موسوعة التفسير

سُورةُ الحُجُراتِ
الآيات (1-5)

ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ

 غريب الكلمات:

تَحْبَطَ: أي: تَبطُلَ؛ فالحَبْطُ: البُطلانُ، وأصلُه مِن الحَبَطِ، وهو: أنْ تُكثِرَ الدَّابَّةُ أكْلًا حتَّى يَنتفِخَ بطْنُها فتَمُوتَ [5] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 82)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 186)، ((المفردات)) للراغب (ص: 216)، ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (1/331)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 106). .
يَغُضُّونَ: أي: يَخفِضُون ويَكُفُّون، والغضُّ: الكَفُّ في لِينٍ، ومنه: غضُّ البصَرِ، وهو كَفُّه عن النَّظرِ، وأصلُ (غضض): يدُلُّ على كَفٍّ ونقْصٍ [6] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/343)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/383)، ((تفسير القرطبي)) (16/308). .
امْتَحَنَ: أي: اختَبَر أو أخْلَصَ، والمَحْنُ: الاختبارُ [7] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/343)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/302)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 363)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 385). .

مشكل الإعراب:

1- قوله: لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
قولُه تعالى: لَا تُقَدِّمُوا فيه وَجْهانِ؛ أحدُهما: أنَّه مُتعَدٍّ، وحُذِفَ مَفعولُه: إمَّا اقتِصارًا، كقولِهم: هو يُعْطي ويَمنَعُ، وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [البقرة: 187] ، وإمَّا اختِصارًا؛ لِلدَّلالةِ عليه، أي: لا تُقَدِّموا ما لا يَصلُحُ. والثَّاني: أنَّه لازِمٌ، نحْوُ وَجَّه وتَوَجَّه [8] يُنظر: ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/1170)، ((الدر المصون)) للسمين (10/5). .
2- قوله: وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ
قَولُه تَعالى: كَجَهْرِ شِبهُ جُملةٍ مُتعَلِّقٌ بمَحذوفٍ في مَوضِعِ نصْبٍ نَعتٌ لِمَصدرٍ مَحْذوفٍ، تَقديرُه: جَهرًا كجَهْرِ... [9] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (2/680). .
وقولُه: أَنْ تَحْبَطَ مَفعولٌ مِن أجْلِه، وهو تَعليلٌ لِما قَبْلَه مِنَ النَّهيَينِ لَا تَرْفَعُوا و(لَا تَجْهَرُوا) على طريقِ التَّنازُعِ، بتقديرِ مُضافٍ، أي: مَخافةَ أنْ تَحبَطَ [10] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (2/680)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/1170)، ((الدر المصون)) للسمين (10/5، 6)، ((تفسير الألوسي)) (13/288). .
3- قوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ
قولُه: أَنَّهُمْ صَبَرُوا فاعلٌ بفِعلٍ مُقدَّرٍ، أي: ولو ثبَتَ صبْرُهم، واسمُ (كان) ضَميرٌ عائدٌ على هذا الفاعلِ. أو في مَحلِّ رفْعٍ بالابتداءِ، وخبَرُه مَحذوفٌ، ويكونُ اسمُ (كان) ضَميرًا عائدًا على (صَبْرِهم) المفهومِ مِن الفعلِ [11] يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين (10/7). .

المعنى الإجمالي:

يَنهى اللهُ تعالى عِبادَه المؤمنينَ أنْ يَتقدَّموا بيْنَ يَدَيِ اللهِ ورسولِه بقولٍ أو فِعلٍ، ويَأمُرُهم أنْ يَتَّقُوه بفِعلِ أوامرِه، واجتِنابِ نَواهِيه، فإنَّ اللهَ سبحانَه سَميعٌ لِكلِّ شَيءٍ، ومِن ذلك أقوالُهم، عليمٌ بكلِّ شَيءٍ، ومِن ذلك أعمالُهم ونِيَّاتُهم.
ويَنهاهم كذلك عن أنْ يُعْلوا أصْواتَهم فوقَ صَوتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعن أنْ تكونَ مُناداتُهم له باسمِه كما يكونُ النِّداءُ بيْنَهم بَعضِهم لبعضٍ؛ وذلك مَخافةَ أنْ تَبطُلَ أعمالُهم الصَّالِحةُ وهم لا يَشعُرون بذلك.
ثمَّ بيَّن تعالى أنَّ الَّذين يَخفِضونَ أصواتَهم عندَ رسولِ اللهِ أولئك الَّذين اختَبَر اللهُ قُلوبَهم فأخلَصَها وطهَّرها؛ لِيَكونوا أتْقياءَ، وأنَّ لهم مَغفرةً مِن اللهِ وثَوابًا عَظيمًا.
ثمَّ قال لنَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ الَّذين يُنادونَك يا محمَّدُ مِن وَراءِ بُيوتِ نِسائِك، أكثرُهم جاهِلون بدِينِ اللهِ، وما يجبُ تُجاهَك، ولو أنَّهم انتَظَروا حتَّى تَخرُجَ مِنْ بَيتِك مِن تِلْقاءِ نفْسِك، لَكان هذا خيرًا لهم، واللهُ غفورٌ رَحيمٌ.

تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1).
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
سَبَبُ النُّزولِ:
عن عبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيرِ رضِيَ اللهُ عنهما: (أنَّه قَدِمَ رَكْبٌ [12] الرَّكْبُ: أصحابُ الإبِلِ في السَّفَرِ، وهم العَشَرةُ فما فَوقَها. يُنظر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 127). مِن بني تَميمٍ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال أبو بكرٍ: أمِّرِ القَعْقاعَ بنَ مَعبَدِ بنِ زُرارةَ، قال عُمَرُ: بلْ أمِّرِ الأقرعَ بنَ حابِسٍ، قال أبو بكرٍ: ما أرَدْتَ إلَّا خِلافي! قال عمَرُ: ما أردْتُ خِلافَك، فتَمارَيَا [13] فتَماريَا: أَي: تجادَلَا وتخاصَمَا. يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (19/184). حتَّى ارتفَعَت أصواتُهما، فنزَلَ في ذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا حتَّى انقَضَت) [14] رواه البخاري (4367). .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
أي: يا أيُّها الَّذين آمَنوا لا تَعجَلوا بقَولٍ أو فِعلٍ قبْلَ أنْ يَأمُرَ به اللهُ ورسولُه، فكونوا تَبَعًا لِما يَأْمُرانِ به [15] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/335)، ((تفسير الزمخشري)) (4/349، 350)، ((تفسير ابن كثير)) (7/364)، ((تفسير السعدي)) (ص: 799)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 7 - 9). قال الشوكاني: (... لَا تُقَدِّمُوا ... فيه وَجهانِ؛ أحَدُهما: أنَّه مُتعَدٍّ وحُذِفَ مَفعولُه لِقَصدِ التَّعميمِ، أو تُرِكَ المفعولُ للقَصدِ إلى نفْسِ الفِعلِ، كقَولِهم: هو يُعطي ويمنَعُ. والثَّاني: أنَّه لازِمٌ، نحوُ: وَجَّه وتَوَجَّه، ويُعَضِّدُه قِراءةُ ابنِ عبَّاسٍ والضَّحَّاكِ ويَعقوبَ: تَقَدَّمُوا). ((تفسير الشوكاني)) (5/69). وقال ابنُ جُزَي: (لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فيه ثلاثةُ أقوالٍ؛ أحَدُها: لا تَتكَلَّموا بأمرٍ قبْلَ أن يَتكلَّمَ هو به، ولا تَقطَعوا في أمرٍ إلَّا بنَظَرِه. والثَّاني: لا تُقَدِّموا الوُلاةَ بمَحضَرِه؛ فإنَّه يُقِدِّمُ مَن شاء. والثَّالِثُ: لا تَتَقَدَّموا بيْنَ يديه إذا مشَى، وهذا إنَّما يجري على قراءةِ يَعقوبَ: لَا تَقَدَّمُوا بفَتحِ التَّاءِ والقافِ والدَّالِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/294). وقال القرطبي: (أي: لا تُقَدِّموا قَولًا ولا فِعلًا بيْنَ يَدَيِ اللهِ وقَولِ رَسولِه وفِعْلِه فيما سَبيلُه أن تأخُذوه عنه مِن أمرِ الدِّينِ والدُّنيا، ومَن قدَّم قَولَه أو فِعْلَه على الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقد قدَّمه على الله تعالى؛ لأنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إنَّما يأمُرُ عن أمْرِ اللهِ عزَّ وجَلَّ). ((تفسير القرطبي)) (16/300). وقال ابن القيِّم: (أي: لا تَقولوا حتَّى يقولَ، ولا تأمُروا حتَّى يأمُرَ، ولا تُفْتُوا حتَّى يُفْتيَ، ولا تَقطَعوا أمرًا حتَّى يَكونَ هو الَّذي يَحكُمُ فيه ويُمْضيه... والقَولُ الجامِعُ في معنى الآيةِ: لا تَعْجَلوا بقَولٍ ولا فِعْلٍ قبْلَ أن يَقولَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أو يَفعَلَ). ((إعلام الموقعين)) (1/41). ويُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/367). وقال ابن عُثيمين: (أي: لا تَتقدَّموا بيْنَ يَدَيِ اللهِ ورَسولِه، والمرادُ: لا تَسبِقوا اللهَ ورَسولَه بقَولٍ أو بفِعلٍ. وقيل: المعنى: لا تُقدِّموا شيئًا بيْنَ يَدَيِ اللهِ ورَسولِه. وكِلاهما يَصُبَّانِ في مَصَبٍّ واحدٍ، والمعنى: لا تَسبِقوا اللهَ ورَسولَه بقَولٍ ولا فِعلٍ). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 7). وقال الشنقيطي: (هذه الآيةُ الكريمةُ فيها التَّصريحُ بالنَّهيِ عن التَّقديمِ بيْنَ يَدَيِ اللهِ ورَسولِه، ويَدخُلُ في ذلك دُخولًا أوَّليًّا تشريعُ ما لم يأذَنْ به اللهُ، وتحريمُ ما لم يُحرِّمْه، وتحليلُ ما لم يُحلِّلْه؛ لأنَّه لا حرامَ إلَّا ما حرَّمه اللهُ، ولا حلالَ إلَّا ما أحلَّه اللهُ، ولا دِينَ إلَّا ما شرَعه اللهُ). ((أضواء البيان)) (7/401). وقال ابن الجوزي: (بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ... عبارةٌ عن الأمامِ؛ لأنَّ ما بيْنَ يَدَيِ الإِنسانِ أمامَه). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/143). .
كما قال تعالى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء: 65] .
وقال سُبحانه: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور: 51] .
وعن أنسِ بنِ مالكٍ رضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن رغِبَ عن سُنَّتي فليس مِنِّي )) [16] رواه البخاري (5063)، ومسلم (1401). .
