موسوعة التفسير

سُورةُ الحُجُراتِ
الآيات (14-18)

ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ

 غريب الكلمات:

يَلِتْكُمْ: أي: يَنقُصْكم، ويَظلِمْكم، مِن: لاتَ يَلِيتُ، واللَّيتُ: النَّقصُ، وفيه لُغةٌ أخرَى: ألَتَ يأْلَتُ [469] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 416)، ((تفسير ابن جرير)) (21/393)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 525)، ((المفردات)) للراغب (ص: 749)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 365)، ((تفسير ابن كثير)) (7/389)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 386)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 977). .
يَرْتَابُوا: أي: يَشُكُّوا؛ وأصلُ (ريب): يدُلُّ على شكٍّ، أو شكٍّ وخَوْفٍ [470] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 99)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 136)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/463)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 40)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 117). .
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ: أي: يَعدُّونَ إسلامَهم مِنَّةً عليك، والمِنَّةُ تُطلَقُ على العَطيَّةِ، وعلى قَدْرِ العطيَّةِ عندَ مُعطيها، واعتِدادِه بها، والمَنُّ: تَعدادُ المُعطِي على المعطَى ما أعطاه، أو الاعتِدادُ بالصَّنيعةِ، وذِكرُها الَّذي يُكَدِّرُها. والمَنُّ: النَّقصُ مِن الحقِّ والبَخسُ له، ومِن هذا: المِنَّةُ المذمومةُ؛ لأنها تَنقُصُ النِّعمةَ وتُكَدِّرُها [471] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/183)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (6/ 1780)، ((البسيط)) للواحدي (4/409)، ((المفردات)) للراغب (ص: 777، 778)، ((تفسير الراغب)) (1/551)، ((تفسير القرطبي)) (13/249). .

مشكل الإعراب:

قولُه: أَنْ أَسْلَمُوا يَجوزُ فيه وَجهانِ:
أحدُهما: أنَّه مَفعولٌ به؛ لأنَّه ضُمِّنَ (يَمُنُّون) معْنى يَعتَدُّون، كأنَّه قِيل: يَعتَدُّون عليك إسلامَهم مانِّينَ به عليك؛ ولهذا صُرِّحَ بالمفعولِ به في قولِه: لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ، أي: لا تَعْتدُّوا علَيَّ إسلامَكم.
الوجْهُ الثَّاني: أنَّه مَفعولٌ مِن أجْلِه، أي: يَمُنُّون عليك مِن أجْلِ أنْ أسْلَموا [472] يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين (10/14). .
وقولُه: أَنْ هَدَاكُمْ كقولِه: أَنْ أَسْلَمُوا [473] يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين (10/14). .

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ تعالى أنَّ سُكَّانَ الباديةِ مِن العرَبِ الَّذين لم يَتمكَّنِ الإيمانُ مِن قلوبِهم قالوا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: آمَنَّا بما جِئتَ به، فأمَرَ اللهُ نَبيَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنْ يقولَ لهم: إنَّكم لم تُؤمِنوا الإيمانَ الكاملَ، ولكنْ قُولوا: أسْلَمْنا، والسَّببُ في ذلك أنَّه لم يَدخُلِ الإيمانُ الكاملُ في قُلوبِكم بعدُ.
ثمَّ يُرشِدُهم الله سبحانَه إلى ما يُكمِلُ إيمانَهم، فيقولُ: وإنْ تُطِيعوا اللهَ ورسولَه لا يَنقُصْكم اللهُ تعالى مِن ثَوابِ عمَلِكم الصَّالِحِ شيئًا، إنَّ اللهَ غَفورٌ رَحيمٌ.
ثمَّ يُبيِّنُ الله تعالى صِفاتِ المؤمنينَ الصَّادِقينَ، فيقولُ: إنَّما المؤمنونَ حقًّا هم الَّذين آمَنوا باللهِ ورسولِه، ثمَّ لمْ يَشُكُّوا في ذلك، وجاهَدوا بأمْوالِهم وأنفُسِهم في سَبيلِ اللهِ تعالى، أولئك هم الصَّادِقون في إيمانِهم حقًّا.
ثمَّ يَأمُرُ اللهُ تعالى نَبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنْ يقولَ للأعرابِ: أتُخْبِرونَ اللهَ بما تَدِينونَ به، والحالُ أنَّ اللهَ يَعلَمُ جَميعَ ما في السَّمواتِ والأرضِ؟! فهو لا يَخْفَى عليه حالُكم، فلا داعِيَ لِأنْ تُخبِروه بما في قُلوبِكم، واللهُ بكلِّ شَيءٍ عليمٌ.
ثمَّ يقولُ تعالى لنَبيِّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: يَمُنُّ عليك هؤلاء الأعرابُ أنْ أسْلَموا، فقُلْ لهم: لا تَمُنُّوا علَيَّ بذلك، بلِ المِنَّةُ للهِ أنْ هَداكم للإيمانِ إنْ كُنتم صادِقينَ في ادِّعائِكم الإيمانَ.
ثمَّ يختِمُ الله تعالى السُّورةَ الكريمةَ ببيانِ سَعةِ علمِه سبحانَه، وبصَرِه بجميعِ الأعمالِ، فيقولُ: إنَّ اللهَ يَعلَمُ كلَّ ما غابَ في السَّمواتِ والأرضِ، واللهُ بَصيرٌ بجَميعِ أعْمالِكم.

تفسير الآيات:

قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا أمَرَ اللهُ سُبحانه بإجلالِ رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وإعظامِه، ونَهَى عن أذاهُ في نفْسِه، أو في أُمَّتِه، ونَهَى عن التَّفاخُرِ الَّذي هو سَببُ التَّقاطُعِ والتَّداحُرِ، وختَمَ بصِفتِه (الخَبير) -دلَّ عليها بقولِه [474] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/385). :
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا.
أي: قال الأعرابُ -وهم سُكَّانُ الباديةِ مِن العرَبِ- للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: آمَنَّا بما وجَبَ علينا الإيمانُ به [475] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/388)، ((تفسير السعدي)) (ص: 802)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/264)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/420)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 60). .
قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا.
