موسوعة التفسير

سورةُ النُّورِ
الآيات (47-50)

ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ

غريب الكلمات:

مُذْعِنِينَ: أي: مُنقادينَ مُطيعينَ، وأصلُ (ذعن): يدُلُّ على الانقيادِ [1190] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 306)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 445)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/355)، ((المفردات)) للراغب (ص: 328)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 258). .
ارْتَابُوا: أي: شَكُّوا، وأصلُ الرَّيبِ: الشكُّ مع الخَوفِ، ومع تُهمةِ المشكوكِ فيه [1191] يُنظر: (( مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/463)، ((المفردات)) للراغب (ص: 368)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 259)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 47). .
يَحِيفَ: أي: يَظلِمَ ويَجورَ، وأصلُ (حيف): يدُلُّ على المَيلِ في الحُكمِ، والجُنوحِ إلى أحَدِ الجانِبينِ [1192] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 517)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/125)، ((المفردات)) للراغب (ص: 266). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى مبيِّنًا بعضَ أحوالِ المنافقينَ: ويقولُ المُنافِقون بألسِنتِهم كَذِبًا: آمَنَّا باللهِ وبالرَّسولِ، وأطَعْنا أمْرَهما. ثمَّ تُعْرِضُ جماعةٌ منهم مِن بعدِ ما صدَرَ منهم مِن دعوى الإيمانِ والطَّاعةِ، وما أولئك بالمؤمِنينَ. وإذا دُعوا في مُنازعاتِهم إلى حُكمِ اللهِ ورَسولِه، أعرَضَ فريقٌ منهم عن حُكمِ اللهِ وحُكمِ رَسولِه، وإن يكُنِ الحَقُّ في جانبِهم يأتوا إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طائعينَ مُنقادينَ لحُكمِه. فهلْ إعراضُهم عن حُكمِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لنفاقٍ في قلوبِهم، أمْ شَكُّوا في نبُوَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أم يخافونَ أن يَظلِمَهم رسولُ اللهِ في الحُكمِ؟! كلَّا، ليس الأمرُ كذلك، بل هؤلاء هُمُ الظَّالِمون لأنفُسِهم بعَدَمِ التَّسليمِ بحُكمِ الشَّرعِ.

تفسير الآيات:

وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
بعد أن ذُكرَت دلائِلُ انفرادِ اللهِ تعالى بالإلهيَّةِ، وذُكرَ الكُفَّارُ الصُّرَحاءُ الذين لم يَهتَدوا بها في قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ [النور: 39] ، تهيَّأ المقامُ لذِكرِ صِنفٍ آخَرَ مِن الكافرينَ الذين لم يَهتَدوا بآياتِ الله، وأظهَروا أنَّهم اهتَدوا بها [1193] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/268). .
وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا.
أي: ويَقولُ المُنافِقونَ بألسِنتِهم كَذِبًا مِن غيرِ يقينٍ ولا إخلاصٍ: آمَنَّا باللهِ وبرَسولِه محمَّدٍ، وأطَعْنا اللهَ وأطَعْنا رَسولَه [1194] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/341)، ((الوسيط)) للواحدي (3/325)، ((تفسير القرطبي)) (12/293)، ((تفسير ابن كثير)) (6/74). .
كما قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة: 8، 9].
وقال سُبحانَه: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون: 1].
ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ.
