طاعةَ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم طاعةٌ مُستقِلَّةٌ؛ وأنَّ ما جاء به الرَّسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم فكما جاء به عنِ اللهِ؛ ولهذا قال العلماءُ: (إنَّ ما وَجَبَ في سُنَّةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كالذي وَجَبَ في القُرآنِ مِن أمرٍ ونهيٍ)، وهذا واضِحٌ؛ لأنَّه جعَلَ طاعةَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طاعةً مُستقِلَّةً؛ حيث قال: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [1272] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 348). .
8- إردافُ التَّرهيبِ الذي تضَمَّنَه قولُه تعالى: وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ بالتَّرغيبِ في الطَّاعةِ الذي تضَمَّنَه قَولُه تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا فيه استِقصاءٌ في الدَّعوةِ إلى الرُّشدِ [1273] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/281). .
9- في قَولِه تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا إشارةٌ إلى أنَّ ما جاءت به السُّنَّةُ فهو حُكمٌ مُستَقِلٌّ يجبُ أن يُطاعَ ويُتَّبَعَ، كما جاء في القرآنِ؛ ولهذا قال: تَهْتَدُوا، فالهِدايةُ مطلوبةٌ؛ فإذا أمَرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأمرٍ، فلا يجوزُ لنا أن نقولَ: هل لهذا أصلٌ في القُرآنِ أو لا؟ إن كان له أصلٌ قَبِلْناه، وإن لم يكُنْ له أصلٌ لم نَقبَلْه! لأنَّ هذا حرامٌ، وهو كُفرٌ بالقُرآنِ نفْسِه؛ لأنَّ اللهَ تعالى يقولُ: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، ثمَّ قال: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا؛ فدَلَّ هذا على أنَّ كُلَّ ما جاء به فهو حَقٌّ وهِدايةٌ، ليس فيه باطِلٌ وضَلالٌ [1274] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 350). .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
قولُه: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا استئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ الإخبارَ عن الَّذين يُعرِضون عندَما يُدْعَون إلى الحُكومةِ بأنَّهم ليسوا بالمُؤمِنينَ في حينِ أنَّهم يُظهِرونَ الإيمانَ، يُثِيرُ سُؤالَ سائلٍ عن الفاصلِ الَّذي يُميِّزُ بينَ المُؤمِن الحقِّ وبيْنَ الَّذي يُرائي بإيمانِه في حين يُدْعَى إلى الحُكومةِ عندَ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فيَقْتضي أنْ يُبيَّنَ للسَّائلِ الفرْقُ بين الحالينِ؛ لئلَّا يلْتبِسَ عنده الإيمانُ المُزوَّرُ بالإيمانِ الصَّادقِ، فقد كان المُنافِقون يُموِّهون بأنَّ إعراضَ مَن أعرَضَ منهم عن التَّحاكُمِ عندَ رسولِ اللهِ ليس لِتَزلزُلٍ في إيمانِه بصِدْقِ الرَّسولِ، ولكنَّه إعراضٌ لمُراعاةِ أعراضٍ مِن العلائقِ الدُّنيويَّةِ؛ فبيَّنَ اللهُ بُطلانَ ذلك بأنَّ المُؤمِنَ لا يَرتابُ في عدْلِ الرَّسولِ، وعدَمِ مُصانعَتِه. وقد أفاد هذا الاستِئنافُ أيضًا الثَّناءَ على المُؤمنينَ الأحِقَّاءِ بضِدِّ ما كان ذمًّا للمُنافقينَ [1275] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/273، 274). .