وَاتَّقُوا اللَّهَ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا نَهَى، أمَرَ بالتَّقْوى؛ لأنَّ مِن التَّقوى اجتِنابَ المنْهيِّ عنه [17] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/507). .
وَاتَّقُوا اللَّهَ.
أي: واتَّخِذوا بيْنَكم وبيْنَ سَخَطِ اللهِ وعَذابِه وِقايةً وحاجزًا بفِعلِ أوامِرِه واجتنابِ نَواهِيهِ، واحْذَروا أنْ تَقولوا أو تَفعَلوا شيئًا لم يَأذَنْ لكم به اللهُ ولا رسولُه [18] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/337)، ((تفسير القرطبي)) (16/303)، ((تفسير ابن كثير)) (7/365)، ((تفسير السعدي)) (ص: 799)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/401)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 11). .
كما قال تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء: 36] .
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
أي: إنَّ اللهَ سَميعٌ لِكلِّ شَيءٍ، ومِن ذلك أقوالُ عِبادِه، عليمٌ بكلِّ شَيءٍ، ومِن ذلك أعمالُ عِبادِه وقُلوبُهم ونِيَّاتُهم، لا يَخفى عليه شَيءٌ مِن أُمورِهم [19] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/337)، ((تفسير القرطبي)) (16/303)، ((تفسير ابن كثير)) (7/365)، ((تفسير السعدي)) (ص: 799)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/401). .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ هذا شُروعٌ في النَّهيِ عنِ التَّجاوُزِ في كَيفيَّةِ القَولِ عندَ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، بعْدَ النَّهيِ عنِ التَّجاوُزِ في نفْسِ القولِ والفِعلِ [20] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/116). .
سَبَبُ النُّزولِ:
عن ابنِ أبي مُلَيكةَ، قال: (كادَ الخَيِّرانِ أنْ يَهلِكَا: أبو بكرٍ وعمَرُ رضِيَ اللهُ عنهما! رفَعَا أصواتَهما عندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حينَ قَدِمَ عليه ركْبُ بني تَميمٍ، فأشار أحَدُهما بالأقرَعِ بنِ حابسٍ أخي بَني مُجاشِعٍ، وأشار الآخَرُ برَجُلٍ آخَرَ، فقال أبو بكرٍ لعُمَرَ: ما أردْتَ إلَّا خِلافي، قال: ما أردْتُ خِلافَك، فارتفَعَتْ أصواتُهما في ذلك، فأنزَلَ اللهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) [21] رواه البخاري (4845). .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ.
أي: يا أيُّها الَّذين آمَنوا لا تَرْفَعوا أصواتَكم فوقَ صَوتِ نبيِّ اللهِ محمَّدٍ؛ فاخْفِضوا أصواتَكم، وخاطِبوه بأدَبٍ ولِينٍ وتَعظيمٍ واحترامٍ [22] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/338)، ((تفسير ابن كثير)) (7/365-368)، ((تفسير السعدي)) (ص: 799)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/401). قال الشنقيطي: (ما تَضمَّنَته هذه الآيةُ الكريمةُ مِن لُزومِ تَوقيرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وتَعظيمِه واحتِرامهِ؛ جاء مُبيَّنًا في مَواضِعَ أُخَرَ، كقولِه تعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح: 9] ، على القولِ بأنَّ الضَّميرَ في وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. وقولِه تعالى: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور: 63] ...، وقولِه تعالى: فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ [الأعراف: 157] ). ((أضواء البيان)) (7/402). .
عن أنسِ بنِ مالكٍ رضِيَ اللهُ عنه، ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم افتقَدَ ثابتَ ابنَ قَيسٍ، فقال رجُلٌ: يا رسولَ اللهِ، أنا أعلَمُ لكَ عِلْمَه، فأتاهُ فوجَدَه جالسًا في بَيتِه مُنكِّسًا رأْسَه [23] نكَّسَ رأسَه: أي: طأطَأَ وأطرَقَ ونظَرَ إلى الأرضِ كالمُتفَكِّرِ. يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (6/166). ، فقال: ما شأْنُك؟ فقال: شرٌّ، كان يَرفَعُ صَوتَه فوقَ صَوتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقد حبِطَ عمَلُه، وهو مِن أهلِ النَّارِ، فأتى الرَّجُلُ فأخبَرَه أنَّه قال كذا وكذا، فقال مُوسى بنُ أنسٍ: فرجَعَ المرَّةَ الآخِرةَ ببِشارةٍ عَظيمةٍ، فقال: اذهَبْ إليه فقُلْ له: إنَّك لسْتَ مِن أهْلِ النَّارِ، ولكنْ مِن أهْلِ ال جنَّةِ)) [24] رواه البخاري (3613) واللفظ له، ومسلم (119). .
وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ.
أي: ولا تُنادوا النَّبيَّ باسْمِه حينَ تُخاطِبونه كما يُنادي بعضُكم بعضًا، ولكنْ قُولوا: يا نبيَّ اللهِ، أو: يا رسولَ اللهِ، بصَوتٍ مُنخفِضٍ، مع تَعظيمٍ وإجلالٍ يَليقُ به [25] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/338)، ((تفسير القرطبي)) (16/306)، ((تفسير ابن كثير)) (7/368)، ((تفسير السعدي)) (ص: 799)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/401، 402)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 16). قال ابن الجوزي: (قوله تعالى: وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ فيه قَولانِ: أحدُهما: أنَّ الجهرَ بالصَّوتِ في المُخاطَبةِ، قاله الأكثَرونَ. والثَّاني: لا تَدْعوه باسمِه: يا محمَّدُ، كما يَدعو بعضُكم بعضًا، ولكنْ قولوا: يا رسولَ الله، ويا نبيَّ الله. وهو معنى قولِ سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، والضَّحَّاكِ، ومُقاتِلٍ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/143). ممَّن اختار القولَ الأوَّلَ: السَّمْعانيُّ، والزمخشري، والبيضاوي، وابنُ كثير، والبِقاعي، وأبو السعود، والشوكاني، والقاسمي، والسعدي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/214)، ((تفسير الزمخشري)) (4/352)، ((تفسير البيضاوي)) (5/133)، ((تفسير ابن كثير)) (7/368)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/356)، ((تفسير أبي السعود)) (8/116)، ((تفسير الشوكاني)) (5/70)، ((تفسير القاسمي)) (8/517)، ((تفسير السعدي)) (ص: 799)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/220). وممَّن اختار القولَ الثَّانيَ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، والسمرقندي، ومكِّي، والثعلبي، والواحدي، والبغوي، والقرطبي، والخازن، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/89)، ((تفسير ابن جرير)) (21/338)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/32)، ((تفسير السمرقندي)) (3/323)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/6987)، ((تفسير الثعلبي)) (9/71)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1015)، ((تفسير البغوي)) (4/253)، ((تفسير القرطبي)) (16/306)، ((تفسير الخازن)) (4/176)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/401). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: مُجاهِدٌ، والضَّحَّاكُ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/338، 339)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/143). وممَّن جمَع بيْنَ القَولَينِ: ابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 16). .
كما قال الله تعالى: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور: 63] .
أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ.
أي: لا تَفعَلوا ذلك؛ لئلَّا تَبطُلَ أعمالُكم الصَّالِحةُ وأنتم لا تَعلَمون بذلك [26] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/342)، ((تفسير القرطبي)) (16/306)، ((تفسير السعدي)) (ص: 799)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/221، 222)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/ 402، 403)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 17). قال ابن تَيميَّةَ: (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ، أي: حذَرَ أن تحبَطَ أعمالُكم، أو خشيةَ أن تَحبَطَ أعمالُكم، أو كَراهةَ أن تَحبَطَ، أو مَنْعَ أن تَحبَطَ، هذا تقديرُ البَصريِّينَ، وتقديرُ الكوفيِّينَ: لئلَّا تَحبَطَ). ((الصارم المسلول)) (ص: 54). .
كما قال تعالى: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة: 65، 66].
وعن أبي هُرَيرةَ رضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ العبْدَ لَيَتكلَّمُ بالكَلمةِ ما يَتبيَّنُ ما فيها، يَهْوي بها في النَّارِ أبْعَدَ ما بيْنَ المَشرِقِ والمغرِبِ! )) [27] رواه البخاري (6477)، ومسلم (2988) واللَّفظُ له. .
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3).
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى.
أي: إنَّ الَّذين يَخفِضونَ أصواتَهم عندَ رسولِ الله؛ أدَبًا معه وتَعظيمًا له: هم الَّذين اختبَرَ اللهُ قُلوبَهم بالأوامرِ والنَّواهي والبَلاءِ، فأخلَصَها وطهَّرها مِن كلِّ شرٍّ؛ لِيَكونوا أتْقياءَ يَمتثِلونَ الأوامرَ، ويَجتنِبونَ النَّواهيَ؛ حذَرًا مِن سَخَطِ اللهِ وعَذابِه [28] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/343)، ((تفسير القرطبي)) (16/308، 309)، ((تفسير ابن كثير)) (7/368)، ((تفسير السعدي)) (ص: 799)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/223). قال ابن الأنباري: (قال الله عزَّ وجلَّ: أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى معناه: اختارها وأخلَصها). ((الزاهر في معاني كلمات الناس)) (1/406). .
كما قال الله تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج: 32].
عن المِسْوَرِ بنِ مَخْرَمةَ، ومَرْوانَ بنِ الحَكَمِ في حديثِ صُلْحِ الحُدَيبيَةِ: ((... قال عُروةُ بنُ مَسعودٍ الثَّقَفيُّ لِقُريشٍ حِينَ رجَعَ مِن عندِ رسولِ الله: أيْ قَومِ، واللهِ لقد وفَدْتُ على الملوكِ، ووفَدْتُ على قَيصرَ، وكِسرى، والنَّجاشيِّ، واللهِ إنْ رأيتُ مَلِكًا قَطُّ يُعظِّمُه أصحابُه ما يُعظِّمُ أصحابُ محمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- محمَّدًا، واللهِ إنْ تَنخَّمَ نُخامةً إلَّا وقَعَت في كفِّ رجُلٍ منهم، فدلَكَ بها وجْهَه وجِلْدَه، وإذا أمَرَهم ابتَدَروا [29] ابتَدَروا أمْرَه: أي: أسرَعوا إلى فِعْلِه. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقَسْطَلَّاني (4/447). أمْرَه، وإذا تَوضَّأَ كادُوا يَقتَتِلون على وَضوئِه [30] وَضُوئِه، بفتحِ الواوِ: أي: فَضلةِ الماءِ الَّذي توضَّأَ به صلَّى الله عليه وسلَّم. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقَسْطَلَّاني (4/447). ، وإذا تكلَّمَ خَفَضوا أصواتَهم عندَه، وما يُحِدُّون [31] ما يُحِدُّونَ إليه النَّظَرَ: أي: لا يَتأمَّلونَه ولا يُديمونَ النَّظَرَ إليه. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقَسْطَلَّاني (4/447). إليه النَّظرَ؛ تَعظيمًا له)) [32] رواه البخاري (2731). .