أي: ثمَّ يُعرِضُ طائِفةٌ مِن المُنافِقين عن طاعةِ اللهِ ورَسولِه مِن بَعدِ قَولِهم: آمنَّا وأطَعْنا [1195] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/341)، ((البسيط)) للواحدي (16/331)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/142)، ((تفسير السعدي)) (ص: 571). قال ابن تيميَّة: (التَّولِّي ليس هو التَّكذيبَ، بل هو التوَلِّي عن الطَّاعةِ؛ فإنَّ النَّاسَ عليهم أن يُصَدِّقوا الرَّسولَ فيما أخبَرَ، ويُطيعوه فيما أمَرَ، وضِدُّ التَّصديقِ التَّكذيبُ، وضِدُّ الطَّاعةِ التوَلِّي). ((مجموع الفتاوى)) (7/142). وقال الشنقيطي: (على قَولٍ بأنَّها نزلت في المنافِقينَ، وَجهُ كَونِ فَريقٍ منهم يتولَّونَ مع أنَّهم على مِلَّةٍ واحدةٍ، وكُلُّهم يوافِقُ على التَّولِّي: هو أنَّ بَعضَهم قد تقَعُ بيْنه وبيْن خَصمِه مُنازَعةٌ، فيَطلُبُ الخَصمُ منه التحاكُمَ إلى الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيتولَّى، والباقون لا تقَعُ منهم خُصومةٌ مع أحدٍ، فلا يَظهَرُ تولِّيه مِثلَ الفَريقِ الأوَّلِ، ولو وقَعَت بيْنه وبيْن أحدٍ مُنازَعةٌ وطُلِب منه التحاكُمُ إلى الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَتَوَلَّى أيضًا كما تولَّى الفريقُ الأوَّلُ. وقال بعضُ العُلَماءِ: الآيةُ نزلت في عُمومِ المُؤمِنينَ، سواءٌ منهم مَن كان مُؤمِنًا ظاهِرًا وباطِنًا، وهم المؤمِنونَ الصَّادِقونَ، أو كان مُؤمِنًا في الظَّاهِرِ دونَ الباطِنِ، وهم المنافِقونَ، ثمَّ أَخرَج منهم المنافِقينَ، ووَجهُ ذلك أنَّهم ادَّعَوُا الإيمانَ كما ادَّعاه المؤمِنونَ الصَّادِقونَ، ثمَّ توَلَّوا عنه). ((تفسير سورة النور)) (ص: 170). !
وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ.
أي: وليس أولئك القائِلونَ بأفواهِهم: آمَنَّا باللهِ وبالرسولِ وأطَعْنا [1196] قال البيضاوي: (وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ إشارةٌ إلى القائلين بأَسْرِهم، فيكونُ إعلامًا مِن الله تعالى بأنَّ جميعَهم وإن آمَنوا بلسانِهم لم تؤمِنْ قُلوبُهم، أو إلى الفَريقِ منهم، وسُلِب الإيمانُ عنهم لتولِّيهم، والتَّعريفُ فيه للدَّلالةِ على أنَّهم ليسوا بالمؤمِنينَ الذين عَرَفتَهم، وهم المُخلِصونَ في الإيمانِ، والثَّابتونَ عليه). ((تفسير البيضاوي)) (4/111). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بهم القائلون: آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا: ابنُ جرير، ومكي، والنسفي، وأبو السعود، والشوكاني، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/341)، ((الهداية الى بلوغ النهاية)) لمكي (8/5136)، ((تفسير النسفي)) (2/513)، ((تفسير أبي السعود)) (6/186)، ((تفسير الشوكاني)) (4/52)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/268). قال الشوكاني: (وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ أي: ما أولئك القائلونَ هذه المقالةَ بالمؤمنينَ على الحقيقةِ، فيشملُ الحُكمُ بنفيِ الإيمانِ جميعَ القائلينَ، ويندرجُ تحتَهم مَن تولَّى اندراجًا أوَّليًّا). ((تفسير الشوكاني)) (4/52). وقيل: المرادُ بهم: الفريقُ الذي تولَّى منهم؛ المُعرِضونَ. وممَّن قال بذلك: الواحديُّ، وابنُ تيمية، وجلال الدين المحلي، وابن عثيمين. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/325)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/221)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 466)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 317). بالمُؤمِنينَ المُخلِصينَ الثَّابِتينَ [1197] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/341)، ((تفسير البيضاوي)) (4/111)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/268، 269). قال الشوكاني: (والكلامُ مُشتمِلٌ على حُكمَينِ: الحُكمُ الأوَّلُ على بعضِهم بالتوَلِّي، والحُكمُ الثاني على جميعِهم بعدَمِ الإيمانِ. وقيل: أراد بمَن توَلَّى: مَن توَلَّى عن قَبولِ حُكمِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وقيل: أراد بذلك رُؤساءَ المنافِقين. وقيل: أراد بتولِّي هذا الفريقِ رُجوعَهم إلى الباقين). ((تفسير الشوكاني)) (4/52). .
وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا فضح المُنافِقين بما أخفَوه مِن تولِّيهم، قبَّح عليهم ما أظهَروه، فقال تعالى [1198] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/296). :
وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ.