أي: قلْ -يا محمَّدُ- لأولئك الأعرابِ الَّذين ادَّعَوُا الإيمانَ: لم تُؤمِنوا بعْدُ إيمانًا كاملًا، فلا تَدَّعوا لأنفُسِكم هذا المقامَ، ولكنْ قُولوا: دخَلْنا في الإسلامِ، واقتَصِرُوا على هذا القولِ [476] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/388، 392)، ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيميَّة (7/436)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (4/17)، ((تفسير ابن كثير)) (7/389، 390)، ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/109، 110)، ((تفسير السعدي)) (ص: 802)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/264)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 60). قال الشنقيطي: (وقولُه تعالى في هذه الآيةِ الكريمةِ: قَالَتِ الْأَعْرَابُ المرادُ به بعضُ الأعرابِ... وإنَّما قُلْنا: إنَّ المرادَ بعضُ الأعرابِ في هذه الآيةِ؛ لأنَّ اللهَ بيَّنَ في موضعٍ آخَرَ أنَّ مِنهم مَن ليس كذلك، وذلك في قولِه تعالى: وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة: 99] ). ((أضواء البيان)) (7/420). قيل: إنَّ هؤلاء الأعرابَ لم يَكونوا منافِقينَ، استظهَر ذلك ابنُ تيميَّةَ، ونسَبه للأكثَرينَ، وذهَب إليه ابنُ القيِّم، وابنُ كثير، وابنُ رجب. يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/44)، ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (7/436)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (4/17)، ((تفسير ابن كثير)) (7/389)، ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/109، 110). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، والزُّهْريُّ، وابنُ زَيدٍ، وإبراهيمُ النَّخَعيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/389)، ((تفسير الماوردي)) (5/337)، ((تفسير ابن كثير)) (7/389). قال ابنُ القيِّم: (هؤلاء مُسلِمونَ، وليسوا بمؤمِنينَ؛ لأنَّهم لَيسوا ممَّن باشَر الإيمانُ قلْبَه، فذاق حلاوتَه وطَعْمَه، وهذا حالُ أكثَرِ المُنتَسِبينَ إلى الإسلامِ، وليس هؤلاء كُفَّارًا؛ فإنَّه سبحانه أثبَت لهم الإسلامَ بقَولِه: وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا، ولم يُرِدْ: قُولُوا بألسِنَتِكم من غيرِ مُواطأةِ القَلبِ؛ فإنَّه فرَّق بيْنَ قَولِهم: آمَنَّا، وقَولِهم: أسْلَمْنا، ولكِنْ لَمَّا لمْ يَذوقوا طعْمَ الإيمانِ قال: لَمْ تُؤْمِنُوا، ووعَدَهم سُبحانَه وتعالى -مع ذلك- على طاعتِهم ألَّا يَنقُصَهم مِن أُجورِ أعمالِهم شَيئًا). ((مدارج السالكين)) (3/91). ويُنظر: ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 295). وقيل: إنَّ هؤلاء الأعرابَ كانوا مُنافِقينَ. وممَّن ذهب إلى ذلك: البُخاريُّ، ومحمَّدُ بنُ نصرٍ المروزيُّ، والقرطبي، والشنقيطي. يُنظر: ((صحيح البخاري)) (1/14)، ((تعظيم قدر الصلاة)) للمروزي (2/554- 556)، ((تفسير القرطبي)) (16/348)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/419، 420). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ، ومُجاهِدٌ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/391)، ((تفسير الماوردي)) (5/337)، ((تفسير ابن كثير)) (7/389). قال القرطبي: (معنى وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا، أي: استَسْلَمْنا خَوفَ القَتلِ والسَّبْيِ، وهذه صِفةُ المنافِقينَ؛ لأنَّهم أسْلَموا في ظاهِرِ إيمانِهم، ولم تُؤمِنْ قُلوبُهم). ((تفسير القرطبي)) (16/348). وقال الشِّنقيطي: (اللهُ نفى عنهم الإيمانَ دونَ الإسلامِ، ولذلك وَجهانِ مَعروفانِ عند العُلَماءِ؛ أظهَرُهما عندي: أنَّ الإيمانَ المنفيَّ عنهم في هذه الآيةِ هو مُسَمَّاه الشَّرعيُّ الصَّحيحُ، والإسلامَ المُثبَتَ لهم فيها هو الإسلامُ اللُّغَويُّ الَّذي هو الاستِسلامُ والانقيادُ بالجَوارحِ دونَ القَلبِ... وإذا حُمِلَ الإسلامُ في قَولِه: وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا انقَدْنا واستَسْلَمْنا بالألسِنةِ والجوارحِ، فلا إشكالَ في الآيةِ، وعلى هذا القَولِ فالأعرابُ المذكورونَ مُنافِقونَ؛ لأنَّهم مُسلِمونَ في الظَّاهِرِ، وهم كُفَّارٌ في الباطِنِ. الوَجهُ الثَّاني: أنَّ المرادَ بنَفْيِ الإيمانِ في قَولِه: لَمْ تُؤْمِنُوا نفْيُ كَمالِ الإيمانِ، لا نَفْيُه مِن أصلِه، وعليه فلا إشكالَ أيضًا؛ لأنَّهم مُسلِمونَ مع أنَّ إيمانَهم غيرُ تامٍّ، وهذا لا إشكالَ فيه عندَ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ القائِلينَ بأنَّ الإيمانَ يَزيدُ ويَنقُصُ). ((أضواء البيان)) (7/419). .
عن سَعدِ بن أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قسَمَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَسْمًا، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أعْطِ فُلانًا؛ فإنَّه مُؤمنٌ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أوْ مُسلِمٌ. أقولُها ثلاثًا، ويُرَدِّدُها علَيَّ ثلاثًا: أوْ مُسلمٌ، ثمَّ قال: إنِّي لَأُعْطي الرَّجُلَ وغيرُه أحَبُّ إلَيَّ منه؛ مَخافةَ أنْ يَكُبَّه اللهُ في النَّارِ )) [477] رواه البخاريُّ (27)، ومسلمٌ (150) واللَّفظُ له. .
وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ.
أي: ولمْ يَدخُلِ الإيمانُ الكاملُ وحَقائقُ مَعانِيه بعْدُ في قُلوبِكم، أيُّها المُدَّعونَ بُلوغَ مَنزِلةِ الإيمانِ [478] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/392)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/305، 377، 378)، ((تفسير ابن كثير)) (7/389). قال ابنُ عاشور: («لَمَّا» هذه أختُ «لَمْ»، وتدُلُّ على أنَّ النَّفيَ بها متَّصِلٌ بزمانِ التَّكلُّمِ، وذلك الفارِقُ بيْنَها وبيْنَ «لَمْ» أختِها، وهذه الدَّلالةُ على استِمرارِ النَّفيِ إلى زمَنِ التَّكَلُّمِ تُؤذِنُ غالبًا بأنَّ المنفيَّ بها مُتوقَّعُ الوُقوعِ). ((تفسير ابن عاشور)) (26/265). وقال السعدي: (في قولِه: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ أي: وَقْتَ هذا الكلامِ الَّذي صدَر منكم، فكان فيه إشارةٌ إلى أحوالِهم بعدَ ذلك؛ فإنَّ كثيرًا منهم مَنَّ اللهُ عليهم بالإيمانِ الحقيقيِّ، والجهادِ في سَبيلِ اللهِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 802). .
وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا.
أي: وإنْ تُطِيعوا اللهَ ورسولَه لا يَنقُصْكم اللهُ مِن ثَوابِ أعمالِكم الصَّالِحةِ أيَّ شَيءٍ منها [479] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/392)، ((تفسير القرطبي)) (16/348)، ((تفسير ابن كثير)) (7/389)، ((تفسير السعدي)) (ص: 802)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 61). .
كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 40] .
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
أي: إنَّ اللهَ غَفورٌ لِذُنوبِ عِبادِه، فيَستُرَها عليهم، ويَتجاوَزَ عن مُؤاخَذتِهم بها، رَحيمٌ بهم، ومِن رَحمتِه قَبولُه تَوبتَهم، وإكرامُهم بنِعَمِه [480] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/394)، ((تفسير ابن كثير)) (7/389)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/388)، ((تفسير السعدي)) (ص: 802)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/266). .
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
أنَّها إرشادٌ للأعرابِ الَّذين قالوا: آَمَنَّا إلى حَقيقةِ الإيمانِ [481] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/117). .
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا.
أي: إنَّما المؤمِنون حقًّا همُ الَّذين آمَنوا باللهِ ورسولِه، ثمَّ لمْ يشُكُّوا في وَحدانيَّةِ اللهِ تعالى، وصِدقِ نُبوَّةِ نَبيِّه، ووُجوبِ طاعتِهما، وثَبَتوا على ذلك، ولم يَتزلْزَلوا [482] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/395)، ((تفسير القرطبي)) (16/349)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/91)، ((تفسير ابن كثير)) (7/390)، ((تفسير السعدي)) (ص: 802)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 63). .
كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال: 2 - 4] .
وقال سُبحانه: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور: 51] .
وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
أي: وهمْ أيضًا مَنْ جاهَدُوا أعداءَ اللهِ بإنفاقِ أموالِهم، وبَذْلِ أرواحِهم في قِتالِهم، مُخلِصينَ للهِ تعالى؛ لِتَكونَ كَلمتُه هي العُلْيا [483] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/395)، ((تفسير ابن كثير)) (7/390)، ((تفسير السعدي)) (ص: 802)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 66). .
كما قال تعالى: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال: 74] .
أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ.
أي: أولئك الَّذين يُؤمِنونَ باللهِ ورسولِه بلا ارتيابٍ، ويُجاهِدونَ في سَبيلِ الله بأمْوالِهم وأنفُسِهم؛ همُ الصَّادِقونَ في إيمانِهم حقًّا، لا الَّذين يَدَّعونَ الإيمانَ مِن غَيرِ تَحقيقٍ [484] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/395)، ((تفسير ابن كثير)) (7/390)، ((تفسير السعدي)) (ص: 802)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 66، 67). .
قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا قال هؤلاءِ الأعرابُ: آَمَنَّا، وأمَرَ اللهُ نَبيَّه أنْ يُكذِّبَهم في قولِه: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا، وقولِه: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ؛ أمَرَ نَبيَّهم أنْ يقولَ لهم بصِيغةِ الإنكارِ: أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ؟! وذلك بادِّعائِكم أنَّكم مُؤمِنونَ، واللهُ لا يَخْفَى عليه شَيءٌ مِن حالِكم، وهو عالِمٌ بأنَّكم لم تُؤمِنوا، وعالِمٌ بكلِّ ما في السَّمواتِ والأرضِ، وعالِمٌ بكلِّ شَيءٍ [485] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/421). .
قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ.
أي: قُل -يا محمَّدُ- للأعرابِ الَّذين ادَّعَوُا الإيمانَ: أتُخْبِرونَ اللهَ بما في قُلوبِكم مِن الإيمانِ حِينَ قُلْتُم: آمَنَّا، والحالُ أنَّه يَعلَمُ جميعَ ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ مِن الأشياءِ الظَّاهرةِ والباطنةِ؟! فاللهُ لا يَخْفَى عليه حالُكم، وليس بحاجةٍ لإخبارِه بما في قُلوبِكم [486] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/396)، ((الوسيط)) للواحدي (4/161)، ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 193)، ((تفسير ابن كثير)) (7/390)، ((تفسير الشوكاني)) (5/80، 81)، ((تفسير السعدي)) (ص: 802)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/421)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 67). .
كما قال الله تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ [آل عمران: 5] .
وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
أي: واللهُ ذو عِلمٍ بكلِّ شيءٍ، فاحْذَروا أنْ تَقولوا خِلافَ ما في قُلوبِكم؛ فاللهُ يَعلَمُ ما فيها مِن الإيمانِ أو غَيرِه [487] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/396)، ((تفسير السمرقندي)) (3/330)، ((تفسير السعدي)) (ص: 802). .
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17).
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا.
أي: يَمُنُّ هؤلاءِ الأعرابُ عليك -يا محمَّدُ- إسلامَهم، فيَذْكُرونه لك ذِكْرَ مَن قدَّم لك مَعروفًا، وأسْدى إليك خَيرًا [488] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/396)، ((تفسير ابن كثير)) (7/390)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/391)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 68). !
قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ.
أي: قُل لهم -يا محمَّدُ-: لا تَمُنُّوا علَيَّ إسلامَكم؛ فليس لكم مِنَّةٌ علَيَّ في ذلك، ونفْعُ إسلامِكم يَعودُ عليكم، وإنَّما للهِ المِنَّةُ عليكم بالتَّوفيقِ للإيمانِ إنْ كُنتم صادِقينَ في ادِّعائِكمُ الإيمانَ [489] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/397)، ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 192، 193)، ((تفسير ابن كثير)) (7/390)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/392، 393)، ((تفسير السعدي)) (ص: 802)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 68). .
عن عبدِ اللهِ بنِ زَيدٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ((أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَمَّا فتَحَ حُنَيْنًا قسَمَ الغنائمَ، فأعْطى المؤلَّفةَ قُلوبُهم، فبلَغَه أنَّ الأنصارَ يُحِبُّون أنْ يُصِيبوا ما أصاب النَّاسُ، فقام رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فخطَبَهم؛ فحمِدَ اللهَ وأثْنَى عليه، ثمَّ قال: يا مَعشرَ الأنصارِ، ألَمْ أجِدْكم ضُلَّالًا فهَداكُم اللهُ بي؟ وعالةً فأغْناكم اللهُ بي؟ ومُتفرِّقينَ فجمَعَكُم اللهُ بي؟ ويَقولون: اللهُ ورسولُه أمَنُّ [490] أمَنُّ: أفعَلُ تفضيلٍ مِنَ المَنِّ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (8/50). ) [491] رواه البخاريُّ (4330)، ومسلمٌ (1061) واللَّفظُ له. .
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18).
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
أي: إنَّ اللهَ يَعلمُ كلَّ ما غاب في السَّمواتِ وفي الأرضِ، ومِن ذلك عِلْمُه بالصَّادقِ مِن الكاذبِ، وعِلْمُه بما تُخفِيه السَّرائرُ والضَّمائرُ، فلا يَخْفَى عليه شَيءٌ سُبحانَه [492] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/398)، ((تفسير الشوكاني)) (5/81)، ((تفسير السعدي)) (ص: 803)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 69). قال ابنُ جرير: (يقولُ تعالى ذِكْرُه: إنَّ اللهَ -أيُّها الأعرابُ- لا يَخفَى عليه الصَّادِقُ منكم مِنَ الكاذِبِ، ومَنِ الدَّاخِلُ منكم في مِلَّةِ الإسلامِ رَغبةً فيه، ومَن الدَّاخِلُ فيه رَهبةً مِن رَسولِنا محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وجُندِه؛ فلا تُعلِّمونا دِينَكم وضَمائرَ صُدورِكم؛ فإنَّ اللهَ يَعلَمُ ما تُكِنُّه ضَمائِرُ صُدورِكم، وتحَدِّثونَ به أنفُسَكم، ويَعلَمُ ما غاب عنكم فاستَسَرَّ في خَبايا السَّمواتِ والأرضِ، لا يَخفى عليه شَيءٌ مِن ذلك). ((تفسير ابن جرير)) (21/398). .
كما قال تعالى: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر: 19] .
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.
أي: واللهُ ذو بَصرٍ بأعمالِكم كلِّها؛ خَيرِها وشَرِّها، ظاهِرِها وباطِنِها، ويُجازيكم عليها بما تَستحِقُّونه مِن ثَوابٍ أو عِقابٍ [493] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/398)، ((تفسير ابن كثير)) (7/391)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/394)، ((تفسير السعدي)) (ص: 803)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 69). .

الفوائد التربوية:

1- قولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا فيه تَحريضٌ على الإيمانِ الصَّادقِ؛ لأنَّ مَن أتَى بفِعلٍ مِن غَيرِ صِدقِ نِيَّةٍ يَضيعُ عمَلُه، ولا يُعْطَى عليه أجْرًا [494] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/117). .
2- قولُ اللهِ تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، شرَطَ تعالى في الإيمانِ عدَمَ الرَّيبِ -وهو الشَّكُّ-؛ لأنَّ الإيمانَ النَّافعَ هو الجزْمُ اليَقينيُّ بما أمَرَ اللهُ بالإيمانِ به، الَّذي لا يَعْترِيه شَكٌّ بوجْهٍ مِن الوُجوهِ [495] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 802). .
3- قولُ اللهِ تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، فيه أنَّ مَن جاهَدَ الكُفَّارَ، دلَّ ذلك على الإيمانِ التَّامِّ في القلْبِ؛ لأنَّ مَن جاهَدَ غيرَه على الإسلامِ، والقيامِ بشَرائعِه، فجِهادُه لنفْسِه على ذلك مِن بابِ أَولَى وأَحرَى، ولأنَّ مَن لم يَقْوَ على الجهادِ فإنَّ ذلك دليلٌ على ضعفِ إيمانِه [496] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 802). .