وعن حُذيفةَ بنِ اليَمانِ رضِيَ اللهُ عنهما، قال: سمِعْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((تُعرَضُ الفِتنُ على القُلوبِ كالحصيرِ عُودًا عُودًا            [81] أي: تَظهَرُ بها فِتنةٌ بعدَ أخرى، كما   يُنسَجُ الحَصيرُ عُودًا عُودًا. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) لعلي القاري (8/3378).     ، فأيُّ قلْبٍ أُشرِبَها، نُكِت            [82] نُكِتَ: أي: نُقِطَ. يُنظر: ((شرح النووي   على مسلم)) (2/172).      فيه نُكْتةٌ سَوداءُ، وأيُّ قلْبٍ أنكَرَها، نُكِت فيه نُكْتةٌ بَيضاءُ، حتَّى تَصيرَ على قَلبَينِ؛ على أبيضَ مِثلِ الصَّفا            [83] الصَّفا: أي: الحَجَرِ الأملَسِ الَّذي لا   يَعلَقُ به شَيءٌ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (2/172).     ، فلا تضُرُّه فِتْنةٌ ما دامَتِ السَّمواتُ والأرضُ، والآخَرُ أسودُ مُرْبَادًّا            [84] مُرْبادًّا: أي: صار كلَونِ الرَّمادِ، مِنَ   الرُّبْدةِ: لَونٌ بيْنَ السَّوادِ والغُبْرةِ. يُنظر:   ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (8/3378).     ، كالكُوزُ مُجَخِّيًا            [85] مُجَخِّيًا: أي: مائِلًا مَنكوسًا. يُنظر:   ((شرح النووي على مسلم)) (2/173).     ، لا يَعرِفُ مَعروفًا، ولا يُنكِرُ مُنكَرًا، إلَّا ما أُشرِبَ مِن هَواهُ))            [86] رواه مسلم (144).     .
وعن عبدِ اللهِ بنِ الزُّبيرِ رضِيَ اللهُ عنهما، قال: (كان عمَرُ بعْدُ أي: بعدَ نزولِ قولِه تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ... إذا حدَّثَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بحديثٍ حدَّثَه كأخِي السِّرارِ [39] أي: كصاحِبِ السِّرارِ لا يرفَعُ صَوتَه إذا حدَّثَه، بل يكَلِّمُه كلامًا مِثلَ المُسارَّةِ وشِبْهِها؛ لِخَفضِ صَوتِه. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقَسْطَلَّاني (10/316). ، لم يُسْمِعْه حتَّى يَستفهِمَه) [40] رواه البخاري (7302). .
وعن عمْرِو بنِ العاصِ رضِيَ اللهُ عنه، قال: (ما كان أحدٌ أحَبَّ إلَيَّ مِن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا أجَلَّ في عَينيَّ منه، وما كنتُ أُطِيقُ أنْ أملَأَ عَينيَّ منه؛ إجلالًا له، ولو سُئِلتُ أنْ أصِفَه ما أطقْتُ؛ لأنِّي لم أكُنْ أملَأُ عَيْنيَّ منه!) [41] رواه مسلم (121). .
لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ.
أي: لهم مِن اللهِ مَغفرةٌ لذُنوبِهم فيَستُرُها عليهم، ويَتجاوَزُ عن مُؤاخَذتِهم بها، ولهم ثوابٌ منه جَزيلٌ [42] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/344)، ((تفسير السعدي)) (ص: 799)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 20). .
إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
المُناسَبةُ أنَّ المُناداةَ مِن وَراءِ الحُجراتِ فيها رفْعُ الصَّوتِ وإساءةُ الأدَبِ، واللهُ قد أمَرَ بتَوقيرِ رَسولِه وتَعظيمِه [43] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/510). .
وأيضًا لَمَّا نَهى اللهُ سُبحانه عن الإخلالِ بالأدَبِ، وأمَرَ بالمُحافَظةِ على التَّعظيمِ، وذكَرَ وصْفَ المُطيعِ؛ أتْبَعَ ذلك -على سَبيلِ النَّتيجةِ- وصْفَ مَن أخَلَّ به [44] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/359). .
إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4).
أي: إنَّ الَّذين يُنادونَك مِن وَراءِ بُيوتِ نِسائِك -يا محمَّدُ- أكثَرُهم جاهِلون بدِينِ الله وما يجِبُ عليهم مِن تَعظيمِك، والتَّأدُّبِ معك [45] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/344، 345)، ((تفسير ابن كثير)) (7/368)، ((تفسير السعدي)) (ص: 799)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/225). قال النَّيْسابوري: (أمَّا إخبارُ اللهِ تعالى عنهم بأنَّ أكثَرَهم لا يَعقِلون؛ فإمَّا لأنَّ الأكثَرَ أُقيمَ مُقامَ الكلِّ على عادةِ الفُصحاءِ كَيْلَا يكونَ الكلامُ بصَددِ المنعِ، وإمَّا لأنَّ الحُكمَ بقِلَّةِ العُقلاءِ فيهم عِبارةٌ عن العدَمِ؛ فإنَّ القِلَّةَ تقَعُ مَوقِعَ النَّفْيِ في كلامِهم، وإمَّا لأنَّ فيهم مَن رجَع ونَدِم على صَنيعِه، فاستَثْناه اللهُ تعالى). ((تفسير النيسابوري)) (6/ 159). وقال الألوسي: (الحُكمُ على الأكثَرِ دُونَ الكلِّ بذلك؛ لأنَّ منهم مَن لم يَقصِدْ ترْكَ الأدبِ، بل نادى لأمرٍ ما على ما قيل. وجُوِّز أن يكونَ المرادُ بالقِلَّةِ الَّتي يدُلُّ عليها نفْيُ الكَثرةِ العدَمَ؛ فإنَّه يُكْنى بها عنه، وتعقَّبه أبو حيَّان بأنَّ ذلك في صريحِ القِلَّةِ، لا في المفهومِ مِن نفْيِ الكَثرةِ). ((تفسير الألوسي)) (13/ 293). ويُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/ 511). وقال القاسمي: (ونسَب إلى الأكثَرِ؛ لأنَّه قد يَتبعُ عاقِلٌ جماعةَ الجهَّالِ، مُوافَقةً لهم). ((تفسير القاسمي)) (8/ 519). وقال ابن عثيمين: (وقَولُه: أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ يُفهَمُ منه أنَّ بَعضَهم يَعقِلُ، وأنَّه لم يَحصُلْ منه رفْعُ صَوتٍ، بل هو متأدِّبٌ مع رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وعلى آلِه وسلَّم). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 21). قال البِقاعي: (لَا يَعْقِلُونَ؛ لأنَّهم لم يَصبِروا، بل فعَلوا معه صلَّى الله عليه وسلَّم كما يَفعَلُ بعضُهم مع مَن يُماثِلُه! والعَقلُ يَمنعُ مِن مِثلِ ذلك لِمَن اتَّصَف بالرِّئاسةِ، فكيف إذا كانت رِئاسةَ النُّبوَّةِ والرِّسالةِ عن المَلِكِ الجَبَّارِ، الواحِدِ القَهَّارِ؟!). ((نظم الدرر)) (18/361). وقال ابن عُثيمين: (المرادُ بالعَقلِ هنا عَقْلُ الرُّشدِ؛ لأنَّ العَقلَ عَقلانِ: عَقْلُ رُشدٍ، وعَقْلُ تَكليفٍ؛ فأمَّا عَقْلُ الرُّشدِ فضِدُّه السَّفَهُ، وأمَّا عَقلُ التَّكليفِ فضِدُّه الجُنونُ... فالمرادُ بقَولِه هنا: أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ أي: عَقْلَ رُشْدٍ؛ لأنَّهم لو كانوا لا يَعقِلونَ عَقْلَ تكليفٍ لم يكُنْ عليهم لَومٌ ولا ذَمٌّ؛ لأنَّ المجنونَ فاقِدُ العَقلِ، لا يَلحَقُه لَومٌ ولا ذمٌّ). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 21). وقال ابن عاشور: (ونَفيُ العقلِ عنهم مُرادٌ به عقلُ التَّأدُّبِ الواجبِ في مُعامَلةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو عقلُ التَّأدُّبِ المغفولِ عنه في عادَتِهم الَّتي اعتادوها في الجاهِليَّةِ مِن الجفاءِ والغلظةِ والعُنْجُهيَّةِ، وليس فيها تحريمٌ ولا تَرتُّبُ ذَنْبٍ). ((تفسير ابن عاشور)) (26/ 225). .
عن البَراءِ بنِ عازِبٍ رَضيَ الله عنهما في قولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ، قال: ((فقام رجُلٌ فقال: يا رسولَ اللهِ، إنَّ حمْدي زَينٌ، وإنَّ ذمِّي شَينٌ! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ذاك اللهُ)) [46] أخرجه الترمذي (3267) واللَّفظُ له، والنسائيُّ في ((السنن الكبرى)) (11515). قال الترمذي: (حسَنٌ غريبٌ). وجوَّد إسنادَه ابنُ كثير في ((البداية والنهاية)) (5/42)، وصحَّح الحديثَ الألبانيُّ في ((صحيح سنن الترمذي)) (3267). .
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5).
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ.
أي: ولو أنَّهم انتَظَروا خُروجَك مِن بَيتِك -يا محمَّدُ- مِن تِلْقاءِ نفْسِك، ولم يُنادوك مِن وَراءِ حُجُراتِك تَعظيمًا لك؛ لَكان خَيرًا وأصلَحَ لهم في دِينِهم ودُنياهم وآخِرتِهم [47] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/348)، ((تفسير ابن عطية)) (5/146)، ((تفسير القرطبي)) (16/310)، ((تفسير ابن كثير)) (7/368، 369)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/361، 362)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 21). قال ابن عطيَّة: (قَولُه تعالى: لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ يعني: في الثَّوابِ عندَ اللهِ، وفي انبِساطِ نَفْسِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقَضائِه لحوائجِهم، ووُدِّه لهم، وذلك كُلُّه خيرٌ، لا مَحالةَ أنَّ بَعضَه انْزَوى بسَبَبِ جَفائِهم). ((تفسير ابن عطية)) (5/146). .
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
أي: واللهُ بالِغُ المغفرةِ لِذُنوبِ عِبادِه، فيَستُرُها عليهم ويَتجاوَزُ عن مُؤاخَذتِهم بها، بالِغُ الرَّحمةِ بهم [48] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/348)، ((تفسير السعدي)) (ص: 799)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/227). .