أي: وإذا دُعِيَ هؤلاء المُنافِقونَ إلى كتابِ اللهِ وإلى رَسولِه؛ لِيَحكُمَ بينهم الرَّسولُ بحُكمِ اللهِ فيما يَختَلِفونَ فيه، إذا طائِفةٌ مِن المُنافِقينَ يُعرِضونَ عن التَّحاكُمِ إلى اللهِ ورَسولِه [1199] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/341)، ((تفسير السمرقندي)) (2/519)، ((البسيط)) للواحدي (16/332)، ((تفسير السعدي)) (ص: 571)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 324). !
كما قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا [النساء: 61] .
وقال سُبحانَه: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء: 65] .
وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ.
أي: وإنْ يكُنِ الحَقُّ للمُنافِقينَ على مَن يُخاصِمونَه، يَقبَلوا التَّحاكُمَ إلى اللهِ ورَسولِه، ويأتوا إلى الرَّسولِ طائِعينَ مُنقادينَ لحُكمِه؛ لِمُوافقتِه لأهوائِهم [1200] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/341)، ((تفسير القرطبي)) (12/293)، ((تفسير ابن كثير)) (6/74)، ((تفسير السعدي)) (ص: 571)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/270). !
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ.
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ.
أي: أفي قُلوبِ هؤلاء المُنافِقينَ -المُعرِضينَ عن التَّحاكُمِ إلى اللهِ ورَسولِه- مَرَضٌ مُلازِمٌ لهم، أخْرجَ القلبَ عن صِحَّتِه، فصاروا كالمريضِ الذي يُعرِضُ عمَّا يَنفَعُه، ويُقبِلُ على ما يضُرُّه [1201] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/342)، ((تفسير القرطبي)) (12/293)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (4/5)، ((تفسير ابن كثير)) (6/74)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/271). قيل: المرادُ بالمَرَضِ هنا: الشكُّ. وممن قال بذلك: ابنُ جرير، والقرطبي، وابن القيم. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/342)، ((تفسير القرطبي)) (12/293)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (4/5). وقيل: المرادُ بالمرَضِ هنا: الكُفرُ والشِّركُ. ومِمَّن اختاره: مقاتلُ بن سليمان، وابن أبي زمنين، وجلال الدين المحلي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/205)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (3/241)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 466). وممَّن قال بهذا القَولِ مِنَ السَّلفِ: الحسنُ البصري. يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (1/457). وقيل: المرادُ بالمرَضِ: النفاقُ. ومِمَّن اختاره: الرازيُّ، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/410)، ((تفسير الشوكاني)) (4/52). وممَّن قال بهذا القَولِ مِنَ السَّلَفِ: قَتادةُ. يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (1/457). وقيل: المرادُ بالمرَضِ: عِلَّةٌ تُخرِجُ القَلبَ عن صِحَّتِه، وتمنَعُ مِن قَبولِ الحَقِّ. ومِمَّن اختار هذا القَولَ في الجملة: السمعانيُّ، والسعدي. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (3/542)، ((تفسير السعدي)) (ص: 572). وقال البقاعي: أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي: نَوعُ فَسادٍ مِن أصلِ الفِطرةِ يَحمِلُهم على الضَّلالِ). ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/297). وقال ابن عثيمين: (الذي يَظهَرُ لي -واللهُ أعلَمُ- أنَّ المرادَ به الشَّهوةُ في الإرادةِ السَّيِّئةِ؛ بدَليلِ التَّقسيمِ، سواءٌ كان كُفرًا أو نِفاقًا أو غيرَ ذلك، المُهِمُّ أنَّ المرَضَ هو الإرادةُ السَّيِّئةُ التي تَصرِفُهم عن قَبولِ الحَقِّ). ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 327). ؟!
أَمِ ارْتَابُوا.
أي: أمْ حدَثَ لهم شَكٌّ واضطرابٌ وتردُّدٌ وقلقٌ [1202] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (12/293، 294)، ((تفسير ابن كثير)) (6/74)، ((تفسير السعدي)) (ص: 571)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/271). قال الماوَرْدي: (أَمِ ارْتَابُوا أي: شكُّوا. ويَحتَمِلُ وَجهَينِ؛ أحَدُهما: في عَدلِ رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم. الثَّاني: في نبُوَّتِه). ((تفسير الماوردي)) (4/117). ؟
أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ.