وجِيءَ بصِيغَةِ الحصرِ إِنَّمَا؛ لدفْعِ أنْ يكونَ مُخالِفُ هذه الحالةِ في شَيءٍ مِن الإيمانِ، وإنْ قال بلسانِه: إنَّه مُؤمِنٌ، فهذا القصرُ إضافيٌّ [1276] القصرُ -في اصطلاحِ البلاغيينَ-: هو تخصيصُ شيءٍ بشيءٍ وحصرُه فيه، ويُسمَّى الأوَّلُ: مقصورًا، والثاني: مقصورًا عليه، مثل: إنَّما زيدٌ قائمٌ، وما ضربتُ إلَّا زيدًا. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكون المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدمِ صحةِ ما تصوَّره بشأنِه، أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وتردُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنما هو قصر بالإضافة إلى موضوعٍ خاصٍّ يدورُ حولَ احتمالينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويستدلُّ عليها بالقرائنِ. مثل: قوله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 288)، ((التعريفات)) للجرجاني (1/175-176)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّـكَة الميداني (1/525). ، أي: هذا قولُ المُؤمنينَ الصَّادقينَ في إيمانِهم. وليس قصْرًا حَقيقيًّا؛ لأنَّ أقوالَ المُؤمنينَ حين يُدْعَون إلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِيَحكُمَ بيْنهم غيرُ مُنحصرةٍ في قولِ: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، ولا في مُرادِفِه؛ فلعلَّ منهم مَن يَزِيدُ على ذلك؛ فليس المُرادُ بقولِ: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا خُصوصَ هذين اللَّفظينِ، بلِ المُرادُ لفْظُهما أو مُرادِفُهما؛ للتَّسامُحِ في مفعولِ فِعلِ القولِ ألَّا يُحْكى بلَفظِه. وإنَّما خُصَّ هذانِ اللَّفظانِ بالذِّكْرِ هنا؛ مِن أجْلِ أنَّهما كَلمةٌ مَشهورةٌ تُقال في مثْلِ هذه الحالةِ، وهي ممَّا جَرى مَجْرى المثَلِ، كما يُقال أيضًا: (سمْعٌ وطاعةٌ)، و(سمْعًا وطاعةً). والقصرُ المُستفادُ مِن (إنَّما) هنا قصْرُ إفرادٍ لأحدِ نوعَيِ القولِ؛ فالمقصودُ منه الثَّناءُ على المُؤمنينَ برُسوخِ إيمانِهم، وثَباتِ طاعتِهم في المَنْشَطِ والمَكْرَهِ. وفيه تَعريضٌ بالمنافقينَ؛ إذ يقولونَ كَلمةَ الطَّاعةِ ثمَّ يَنقُضونها بضِدِّها مِن كلماتِ الإعراضِ والارتيابِ [1277] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/274، 275). .
وفي قولِه: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ جِيءَ في وَصْفِ المُؤمنينَ بالفلاحِ بمِثْلِ التَّركيبِ الَّذي وُصِفَ به المُنافِقون بالظُّلمِ، بصِيغةِ القصرِ المُؤكَّدِ؛ ليكونَ الثَّناءُ على المُؤمنينَ ضِدًّا لِمَذمَّةِ المُنافِقين تامًّا [1278] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/275). .
وما في اسمِ الإشارةِ وَأُولَئِكَ مِن معنى البُعدِ؛ للإشعارِ بعُلوِّ رُتبتِهم، وبُعدِ مَنزلتِهم في الفضْلِ [1279] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/188). .
2- قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ
قولُه: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ  ... استئنافٌ؛ جِيءَ به لتَقريرِ مَضمونِ ما قبْلَه مِن حُسنِ حالِ المُؤمنينَ، وتَرغيبِ مَن عَداهم في الانتظامِ في سِلْكِهم [1280] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/188). . وقِيل: الواوُ في وَمَنْ يُطِعِ  ... اعتراضيَّةٌ، أو عاطفةٌ على جُملةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور: 51] ، والتَّقديرُ: وهُمُ الفائِزون؛ فجاء نظْمُ الكلامِ على هذا الإطنابِ؛ ليَحصُلَ تَعميمُ الحُكْمِ والمحكومِ عليه. ومَوقعُ هذه الجُملةِ مَوقِعُ تَذييلٍ؛ لأنَّها تعُمُّ ما ذُكِرَ قبْلَها مِن قولِ المُؤمنينَ: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور: 51] ، وتَشملُ غيرَه مِن الطَّاعاتِ بالقولِ أو بالفِعْلِ [1281] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/275، 276). .
وصِيغةُ الحصرِ في قولِه: فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ؛ للتَّعريضِ بالَّذين أعْرَضوا إذا دُعُوا إلى اللهِ ورسولِه، وهي على وزْنِ صِيغةِ القصْرِ الَّتي تقدَّمَتْها [1282] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/275). . وقيل: هي تَعريضٌ بالمُؤمنينَ الَّذين إذا دُعُوا إلى اللهِ ورسولِه ليَحكُمَ بيْنهم أن يَقولوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، وبالمُنافقين الَّذين يَقولونَ: آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا إلى قولِه: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى آخرِ الآياتِ؛ بأنَّ الأوَّلينَ هم الفائِزونَ بمَباغِيهم، والآخَرينَ هم الدَّامِرونَ الخاسِرونَ؛ فالآيةُ مِن الجوامعِ [1283] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/128). .
3- قوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
قولُه: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ ضَميرُ (أَقْسَمُوا) عائدٌ إلى ما عاد إليه ضَميرُ وَيَقُولُونَ [النور: 47] ، والتَّعبيرُ بفِعْلِ المُضِيِّ هنا؛ لأنَّ ذلك شَيءٌ وقَعَ وانْقَضى [1284] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/277). .
وجُملةُ: لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ بَيانٌ لجُملةِ: (أَقْسَمُوا)، وحُذِفَ مَفعولُ أَمَرْتَهُمْ؛ لدَلالةِ قولِه: لَيَخْرُجُنَّ، والتَّقديرُ: لئنْ أمَرْتَهم بالخُروجِ لَيَخرُجُنَّ [1285] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/278). .
أيضًا في قولِه: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ على القولِ بأنَّهم ذَكَروا خُروجينِ؛ فيكونُ فيه إيجازٌ بالحذْفِ؛ حيث حُذِفَ مُتعلِّقُ الخُروجِ؛ ليَشمَلَ ما يُطلَقُ عليه لفْظُ الخُروجِ [1286] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/276). .
وفي قولِه: قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ بعْدَ قولِه: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ الْتِفاتٌ مِن الغَيبةِ إلى الخِطابِ؛ لأنَّه أبلَغُ في تَبكيتِهم [1287] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/64). .
وقولُه: قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ هذا كَلامٌ مُوَجَّهٌ؛ لأنَّ نَهْيَهم عن أنْ يُقْسِموا بعْدَ أنْ صدَرَ القَسَمُ يَحتمِلُ أنْ يكونَ نهْيًا عن إعادتِه؛ لأنَّهم كانوا بصدَدِ إعادتِه، بمعنى: لا حاجةَ بكم إلى تأْكيدِ القسَمِ، أي: فإنَّ التَّأكيدَ بمَنزلةِ المُؤكَّدِ في كَونِه كذِبًا. ويَحتمِلُ أنْ يكونَ النَّهيُ مُستعمَلًا في معنى عدَمِ المُطالَبةِ بالقسَمِ، أي: ما كان لكم أنْ تُقسِموا؛ إذ لا حاجةَ إلى القسَمِ؛ لعدَمِ الشَّكِّ في أمْرِكم. ويَحتمِلُ أنْ يكونَ النَّهيُ مُستعمَلًا في التَّسويةِ، مِثْلُ فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ [الطور: 16]. ويَحتمِلُ أنْ يكونَ النَّهيُ مُستعمَلًا في حقيقتِه، والمُقسَمُ عليه مَحذوفٌ، أي: لا تُقسِموا على الخُروجِ مِن ديارِكم وأموالِكم؛ فإنَّ اللهَ لا يُكلِّفُكم بذلك. ومَقامُ مُواجهةِ نِفاقِهم يَقْتضي أنْ تكونَ هذه الاحتمالاتُ مَقصودةً [1288] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/278). .
وقولُه: طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ كَلامٌ أُرْسِلَ مَثلًا، وتحْتَه مَعانٍ جمَّةٌ تَختلِفُ باختلافِ الاحتمالاتِ المُتقدِّمةِ في قولِه: لَا تُقْسِمُوا؛ فعلى احتمالِ أنْ يكونَ النَّهيُ عن القسَمِ مُستعمَلًا في النَّهيِ عن تَكريرِه، يكونُ المعنى مِن قَبيلِ التَّهكُّمِ، أي: لا حُرمةَ للقسَمِ، فلا تُعِيدُوه؛ فطاعَتُكم مَعروفةٌ، أي: مَعروفٌ وَهَنُها وانتفاؤُها. وعلى احتمالِ استِعمالِ النَّهيِ في عدَمِ المُطالَبةِ باليمينِ، يكونُ المعنى: لماذا تُقْسِمون؟ أفَأَنا أشُكُّ في حالِكم؟! فإنَّ طاعتَكم مَعروفةٌ عندي، أي: أعرِفُ عدَمَ وُقوعِها، والكلامُ تهكُّمٌ أيضًا. وعلى احتمالِ استعمالِ النَّهيِ في التَّسويةِ؛ فالمعنى: قسَمُكم ونفْيُه سواءٌ؛ لأنَّ أيمانَكم فاجرةٌ، وطاعتَكم مَعروفةٌ. وإنْ كان النَّهيُ مُستعمَلًا في حقيقتِه؛ فالمعنى: لا تُقْسِموا هذا القسَمَ، أي: على الخُروجِ مِن ديارِكم وأموالِكم؛ لأنَّ اللهَ لا يُكلِّفُكم الطَّاعةَ إلَّا في معروفٍ [1289] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/278، 279). .