الفوائد التربوية:

1- عن ابنِ مسعودٍ رَضيَ الله عنه، قال: (إذا سمِعتَ اللهَ يقولُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا فأرْعِها سمعَك؛ فإنَّه خَيرٌ يَأمُر به، أو شرٌّ يَنهَى عنه) [49] رواه ابن أبي حاتم في ((تفسيره)) (1/196)، وأبو نُعَيم في ((حلية الأولياء)) (1/130)، وصحَّح إسنادَه أحمدُ شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/619). .
2- قولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، مُتضمِّنٌ للأدَبِ مع اللهِ تعالى، ومع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والتَّعظيمِ له، واحترامِه، وإكرامِه، فأمَرَ اللهُ عِبادَه المؤمنينَ بما يَقتضيهِ الإيمانُ باللهِ وبرسولِه؛ مِنِ امتِثالِ أوامرِ اللهِ تعالى، واجتنابِ نَواهيهِ، وأنْ يَكونوا ماشينَ خلْفَ أوامرِ اللهِ، مُتَّبِعينَ لسُنَّةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في جميعِ أُمورِهم، وألَّا يَتقدَّموا بيْنَ يدَيِ اللهِ ورسولِه، ولا يَقولوا حتَّى يقولَ، ولا يَأمُروا حتَّى يَأمُرَ؛ فإنَّ هذا حقيقةُ الأدبِ الواجبِ مع اللهِ ورسولِه، وهو عُنوانُ سَعادةِ العبْدِ وفَلاحِه، وبِفَواتِه تَفوتُه السَّعادةُ الأبَديَّةُ، والنَّعيمُ السَّرْمَديُّ، وفي هذا النَّهيُ الشَّديدُ عن تَقديمِ قولِ غيرِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على قولِه؛ فإنَّه متى استبانَتْ سُنَّةُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وجَبَ اتِّباعُها، وتَقديمُها على غَيرِها، كائنًا ما كان [50] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 799). ، والتَّقدُّمُ بيْنَ يدَيْ سُنَّتِه بعْدَ وَفاتِه كالتَّقدُّمِ بيْن يَدَيْه في حَياتِه، ولا فَرْقَ بيْنَهما عندَ ذي عقْلٍ سليمٍ [51] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/367). .
3- قولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، في ذِكرِ الاسمَينِ الكريمَينِ سَمِيعٌ عَلِيمٌ -بعْدَ النَّهيِ عن التَّقدُّمِ بيْن يَدَيِ اللهِ ورسولِه، والأمرِ بتَقْواهُ- حثٌّ على امتثالِ تلك الأوامرِ الحَسَنةِ، والآدابِ المُستحسَنةِ، وتَرهيبٌ عن عدَمِ الامتثالِ [52] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 799). .
4- قولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ استَدلَّ به العُلماءُ على المنْعِ مِن رفْعِ الصَّوتِ بحَضْرةِ قَبرِه الشَّريفِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعندَ قِراءةِ حَديثِه؛ لأنَّ حُرمَتَه ميِّتًا كحُرْمتِه حيًّا [53] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 241). ، وكلامُه المأثورُ بعدَ مَوتِه في الرِّفْعةِ مِثلُ كَلامِه المَسموعِ مِن لَفظِه؛ فإذا قُرِئَ كَلامُه وَجَب على كُلِّ حاضِرٍ ألَّا يَرفَعَ صَوتَه عليه، ولا يُعرِضَ عنه، كما كان يَلزَمُه ذلك في مَجلِسِه عندَ تلَفُّظِه به [54] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/146). .
5- في قولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ دَليلٌ أنَّ على النَّاسِ -وإنْ تواضَعَ لهم إمامُهم، وغَضَّ لهم جَناحَه- أنْ يُوَقِّروه، ولا يُنْزِلوه مِن أنْفُسِهم مَنزِلةَ بَعضِهم مِن بَعضٍ، وأنْ يَنتظِروه لحَوائجِهم -وإنْ رَفَعَ حِجابَه- حتَّى يَخرُجَ إليهم [55] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/173). .
6- قولُ اللهُ تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ تأْديبٌ لهم، وتَعليمُهم مَحاسِنَ الأخلاقِ، وإزالةٌ لِعَوائدِ الجاهليَّةِ الذَّميمةِ [56] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/227). ، فأدَبُ العبدِ عُنوانُ عقْلِه، وأنَّ اللهَ مُريدٌ به الخيرَ [57] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 799). .
7- قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ، أي: الَّذي يَتلقَّى عن اللهِ، وتلَقِّيه عنه مُتوقَّعٌ في كلِّ وقتٍ، وهذا يدُلُّ على أنَّ أذى العُلماءِ -الَّذين هيَّأَهم اللهُ لتَلقِّي فَهْمِ دِينِه عنه- شديدٌ جدًّا؛ فإنَّ تَكديرَ أوقاتِهم يَمنَعُهم عن كثيرٍ مِن ذلك [58] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/356). .
8- قال ابنُ عَقيلٍ: ما أخْوَفَني أن أُساكِنَ مَعصيةً فتَكونَ سَببًا في سُقوطِ عَمَلي، وسُقوطِ مَنزِلةٍ -إن كانت- عندَ اللهِ تعالى، بَعدَما سَمِعتُ قَولَه تعالى: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ، وهذا يدُلُّ على أنَّ في بَعضِ التَّسَبُّبِ وسُوءِ الأدَبِ على الشَّريعةِ ما يُحبِطُ الأعمالَ، ولا يَشعُرُ العامِلُ أنَّه عِصيانٌ يَنتهي إلى رُتبةِ الإحباطِ، وهذا يَترُكُ الفَطِنَ خائِفًا وَجِلًا مِنَ الإقدامِ على المآثِمِ، ثمَّ خَوفًا أن يكونَ تَحتَها مِنَ العُقوبةِ ما يُشاكِلُ هذه [59] يُنظر: ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (2/317). !
9- قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ، فحذَّرَ المؤمِنينَ مِن حُبوطِ أعمالِهم بالجَهْرِ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كما يَجهَرُ بعضُهم لبعضٍ، وإنَّ مَعرفةَ ما يُفسِدُ الأعمالَ في حالِ وُقوعِها ويُبطِلُها ويُحبِطُها بعْدَ وُقوعِها؛ مِن أهمِّ ما يَنْبغي أنْ يُفتِّشَ عليه العبدُ، ويَحرِصَ على عمَلِه ويَحذَرَه، فمُحبِطاتُ الأعمالِ ومُفسِداتُها أكثرُ مِن أنْ تُحصَرَ، وليس الشَّأنُ في العمَلِ، إنَّما الشَّأنُ في حِفظِ العمَلِ ممَّا يُفسِدُه ويُحبِطُه؛ فالرِّياءُ وإنْ دقَّ مُحبِطٌ للعمَلِ، وهو أبوابٌ كثيرةٌ لا تُحصَرُ، وكونُ العملِ غيرَ مُقيَّدٍ باتِّباعِ السُّنةِ أيضًا مُوجِبٌ لكَونِه باطلًا، والمَنُّ به على اللهِ تعالى بقلْبِه مُفسِدٌ له، وكذلك المَنُّ بالصَّدقةِ والمعروفِ والبِرِّ والإحسانِ والصِّلةِ؛ مُفسِدٌ لها، كما قال سُبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى [البقرة: 264] ، وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن ترَكَ صلاةَ العصْرِ فقد حَبِطَ عمَلُه)) [60] أخرجه البخاري (553) مِن حديث بُرَيدةَ رضيَ الله عنه. ، وأكثَرُ النَّاسِ ما عِندَهم خبَرٌ مِن السَّيِّئاتِ الَّتي تُحبِطُ الحسَناتِ [61] يُنظر: ((الوابل الصيب من الكلم الطيب)) لابن القيم (ص: 11). قال ابن القيم: (والحُبوطُ نَوعانِ: عامٌّ وخاصٌّ، فالعامُّ: حُبوطُ الحَسناتِ كلِّها بالرِّدَّةِ، والسَّيِّئاتِ كلِّها بالتَّوبةِ، والخاصُّ: حُبوطُ السَّيِّئاتِ والحَسناتِ بَعضِها ببَعضٍ، وهذا حُبوطٌ مُقيَّدٌ جُزئيٌّ). ((الصلاة وأحكام تاركها)) (ص: 66). وقال ابن تيميَّةَ: (أمَّا الصَّحابةُ وأهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ فعلى أنَّ ... الكبيرةَ الواحدةَ لا تُحبِطُ جميعَ الحسَناتِ، ولكنْ قد يُحبَطُ ما يُقابِلُها عندَ أكثَرِ أهلِ السُّنَّةِ، ولا يُحبِطُ جميعَ الحسَناتِ إلَّا الكفرُ، كما لا يُحبِطُ جميعَ السَّيِّئاتِ إلَّا التَّوبةُ). ((مجموع الفتاوى)) (10/ 321، 322). .
10- قولُ اللهِ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى، فيه دليلٌ على أنَّ اللهَ يَمتحِنُ القلوبَ، بالأمْرِ والنَّهيِ والمِحَنِ، فمَنْ لازَمَ أمْرَ اللهِ، واتَّبَع رِضاهُ، وسارَعَ إلى ذلك، وقدَّمَه على هواهُ؛ تَمحَّضَ وتَمحَّصَ للتَّقْوى، وصار قلْبُه صالحًا لها، ومَن لم يكُنْ كذلك، عُلِمَ أنَّه لا يَصلُحُ للتَّقوى [62] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 799). ، فالآيةُ فيها أنَّ التَّقوى لا تَظهَرُ إلَّا عندَ المِحَنِ والشَّدائدِ بالتَّكليفِ وغيرِها، ولا تَثبُتُ إلَّا بمُلازَمةِ الطَّاعةِ في المَنشَطِ والمَكرَهِ [63] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/359). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، يُحتَجُّ به في اتِّباعِ الشَّرعِ في كلِّ شَيءٍ [64] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لِلْكِيَا الهَرَّاسي (4/381). ، وهو حُجَّةٌ على مَن يَبْتغي معَ القرآنِ والسُّنَّةِ سِواهما، ويَلْتَمِسُ الحُجَّةَ في غيرِهما [65] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/172). !
2- تَصديرُ اللهِ الخِطابَ بقَولِه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا يدُلُّ على أنَّ التِزامَ ما خُوطِبَ به: مِن مُقتَضياتِ الإيمانِ، وأنَّ مخالَفَتَه نَقْصٌ في الإيمانِ [66] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 7). .
3- قولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يُحتجُّ به في تَقديمِ النَّصِّ على القِياسِ [67] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 241). .
4- قولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يُؤيِّدُ قولَ الفُقهاءِ: إنَّ المكلَّفَ لا يُقدِمُ على فِعلٍ حتَّى يَعلَمَ حُكْمَ اللهِ فيه [68] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/216). .
5- قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، ذُكِرَ الرَّسولُ مع الله؛ للإشارةِ إلى أنَّ طاعةَ اللهِ لا تُعلَمُ إلَّا بقولِ الرَّسولِ، فهذه طاعةٌ للرَّسولِ تابِعةٌ لِطاعةِ اللهِ [69] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/218). .
