موسوعة التفسير

سورةُ ص
الآيات (21-26)

ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ

غريب الكلمات:

نَبَأُ: النَّبأُ: خَبَرٌ عَظيمٌ يَحصُلُ به عِلمٌ، وأصلُ (نبأ): يدُلُّ على الإتيانِ مِن مكانٍ إلى مكانٍ، والخَبَرُ يأتي مِن مَكانٍ إلى مَكانٍ [252] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/140)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 461)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/385)، ((المفردات)) للراغب (ص: 788). .
الْخَصْمِ: أي: المُتخاصِمَينِ والمُتنازِعَينِ، ويَقَعُ على الواحِدِ والاثنَينِ والجَماعةِ، وأصلُ (خصم): يدُلُّ على مُنازَعةٍ [253] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/187)، ((المفردات)) للراغب (ص: 284)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 326). .
تَسَوَّرُوا: أي: صَعِدوا وتَسَلَّقوا، يُقالُ: تَسَوَّرتُ الحائِطَ والسُّورَ: إذا عَلَوْتَه، وأصلُ (سور): يدُلُّ على عُلُوٍّ وارتِفاعٍ [254] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 378)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 153)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/115)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 359)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 321). .
الْمِحْرَابَ: المِحرابُ: مُقَدَّمُ كُلِّ مَجلِسٍ ومُصَلًّى وأشرَفُه، ويُطلقُ على المَسجدِ، وموضعِ العبادةِ، والغُرفةِ، والموضعِ العالي الشَّريفِ [255] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 104)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 455)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/48)، ((المفردات)) للراغب (ص: 225)، ((تفسير ابن عطية)) (4/498)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 44)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 121). .
بَغَى: أي: طغَى، وتعدَّى، والبَغْيُ: الظُّلْمُ، وأيضًا قَصْدُ الفسادِ، وأصلُ البغيِ: تَجاوُزُ الحدِّ، يقال: بَغَى الجرحُ، أي: تَجاوَزَ الحدَّ في فسادِه [256] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/628) و(14/336) و(20/55)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (1/244)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/271)، ((البسيط)) للواحدي (3/501)، ((المفردات)) للراغب (ص: 136)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/233). .
تُشْطِطْ: أي: تَجُرْ وتُسرِفْ وتَتجاوَزْ، وأصلُ (شطط): يدُلُّ على المَيلِ [257] يُنظر: ((العين)) للخليل (6/213)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 378)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 165)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/165)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 326)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 359). وقال ابن جني: (وَلَا تُشْطِطْ، أي: ولا تُبعِدْ، وهو مِن الشَّطِّ، وهو الجانبُ، فمعناه أخذُ جانبِ الشيءِ، وتركُ وسطِه وأقربِه). ((المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها)) (2/231). .
سَوَاءِ الصِّرَاطِ: أي: قَصْدَ الطَّريقِ المُستقيمِ ووسَطَه، والصِّراطُ: الطَّريقُ، وأصلُ (سوي): يدُلُّ على استقامةٍ واعتدالٍ بيْنَ شيئَينِ [258] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 378)، ((تفسير ابن جرير)) (20/56)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 268)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/112)، ((تفسير ابن عطية)) (4/499)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 359). .
أَكْفِلْنِيهَا: أي: انزِلْ عنها لي، واجعَلْني كافِلَها، وأصلُ (كفل): يدُلُّ على تَضمُّنِ الشَّيءِ للشَّيءِ [259] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 379)، ((تفسير ابن جرير)) (20/59)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 75)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/187)، ((المفردات)) للراغب (ص: 717)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 326). .
وَعَزَّنِي: أي: غلَبَني وقهَرَني، وأصلُ (عزز): يدُلُّ على شِدَّةٍ وقُوَّةٍ [260] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 379)، ((الكامل في اللغة والأدب)) للمُبَرِّد (1/123) و(3/54) و(4/34)، ((تفسير ابن جرير)) (20/60)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 338)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/38)، ((المفردات)) للراغب (ص: 564)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 326)، ((تفسير ابن كثير)) (7/60)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 359). .
الْخُلَطَاءِ: أي: الشُّرَكاءِ، وأصلُ (خلط): يدُلُّ على الجَمعِ [261] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 379)، ((تفسير ابن جرير)) (20/62)، ((المفردات)) للراغب (ص: 293)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 327). .