وأيضًا قولُه: طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ خبَرُ مُبتدأٍ مَحذوفٍ، والجُملةُ تَعليلٌ للنَّهيِ، أي: لا تُقسِمُوا على ما تدَّعُون مِن الطَّاعةِ؛ لأنَّ طاعتَكم طاعةٌ نِفاقيَّةٌ واقعةٌ باللِّسانِ فقَطْ مِن غيرِ مُواطأةٍ مِن القلبِ، وإنَّما عبَّرَ عنها بـ مَعْرُوفَةٌ؛ للإيذانِ بأنَّ كونَها كذلك مَشهورٌ مَعروفٌ لكلِّ أحدٍ [1290] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/188، 189). .
وتَنكيرُ طَاعَةٌ؛ لأنَّ المقصودَ به نوعُ الطَّاعةِ، وليست طاعةً مُعيَّنةً، فهو مِن بابِ: تمْرةٌ خيرٌ مِن جَرادةٍ [1291] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/278). .
وجُملةُ: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ تَذييلٌ وتَعليلٌ لِما قبْلَها [1292] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/278، 279). ؛ فالجُملةُ تَعليلٌ للحُكمِ بأنَّ طاعتَهم طاعةٌ نِفاقيَّةٌ، مُشعِرٌ بأنَّ مَدارَ شُهرةِ أمْرِها فيما بيْن المُؤمنين إخبارُه تعالى بذلك، ووَعيدٌ لهم بأنَّه تعالى مُجازيهم بجميعِ أعمالِهم السَّيِّئةِ الَّتي منْها نِفاقُهم [1293] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/189). .
4- قوله تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ
قولُه: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فيه تَكرارُ الأمرِ بالقولِ؛ لإبرازِ كَمالِ العِنايةِ به، والإشعارِ باختلافِهما؛ مِن حيثُ إنَّ المَقولَ في الأوَّلِ نهْيٌ بطريقِ الرَّدِّ والتَّقريعِ، وفي الثَّاني أمْرٌ بطَريقِ التَّكليفِ والتَّشريعِ. وإطلاقُ الطَّاعةِ المأمورِ بها عن وصْفِ الصِّحَّةِ والإخلاصِ ونحوِهما بعْدَ وصْفِ طاعتِهم بما ذُكِرَ؛ للتَّنبيهِ على أنَّها ليست مِن الطَّاعةِ في شَيءٍ أصْلًا [1294] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/189)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/280). .
قولُه: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ ... أمْرٌ بتَبليغِ ما خاطَبَهم اللهُ به على الحكايةِ؛ مُبالَغةً في تَبكيتِهم [1295] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/112). .
قولُه: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ خِطابٌ للمأْمورينَ بالطَّاعةِ مِن جِهَتِه تعالى، واردٌ لتأكيدِ الأمْرِ بها، والمُبالَغةِ في إيجابِ الامتثالِ به، والحمْلِ عليه بالتَّرهيبِ والتَّرغيبِ؛ لِمَا أنَّ تَغييرَ الكلامِ المَسوقِ لمَعنًى مِن المعاني، وصَرْفَه عن سَنَنِه المَسلوكِ يُنبِئُ عن اهتمامٍ جديدٍ بشأْنِه مِن المُتكلِّمِ، ويَستجلِبُ مَزيدَ رغْبةٍ فيه مِن السَّامعِ، لا سيَّما إذا كان ذلك بتَغييرِ الخِطابِ بالواسطةِ إلى الخِطابِ بالذَّاتِ؛ فإنَّ في خِطابِه تعالى إيَّاهم بالذَّاتِ بعْدَ أمْرِه تعالى إيَّاهم بواسطَتِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وتَصدِّيَه لبَيانِ حُكْمِ الامتثالِ بالأمْرِ والتولِّي عنه إجمْالًا وتَفصيلًا؛ مِن إفادةِ ما ذُكِرَ مِن التَّأكيدِ والمُبالَغةِ ما لا غايةَ وراءَه. والفاءُ لتَرتيبِ ما بعْدَها على تَبليغِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ للمأمورِ به إليهم، وعدَمُ التَّصريحِ به؛ للإيذانِ بغايةِ ظُهورِ مُسارَعتِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى تبْليغِ ما أُمِرَ به، وعدَمِ الحاجةِ إلى الذِّكْرِ [1296] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/189، 190). .