6- قولُه تعالى: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، السَّمعُ الَّذي اتَّصَف به ربُّنا عزَّ وجلَّ يَنقسِمُ إلى قِسمَينِ: سمْعِ إدراكٍ، وسمْعِ إجابةٍ، فسَمْعُ الإدراكِ معْناهُ أنَّ اللهَ يَسمَعُ كلَّ صَوتٍ خَفِيَ أو ظهَرَ. أمَّا سمْعُ الإجابةِ فمعْناه: أنَّ اللهَ يَستجِيبُ لِمَن دعاهُ، ومنه قولُ إبراهيمَ: إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ [إبراهيم: 39] ، أي: مُجيبُ الدُّعاءِ، ومنه قولُ المصَلِّي: (سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَه)، يعني: استجابَ لِمَن حَمِدَه فأثابَه [70] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 13، 14). .
7- قال تعالى: وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ، أي: لا تُنادُوه باسْمِه، كـ: يا محمَّدُ -على قولٍ-. وقد دلَّت آياتٌ مِن كِتابِ اللهِ على أنَّ اللهَ تعالى لا يُخاطِبُه في كِتابِه باسْمِه، وإنَّما يُخاطِبُه بما يدُلُّ على التَّعظيمِ والتَّوقيرِ؛ كقوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأنفال: 64] ، يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ [المائدة: 41] ، يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [المزمل: 1] ، يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر: 1] ، مع أنَّه يُنادي غيرَه مِن الأنبياءِ بأسْمائِهم؛ كقولِه: وَقُلْنَا يَا آَدَمُ [البقرة: 35] ، وقولِه: وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ [الصافات: 104] ، وقولِه: قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود: 46] ، قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا [هود: 48] ، وقولِه: قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ [الأعراف: 144] ، وقولِه: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ [آل عمران: 55] ، وقولِه: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً [71] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/402). ويُنظر الفرقُ بينَ مقامِ الإخبارِ ومقامِ المخاطبةِ (ص: 182). [ص: 26] .
8- قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ إذا ثبَتَ أنَّ رفْعَ الصَّوتِ فوقَ صَوتِ النَّبيِّ، والجهرَ له بالقَولِ يُخافُ منه أن يَكفُرَ صاحِبُه وهو لا يَشعُرُ، ويَحبَطَ عمَلُه بذلك، وأنَّه مَظِنَّةٌ لذلك، وسببٌ فيه؛ فمِنَ المعلومِ أنَّ ذلك لِما يَنبغي له مِن التَّعزيرِ والتَّوقيرِ، والتَّشريفِ والتَّعظيمِ، والإكرامِ والإجلالِ، ولِما أنَّ رفْعَ الصَّوتِ قد يَشتمِلُ على أذًى له، أو استِخفافٍ به، وإن لم يَقصِدِ الرَّافِعُ ذلك [72] يُنظر: ((الصارم المسلول على شاتم الرسول)) لابن تيمية (ص: 55). وقال ابن تيميَّة: (وقولُه تعالى: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ؛ لأنَّ ذلك قد يَتضمَّنُ الكفرَ فيَقتضي الحُبوطَ وصاحِبُه لا يدري...، فنهاهم عن ذلك لأنَّه يُفضي إلى الكفرِ المُقتضِي لِلحُبوطِ. ولا ريبَ أنَّ المعصيةَ قد تكونُ سببًا للكفرِ، كما قال بعضُ السَّلفِ: المعاصي بريدُ الكفرِ؛ فيُنهى عنها خشيةَ أن تُفضي إلى الكفرِ المُحبِطِ). ((مجموع الفتاوى)) (7/ 494). .
9- قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ، فإذا كان رفْعُ أصواتِهم فوقَ صَوتِه سببًا لِحُبوطِ أعمالِهم؛ فكيف تَقديمُ آرائِهم وعُقولِهم، وأذواقِهم وسِياساتِهم ومَعارِفِهم على ما جاء به، ورفْعُها عليه؟! أليس هذا أَولى أنْ يكونَ مُحبِطًا لأعمالِهم [73] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/41). ؟!
10- قولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ احتجَّ به المعتزِلةُ على أهلِ السُّنَّةِ على أنَّ الكبائرَ بمَنزِلةِ الشِّركِ في الإحباطِ، وأنَّ ذلك مُستلزِمٌ الخُلودَ في النَّارِ.
والجوابُ أنَّ ذلك مَردودٌ؛ لِوُجوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّه يجوزُ أن يكونَ الإحباطُ بسببِ تجويزِ الوُقوعِ في الكفرِ بسببِ الاستِهانةِ برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ومِن أجْلِ أنَّ ذلك قد يؤدِّي إليها على جهةِ التَّجويزِ جاء بأنِ المَصدريَّةِ الَّتي للتَّخويفِ، أي: مخافةَ أن تحبَطَ أعمالُكم، ولو كان ذلك استِهانةً مَحْضةً أو كانت الاستِهانةُ لازِمةً له ولا بُدَّ، لَما جاء بهذه الصِّيغةِ.
الوجهُ الثَّاني: أنَّه فرقٌ واضحٌ بيْن أن يقولَ: «تَحبَط» مِن غيرِ إدخالِ «أنِ» المَصدريَّةِ، ويكونَ مجزومًا في إعرابِه، تقديرُه: إن تَفعَلوا ذلك تَحْبَطْ أعمالُكم؛ وبيْنَ إدخالِ «أنِ» المَصدريَّةِ، ولا شكَّ أنَّ الصُّورةَ الأُولى تدُلُّ على الإحباطِ، وأنَّ دُخولَ «أنْ» قد غيَّرَ معناها إلى معنَى التَّخويفِ الَّذي قد يقَعُ وقد لا يقَعُ.
الوجهُ الثَّالثُ: أنَّا لو سَلَّمْنا دَلالةَ ذلك على أنَّ في ذُنوبِ المُسلِمينَ ما يُحْبِطُ العملَ، لم يَستَلزِمْ أنَّ الإحباطَ يَستلزِمُ الخُلودَ؛ لأنَّه لا مانِعَ مِن أن يَحبَطَ عمَلُ العبدِ ويَدخُلَ الجنَّةَ برَحمةِ الله تعالى؛ فقد دخلَها الصِّبيانُ بغيرِ عمَلٍ، ويَخلُقُ اللهُ لِفُضولِ الجنَّةِ خَلْقًا لم يَعمَلوا، ولم يُكَلَّفوا، كما ثبَت في البُخاريِّ [74] يُنظر ما أخرجه البخاريُّ (4850)، ومسلمٌ (2846) مِن حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضي الله عنه، وما أخرجه البخاريُّ (7384)، ومسلمٌ (2848) مِن حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رضيَ الله عنه. وغيرِه [75] يُنظر: ((العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم)) لابن الوزير (9/ 75، 76). وقال ابنُ المُنَيِّرِ في مَعرِضِ ردِّه على الزمخشريِّ: (المرادُ في الآيةِ النَّهيُ عن رفعِ الصَّوتِ على الإطلاقِ، ومعلومٌ أنَّ حُكمَ النَّهيِ الحذَرُ ممَّا يُتوقَّعُ في ذلك مِن إيذاءِ النَّبيِّ عليه السَّلامُ، والقاعدةُ المُختارةُ أنَّ إيذاءَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يَبلُغُ مَبلَغَ الكفرِ المُحبِطِ للعمَلِ باتِّفاقٍ، فورَدَ النَّهيُ عمَّا هو مَظِنَّةٌ لأذى النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، سواءٌ وُجِد هذا المعنى أوْ لا؛ حمايةً لِلذَّريعةِ، وحَسْمًا للمادَّةِ، ثمَّ لَمَّا كان هذا المنهيُّ عنه -وهو رفعُ الصَّوتِ- مُنقسِمًا إلى ما يَبلُغُ ذلك المَبلَغَ أو لا، ولا دليلَ يميِّزُ أحدَ القِسمَينِ عن الآخَرِ؛ لَزِمَ المُكلَّفَ أن يَكُفَّ عن ذلك مُطلَقًا، وخوفَ أن يقَعَ فيما هو مُحبِطٌ للعمَلِ، وهو البالغُ حدَّ الإيذاءِ؛ إذ لا دليلَ ظاهرٌ يُمَيِّزُه، وإن كان فلا يَتَّفِقُ تمييزُه في كثيرٍ مِن الأحيانِ، وإلى الْتِباسِ أحدِ القِسمَينِ بالآخَرِ وقعَتِ الإشارةُ بقولِه: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ). ((تفسير الزمخشري- حاشية ابن المنيِّر)) (4/354). .
11- قولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ، فيه مِن خَصائصِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: تَحريمُ رفْعِ الصَّوتِ عليه، والجَهْرِ له بالقولِ [76] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 241). .
12- قولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ، هذا النَّهيُ مَخصوصٌ بغَيرِ المواضعِ الَّتي يُؤمَرُ بالجَهرِ فيها؛ كالأذانِ، وتَكبيرِ يومِ العيدِ، وبغيرِ ما أذِنَ فيه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذْنًا خاصًّا؛ كقولِه للعبَّاسِ حِينَ انهزَمَ المسلِمونَ يومَ حُنَينٍ: ((أيْ عبَّاسُ، نادِ أصحابَ السَّمُرةِ)) [77] أخرجه مسلم (1775) من حديثِ العبَّاسِ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ رضيَ الله عنه. ، وكان العبَّاسُ جَهيرَ الصَّوتِ [78] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/220). .
13- قولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ، فيه سُؤالٌ: ما الفائدةُ مِن قولِه: وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ، مع أنَّ الجَهرَ مُستفادٌ مِن قولِه: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ؟
الجوابُ مِن وُجوهٍ:
الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ المنْعَ مِن رفْعِ الصَّوتِ هو: ألَّا يَجعَلَ كلامَه أو صَوتَه أعْلى مِن كلامِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أو صَوتِه، والنَّهيُ عن الجَهرِ منْعٌ مِن المُساواةِ، أي: لا تَجهَروا له بالقولِ كما تَجهَرون لنُظرائِكم، بل اجْعَلوا كَلمتَه عُلْيا [79] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/ 93)، ((تفسير ابن عادل)) (17/525). .
الوجْهُ الثَّاني: أنَّ فائدةَ ذِكرِ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ بعْدَ قولِه: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ: النَّهيُ عن الجَهرِ في مُخاطَبتِه، وإنْ لم يَتضمَّنْ رفْعَ أصواتِهم على صَوتِه.
الوجْهُ الثَّالثُ: أنَّ المرادَ النَّهيُ عن مُخاطَبتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم باسمِه [80] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 527، 528). .
14- قال الله تعالى: وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ، ظاهرُ هذه الآيةِ الكريمةِ أنَّ الإنسانَ قد يَحبَطُ عمَلُه وهو لا يَشعُرُ، وقد قيل: (إنَّه لا يَحبَطُ عمَلُه بغيرِ شُعورِه)، وظاهرُ الآيةِ يرُدُّ على ذلك [81] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/403). .