وَخَرَّ رَاكِعًا: أي: ألقَى بنفْسِه إلى الأرضِ ساجدًا، والخُرورُ والخَرُّ: السُّقوطُ مِنْ عُلُوٍّ إلى الأرضِ، وخرَّ: سقَط على وَجهِه، وأصلُ (خرر): هو اضْطِرابٌ، وسُقوطٌ مع صوتٍ، ورَاكِعًا: أي: ساجدًا، عبَّر بالرُّكوعِ عنه؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ منهما نوعٌ مِنَ الانحناءِ، وأصلُ (ركع): يدُلُّ على انحناءٍ في الإنسانِ وغيرِه [262] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 211)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/149، 434)، ((تفسير السمعاني)) (4/436)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 327)، ((تفسير القرطبي)) (15/182)، ((تفسير ابن جزي)) (2/206)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 484)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (9/109)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/56). .
وَأَنَابَ: أي: رجَعَ وتابَ، وأصلُ (نوب): يدُلُّ على اعتيادِ مَكانٍ ورُجوعٍ إليه [263] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/64)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/367)، ((المفردات)) للراغب (ص: 827)، ((تفسير القرطبي)) (15/182)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 202). .
لَزُلْفَى: أي: قُرْبةً ودَرَجةً ومَنزِلةً، وأصلُ (زلف): يدُلُّ على تَقدُّمٍ في قُربٍ إلى شَيءٍ [264] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 379)، ((تفسير ابن جرير)) (20/103)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/21). .
مَآَبٍ: أي: مَرجِعٍ ومُنقَلَبٍ، وأصلُ (أوب): يدُلُّ على رُجوعٍ [265] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/529)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 412)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/152)، ((تفسير القرطبي)) (15/221)، ((تفسير ابن كثير)) (7/78). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى: وهل أتاك -يا مُحمَّدُ- نَبَأُ المُتخاصِمَينِ حينَ تسَلَّقا على داودَ مِحْرابَه، حينَ دخَلوا عليه فجأةً ففَزِعَ منهم! قالوا له: لا تخَفْ، نحن خَصْمانِ بَغى بَعضُنا على بَعضٍ؛ فاحكُمْ بَيْنَنا بالحُكمِ الحَقِّ، ولا تَتجاوَزْه إلى غَيرِه، وأرشِدْنا بحُكمِك العادِلِ إلى طَريقِ الحَقِّ الواضِحِ.
قال أحَدُ الخَصْمَينِ لِداودَ: إنَّ هذا أخي له تِسعٌ وتِسعونَ نَعجةً، وليَ نَعجةٌ واحِدةٌ لا أملِكُ غَيْرَها، فقال لي أخي: مَلِّكْني إيَّاها بحيثُ تكونُ تحتَ كَفالَتي، وغَلَبَني في المُحاجَّةِ والمُخاطَبةِ! قال داودُ لِلمُتظَلِّمِ منهما: لقد ظلَمَك أخوك بسُؤالِه ضَمَّ نَعجتِك إلى نعاجِه الكثيرةِ، وإنَّ كثيرًا مِن الشُّرَكاءِ لَيَعتدي بعضُهم على بَعضٍ، ويَطمَعُ بَعضُهم في مالِ الآخَرِ، إلَّا الَّذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ؛ فإنَّهم لا يَقعونَ في ذلك، وقليلٌ أولئك.
وغَلَب على ظَنِّ داودَ بعدَ قَضائِه بيْنَ الخَصمَينِ أنَّما اختبَرْناه، فطَلَب مِن رَبِّه مَغفِرةَ ذَنْبِه، وألقَى بنفْسِه إلى الأرضِ ساجدًا، ورجَعَ إلى رَبِّه، فغفَرْنا لداودَ ذلك الذَّنْبَ، وإنَّ له عِندَنا مَنزِلةً عاليةً وحُسنَ مُنقَلَبٍ.
ثمَّ يقولُ تعالى موجِّهًا نبيَّه داودَ عليه السَّلامُ ووُلاةَ الأمورِ: يا داودُ إنَّا جعَلْناك خَليفةً في الأرضِ؛ فاحكُمْ بيْنَ النَّاسِ بالعَدلِ، ولا تتَّبِعْ هوى نَفْسِك فيُضِلَّك عن طريقِ الحَقِّ، إنَّ الَّذين يَميلونَ عن طَريقِ اللهِ لهم عذابٌ شَديدٌ؛ بسَبَبِ نِسيانِهم يومَ القيامةِ.