ويجوزُ أنْ يكونَ قولُه: فَإِنْ تَوَلَّوْا تَفريعًا على فِعْلِ أَطِيعُوا؛ فيكونَ فِعلُ تَوَلَّوْا مِن جُملةِ ما أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنْ يقولَه لهم، ويكونَ فِعلًا مضارِعًا بتاءِ الخِطابِ، وحُذِفَت تاءُ الخِطابِ للتَّخفيفِ، وهو حذْفٌ كثيرٌ في الاستعمالِ، والكلامُ تَبْليغٌ عن اللهِ تعالى إليهم؛ فيكونَ ضَميرَا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ عائدَينِ إلى الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. ويجوزُ أنْ يكونَ تَفريعًا على فِعْلِ قُلْ، أي: فإذا قلْتَ ذلك، فتولَّوا ولم يُطِيعوا... إلخ؛ فيكونَ فِعلُ تَوَلَّوْا ماضِيًا بتاءٍ واحدةٍ، مُواجَهًا به النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أي: فإنْ تولَّوا ولم يُطِيعوا، فإنَّما عليك ما حُمِّلْتَ مِن التَّبليغِ، وعليهم ما حُمِّلوا مِن تَبِعَةِ التَّكليفِ؛ فيكونَ في ضمائرِ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ الْتِفاتٌ. وأصْلُ الكلامِ: فإنَّما عليك ما حُمِّلْتَ، وعليهم ما حُمِّلوا. والالتفاتُ مُحسِّنٌ لا يَحتاجُ إلى نُكتةٍ. وبهذَينِ الوجهينِ تكونُ الآيةُ مُفيدةً معنيينِ: معنًى مِن تعلُّقِ خِطابِ اللهِ تعالى بهم، وهو تَعريضٌ بتَهديدٍ ووَعيدٍ، ومعنًى مِن موعظةِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إيَّاهم، ومُوادعةٍ لهم. وهذا كلُّه تَبكيتٌ لهم؛ لِيَعْلَموا أنَّهم لا يضُرُّون بتولِّيهم إلَّا أنفُسَهم [1297] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/280). ؛ ففي قولِه: فَإِنْ تَوَلَّوْا ... صَرْفُ الكلامِ عن الغَيبةِ في (أَقْسَمُوا) إلى الخِطابِ على طريقةِ الالتفاتِ، وهو أبلَغُ في تَبكيتِهم [1298] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/250)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/130). .
قولُه: وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ، أي: ما أُمِرْتُم بهِ مِنَ الطَّاعةِ، ولعلَّ التَّعبيرَ عنه بالتَّحميلِ؛ للإشعارِ بثِقَلِه، وكَونِه مُؤنةً باقيةً في عُهْدتِهم بعْدُ. وقولُه تعالى: مَا حُمِّلَ مَحمولٌ على المُشاكَلةِ [1299] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/189). .
وتأخيرُ قولِه: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا عن بَيانِ حُكْمِ التَّولِّي في قولِه: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ؛ لِمَا في تَقديمِ التَّرهيبِ مِن تأْكيدِ التَّرغيبِ وتَقريبِه ممَّا هو مِن بابِه مِن الوعْدِ الكريمِ [1300] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/189). .
قولُه: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ اعتراضٌ مُقرِّرٌ لِمَا قبْلَه، مِن أنَّ غائلةَ التَّولِّي وفائدةَ الإطاعةِ مَقصورتانِ عليهم [1301] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/189، 190). . وقيل: جُملةُ: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ بَيانٌ لإبهامِ قولِه: مَا حُمِّلَ [1302] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/281). .