أي: أمْ يخافون أن يَجورَ اللهُ ورَسولُه عليهم في الحُكمِ [1203] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/342)، ((تفسير القرطبي)) (12/294)، ((تفسير ابن كثير)) (6/74)، ((تفسير السعدي)) (ص: 571)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/271، 272). ؟!
بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ.
أي: بل هؤلاء هُمُ الظَّالِمون لأنفُسِهم بعَدَمِ الرِّضا والتَّسليمِ بحُكمِ الشَّرعِ [1204] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/342)، ((البسيط)) للواحدي (16/335)، ((تفسير ابن كثير)) (6/74)، ((تفسير السعدي)) (ص: 571)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/271، 272، 273). .

الفوائد التربوية :

قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ليس ذلك لأجْلِ أنَّه حُكمٌ شَرعيٌّ، وإنَّما ذلك لأجْلِ مُوافَقةِ أهوائِهم، فليسوا ممدوحينَ في هذه الحالِ ولو أتَوا إليه مُذعِنينَ؛ لأنَّ العبدَ حقيقةً مَن يَتَّبِعُ الحَقَّ فيما يُحِبُّ ويَكرَهُ، وفيما يَسُرُّه ويَحزُنُه، وأمَّا الذي يَتَّبِعُ الشَّرعَ عندَ موافقةِ هواه، ويَنبِذُه عندَ مخالفتِه، ويُقَدِّمُ الهوى على الشَّرعِ؛ فليس بعَبدٍ على الحقيقةِ [1205] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 571). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: وَيَقُولُونَ فيه إيماءٌ إلى أنَّ حظَّ المُنافقينَ مِن الإيمانِ مُجرَّدُ القَولِ دونَ الاعتقادِ [1206] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/268). .
2- القُرآنُ يُبَيِّنُ أنَّ إيمانَ القَلبِ يَستَلزِمُ العمَلَ الظَّاهِرَ بحَسَبِه، كقَولِه تعالى: وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ إلى قَولِه: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور: 51] ، فنفَى الإيمانَ عَمَّن تولَّى عن طاعةِ الرَّسولِ، وأخبَرَ أنَّ المؤمنينَ إذا دُعُوا إلى الله ورَسولِه ليَحكُمَ بيْنهم، سَمِعوا وأطاعوا؛ فبَيَّن أنَّ هذا مِن لوازِمِ الإيمانِ [1207] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/221). .
3- قوله تعالى: وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ فيه دليلٌ واضحٌ على أنَّ الإنسانَ إذا قال: إنَّه مؤمِنٌ، وهو مُتَوَلٍّ ومُعرِضٌ؛ فهو كاذبٌ في دَعْواه، وهو إمَّا أن يكونَ ليس مؤمنًا أصلًا، وإمَّا أن يكونَ مؤمنًا لكن ناقص الإيمانِ، فإذا كان التولِّي توَلِّيًا مُطلقًا انتفَى أصلُ الإيمانِ، وإذا كان التولِّي تولِّيًا غيرَ مُطلَقٍ، بل في بعضِ الأمورِ، فإنَّها تختلِفُ؛ فبَعضُ الأمورِ إذا ترَكَها الإنسانُ وأعرَضَ عنها قد يكونُ كافِرًا، وقد يكونُ مُؤمِنًا ناقِصَ الإيمان [1208] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 317). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ فيه سؤالٌ: أنَّ الله تعالى حكى عنهم كلِّهم أنَّهم يقولون آمنَّا، ثمَّ حكى عن فَريقٍ منهم التولِّيَ، فكيف يصِحُّ أن يقولَ في جميعِهم: وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ، مع أنَّ الذي تولَّى منهم هو البَعضُ؟
 الجوابُ: أنَّ قَولَه: وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ راجِعٌ إلى الذين تولَّوا، لا إلى الجُملةِ الأولى -على قولٍ-، وأيضًا فلو رجعَ إلى الأوَّلِ يَصِحُّ، ويكونُ معنى قَولِه: ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ أي: يَرجِعُ هذا الفريقُ إلى الباقينَ منهم، فيُظهِرُ بَعضُهم لبعضٍ الرُّجوعَ عمَّا أظهَروه [1209] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/410). .