15- قال اللهُ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ لم يَصِفْهم بكُفْرٍ ولا نِفاقٍ؛ لكنَّ هؤلاء يُخْشى عليهم الكفْرُ والنِّفاقُ؛ ولهذا ارتَدَّ بَعضُهم؛ لأنَّهم لم يُخالِطِ الإيمانُ بَشاشةَ قُلوبِهم [82] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/247). .
16- قال اللهُ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى حُرمةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعْدَ وَفاتِه كحُرمتِه في أيَّامِ حَياتِه، وبه تَعلَمُ أنَّ ما جَرَت به العادةُ اليَومَ مِنِ اجتِماعِ النَّاسِ قُرْبَ قبْرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهمْ في صَخَبٍ ولَغَطٍ، وأصواتُهم مُرتفِعةٌ ارتِفاعًا مُزعِجًا؛ كلُّه لا يَجوزُ، ولا يَليقُ، وإقرارُهم عليه مِن المنكَرِ. وقد شدَّدَ عمَرُ رضِيَ اللهُ عنه النَّكيرِ على رجُلينِ رفَعَا أصواتَهما في مَسجدِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقال: (لو كُنتُما مِن أهلِ البلدِ لَأوجَعْتُكما، تَرْفَعانِ أصواتَكما في مسجدِ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [83] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/403). وأثرُ عمرَ أخرجه البخاري (470). .
17- قال اللهُ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى في هذه الآيةِ إشارةٌ إلى أنَّ الصَّلاحَ صَلاحُ القلْبِ؛ لقولِه: امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى، وكما قال النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في الحديثِ الصَّحيحِ [84] أخرجه مسلم (2564) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رضيَ الله عنه. : ((التَّقوى هاهنا. ويُشيرُ إلى صَدْرِه)) [85] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 20). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ تَوطئةٌ للنَّهيِ عن رفْعِ الأصواتِ عندَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والجَهْرِ له بالقولِ، ونِدائِه مِن وَراءِ الحُجراتِ [86] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/216). .
- قولُه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا فيه تَصْديرُ الخِطابِ بالنِّداءِ؛ لتَنبيهِ المخاطَبينَ على أنَّ ما في حَيِّزِه أمْرٌ خَطيرٌ يَسْتدعِي مَزيدَ اعتِنائِهم بشَأْنِه، وفرْطِ اهتِمامِهم بتَلقِّيه ومُراعاتِه. ووَصْفُهم بالإيمانِ؛ لتَنشيطِهمْ، والإيذانِ بأنَّه داعٍ إلى المُحافَظةِ عليهِ، ووازِعٌ عن الإخلالِ به [87] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/115)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/215). .
- وفي تَكريرِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خمْسَ مرَّاتٍ في هذه السُّورةِ فائدةٌ بلاغيَّةٌ لَطيفةٌ؛ وهي إظهارُ الشَّفقةِ على المُسترشِدِ، وإبداءُ المُناصَحةِ له على آكَدِ وجهٍ؛ لِيُقبِلَ على استِماعِ الكلامِ ويُعيرَه بالَه، ولتَحديدِ المُخاطَبينَ بالذَّاتِ، وأنَّهم هم المَعنيُّونَ بالمُناصَحةِ، وفيه أيضًا استدعاءٌ لتَجديدِ الاستِبصارِ، والتَّيقُّظِ والتَّنبُّهِ عندَ كلِّ خِطابٍ [88] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/261). .
- وفي قولِه تعالى: لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِن غَيرِ ذِكرِ مَفعولٍ وَجهانِ؛ أحدُهما: أنْ يُحذَفَ لِيَتناوَلَ كلَّ ما يقَعُ في النَّفْسِ ممَّا يُقدَّمُ [89] ومِن قواعدِ التَّفسيرِ: أنَّ حذفَ المتعلَّقِ يُفيدُ العمومَ النِّسْبيَّ. يُنظر: ((قواعد التفسير)) لخالد السبت (ص: 597-599). ، وفي الحذْفِ مِن البلاغةِ ما ليس في الذِّكرِ؛ لأنَّ الخَيالَ يَذهَبُ فيه كلَّ مَذهبٍ. والثَّاني: ألَّا يُقصَدَ مَفْعولٌ ولا حذْفُه، ويُتوجَّهُ بالنَّهيِ إلى نفْسِ التَّقدِمةِ، كأنَّه قِيل: لا تُقْدِموا على التَّلبُّسِ بهذا الفِعلِ، ولا تَجْعلوه منكم بسَبيلٍ [90] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/349)، ((تفسير البيضاوي)) (5/133)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/431)، ((تفسير أبي حيان)) (9/507)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 527)، ((تفسير أبي السعود)) (8/115، 116)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/216)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/261). .
- والنَّهيُ هنا للتَّحذيرِ؛ إذ لم يَسبِقْ صُدورُ فِعلٍ مِن أحدٍ افتياتًا على الشَّرعِ. ويجوزُ أنْ يُجرى مُجرَى قَولِك: سرَّني زَيدٌ وحُسْنُ حالِه، وأُعجِبْتُ بعَمْرٍو وكَرَمِه، فأصلُ الكلامِ: لا تُقدِّموا بيْن يدَيْ رَسولِ اللهِ، وفائدةُ هذا الأسلوبِ: الدَّلالةُ على قُوَّةِ الاختِصاصِ، ولَمَّا كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن اللهِ بالمكانِ الَّذي لا يَخْفى، سُلِكَ به ذلك المَسلكُ؛ فالمقصودُ مِن الآيةِ النَّهيُ عن إبرامِ شَيءٍ دونَ إذْنٍ مِن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فذُكِرَ قبْلَه اسمُ اللهِ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ مُرادَ اللهِ إنَّما يُعرَفُ مِن قِبَلِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولتَعظيمِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والإيذانِ بجَلالةِ مَحلِّه عندَه عزَّ وجَلَّ [91] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/349)، ((تفسير البيضاوي)) (5/113)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/433)، ((تفسير أبي حيان)) (9/507)، ((تفسير أبي السعود)) (8/ 116)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/216). .
- وعطْفُ وَاتَّقُوا اللَّهَ تَكملةٌ للنَّهيِ عن التَّقدُّمِ بيْنَ يدَيِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ليَدُلَّ على أنَّ تَرْكَ إبرامِ شَيءٍ دونَ إذْنِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن تَقوى اللهِ وَحْدَه، أي: ضِدُّه ليس مِن التَّقْوى [92] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/219). .
- وجُملةُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ في مَوضعِ العلَّةِ للنَّهيِ عن التَّقدُّمِ بيْنَ يدَيِ اللهِ ورسولِه، وللأمْرِ بتَقوى اللهِ [93] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/219). .
- وذِكرُ هاتَينِ الصِّفتَينِ كِنايةٌ عن التَّحذيرِ مِن المخالَفةِ؛ ففي ذلك تأْكيدٌ للنَّهيِ والأمرِ [94] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/219). .
- وجُعِلَت هذه الآيةُ في صَدْرِ السُّورةِ مُقدِّمةً على تَوبيخِ وَفْدِ بني تميمٍ حينَ نادَوُا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن وَراءِ الحُجُراتِ؛ لأنَّ ما صدَرَ مِن بني تَميمٍ هو مِن قَبيلِ رفْعِ الصَّوتِ عندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولأنَّ مُماراةَ أبي بكرٍ وعُمرَ، وارتِفاعَ أصواتِهما كانت في قَضيَّةِ بني تَميمٍ، فكانت هذه الآيةُ تمْهيدًا لقَولِه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ الآيةَ؛ لأنَّ مَن خصَّه اللهُ بهذه الحُظْوةِ -أي: جعَلَ إبرامَ العملِ بدُونِ أمْرِه كإبرامِه بدُونِ أمْرِ اللهِ- حَقيقٌ بالتَّهيُّبِ والإجلالِ أنْ يُخفَضَ الصَّوتُ لدَيْه. وإنَّما قُدِّمَ هذا على تَوبيخِ الَّذين نادَوُا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّ هذا أَوْلى بالاعتِناءِ؛ إذ هو تأْديبُ مَن هو أَولى بالتَّهذيبِ [95] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/350)، ((تفسير أبي حيان)) (9/507)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/217، 218). .
2- قولُه تعالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ تَوطئةٌ لقولِه: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [96] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/219). [الحجرات: 4] .
- وإعادةُ النِّداءِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ثانيًا معَ قُربِ العَهْدِ به؛ لاستِدعاءِ مَزيدِ الاستِبصارِ، والمُبالَغةِ في الاتِّعاظِ [97] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/133). ، والتَّنبيهِ والإيقاظِ، ولِيَكونَ في ذلك بَيانُ زِيادةِ الشَّفقةِ على المُسترشِدِ؛ لأنَّ النِّداءَ لتَنبيهِ المنادَى ليُقبِلَ على استِماعِ الكلامِ، ويَجعَلَ بالَهُ منه، فإعادتُه تُفيدُ ذلك، ولئلَّا يَتوهَّمَ مُتوهِّمٌ أنَّ المخاطَبَ ثانيًا غيرُ المخاطَبِ أوَّلًا، ولِيُعلَمَ أنَّ كلَّ واحدٍ مِن الكلامَينِ مَقصودٌ، وليس الثَّاني تأكيدًا للأوَّلِ، ففيه إباستِقلالِ كُلٍّ مِن الكَلامَينِ باستِدعاءِ الاعتِناءِ بشأنِه، وأنَّه غرَضٌ جَديرٌ بالتَّنبيهِ عليه بخُصوصِه؛ حتَّى لا يَنغمِرَ في الغرَضِ الأوَّلِ؛ فإنَّ هذا مِن آدابِ سُلوكِ المؤمنينَ في مُعامَلةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومُقْتضَى التَّأدُّبِ بما هو آكَدُ مِن المُعامَلاتِ [98] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/351)، ((تفسير الرازي)) (28/93)، ((تفسير البيضاوي)) (5/133)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/432)، ((تفسير أبي حيان)) (9/507)، ((تفسير أبي السعود)) (8/116)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/219). .
- واللَّامُ في لَهُ لتَعديةِ تَجْهَرُوا؛ لأنَّ تَجْهَرُوا في معْنى: تَقولوا؛ فدلَّتِ اللَّامُ على أنَّ هذا الجَهرَ يَتعلَّقُ بمُخاطبَتِه صلَّى الله عليه وسلَّم، وزادَه وُضوحًا التَّشبيهُ في قولِه: كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ [99] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/221). .