4- قال اللهُ تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ذكَرَ أهلَ الإيمانِ الَّذين ذاقُوا طَعْمَه، وهم الَّذين آمَنوا به وبرسولِه، ثمَّ لم يَرتابُوا في إيمانِهم، وإنَّما انْتَفَى عنهم الرَّيبُ؛ لأنَّ الإيمانَ قد باشَرَ قُلوبَهم، وخالطَتْها بَشاشتُه، فلمْ يَبْقَ للرَّيبِ فيه مَوضعٌ، وصدَّقَ ذلك الذَّوقَ بَذْلُهم أحَبَّ شَيءٍ إليهم في رِضا ربِّهم تعالى، وهو أموالُهم وأنفُسُهم! ومِن الممتنِعِ حُصولُ هذا البذْلِ مِن غيرِ ذَوقِ طَعْمِ الإيمانِ، ووُجودِ حَلاوتِه؛ فإنَّ ذلك إنَّما يَحصُلُ بصِدْقِ الذَّوقِ والوجْدِ، كما قال الحسَنُ: (ليس الإيمانُ بالتَّمنِّي ولا بالتَّحلِّي، ولكِنْ ما وقَرَ في القلْبِ، وصدَّقَه العمَلُ)، فالذَّوقُ والوجْدُ أمْرٌ باطنٌ، والعمَلُ دَليلٌ عليه، ومُصدِّقٌ له، كما أنَّ الرَّيبَ والشَّكَّ والنِّفاقَ أمْرٌ باطنٌ، والعمَلُ دليلٌ عليه، ومُصدِّقٌ له؛ فالأعمالُ ثَمراتُ العلومِ والعقائدِ، فاليقينُ يُثمِرُ الجِهادَ، ومَقاماتِ الإحسانِ، فعلى حسَبِ قُوَّتِه تكونُ ثَمَرتُه ونَتيجتُه، والرَّيبُ والشَّكُّ يُثمِرُ الأعمالَ المناسِبةَ له [497] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/91). .
5- قولُه تعالى: قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ، فيه إشارةٌ إلى أنَّ الدِّينَ يَنْبغي أنْ يكونَ للهِ، والأعرابُ قد أظْهَروا الإيمانَ للمسلمينَ لا لله، فلا يُقبَلُ منهم ذلك [498] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/117). .
6- قولُ اللهِ تعالى: قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، تَضمَّنتْ هذه الآيةُ الكريمةُ تَقبيحَ تَزكيةِ النَّفْسِ بالكذِبِ [499] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/421). .
7- العبْدُ بيْنَ مِنَّةٍ مِن اللهُ عليه، وحُجَّةٍ منْه عليه، ولا يَنفَكُّ عنهما، فالحكْمُ الدِّينيُّ مُتضمِّنٌ لِمِنَّتِه وحُجَّتِه؛ قال اللهُ تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران: 164] ، وقال: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ، وقال: فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ [الأنعام: 149] . والحكْمُ الكونيُّ أيضًا مُتضمِّنٌ لِمِنَّتِه وحُجَّتِه، فإذا حكَمَ له -كَونًا- حكْمًا مَصحوبًا باتِّصالِ الحكْمِ الدِّينيِّ به، فهو مِنَّةٌ عليه، وإنْ لم يَصحَبْه الدِّينيُّ فهو حُجَّةٌ منْه عليه. وكذلك حكْمُه الدِّينيُّ إذا اتَّصَل به حكْمُه الكونيُّ، فتَوفيقُه للقيامِ به مِنَّةٌ منْه عليه، وإنْ تَجرَّدَ عن حكْمِه الكونيِّ صار حُجَّةً منْه عليه، فالمِنَّةُ باقترانِ أحَدِ الحُكْمينِ بصاحِبِه، والحُجَّةُ في تَجرُّدِ أحدِهما عن الآخَرِ، فكلُّ عِلمٍ صَحِبَه عَمَلٌ يُرْضي اللهَ سُبحانه فهو مِنَّةٌ، وإلَّا فهو حُجَّةٌ، وكلُّ قُوَّةٍ ظاهرةٍ وباطنةٍ صَحِبَها تَنفيذٌ لِمَرْضاتِه وأوامِرِه؛ فهي مِنَّةٌ، وإلَّا فهي حُجَّةٌ، وكلُّ حالٍ صَحِبَه تأثيرٌ في نُصرةِ دِينِه، والدَّعوةِ إليه؛ فهو مِنَّةٌ منْه، وإلَّا فهو حُجَّةٌ، وكلُّ مالٍ اقترَنَ به إنفاقٌ في سَبيلِ اللهِ وطاعتُه، لا لطلَبِ الجزاءِ ولا الشُّكورِ؛ فهو مِنَّةٌ مِن اللهِ عليه، وإلَّا فهو حُجَّةٌ، وكلُّ فراغٍ اقترَنَ به اشتِغالٌ بما يُرِيدُ الرَّبُّ مِن عبْدِه، فهو مِنَّةٌ عليه، وإلَّا فهو حُجَّةٌ، وكلُّ قَبولٍ في النَّاسِ، وتَعظيمٍ ومَحبَّةٍ له، اتَّصَل به خُضوعٌ للرَّبِّ، وذُلٌّ وانكسارٌ، ومَعرفةٌ بعَيبِ النَّفْسِ والعمَلِ، وبذْلُ النَّصيحةِ للخلْقِ؛ فهو مِنَّةٌ، وإلَّا فهو حُجَّةٌ، وكلُّ بَصيرةٍ ومَوعظةٍ، وتَذكيرٍ وتَعريفٍ مِن تَعريفاتِ الحقِّ سُبحانه إلى العبْدِ، اتَّصَل به عِبرةٌ ومَزيدٌ في العقْلِ، ومَعرفةٌ في الإيمانِ؛ فهي مِنَّةٌ، وإلَّا فهي حُجَّةٌ، وكلُّ حالٍ مع اللهِ تعالى، أو مَقامٍ اتَّصل به السَّيرُ إلى اللهِ، وإيثارُ مُرادِه على مُرادِ العبْدِ؛ فهو مِنَّةٌ مِن اللهِ، وإنْ صَحِبَه الوُقوفُ عِندَه والرِّضا به، وإيثارُ مُقتضاهُ؛ مِن لذَّةِ النَّفْسِ به، وطُمأنينَتِها إليه، ورُكونِها إليه، فهو حُجَّةٌ مِن اللهِ عليه. فلْيتأمَّلِ العبْدُ هذا الموضعَ العظيمَ الخطَرِ، ويُميِّزْ بيْنَ مَواقعِ المِنَنِ والمِحَنِ، والحُجَجِ والنِّعَمِ، فما أكثَرَ ما يَلتبِسُ ذلك على خواصِّ النَّاسِ وأربابِ السُّلوكِ! واللهُ يَهْدي مَن يَشاءُ إلى صِراطٍ مُستقيمٍ [500] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/189، 190). .
8- في قولِه تعالى: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ مَسألةٌ عظيمةٌ في سُلوكِ الإنسانِ وعمَلِه؛ وهي أنْ يَعلَمَ بأنَّ اللهَ تعالى بَصيرٌ بعمَلِه، مُحيطٌ به، فيَخْشَى اللهَ ويَتَّقِيه، وفيها التَّرغيبُ في الأعمالِ الصَّالِحةِ؛ فإنَّها لنْ تَضيعَ، وفيها التَّرهيبُ مِن العملِ السَّيِّئِ؛ لأنَّ العبدَ سيُجازَى عليه؛ لأنَّ الكلَّ مَعلومٌ عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ [501] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: الحجرات - الحديد)) (ص: 69). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال اللهُ تعالى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ هذه الآيةُ ممَّا احتَجَّ بها أحمدُ بنُ حَنبلٍ وغيرُه، على أنَّه يُسْتثنى في الإيمانِ دونَ الإسلامِ، وأنَّ أصحابَ الكبائرِ يَخرُجون مِن الإيمانِ إلى الإسلامِ [502] يُنظر: ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 198). أمَّا الاستِثناءُ في الإيمانِ فإنَّه (يجوزُ الاستِثناءُ باعتِبارٍ وتَرْكُه باعتِبارٍ؛ فإذا كان مقصودُه أنِّي لا أعلَمُ أنِّي قائمٌ بكلِّ ما أوجَب اللهُ علَيَّ، وأنَّه يَقبَلُ أعمالي، ليس مقصودُه الشَّكَّ فيما في قلبِه؛ فهذا استِثْناؤُه حسَنٌ، وقصْدُه ألَّا يُزكِّيَ نفْسَه، وألَّا يَقطَعَ بأنَّه عَمِل عمَلًا كما أُمِر فقُبِل منه، والذُّنوبُ كثيرةٌ، والنِّفاقُ مَخوفٌ على عامَّةِ النَّاسِ). ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/40). أمَّا الاستِثناءُ في الإسلامِ فهو كالاستثناءِ في الإيمانِ، فيُستثنى فيه إذا أُريدَ به فِعلُ الواجباتِ الظَّاهرةِ كلِّها، أمَّا إذا أُريدَ بالإسلامِ الشَّهادتانِ باللِّسانِ فقطْ فلا استِثناءَ فيه، فلمَّا كان كلُّ مَن أتى بالشَّهادتَينِ صار مُسلِمًا مُتميِّزًا عن اليهودِ والنَّصارى، تجري عليه أحكامُ الإسلامِ الَّتي تجري على المسلمينَ؛ كان هذا ممَّا يُجزَمُ به بلا استِثناءٍ فيه، فلا زيادةَ فيهما ولا نُقصانَ. يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/259، 415). .