5- قَولُ اللهِ تعالى: وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ فيه دَليلٌ على وجوبِ الانقيادِ لحُكمِ اللهِ ورَسولِه في كُلِّ حالٍ، وأنَّ مَن لم ينقَدْ له دَلَّ على مرَضٍ في قَلبِه، ورَيبٍ في إيمانِه؛ وأنَّه يَحرُمُ إساءةُ الظَّنِّ بأحكامِ الشَّريعةِ، وأن يُظَنَّ بها خِلافُ العَدلِ والحِكمةِ [1210] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 571). .
6- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ فيه وجوبُ الحُضورِ على مَن دُعِيَ لحُكمِ الشَّرعِ، وتَحريمُ الامتِناعِ [1211] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 194). .
7- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إنَّما جُعِلَ الدُّعاءُ إلى اللهِ ورسولِه كِلَيْهِما، مع أنَّهم دُعوا إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّ حُكمَ الرَّسولِ حُكمُ اللهِ؛ لأنَّه لا يَحكُمُ إلَّا عن وَحيٍ؛ ولهذا الاعتبارِ أُفرِدَ الضَّميرُ في قَولِه: لِيَحْكُمَ العائدُ إلى أقرَبِ مَذكورٍ، ولم يقُلْ: (لِيحكُمَا) [1212] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/270). ويُنظر أيضًا: ((تفسير أبي حيان)) (8/61). ، أو: لأنَّ المعنيَّ به الرسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإنَّما بدأ بذِكرِ اللهِ؛ إعظامًا لله، واستفتاحَ كَلامٍ [1213] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (12/293). ، ولبيانِ أنَّه المشرِّعُ للأحكامِ، والرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو المباشِرُ للحُكمِ في الحقيقةِ [1214] يُنظر: ((تفسير سورة النور)) للشنقيطي (ص: 172). .
8- في قَولِه تعالى: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ أنه يجبُ على المؤمنِ إذا دعاه أحدٌ إلى حاكمٍ مِن حُكَّامِ المسلمينَ يحكمُ بالشَّرعِ أنْ يُجيبَه ويأتيَ إليه؛ وأنَّه يَلْزَمُه الانقيادُ لحُكْمِه؛ وأن يقولَ: «سمعنا وأطعنا»؛ لأنَّ اللهَ تعالى ذَمَّ مَن أعْرَضَ وتولَّى، ومَدَحَ مَن أطاعَ وأجابَ، وشرْطُ وجوبِ الإجابةِ والانقيادِ أنْ يكونَ القاضي عالمًا عادلًا؛ لأنه وارثُ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فالتولِّي عنه حرامٌ، أمَّا إذا كان القاضي متَّبِعًا لهواهُ، جائرًا في حكْمِه، يأخُذُ الرِّشوةَ؛ فلا إثْمَ على مَنِ امتنعَ عن التحاكمِ إليه [1215] يُنظر: ((تفسير سورة النور)) للشنقيطي (ص: 174). .
9- مَرَضُ القُلوبِ نَوعانِ: مَرَضُ شُبهةٍ وشَكٍّ، ومَرَضُ شَهوةٍ وغَيٍّ، وكِلاهما في القُرآنِ؛ قال تعالى في مَرَضِ الشُّبهةِ: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة: 10] ، وقال تعالى في حَقِّ مَن دُعِيَ إلى تحكيمِ القُرآنِ والسُّنَّةِ فأبى وأعرَضَ: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ [النور: 48 - 50] ، فهذا مَرَضُ الشُّبُهاتِ والشُّكوكِ. وأمَّا مَرَضُ الشَّهَواتِ، فقال تعالى: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب: 32] ؛ فهذا مَرَضُ شَهوةِ الزِّنا. واللهُ أعلَمُ [1216] يُنظر: ((زاد المعاد)) لابن القيم (4/5). .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ
قولُه: وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ على القولِ بأنَّها نزَلَتْ في أحدِ المنافقينَ؛ فيكونُ فيه التَّعبيرُ بصِيغَةِ الجمْعِ وَيَقُولُونَ؛ للإيذانِ بأنَّ للقائلِ طائفةً يُساعِدونه ويُشايِعونه في تلك المقالةِ، كما يُقال: بنُو فلانٍ قَتلُوا فُلانًا، والقاتلُ واحدٌ منهم [1217] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/186). . وقيل: ضَميرُ الجمْعِ عائدٌ إلى معْروفينَ عند السَّامعينَ، وهم المُنافِقون؛ لأنَّ ما ذُكِرَ بعدَه هو مِن أحوالِهم، وعَودُ الضَّميرِ إلى شَيءٍ غيرِ مذكورٍ كثيرٌ في القُرآنِ، على أنَّهم قد تقدَّمَ ما يُشِيرُ إليهم بطريقِ التَّعريضِ في قولِه: رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ [1218] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/268). [النور: 37] .