- وقولُه: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ مَنصوبٌ على أنَّه مَفعولٌ له، والعاملُ فيه وَلَا تَجْهَرُوا أو لَا تَرْفَعُوا، ومعَ ذلِك فمِن حيثُ المعْنى: حُبوطُ العَملِ عِلَّةٌ في كُلٍّ مِن الرَّفعِ والجَهرِ. وفي مُتعلَّقِه وَجهانِ؛ أحدُهما: أنْ يَتعلَّقَ بمَعْنى النَّهيِ، فيَكونَ المَعْنى: انتَهُوا عمَّا نُهِيتُم عنه؛ لِحُبوطِ أعمالِكم، أي: لِخَشيةِ حُبوطِها، على تَقْديرِ حذْفِ المُضافِ. والثَّاني: أنْ يَتعلَّقَ بنفْسِ الفِعلِ، ويَكونَ المعْنى: أنَّهم نُهُوا عن الفِعلِ الَّذي فَعَلوه مِن أجْلِ الحُبوطِ؛ لأنَّه لَمَّا كان بصَدَدِ الأداءِ إلى الحُبوطِ، جُعِل كأنَّه فُعِلَ مِن أجْلِه، وكأنَّه العِلَّةُ والسَّببُ في إيجادِه على طَريقةِ التَّمثيلِ، أي: تَشبيهِ الحالِ بالحالِ؛ فإنَّ فِعلَهم لَمَّا أدَّى إلى الحُبوطِ، فكأنَّهم قصَدوا مِن أجْلِه، كقولِه تعالَى: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [100] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/354)، ((تفسير البيضاوي)) (5/133)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/445)، ((تفسير أبي حيان)) (9/508)، ((تفسير أبي السعود)) (8/ 116)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/221). [القصص: 8] .
- وفي هذا النَّهيِ ما يَشملُ صَنيعَ الَّذين نادَوُا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن وراءِ الحُجُراتِ؛ فيَكونُ تَخلُّصًا مِن المقدِّمةِ إلى الغرَضِ المقصودِ، ويَظهَرُ حُسْنُ مَوقِعِ قولِه بعدَه: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [101] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/221). [الحجرات: 4] .
3- قولُه تعالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ
- قولُه: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى استِئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ التَّحذيرَ الَّذي في قولِه: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ [الحجرات: 2] يُثيرُ في النَّفْسِ أنْ يَسألَ سائلٌ عن ضِدِّ حالِ الَّذي يرفَعُ صَوتَه [102] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/222). . وهو تَرْغيبٌ في الانتِهاءِ عمَّا نُهُوا عنه، بعدَ التَّرهيبِ عن الإخلالِ به [103] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/117). .
- وافتِتاحُ الكلامِ بحرفِ التأْكيدِ (إنَّ)؛ للاهتمامِ بمَضمونِه مِن الثَّناءِ عليهم، وجَزاءِ عمَلِهم، وتُفيدُ الجُملةُ تَعليلَ النَّهيَينِ بذِكرِ الجزاءِ عن ضِدِّ المنْهيِّ عنهما، وأكَّدَ هذا الاهتِمامَ باسمِ الإشارةِ في قولِه: أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى، مع ما في اسمِ الإشارةِ مِن التَّنبيهِ على أنَّ المشارَ إليهم جَديرون بالخبَرِ المذكورِ بعْدَه؛ مِن أجْلِ ما ذُكِرَ مِن الوصْفِ قبْلَ اسمِ الإشارةِ [104] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/222). .
- ومُحصِّلُ معنَى قولِه: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ وقولِه: وَلَا تَجْهَرُوا [الحجرات: 2] : الأمْرُ بخفْضِ الصَّوتِ عندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وبه يتَّضحُ وَجْهُ العُدولِ عن نَوطِ الثَّناءِ هنا بعَدَمِ رفْعِ الصَّوتِ وعدَمِ الجَهرِ عندَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى نَوطِه بَغضِّ الصَّوتِ عندَه [105] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/222، 223). .
- وقولُه: أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى الامتحانُ: الاختِبارُ والتَّجرِبةُ، وهو افتِعالٌ مِن مَحَنَه؛ إذا اختبَرَه، وصِيغةُ الافتِعالِ فيه للمُبالَغةِ. واللَّامُ في قَولِه: لِلتَّقْوَى لامُ العِلَّةِ، والتَّقديرُ: امتحَنَ قُلوبَهم مِن أجْلِ التَّقْوى، أي: لِتَكونَ فيها التَّقوى، أي: لِيَكونوا أتْقياءَ؛ فيَجوزُ أنْ يُجعَلَ الامتحانُ كِنايةً على تَمكُّنِ التَّقْوى مِن قُلوبِهم وثَباتِهم عليها، بحيثُ لا يُوجَدون في حالٍ ما غيرَ مُتَّقينَ، وهي كِنايةٌ تَلويحيَّةٌ [106] تَنقسِمُ الكِنايةُ باعتِبارِ الوسائطِ (اللَّوازِمِ) والسِّياقِ إلى أربعةِ أقسامٍ: تعريضٍ، وتلويحٍ، ورمْزٍ، وإيماءٍ؛ فالتَّعريضُ: هو أنْ يُطلَقَ الكلامُ ويُشارَ به إلى معنًى آخَرَ يُفهَمُ مِن السِّياقِ؛ نحو قولِك للمؤْذِي: «المُسلِمُ مَن سَلِمَ المسلمونَ مِن لِسانِه ويَدِه»؛ تعريضًا بنَفيِ صِفةِ الإسلامِ عن المؤذِي. والتَّلويحُ: هو الَّذي كثُرَتْ وسائطُه بلا تعريضٍ، ويُنتقَلُ فيه إلى الملزومِ بواسطةِ لَوازِمَ؛ نحو قولِ المرأةِ في حديثِ أمِّ زَرْعٍ: (زوجي رفيعُ العِمادِ، طويلُ النِّجادِ، عظيمُ الرَّمادِ)، فقولُها: (عظيمُ الرَّمادِ) يدُلُّ على كثرةِ الجَمرِ، وهي تدلُّ على كثرةِ إحراقِ الحطَبِ، وهي تدلُّ على كثرةِ الطَّبائخِ، وهي تدلُّ على كثرةِ الأكَلةِ، وهي تدلُّ على كثرةِ الضِّيفانِ، وهي تدلُّ على أنَّه مِضْيافٌ؛ فانتقل الفكرُ إلى جملةِ وسائطَ. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 402 وما بعدها)، ((التبيان في البيان)) للطِّيبي (145-155)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (2/300)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 286- 290). لِكَونِ الانتقالِ بعِدَّةِ لَوازِمَ؛ فالامتِحانُ والتَّجرِبةُ يُوجِبانِ مُزاوَلةَ الأمرِ ومُعالَجتَه مرَّةً بعْدَ أُخرَى، وذلك يُوجِبُ التَّمرُّنَ فيه، والمُتمَرِّنُ مُضطلِعٌ فيه. ويجوزُ أنْ يكونَ الامتحانُ مِن إطلاقِ السَّببِ على المُسبَّبِ؛ فإنَّ الامتحانَ سَببُ المعرفةِ [107] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/355)، ((تفسير البيضاوي)) (5/133)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/452)، ((تفسير أبي حيان)) (9/508)، ((تفسير أبي السعود)) (8/117)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/223). .
- فإنْ قيل: اختِصاصُ (النَّبيِّ) بالذِّكرِ في الآيةِ الثَّانيةِ كان لتَبْجيلِ جانبِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وذِكْرُ (رَسولِه) في الأُولى كان مِن أجْلِ الاحتِذاءِ على أمثلةِ الكِتابِ والسُّنَّةِ؛ فلِمَ خُولِفَ ورجَعَ في هذه الآيةِ إلى ما بُدِئَ به؟ فالجوابُ: ليُؤذِنَ بأفضالِ اللهِ في حقِّ أولئك الكَمَلةِ، وتأْديبِه إيَّاهم، وأنَّهم إنَّما غضُّوا أصواتَهم عندَ رسولِ اللهِ، ولم يَرفَعوا بها مِثلَ أولئك؛ لأنَّ اللهَ زيَّنَ باطنَهم باكتِساءِ لِباسِ التَّقْوى، حتَّى سَرى إلى ظاهرِهم بالتَّأدُّبِ بيْنَ يدَيِ المولى، ومَن أرسلَه إليهم وأكْرَمَهم بهِ، ومِن ثَمَّ نُسِبَ امْتَحَنَ إلى اللهِ تعالى، وجِيءَ به ماضيًا، وأُسْنِدَ يَغُضُّونَ إليهم، وأُتِيَ به بمُضارِعِه دالًّا به على الاستِمرارِ، كأنَّه قيلَ: إنَّ الَّذين دَأَبُهم وعادتُهم التَّأدُّبُ في حضْرةِ الرِّسالةِ إنَّما اختُصُّوا به؛ لأنَّه تعالى هو الَّذي أدَّبَهم بإرسالِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإنزالِ الكتابِ والحِكمةِ، حتَّى هُذِّبوا هذا التَّهذيبَ [108] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/453، 454). .
- وجُملةُ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ خبَرُ (إنَّ)، وهو المَقصودُ مِن هذه الجُملةِ المستأنَفةِ، وما بيْنَهما اعتِراضٌ؛ للتَّنويهِ بشأْنِه. أو خبَرٌ آخَرُ لحرفِ (إنَّ)، أو استِئنافٌ لبيانِ جزائِهم [109] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/133، 134)، ((تفسير أبي السعود)) (8/117)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/223). .
- وهذه الآيةُ بنظْمِها الَّذي رُتِّبت عليه؛ مِن إيقاعِ الغاضِّين أصواتَهم اسمًا لـ (إنَّ) المؤكِّدةِ، وتَصييرِ خبَرِها جُملةً مِن مُبتَدأٍ وخبَرٍ مَعْرِفتَينِ مَعًا أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى، واستِئنافِ الجُملةِ المُستودَعةِ ما هو جَزاؤُهم على عمَلِهم، وإيرادِ الجَزاءِ نَكِرةً مُبهَمًا أمْرُه -ناظرةٌ في الدَّلالةِ على غايةِ الاعتِدادِ والارتِضاءِ لِمَا فعَلَ الَّذين وقَّروا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن خَفضِ أصواتِهم، وفيها الإعلامُ بمَبلَغِ عِزَّةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقَدْرِ شَرَفِ مَنزِلَتِه، وفيها تَعريضٌ بعظيمِ ما ارتكَبَ الرَّافِعون أصواتَهم، واستِيجابِهم ضدَّ ما استوجَبَ هؤلاء [110] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/356)، ((تفسير البيضاوي)) (5/133، 134)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/454، 455)، ((تفسير أبي السعود)) (8/117)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/223). .