2- قولُ اللهِ تعالى: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا، فيه سُؤالٌ: قال تعالى: وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا [النساء: 94] ، وقال هاهنا: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا، مع أنَّهم ألْقَوا إليهم السَّلامَ؟
الجوابُ: أنَّ هذا إشارةٌ إلى أنَّ عمَلَ القلبِ غيرُ مَعلومٍ، واجتنابَ الظَّنِّ واجبٌ، وإنَّما يُحكَمُ بالظَّاهرِ، فلا يُقالُ لِمَن يَفعَلُ فِعلًا: هو مُراءٍ، ولا لِمَن أسلَمَ: هو مُنافِقٌ، ولكنَّ اللهَ خَبيرٌ بما في الصُّدورِ، إذا قال: فُلانٌ ليس بمُؤمنٍ، حصَلَ الجزْمُ، وقولُه تعالى: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا فهو الَّذي جوَّزَ لنا ذلك القولَ، وكان مُعجزةً للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ؛ حيث أطْلَعَه اللهُ على الغَيبِ وضَميرِ قُلوبِهم، فقال لنا: أنتُم لا تَقولوا لِمَن ألْقَى إليكم السَّلامَ: لَستَ مُؤمنًا؛ لعدَمِ عِلمِكم بما في قلْبِه [503] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/115). .
3- قولُ اللهِ تعالى: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا، فيه سُؤالٌ: لِمَ لَمْ يَجُزْ أنْ يُصدَّقوا في إسلامِهم، والإسلامُ هو الانقيادُ، وقد وُجِدَ منهم قولًا وفِعلًا، وإنْ لم يُوجَدْ اعتقادًا وعِلمًا، وذلك القدْرُ كافٍ في صِدْقِهم؟
الجوابُ: التَّكذيبُ يقَعُ على وَجهينِ:
أحدُهما: ألَّا يُوجَدَ نفْسُ المُخبَرِ عنه.
وثانيهما: ألَّا يُوجَدَ كما أخبَرَ في نفْسِه؛ فقد يقولُ: ما جِئتَنا، بلْ جاءَتْ بك الحاجةُ، فاللهُ تعالى كذَّبَهم في قولِهم: آَمَنَّا على الوجْهِ الأوَّلِ، أي: ما آمنْتُم أصْلًا، ولم يُصدَّقوا في الإسلامِ على الوجْهِ الثَّاني؛ فإنَّهم انقادوا للحاجةِ، وأخْذِ الصَّدقةِ [504] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/118). . وهذا على قولٍ في التَّفسيرِ.
4- قولُ اللهِ تعالى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ استُفيدَ مِن هذه الآيةِ الكريمةِ: أنَّ الإيمانَ أخصُّ مِن الإسلامِ، كما هو مَذهَبُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ [505] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/389). ، وأنَّه أكمَلُ مِن الإسلامِ [506] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 278). ، فكلُّ مؤمنٍ مسلمٌ، وليس كلُّ مُسلمٍ مؤمنًا؛ فالمؤمنُ أفضَلُ مِن المسلمِ [507] يُنظر: ((المستدرك على مجموع الفتاوى لابن تيمية)) (1/128). .
5- في قولِه تعالى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ دَلالةٌ على الفرْقِ بيْنَ الإسلامِ والإيمانِ؛ فالإيمانُ يكونُ في القلْبِ، ويَلزَمُ مِن وُجودِه في القلْبِ صَلاحُ الجَوارحِ؛ لقولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أَلَا وإنَّ في الجسَدِ مُضْغةً إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجسدُ كلُّه، وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجسدُ كلُّه؛ أَلَا وهِيَ القلبُ )) [508] أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599) من حديثِ النُّعمانِ بنِ بَشِيرٍ رضيَ الله عنهما. ، بخِلافِ الإسلامِ؛ فإنَّه يكونُ في الجَوارحِ، وقد يَصدُرُ مِن المؤمنِ حقًّا، وقد يكونُ مِن ناقصِ الإيمانِ، هذا هو الفرْقُ بيْنَهما، ولا يُفَرَّقُ بيْنَهما إلَّا إذا اجتَمَعا في سِياقٍ واحدٍ، وأمَّا إذا انفرَدَ أحَدُهما في سِياقٍ فإنَّه يَشملُ الآخَرَ [509] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (1/50). .
6- قولُ اللهِ تعالى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ، فيه سُؤالٌ: قولهُ: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ، بعْدَ قولِه تعالى: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا، يُشبِهُ التَّكريرَ مِن غيرِ استقلالٍ بفائدةٍ مُتجدِّدةٍ؟
الجوابُ: ليس كذلك؛ فإنَّ فائدةَ قولِه: لَمْ تُؤْمِنُوا هو تَكذيبُ دَعواهم، وقولِ: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ تَوقيتٌ لِما أُمِروا به أنْ يَقولوه، كأنَّه قِيل لهم: (ولكنْ قُولوا أسْلَمْنا حِينَ لم تَثبُتْ مُواطأةُ قُلوبِكم لِألسِنَتِكم) -على قولٍ في التَّفسيرِ-؛ لأنَّه كلامٌ واقعٌ مَوقِعَ الحالِ مِن الضَّميرِ في قُولُوا، و(ما) في (لَمَّا) مِن معْنى التَّوقُّعِ، دالٌّ على أنَّ هؤلاء قدْ آمَنوا فيما بعْدُ [510] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/377)، ((الدر المصون)) للسمين (10/13). .
7- قولُ اللهِ تعالى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ، فيه الرَّدُّ على الكَرَّاميَّةِ [511] الكَرَّامِيَّةُ: هم أصحابُ محمَّدِ بنِ كَرَّامٍ، يَزعُمونَ أنَّ الإيمانَ هو الإقرارُ والتَّصديقُ باللِّسانِ دونَ القَلبِ، وأنكَروا أن تكونَ مَعرِفةُ القَلبِ أو شَيءٌ غيرُ التَّصديقِ باللِّسانِ إيمانًا. يُنظر: ((الإيمان الأوسط)) لابن تيمية (ص: 439). في قولِهم: إنَّ الإيمانَ هو الإقرارُ باللِّسانِ دونَ عقْدِ القلْبِ [512] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 243). !
8- قولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا، لم يقُلْ: (لا يَلِتَاكم) بضَميرِ التَّثنيةِ؛ لأنَّ اللهَ هو مُتولِّي الجزاءِ، دونَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [513] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/266). .
9- قولُ اللهِ تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فيه دَليلٌ على أنَّ الأعمالَ مِن الإيمانِ [514] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 243). ، وفيه حُجَّةٌ واضحةٌ على المُرْجِئةِ -المنكِرِينَ أنَّ العمَلَ مِن الإيمانِ-؛ إذْ هم مُقِرُّون بأنَّ مَن لم يكُنْ له صِدْقُ الإيمانِ فليس بمُؤمنٍ، وقد جَعَلَ اللهُ الجهادَ مِن صِدْقِ الإيمانِ، كما تَرى [515] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/185). .
10- في قولِه تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ أخبَرَ تعالى أنَّ هؤلاء هم الصَّادِقونَ في قولِهم: آمَنَّا، ودلَّ ذلك على أنَّ النَّاسَ في قولِهم: (آمَنَّا) صادقٌ وكاذبٌ، والكاذبُ فيه نِفاقٌ بحسَبِ كذِبِه [516] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/542). .