في قولِه: وَيَقُولُونَ عبَّرَ بالمُضارعِ؛ لإفادةِ تجدُّدِ ذلك منهم، واستِمرارِهم عليه؛ لِمَا فيه مِن تَكرُّرِ الكذِبِ ونَحوِه مِن خِصالِ النِّفاقِ [1219] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/268). .
ومَفعولُ (أَطَعْنَا) مَحذوفٌ؛ دلَّ عليه ما قبْلَه، أي: أطَعْنا اللهَ والرَّسولَ؛ ففيه إيجازٌ بالحذْفِ [1220] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/268). .
قولُه: ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عُبِّر باسمِ الإشارةِ ذَلِكَ الذي يُفيدُ البُعدَ؛ للإيذانِ بكونِه أمرًا مُعتَدًّا به، واجِبَ المُراعاةِ [1221] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/186). .
قولُه: وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ في التَّعريفِ في قولِه: بِالْمُؤْمِنِينَ دَلالةٌ على أنَّهم ليسوا بالمُؤمنينَ الَّذين عرَفْتَ، وهم الثَّابِتون المُستقيمون على الإيمانِ، الموصوفونَ في قولِه تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [1222] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/247)، ((تفسير البيضاوي)) (4/111)، ((تفسير أبي السعود)) (6/186). [الحجرات: 15] .
وعُبِّر باسمِ الإشارةِ أُولَئِكَ الذي يفيدُ البُعدَ؛ للإشعارِ ببُعدِ مَنزلتِهم في الكُفرِ والفسادِ [1223] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/186). . وإذا كان قولُه: أُولَئِكَ إشارةً إلى القائلينَ آَمَنَّا، يكونُ ثُمَّ للتَّراخي في الرُّتبةِ؛ إيذانًا بارتفاعِ دَرجةِ كُفْرِ الفريقِ المُتولِّي منهم، وانحطاطِ درجةِ أولئك. وإذا كان إشارةً إلى الفريقِ المُتولِّي منهم، يكونُ ثُمَّ للاستبعادِ، ويُؤيِّدُه قولُه تعالى: مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ، أي: كيف يَدخُلون في زُمرةِ المُؤمنينَ الَّذين يقولون: آمنَّا باللهِ وبالرَّسولِ وأطَعْنا، ثمَّ يُعرِضون، ويتَجاوزون عن الفريقِ المُؤمنينَ، ويَرغَبُون عن تلك المَقالةِ، وهذا بعيدٌ عن العاقلِ المُميِّزِ [1224] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/121). ؟!
2- قولُه تعالى: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ شَرْحٌ للتَّولِّي المذكورِ في الآيةِ السَّابقةِ، ومُبالَغةٌ فيه [1225] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/111)، ((تفسير أبي السعود)) (6/186). .
قولُه: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ الضَّميرُ في قولِه: وَإِذَا دُعُوا عائدٌ إلى مُعادِ ضَميرِ (يَقُولُونَ)، وإسنادُ فِعْلِ دُعُوا إلى جميعِهم، وإنْ كان المُعرِضون فَريقًا منهم لا جميعَهم؛ للإشارةِ إلى أنَّهم سواءٌ في التَّهيُّؤِ إلى الإعراضِ، ولكنَّهم لا يُظهِرونه إلَّا عندما تَحُلُّ بهم النَّوازلُ؛ فالمُعرِضون هم الَّذين حلَّت بهم الخُصوماتُ [1226] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/269). .
وفي قولِه: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وقَعَ حرْفُ (إذا) المُفاجأةِ في جوابِ (إذا) الشَّرطيَّةِ؛ لإفادةِ مُبادرتِهم بالإعراضِ دونَ تريُّثٍ؛ لأنَّهم قد أيْقَنوا مِن قبلُ بعَدالةِ الرَّسولِ، وأيْقَنوا بأنَّ الباطِلَ في جانبِهم، فلم يَتردَّدوا في الإعراضِ [1227] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/270). .