4- قولُه تعالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ بَيانٌ لِجُملةِ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ [الحجرات: 2] بَيانًا بالمثالِ، وهو سَببُ النُّزولِ؛ فهذا شُروعٌ في الغرَضِ، والَّذي نشَأَ عنه ما أوجَبَ نُزولَ صدْرِ السُّورةِ فافتُتِحَ به؛ لأنَّ التَّحذيرَ والوعدَ -اللَّذَينِ جُعِلَا مِن أجْلِه- صالِحانِ لأنْ يَكونَا مُقدِّمةً للمقصودِ؛ فحصَلَ بذلك نسْجٌ بَديعٌ، وإيجازٌ جليلٌ، وإنْ خالَفَ تَرتيبُ ذِكرِه تَرتيبَ حُصولِه في الخارجِ، وقد صادَفَ هذا التَّرتيبُ المَحَزَّ أيضًا؛ إذْ كان نداؤُهم مِن وَراءِ الحُجُراتِ مِن قَبيلِ الجَهرِ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالقَولِ كجَهْرِ بعضِهم لبعضٍ؛ فكان النَّهيُ عن الجَهْرِ له بالقولِ تخلُّصًا لذِكرِ نِدائِه مِن وراءِ الحُجُراتِ [111] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/224). .
- والمرادُ بـ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ رِجالُ وفْدِ بني تميمٍ، وإسنادُ فِعلِ النِّداءِ إلى ضَميرِ الَّذِينَ؛ لأنَّ جميعَهم نادَوْه، أو ناداهُ بعضُهم وكان الباقون راضِينَ، فكأنَّهم تَولَّوه جميعًا [112] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/357)، ((تفسير البيضاوي)) (5/134)، ((تفسير أبي حيان)) (9/511)، ((تفسير أبي السعود)) (8/118)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/225)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/261). .
- والتَّعبيرُ بصِيغةِ المضارعِ في يُنَادُونَكَ؛ لاستِحضارِ حالةِ ندائِهم [113] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/227). .
- قولُه: مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ كِنايةٌ عن مَوضِعِ خَلوتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومَقيلِه مع بعضِ نِسائِه، وقد ازدادَتِ الكِنايةُ بإيقاعِ الحُجُراتِ مُعرَّفةً بالألِفِ واللَّامِ دونَ الإضافةِ إليه، وفي ذلك مِن حُسنِ الأدبِ ما لا يَخفى [114] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/261). . وكذلك فتَعريفُ الْحُجُرَاتِ باللَّامِ تَعريفُ العهْدِ؛ لأنَّ قَولَه: يُنَادُونَكَ مُؤذِنٌ بأنَّ الحُجراتِ حُجراتُه؛ فلذلك لم تُعرَّفْ بالإضافةِ [115] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/227). .
- قولُه: مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ مُناداةُ مَن نادَوْه مِن وَرائِها يَحتمِلُ أنَّهم قد تَفرَّقوا على الحُجراتِ مُتطلِّبينَ له، فناداهُ بعضٌ مِن وَراءِ هذه، وبعضٌ مِن وَراءِ تلك؛ فأُسنِدَ فِعلُ الأبعاضِ إلى الكلِّ. أو أنَّهم قد أَتَوها حُجرةً حُجرةً، فنادَوه مِن وَرائها. أو أنَّهم نادَوه مِن وَراءِ الحُجْرةِ الَّتي كان فيها، ولكنَّها جُمِعَت الْحُجُرَاتِ إجلالًا لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولِمَكانِ حُرمَتِه، كأنَّ الجمْعَ يُبطِلُ خُصوصيَّةَ حُجرةٍ دونَ حُجرةٍ [116] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/357)، ((تفسير البيضاوي)) (5/134)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/458)، ((تفسير أبي السعود)) (8/118). .
- وإنَّما ذُكِرَ الْحُجُرَاتِ دونَ البُيوتِ؛ لأنَّ البَيتَ كان بيتًا واحدًا مُقسَّمًا إلى حُجُراتٍ تسْعٍ [117] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/227). .
- وفي وُرودِ الآيةِ على النَّمَطِ الَّذي وردَتْ عليه: ما لا يَخفى على النَّاظرِ مِن بيِّناتِ إكبارِ مَحَلِّ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وإجلالِه؛ منها: مَجيئُها على النَّظمِ المُسجَّلِ على الصَّائحِينَ به بالسَّفَهِ والجهلِ؛ لِمَا أقدَموا عليه. ومنها: المرورُ على لَفظِ الحُجُراتِ بالاقتِصارِ على القَدْرِ الَّذي تبيَّنَ به ما استَنكَرَ عليهِم، فقال: الْحُجُرَاتِ، وما زادَ عليه، فلم يَقُلْ: حُجُراتِ نسائِكَ، بلِ اكتَفى بالقدْرِ مِن الكِنايةِ لئلَّا تُوحِشَه؛ لأنَّها تَكفي لِمَن يَقِفُ على الرَّمزِ والإشارةِ الخَفيَّةِ في أنَّ النِّداءَ في هذه الآيةِ أمْرٌ مُنكَرٌ. ومنها: التَّعريفُ باللَّامِ دونَ الإضافةِ. ومنها: أنْ شفَعَ ذَمَّهم في قولِه: الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ باستِجفائِهم، واستِركاكِ عُقولِهم، وقلَّةِ ضَبطِهم لِمَواضعِ التَّمييزِ في المُخاطَباتِ، فقَرَنَ ذمَّهم ذلك بقولِه: أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ، الواقعِ خبَرًا لـ (إنَّ)، واسمُها المَوصولةُ المُشتمِلةُ على الصِّلةِ المشعِرةِ بأنَّ خبَرَها ممَّا يُستهجَنُ منه، وأنَّ مَن صدَرَ منه النِّداءُ مِن وَراءِ الحُجُراتِ مَوصوفٌ بالجافي الغليظِ، وقِلَّةِ العَقلِ، وإنَّما فعَلَ ذلك تَهوينًا للخَطْبِ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتسليةً له، وإماطةً لِما تَداخَلَه مِن إيحاشِ تَعجرُفِهم، وسُوءِ أدَبِهم، فقيلَ له: هوِّنْ عليك، واعفُ عنهم؛ فإنَّ أكثَرَهم لا يَعقِلون؛ إذ العقلُ يَقتَضي حُسنَ الأدبِ، ومراعاةَ الحِشمةِ، لا سِيَّما لِمَن كان بهذا المَنصِبِ [118] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/358)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/460، 461). .
- وأيضًا في هذه الآياتِ بلاغةٌ ظاهرةٌ؛ فتأمَّلْ كيف ابتُدِئَت بإيجابِ أنْ تكونَ الأمورُ الَّتي تَنتمي إلى اللهِ ورسولِه مُتقدِّمةً على الأمورِ كُلِّها مِن غيرِ حَصرٍ ولا تقييدٍ، ثمَّ أرْدَفَ ذلك النَّهيَ عمَّا هو مِن جِنسِ التَّقديمِ مِن رفْعِ الصَّوتِ والجهْرِ، كأنَّ الأوَّلَ بِساطٌ للثَّاني ووِطاءٌ لِذِكْرِه ما هو ثناءٌ على الَّذين تحامَوا ذلك فغَضُّوا أصواتَهم؛ دَلالةً على عظيمِ مَوقعِه عندَ اللهِ، ثم جِيءَ على عقِبِ ذلك بما هو أطَمُّ، وهُجنَتُه أتَمُّ مِن الصِّياحِ برسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حالِ خَلوتِه ببَعضِ حُرُماتِه مِن وَراءِ الجُدُرِ، كما يُصاحُ بأهونِ النَّاسِ قَدْرًا؛ ليُنبِّهَ على فَظاعةِ ما سبَقوا إليه، وجَسَرُوا عليه؛ لأنَّ مَن رفَعَ اللهُ قَدْرَه عن أنْ يُجهَرَ له بالقولِ حتَّى خاطَبَه جِلَّةُ المهاجِرينَ والأنصارِ بأخِي السِّرارِ [119] أي: كصاحِبِ السِّرارِ لا يرفَعُ صَوتَه إذا حدَّثَه، بل يكَلِّمُه كلامًا مِثلَ المُسارَّةِ وشِبْهِها؛ لِخَفضِ صَوتِه. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقَسْطَلَّاني (10/316). ويُنظر ما رواه البخاري (7302). ، كان صَنيعُ هؤلاء مِن المُنكَرِ الَّذي بلَغَ مِن التَّفاحُشِ مَبلَغًا [120] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/358)، ((تفسير أبي حيان)) (9/512). !
5- قولُه تعالَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
- قال تعالى: حَتَّى تَخْرُجَ، ولم يقُلْ: (إلى أنْ تَخرُجَ)؛ لأنَّ (حتَّى) أفادتْ بوَضْعِها أنَّ خُروجَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليهم غايةٌ قد ضُرِبَت لصَبرِهم، فما كان لهم أنْ يَقطَعوا أمرًا دونَ الانتهاءِ إليه، فـ (حتَّى) نَصٌّ في بَيانِ الغايةِ، وبَتٌّ للحُكْمِ، وأنْ لا رُخصةَ لهم دونَ هذه الغايةِ، بخلافِ (إلى)؛ فإنَّها مُطلَقةٌ تَحتمِلُ أُمورًا؛ فقد يَدخُلُ ما بعْدَها في حُكْمِ ما قبْلَها، وقد لا يَدخُلُ [121] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/359)، ((تفسير البيضاوي)) (5/134)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/463)، ((تفسير أبي السعود)) (8/118). .
أو يكونُ إيثارُ حرْفِ (حتَّى) دونَ حرْفِ (إلى) مِن أجْلِ الإيجازِ بحذْفِ حرفِ (أنْ)؛ فإنَّه مُلتزَمٌ حَذفُه بعدَ (حتَّى)، بخلافِه بعدَ (إلى)؛ فلا يجوزُ حَذفُه [122] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/227). .
- وفي قولِه: إِلَيْهِمْ إشعارٌ بأنَّه لو خرَجَ ولم يكُنْ خُروجُه إليهم ومِن أجْلِهم، لَلَزِمَهم أنْ يَصبِروا إلى أنْ يَعلَموا أنَّ خروجَه إليهم، فيُفاتِحَهم بالكلامِ، أوْ يَتوجَّهَ إليهِم [123] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/359)، ((تفسير البيضاوي)) (5/134)، ((تفسير أبي السعود)) (8/118). .
- وفي تَعقيبِ هذا اللَّومِ بقَولِه: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ إشارةٌ إلى أنَّه تعالى لم يُحْصِ عليهم ذَنْبًا فيما فعَلوا، ولا عرَّضَ لهم بتَوبةٍ، والمعْنى: واللهُ شأنُه التَّجاوُزُ عن مِثلِ ذلك رَحمةً بالنَّاسِ؛ لأنَّ القَومَ كانوا جاهِلينَ [124] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/227). قال ابن عُثَيمين: (في قوله: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ إشارةٌ إلى أنَّ اللهَ غفَر لهم ورحِمَهم، وهذا مِن كرَمِه جلَّ وعلا؛ أنَّه يَغفِرُ ويَرحَمُ). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 21). .