11- قولُه تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ يُبيِّنُ أنَّ الجِهادَ واجبٌ، وترْكَ الارتيابِ واجبٌ [517] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/15). .
12- أنَّ النِّيَّةَ مَحْضُ عَمَلِ القلبِ، فلمْ يُشْرَعْ إظهارُها باللِّسانِ؛ لقولِه سُبحانه: قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وفاعِلُ ذلك يُعَلِّمُ اللهَ بدِيْنِه الَّذي في قلْبِه [518] يُنظر: ((شرح العمدة لابن تيمية - كتاب الصلاة)) (ص: 591). ! فالآيةُ فيها إشارةٌ إلى أنَّ النُّطقَ بالنِّيَّةِ في العِباداتِ ليس مشروعًا؛ لأنَّ الإنسانَ الَّذي يقولُ: «أُريدُ أنْ أُصلِّيَ» كأنَّه يُعَلِّمُ اللهَ سُبحانه وتعالى بما يُريدُ مِن العملِ! واللهُ يَعلَمُ، والَّذي يقولُ: «أُريدُ أنْ أَصومَ» كذلك، والَّذي يقولُ: «نَويتُ أنْ أتصَدَّقَ» كذلك، والَّذي يقولُ: «نوَيتُ أنْ أَحُجَّ» كذلك أيضًا، ولهذا لا يُسَنُّ النُّطقُ بالنِّيَّةِ في العِباداتِ كلِّها؛ لا في الحجِّ، ولا في الصَّدَقةِ، ولا في الصَّومِ، ولا في الوُضوءِ، ولا الصَّلاةِ، ولا في غيرِ ذلك؛ لأنَّ النِّيَّةَ مَحلُّها القلبُ، واللهُ عالمٌ بذلك، ولا حاجةَ إلى أنْ تُخبِرَ اللهَ بها [519] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: الحجرات - الحديد)) (ص: 67). !
13- قولُ اللهِ تعالى: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ، لم يقلْ: (يمُنُّ عليكم أنْ أسلَمْتُم)؛ لأنَّ إسلامَهم كان ضَلالًا، حيث كان نِفاقًا، فما مَنَّ به عليهم [520] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/118). ، وهذا على قولٍ في التَّفسيرِ.
14- قولُ اللهِ تعالى: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ، فيه سُؤالٌ: كيف مَنَّ عليهم بالهدايةِ إلى الإيمانِ، مع أنَّه بيَّنَ أنَّهم لم يُؤمِنوا؟
الجوابُ مِن وُجوهٍ:
الوجْهُ الأوَّلُ: أنَّه تعالى لم يقُلْ: (بلِ اللهُ يمُنُّ عليكم أنْ رزَقَكم الإيمانَ)، بلْ قال: أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ، وإرسالُ الرُّسلِ بالآياتِ البيِّناتِ هِدايةٌ.
الوجْهُ الثَّاني: أنَّه تعالى يَمُنُّ عليهم بما زَعَموا، فكأنَّه قال: أنتُم قُلْتُم: آمَنَّا، فذلك نِعمةٌ في حقِّكم، حيثُ تخلَّصْتُم مِن النَّارِ، فقال: هَداكم في زَعْمِكم.
الوجْهُ الثَّالثُ: أنَّ اللهَ تعالى بيَّنَ بعْدَ ذلك شَرْطًا، فقال: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [521] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/118). .
15- قولُ اللهِ تعالى: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ، فيه رَدٌّ على القَدَريَّةِ والمُعتزلةِ القائلين: إنَّ العبْدَ يَهْدي نفْسَه [522] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 243). !
16- في قولِه تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ أنَّ أعْظَمَ نِعمةٍ هي نِعمةُ الإسلامِ [523] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (1/269). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
- إنَّما قال: وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا؛ تَعليمًا لهم بالفرْقِ بيْنَ الإيمانِ والإسلامِ، وكان مُقْتضَى ظاهرِ نظْمِ الكلامِ أنْ يُقالَ: (قُل لم تُؤمِنوا ولكنْ أسْلَمْتم)، أو أنْ يُقالَ: (قُل لا تَقولوا: آمنَّا، ولكنْ قُولوا: أسْلَمْنا)؛ ليَتوافَقَ المُستدرَكُ عنه والاستِدراكُ بحسَبِ النَّظْمِ المُتعارَفِ في المُجادَلاتِ، فعُدِلَ عن الظَّاهرِ إلى هذا النَّظْمِ؛ لأنَّ فيه صراحةً بنفْيِ الإيمانِ عنهم، فلا يَحسَبوا أنَّهم غالَطوا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. واستُغنِيَ بقولِه: لَمْ تُؤْمِنُوا عن أنْ يُقالَ: (لا تَقولوا: آمنَّا)؛ لاستِهجانِ أنْ يُخاطَبوا بلفظٍ مُؤدَّاه النَّهيُ عن الإعلانِ بالإيمانِ؛ لأنَّهم مُطالَبونَ بأنْ يُؤمنوا ويَقولوا: آمنَّا، قَولًا صادقًا لا كاذبًا، فقيل لهم: لَمْ تُؤْمِنُوا؛ تَكذيبًا لهم، معَ عدمِ التَّصريحِ بلفظِ التَّكذيبِ، ولكنْ وقَعَ التَّعريضُ لهم بذلك بعْدُ في قولِه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات: 15] إلى قَولِه: أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 15] ، أي: لا أنتُم؛ ولذلك جِيءَ بالاستدراكِ مَحمولًا على المعنى، وعُدِلَ عن أنْ يُقالَ: (ولكنْ أسلَمْتُم) إلى قُولُوا أَسْلَمْنَا؛ تَعريضًا بوُجوبِ الصِّدقِ في القولِ ليُطابِقَ الواقعَ، فهم يَشعُرونَ بأنَّ كذِبَهم قد ظهَرَ، وذلك ممَّا يُتعيَّرُ به، أي: الشَّأنُ أنْ تقولوا قولًا صادقًا [524] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/376)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/515)، ((تفسير أبي السعود)) (8/123)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/255، 265). .
- وقولُه: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ واقعٌ مَوقِعَ الحالِ مِن ضَميرِ لَمْ تُؤْمِنُوا، وهو مُبيِّنٌ لمَعنى نفْيِ الإيمانِ عنهم في قَولِه: لَمْ تُؤْمِنُوا بأنَّه ليس انتِفاءَ وُجودِ تَصديقٍ باللِّسانِ، ولكنِ انتفاءُ رُسوخِه وعقْدِ القلْبِ عليه؛ إذ كان فيهم بَقيَّةٌ مِن ارتيابٍ، كما أشعَرَ به مُقابَلتُه بقَولِه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [525] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/265). [الحجرات: 15] .
- قولُه: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ليس تَكريرًا مع قَولِه: لَمْ تُؤْمِنُوا؛ وذلك لِمَا في (لَمَّا) مِن مَعنى التَّوقُّعِ الدَّالِّ على أنَّ هؤلاء قدْ آمَنوا فيما بعدُ [526] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/265، 266). .
- وفي الآيةِ احتِباكٌ [527] الاحتِباكُ: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحَذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القرآنِ وعناصرِ إعجازِه، وهو مِن ألطَفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). : ذكَرَ عدَمَ الإيمانِ أوَّلًا، دَليلًا على إثباتِه ثانيًا، وذكَرَ تَوفيرَ الأعمالِ ثانيًا، دَليلًا على بَخْسِها أو إحباطِها أوَّلًا، وسِرُّه أنَّه نَفى أساسَ الخَيرِ أوَّلًا، ورغَّبَ في الطَّاعةِ بحِفظِ ما تَعِبوا عليه مِن الأعمالِ ثانيًا [528] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/388). .