3- قولُه تعالى: أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ كلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لتَقسيمِ الأمْرِ في صُدودِهم عن حُكومتِه إذا كان الحقُّ عليهم بيْن أنْ يكونوا مرضَى القلوبِ مُنافقينَ، أو مُرتابينَ في أمْرِ نبوَّتِه، أو خائِفين الحَيفَ في قضائِه. والاستِفهاماتُ الثلاثةُ مُستعمَلةٌ في التَّنبيهِ على أخلاقِهم، ولفْتِ الأذهانِ إلى ما انْطَوَوا عليه، والدَّاعي إلى ذلك أنَّها أحوالٌ خَفِيَّةٌ؛ لأنَّهم كانوا يُظهِرون خِلافَها. وأتْبَعَ بعضَ الاستِفهاماتِ بعضًا بحَرفِ (أَمْ) المُنقطعةِ الَّتي هي هنا للإضرابِ الانتِقاليِّ، والانتقالُ هنا تدرُّجٌ في عَدِّ أخلاقِهم؛ فالمعنى: أنَّه إنْ سأَلَ سائلٌ عن اتِّصافِهم بخُلقٍ مِن هذه المذكوراتِ، علِمَ المسؤولُ أنَّهم مُتَّصِفون به؛ فكان الاستِفهامُ المُكرَّرُ ثلاثَ مرَّاتٍ مُستعمَلًا في التَّنبيهِ [1228] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/249)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/271)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (6/637). .
وقيل: إنَّ (أَمْ) هنا مُنقطِعةٌ، والتَّقديرُ: بلِ ارْتابوا، بلْ أيخافُونَ؟ وهو استِفهامُ تَوقيفٍ وتوبيخٍ؛ ليُقِرُّوا بأحدِ هذه الوُجوهِ الَّتي عليهم في الإقرارِ بها ما عليهم [1229] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/62). .
وقيل: إنَّ قولَه: أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ إنكارٌ واستِقباحٌ لِإعراضِهم المذكورِ، وفيه بَيانٌ لمَنشأِ إعراضِهم وصُدودِهم بعدَ استِقصاءِ عِدَّةٍ مِن القَبائحِ المُحقَّقةِ فيهم، والمُتوقَّعةِ منهم، وتَرديدِ المَنشئيَّةِ بيْنها؛ فمدارُ الاستِفهامِ ليس نفْسَ ما جاء بعدَ الهمزةِ و(أم) مِن الأمورِ الثَّلاثةِ -وهي وجودُ المرضِ في قُلوبِهم، وارتيابُهم، وخوفُهم مِن أنْ يَحيفَ اللهُ عليهم ورسولُه-، بلْ مدارُ الاستِفهامِ مَنشئيَّةُ هذه الأمورِ للإعراضِ؛ كأنَّه قيل: أذلِكَ -أي: إعراضُهم المذكورُ- لأنَّهم مَرْضى القُلوبِ؛ لكُفْرِهم ونِفاقِهم، أَمِ لأنَّهم ارْتَابُوا في أمْرِ نُبوَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مع ظُهورِ حقِّيَّتِها، أَمِ لأنَّهم يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ؟ ثمَّ أُضرِبَ عن الكلِّ، وأُبطِلَتْ مَنشئيَّتُه، وحُكِمَ بأنَّ المَنشأَ للإعراضِ شَيءٌ آخرُ مِن شَنائعِهم، وهو كونُهم ظالِمينَ [1230] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/187). . أو أبطَلَ خوفَهم حَيْفَه بقولِه: بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ، أي: لا يَخافون أنْ يَحيفَ عليهم؛ لمعرفتِهم بحالِه، وإنَّما هم ظالمونَ يُريدونَ أنْ يَظلِموا مَن له الحقُّ عليهم، ويَتِمَّ لهم جُحودُه، وذلك شَيءٌ لا يَستطيعونَه في مجلسِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فمِن ثَمَّةَ يأبَوْنَ المُحاكمةَ إليه [1231] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/249). .
وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ لطيفةٌ؛ حيث أُتِيَ في جانبِ هذا الاستفهامِ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ بالجُملةِ الاسميَّةِ؛ للدَّلالةِ على ثَباتِ المرضِ في قُلوبِهم، وتأصُّلِه فيها بحيثُ لم يدخُلِ الإيمانُ في قُلوبِهم. وأُتِيَ في جانبِ هذا الاستِفهامِ أَمِ ارْتَابُوا بالجُملةِ الفِعليَّةِ المُفيدةِ للحُدوثِ والتَّجدُّدِ، أي: حدَثَ لهم ارتيابٌ بعدَ أنِ اعتَقَدوا الإيمانَ اعتقادًا مُزلزَلًا. وجِيءَ في جانبِ هذا الاستفهامِ أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بالفِعلينِ المُضارعينِ؛ للإشارةِ إلى أنَّه خَوفٌ في الحالِ مِن الحَيفِ في المُستقبلِ، يَقْتضيهِ دُخولُ أَنْ -وهي حرفُ الاستقبالِ- على فِعلِ يَحِيفَ [1232] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/271، 272). .
قولُه: أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ كِنايةٌ عن كَونِهم يَعتقِدون أنَّه غيرُ مُنزَّلٍ مِن اللهِ، وأنْ يكونَ حُكمُ الرَّسولِ بغيرِ ما أمَرَ اللهُ؛ فهم يَطعنونَ في الحُكْمِ وفي الحاكمِ، وما ذلك إلَّا لأنَّهم لا يُؤمِنون بأنَّ شريعةَ الإسلامِ مُنزَّلةٌ مِن اللهِ، ولا يُؤمِنون بأنَّ محمَّدًا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مُرسَلٌ مِن عندِ اللهِ؛ فالكلامُ كِنايةٌ عن إنكارِهم أنْ تكونَ الشَّريعةُ إلَهيَّةً، وأنْ يكونَ الآتي بها صادِقًا فيما أتى به [1233] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/272). .
قولُه: بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ قيل: (بل) للإضرابِ الانتقاليِّ مِنَ الاستِفهامِ التَّنبيهيِّ إلى خبَرٍ آخَرَ، ولم يُؤتَ في هذا الإضرابِ بـ (أَمْ)؛ لأنَّ (أَمْ) لا بُدَّ معها مِن معنى الاستفهامِ، وليس المُرادُ عطْفَ كونِهم ظالمينَ على الاستفهامِ المُستعمَلِ في التَّنبيهِ، بلِ المُرادُ به إفادةُ اتِّصافِهم بالظُّلمِ دونَ غيرِهم؛ لأنَّه قدِ اتَّضحَ حالُهم، فلا داعِيَ لإيرادِه بصِيغةِ استِفهامِ التَّنبيهِ. وليست (بل) هنا للإبطالِ؛ لأنَّه لا يَستقيمُ إبطالُ جميعِ الأقسامِ المُتقدِّمةِ؛ فإنَّ منها مرَضَ قُلوبِهم وهو ثابتٌ، ولا دليلَ على قصْدِ إبطالِ القِسمِ الأخيرِ خاصَّةً، ولا على إبطالِ القِسمينِ الآخَرينِ [1234] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/272). .
وجُملةُ: أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ مُستأنَفةٌ استئنافًا بَيانيًّا؛ لأنَّ السَّامعَ بعدَ أنْ طنَّتْ بأُذنِه تلك الاستفهاماتُ الثَّلاثةُ، ثمَّ أُعقِبَت بحرفِ الإضرابِ (بل)، يترقَّبُ ماذا سيُرسِي عليه تحقيقَ حالِهم؛ فكان قولُه: أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ بَيانًا لِمَا يَترقبُّه السَّامعُ [1235] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/272). .
والقَصرُ الحاصلُ مِن تَعريفِ الجُزأينِ، ومِن ضَميرِ الفصلِ هُمَ في قولِه: أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ: حَصْرٌ مُؤكِّدٌ، أي: هم الظَّالِمون، لا شَرْعُ اللهِ، ولا حُكمُ رَسولِه. وزاد اسمَ الإشارةِ تأْكيدًا للخبَرِ؛ فحصَلَ فيه أربعةُ مُؤكِّداتٍ: اثنانِ مِن صِيغَةِ الحصرِ؛ إذ ليس الحصْرُ والتَّخصيصُ إلَّا تأكيدًا على تأكيدٍ، والثَّالثُ: ضَميرُ الفصْلِ، والرَّابعُ: اسمُ الإشارةِ أُولَئِكَ [1236] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/273). .