- وجُملةُ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ استِئنافُ تَعليمٍ لهم بأنَّ اللهَ يَتجاوُزُ عن كذِبِهم إذا تابوا، وترْغيبٌ في إخلاصِ الإيمانِ؛ لأنَّ الغَفورَ كثيرُ المغفرةِ شَديدُها، ومِن فَرْطِ مَغفرتِه أنَّه يُجازي على الأعمالِ الصَّالِحةِ الواقِعةِ في حالةِ الكُفرِ غيرَ مُعتدٍّ بها، فإذا آمَنَ عامِلُها جُوزيَ عليها بمُجرَّدِ إيمانِه، وذلك مِن فَرْطِ رَحمتِه بعِبادِه [529] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/266). .
- وترْتيبُ رَحِيمٌ بعدَ غَفُورٌ؛ لأنَّ الرَّحمةَ أصلٌ للمَغفرةِ، وشأنُ العلَّةِ أنْ تُورَدَ بعدَ المُعلَّلِ بها [530] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/266). .
2- قولُه تعالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ قيل: هذا تَعليلٌ لقولِه: لَمْ تُؤْمِنُوا إلى قولِه: فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14] ، وهو مِن جُملةِ ما أُمِرَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنْ يقولَه للأعرابِ، أي: ليس المؤمِنونَ إلَّا الَّذين آمَنوا، ولم يُخالِطْ إيمانَهم ارتيابٌ أو تَشكُّكٌ [531] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/267). .
- قولُه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ... (إنَّما) للحصْرِ، و(إنَّ) الَّتي هي جُزْءٌ منها مُفيدةٌ أيضًا للتَّعليلِ، وقائمةٌ مَقامَ فاءِ التَّفريعِ، أي: إنَّما لم تَكونوا مُؤمنينَ؛ لأنَّ الإيمانَ يُنافيه الارتيابُ، والقصْرُ إضافيٌّ [532] الحَصرُ أو القَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثاني: مقصورًا عليه، مثل: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أنْ يَختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِع، بألَّا يَتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثل: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإِلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصْرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144]. والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مَبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتَنزيلِ غيرِ المذكور منزلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ(إنَّما)، والقصرُ بتَقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (3/7- 17)، ((الإتقان)) للسيوطي (2/134- 135)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 87 - 95)، ((البلاغة العربية)) للميداني (1/523). ، أي: المؤمنونَ الَّذين هذه صِفاتُهم غيرُ هؤلاء الأعرابِ؛ فأفادَ أنَّ هؤلاء الأعرابَ انْتَفى عنهم الإيمانُ؛ لأنَّهم انتَفَى عنهم مَجموعُ هذه الصِّفاتِ. وإذ قد كان القصرُ إضافيًّا لم يكُنِ الغرَضُ منه إلَّا إثباتَ الوصْفِ لغير المَقصورِ؛ لإخراجِ المُتحدَّثِ عنهم عن أنْ يكونوا مُؤمِنينَ، وليس بمُقْتضٍ أنَّ حقيقةَ الإيمانِ لا تَتقوَّمُ إلَّا بمَجموعِ تلك الصِّفاتِ؛ لأنَّ عَدَّ الجِهادِ في سَبيلِ اللهِ مع صِفتَي الإيمانِ وانتِفاءِ الرَّيبِ فيه يَمْنعُ مِن ذلك؛ لأنَّ الَّذي يَقعُدُ عن الجِهادِ لا يَنتفي عنه وصْفُ الإيمانِ؛ إذ لا يَكفُرُ المسلمُ بارتكابِ الكبائرِ عندَ أهلِ الحقِّ، وما عداهُ خطأٌ واضحٌ [533] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/267). .
- وجِيءَ بـ (ثُم) الَّتي تُفيدُ التَّراخيَ في قولِه: ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا، مع أنَّ عدَمَ الارتيابِ يجِبُ أنْ يكونَ مُقارِنًا للإيمانِ؛ لأنَّ مَن وُجِد منه الإيمانُ رُبَّما اعتَرَضَه الشَّيطانُ أو بعضُ المُضلِّين بعْدَ ثَلجِ الصَّدْرِ، فشَكَّكه، وقذَفَ في قلْبِه ما يَثلِمُ يَقينَه، أو نظَرَ هو نظَرًا غيرَ سَديدٍ يَسقُطُ به على الشَّكِّ، ثمَّ يَستمِرُّ على ذلك راكبًا رأْسَه لا يَطلُبُ له مَخرجًا، فوُصِفَ المؤمنونَ حقًّا بالبُعدِ عن هذه المُوبِقاتِ. أو أنَّ الإيقانَ وزَوالَ الرَّيبِ لَمَّا كان مِلاكَ الإيمانِ، وكان هذا عظيمًا، والثَّباتُ عليه أعظَمَ -وهو عَينُ الحِكمةِ-؛ أشارَ إلى عظيمِ مَزيَّةِ الثَّباتِ بقولِه: ثُمَّ، أي: بعدَ امتِطاءِ هذه الرُّتبةِ العظيمةِ لَمْ يَرْتَابُوا، أي: يُنازِعوا الفِطرةَ الأُولى في تعمُّدِ التَّسبُّبِ إلى الشَّكِّ، ولم يُوقِعوا الشَّكَّ في وقتٍ مِن الأوقاتِ الكائنةِ بعدَ الإيمانِ؛ فأُفرِدَ بالذِّكْرِ بعدَ تَقدُّمِ الإيمانِ؛ تَنبيهًا على مَكانِه، وعُطِفَ على الإيمانِ بكلمةِ التَّراخي؛ إشعارًا باستِقرارِه في الأزمنةِ المتراخيةِ المتطاوِلةِ غضًّا جديدًا. أو هو مِن تَرتيبِ الكلامِ لا مِن تَرتيبِ الزَّمانِ، أي: ثُمَّ أقولُ: لم يَرْتابوا [534] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/377)، ((تفسير البيضاوي)) (5/138)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) 14/515)، ((تفسير أبي حيان)) (9/524)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/ 389)، ((تفسير أبي السعود)) (8/124)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/267). .
- وأيضًا قولُه: ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا إيماءٌ إلى بَيانِ قولِه: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14] ، أي: مِن أجْلِ ما يُخالِجُكم ارتيابٌ في بَعضِ ما آمَنْتُم به ممَّا اطَّلَع اللهُ عليه [535] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/268). ، وهذا بِناءً على كونِهم منافِقين.
- قولُه: وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ المقصودُ مِن إدْماجِ ذِكْرِ الجِهادِ التَّنويهُ بفضْلِ المؤمنينَ المجاهِدينَ، وتَحريضُ الَّذين دخَلوا في الإيمانِ على الاستعدادِ إلى الجِهادِ [536] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/267). .
- وفي قولِه: أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ قصْرٌ، وهو قصْرٌ إضافيٌّ أيضًا [537] الحَصرُ أو القَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثاني: مقصورًا عليه، مثل: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أنْ يَختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِع، بألَّا يَتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثل: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإِلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصْرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مَبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتَنزيلِ غيرِ المذكور منزلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ(إنَّما)، والقصرُ بتَقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (3/7- 17)، ((الإتقان)) للسيوطي (2/134- 135)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 87 - 95)، ((البلاغة العربية)) للميداني (1/523). ، أي: هم الصَّادقونَ لا أنتُم في قَولِكم: آَمَنَّا [538] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/268). .
3- قولُه تعالَى: قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أُعِيدَ فِعلُ قُلْ؛ لِيَدُلَّ على أنَّ المَقولَ لهم هذا همُ الأعرابُ الَّذين أُمِرَ أنْ يقولَ لهم: لَمْ تُؤْمِنُوا إلى آخِرِه، فأُعِيدَ لَمَّا طالَ الفصْلُ بيْنَ القولَينِ بالجُمَلِ المُتتابِعةِ؛ فهذا مُتَّصلٌ بقولِه: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14] اتِّصالَ البيانِ بالمُبيَّنِ؛ ولذلك لم تُعطَفْ جُملةُ الاستِفهامِ. وجُملةُ (قُلْ) مُعترِضةٌ بيْنَ الجُملتينِ المُبيَّنةِ والمُبيِّنةِ [539] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/268). .
- قولُه: قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ قولُه: قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ، أيْ: أتُخبِرونَه بذلكَ بقولِكم: آَمَنَّا؟! والتَّعبيرُ عَنْه بالتَّعليمِ؛ لغايةِ تَشنيعِهم [540] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/124). ، والتَّعليمُ مُبالَغةٌ في إيصالِ العِلمِ إلى المُعلَّمِ؛ لأنَّ صِيغةَ التَّفعيلِ تَقتضي قوَّةً في حُصولِ الفِعلِ، وهذا يُفيدُ أنَّهم تَكلَّفوا وتَعسَّفوا في الاستِدلالِ على خُلوصِ إيمانِهم؛ ليُقنِعوا به الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الَّذي أبلَغَهم أنَّ اللهَ نَفَى عنْهم رُسوخَ الإيمانِ، فمُحاوَلةُ إقناعِه تَدَلٍّ إلى مُحاوَلةِ إقناعِ اللهِ بما يَعلَمُ خِلافَه [541] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/268). !
- والاستِفهامُ في أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ مُستعمَلٌ في التَّوبيخِ والإنكارِ، وقد أيَّدَ التَّوبيخَ والإنكارَ بجُملةِ الحالِ في قولِه: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، أي: أتُخبِرونَه به بقولِكم: آمَنَّا، واللهُ يعلمُ ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لا يَخفَى عليه خافيةٌ؟! وفي هذا تَجْهيلٌ لهم وتَوبيخٌ؛ إذ حاوَلوا إخفاءَ باطنِهم عن المُطَّلِعِ على كلِّ شيءٍ [542] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/378)، ((تفسير البيضاوي)) (5/138)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/269)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/278). ! وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
- وباءُ بِدِينِكُمْ صِلةٌ؛ لتأكيدِ لُصوقِ الفِعلِ بمَفعولِه [543] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/268). .
- وجُملةُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تَذْييلٌ مُقرِّرٌ لِمَا قبْلَه، أيْ: مبالِغٌ في العِلمِ بجميعِ الأشياءِ الَّتي مِن جُملتِها ما أخفَوهُ مِن الكُفرِ عندَ إظهارِهم الإيمانَ، وفيه مَزيدُ تَجْهيلٍ وتوبيخٍ لهم [544] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/124)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/269). . وذلك على القولِ بأنَّهم كانوا منافِقينَ.
4- قولُه تعالَى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ استِئنافٌ ابتدائيٌّ [545] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/269). .
- وجِيءَ بالمُضارعِ في يَمُنُّونَ، معَ أنَّ مَنَّهم بذلك حصَلَ فيما مَضَى؛ لاستِحضارِ حالةِ مَنِّهم؛ كيف يَمُنُّون بما لم يَفعَلوا؟! وجِيءَ بالمُضارعِ في قولِه: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ؛ لأنَّه مَنٌّ مَفروضٌ؛ لأنَّ المَمْنونَ به لَمَّا يَقَعْ، وفيه مِن الإيذانِ بأنَّه سيَمُنُّ عليهم بالإيمانِ ما في قولِه: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14] ، وهذا مِن التَّفنُّنِ البَديعِ في الكلامِ؛ ليَضَعَ السَّامعُ كلَّ فنٍّ منه في قَرارِه [546] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/270). .
- وتَقديمُ المُسنَدِ إليه على المُسنَدِ الفِعليِّ في قولِه: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ؛ لإفادةِ التَّقويةِ [547] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/270). .
- وقد أُضِيفَ الإسلامُ إلى ضَميرِهم أَنْ أَسْلَمُوا؛ لأنَّهم أتَوا بما يُسمَّى إسلامًا؛ لقولِه: وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14] . وأُتِي بالإيمانِ مُعرَّفًا بلامِ الجنسِ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ؛ لأنَّه حقيقةٌ في حدِّ ذاتِه، وأنَّهم مُلابِسوها [548] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/378)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/270). .
- قولُه: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ جَوابُ الشَّرطِ محذوفٌ؛ لدَلالةِ ما قَبْلَه عليه، تَقديرُه: إنْ كنتُم صادِقينَ في ادِّعائِكم الإيمانَ، فلِلَّهِ المِنَّةُ عليكم [549] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/378)، ((تفسير البيضاوي)) (5/138)، ((تفسير أبي السعود)) (8/124). .
- وفي سِياقِ الآيةِ لُطفٌ ورَشاقةٌ؛ وهو أنَّهم لَمَّا قالوا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: آَمَنَّا كما حكاهُ اللهُ آنِفًا، سمَّاهُ هُنا إسلامًا؛ لقولِه: وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14] ، أي: إنَّ الَّذي مَنُّوا به عليك إسلامٌ لا إيمانٌ. وأثبَتَ بحرْفِ (بل) أنَّ ما مَنُّوا به إنْ كان إسلامًا حقًّا مُوافِقًا للإيمانِ؛ فالمِنَّةُ للهِ لأنْ هَداهُم إليه، فأسْلَموا عن طَواعيةٍ. وسمَّاهُ إيمانًا مُجاراةً لزَعْمِهم؛ لأنَّ المَقامَ مَقامُ كَونِ المِنَّةِ للهِ؛ فمُناسَبةُ مُسايَرةِ زَعْمِهم أنَّهم آمَنوا، أي: لو فُرِضَ أنَّكم آمنْتُم كما تَزْعمون، فإنَّ إيمانَكم نِعمةٌ أنعَمَ اللهُ بها عَليكم؛ ولذلك ذيَّلَه بقَولِه: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ؛ فنَفى أوَّلًا أنْ يكونَ ما يَمُنُّون به حقًّا، ثمَّ أفادَ ثانيًا أنْ يكونَ الفضْلُ فيما ادَّعَوه لهم لو كانوا صادِقينَ، بل هو فضْلُ اللهِ [550] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/378)، ((تفسير البيضاوي)) (5/138)، ((تفسير أبي السعود)) (8/124)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/270). .
5- قولُه تعالَى: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ تَذييلٌ؛ ذُيِّلَ تَقويمُهم على الحقِّ بهذا التَّذييلِ ليَعلَموا أنَّ اللهَ لا يُكتَمُ، وأنَّه لا يُكذَبُ؛ لأنَّه يَعلَمُ كلَّ غائبةٍ في السَّماءِ والأرضِ؛ فإنَّهم كانوا في الجاهليَّةِ لا تَخطُرُ ببالِ كثيرٍ منهم أُصولُ الصِّفاتِ الإلهيَّةِ، ورُبَّما عَلِمَها بعضُهم [551] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/271). . فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أي: ما غابَ فيهما، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ في سرِّكم وعلانيتِكم، فكيفَ يخفَى عليه ما في ضَمائرِكم [552] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/124). ؟!
- وتأْكيدُ الخبَرِ بحرْفِ (إِنَّ)؛ لأنَّهم بحالِ مَن يُنكِرُ أنَّ اللهَ يَعلَمُ الغَيبَ، فكذَبوا على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، مع عِلمِهم أنَّه مُرسَلٌ مِن اللهِ، فكان كَذِبُهم عليه مِثلَ الكذِبِ على اللهِ [553] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/271). . وذلك بِناءً على أنَّهم كانوا مُنافقينَ.
- وقد أفادتْ هذه الجُملةُ تأْكيدَ مَضمونِ جُملَتَي وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحجرات: 16] ، ولكنَّ هذه زادَتْ بالتَّصريحِ بأنَّه يَعلَمُ الأمورَ الغائبةَ؛ لئلَّا يَتوهَّمَ مُتوهِّمٌ أنَّ العُمومَينِ في الجُملتَينِ قَبْلَها عُمومانِ عُرفيَّانِ قياسًا على عِلمِ البشرِ [554] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/271). .
- وخِتامُ سُورةِ الحُجراتِ بهذِه الآية الجليلةِ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ مع الْتِئامِه بما قبْلَه: فيه تَقريرُ ما في أوَّلِ السُّورةِ، وهو قولُه تعالَى: لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ [الحجرات: 1] ؛ فإنَّه لا يخفَى عليه سِرٌّ؛ فلا تَتْرُكوا خَوفَه في السِّرِّ، ولا يَخفَى عليه علَنٌ؛ فلا تأْمَنوه في العَلانيةِ [555] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/118). .