تفسير الآيات:

وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا أثنى اللهُ تعالى على داودَ عليه السَّلامُ بما أثنَى؛ ذكَرَ قِصَّتَه هذه؛ لِيُعلَمَ أنَّ مِثلَ قِصَّتِه لا يَقدَحُ في الثَّناءِ عليه، والتَّعظيمِ لِقَدْرِه، وإن تضَمَّنَت استِغفارَه رَبَّه [266] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/146). .
وأيضًا لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى أنَّه آتَى نَبيَّه داودَ الفَصلَ في الخِطابِ بيْنَ النَّاسِ -على قَولٍ في التَّفسيرِ-، وكان مَعروفًا بذلك مَقصودًا؛ ذكَرَ تعالى نبَأَ خَصمَينِ اختَصَما عِندَه في قَضيَّةٍ، جعَلَهما اللهُ فِتنةً لداودَ عليه السَّلامُ، ومَوعِظةً لخَلَلٍ ارتكَبَه، فتاب اللهُ عليه، وغَفَر له [267] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 711). .
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ.
أي: وهل أتاك -يا مُحمَّدُ- نبأُ المتخاصِمَينِ في قَضيَّةٍ، وخبَرُهما العَجيبُ مع داودَ [268] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/52)، ((تفسير ابن عطية)) (4/497)، ((تفسير السعدي)) (ص: 711)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/237-239)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 97، 98). ؟
إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ.
أي: حينَ تَسَلَّقَ [269] قال القرطبي: (ومعنَى: تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ أتَوْه مِن أعلى سُورِه. يُقالُ: تَسَوَّرَ الحائطَ: تَسَلَّقَه). ((تفسير القرطبي)) (15/165). ويُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/546)، ((تفسير ابن عطية)) (4/498)، ((تفسير الألوسي)) (12/171). قال ابن جرير: (قوله: إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ يقولُ: دخَلوا عليه مِن غيرِ بابِ المحرابِ). ((تفسير ابن جرير)) (20/53). المُتخاصِمانَ المِحْرابَ [270] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/53)، ((تفسير القرطبي)) (15/165)، ((تفسير الخازن)) (4/35)، ((تفسير ابن كثير)) (7/60)، ((تفسير الألوسي)) (12/171)، ((تفسير السعدي)) (ص: 711). والمِحرابُ: قيل: هو مُقَدَّمُ كُلِّ مَجلِسٍ وبيتٍ وأشرَفُه. وممَّن قال بهذا المعنى: ابنُ جرير، ومكِّي، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/53)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكِّي (10/6218)، ((تفسير القاسمي)) (8/246). وقيل: المحرابُ هنا: الغُرفةُ. وممَّن اختاره: يحيى بنُ سلَّامٍ -نسَبَه إليه الماوَرْديُّ-، وقال الواحديُّ: (المِحرابُ كالغُرفةِ). يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (5/85)، ((الوسيط)) للواحدي (3/546). قال ابن عطيَّة: (المحراب: الموضعُ الأرْفَعُ مِن القَصرِ أو المسجدِ، وهو مَوضِعُ التَّعبُّدِ). ((تفسير ابن عطية)) (4/498). وممَّن اختار أنَّ المحرابَ محلُّ العبادةِ: السعدي، ونصَّ ابنُ أبي زَمَنِين على أنَّه المسجدُ. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 711)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/85). وممَّن قال مِن السَّلفِ: إنَّه المسجدُ: مُجاهِدٌ. يُنظر: ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/161). قال الرَّازي: (وأمَّا المحرابُ فالمرادُ منه البيتُ الَّذي كان داودُ يَدخُلُ فيه ويَشتَغِلُ بطاعةِ رَبِّه، وسُمِّيَ ذلك البَيتُ بالمحرابِ؛ لاشتِمالِه على المحرابِ، كما يُسمَّى الشَّيءُ بأشرَفِ أجزائِه). ((تفسير الرازي)) (26/382). ويُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/60). .
إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22).
إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ.
أي: حينَ دَخَلوا على داودَ بَغتةً فذُعِرَ وخافَ منهم [271] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/53، 54)، ((تفسير العليمي)) (6/15)، ((تفسير السعدي)) (ص: 711). قال الرازي: (قال تعالى: فَفَزِعَ مِنْهُمْ والسَّببُ أنَّ داودَ عليه السَّلامُ لَمَّا رآهما قد دَخَلوا عليه لا مِن الطَّريقِ المعتادِ، عَلِم أنَّهم إنَّما دَخَلوا عليه للشَّرِّ، فلا جَرَمَ فزِع منهم). ((تفسير الرازي)) (26/382). وقال البِقاعي: (كان على وَجهٍ يَهُولُ أمرُه؛ إمَّا لِكَونِه في موضِعٍ لا يَقدِرُ عليه أحدٌ، أو غيرِ ذلك). ((نظم الدرر)) (16/357). .
قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ.
أي: قالوا لِداودَ لَمَّا رأَوْا فَزَعَه مِن دُخولِهم عليه: لا تخَفْ؛ نحن خَصْمانِ [272] ذكَر الله تعالى هنا أنَّهما خَصْمانِ، وقال في أوَّلِ القصةِ: الْخَصْمِ وهو اسمٌ يَصلُحُ للواحِدِ والاثنينِ والجَمعِ، والمذكَّرِ والمؤنَّثِ، أمَّا قوله: تَسَوَّرُوا ودَخَلُوا بالجَمْعِ؛ فلأنَّ الجمْعَ يَتناوَلُ الاثنينِ فصاعِدًا، فمعنى الجَمعِ في الاثنينِ مَوجودٌ؛ لأنَّ معنى الجَمعِ ضَمُّ شَيءٍ إلى شَيءٍ، أو: جمَع؛ لأنَّه جاء مع كلٍّ مِنهما فِرقةٌ، كالعاضِدةِ والمُؤنِسةِ، أو يكون معنَى خَصْمانِ: فريقانِ، فيكونُ تَسَوَّرُوا ودَخَلُوا عائِدًا على الخَصمِ الَّذي هو جمعُ الفريقَينِ. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/60)، ((تفسير ابن عطية)) (4/498)، ((تفسير أبي حيان)) (9/147)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/357)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 99، 100). وقد اختُلِف: هلِ الخَصْمانِ كانا مِن الملائكةِ أم مِن بني آدَمَ؟ ممَّن اختار أنَّهما كانا مِن الملائكةِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، ومكِّي، والواحدي، والعُلَيمي، وممَّن نقَل اتِّفاقَ المفسِّرينَ وعدَمَ اختلافِهم في ذلك: النَّحَّاسُ، وابنُ عطية، وابن جُزَي، والثعالبي، ونسَب القرطبيُّ هذا القولَ لأكثرِ المفسِّرينَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/640)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6218)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 921)، ((تفسير العليمي)) (6/14)، ((معاني القرآن)) للنحاس (6/94)، ((تفسير ابن عطية)) (4/498)، ((تفسير ابن جزي)) (2/204)، ((تفسير الثعالبي)) (5/62)، ((تفسير القرطبي)) (15/170). ويُنظر أيضًا: ((تفسير السمعاني)) (4/431). قال القرطبي: (وعَيَّنهما جماعةٌ فقالوا: إنَّهما جبريلُ وميكائيلُ. وقيل: مَلَكينِ في صورةِ إنسِيَّيْنِ بَعَثَهما اللهُ إليه في يومِ عِبادتِه). ((تفسير القرطبي)) (15/166). وممَّن اختار في الجملةِ أنَّ الخَصمينِ كانا مِن بني آدمَ، وأنَّ اختِصامَهم كان على الحقيقةِ لا التَّمثيلِ، وأنَّ الآيةَ على ظاهرِها: النَّقَّاشُ -كما في ((تفسير القرطبي)) (15/166)- وابنُ حزمٍ، وهو ظاهرُ اختيارِ الرَّازي، واختاره السُّبْكيُّ، وأبو حيَّانَ، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((الفِصَل)) لابن حزم (4/14)، ((تفسير الرازي)) (26/381)، ((القول المحمود)) للسبكي (ص: 19)، ((تفسير أبي حيان)) (9/151)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 101). قال ابن حزم: (وإنَّما كان ذلك الخَصمُ قومًا مِن بني آدمَ بلا شكٍّ مُختصِمينَ فِي نِعاجٍ مِن الغَنَمِ على الحقيقةِ بيْنَهم، بغَى أحَدُهما على الآخَرِ على نصِّ الآيةِ). ((الفصل في المِلَل والأهواء والنِّحَل)) (4/14). تَعدَّى أحَدُنا على صاحبِه، وتجاوَزَ حُدودَه بغَيرِ حَقٍّ [273] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/54، 55)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/357)، ((تفسير السعدي)) (ص: 711)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/233). قال البقاعي: (بَغَى بَعْضُنَا: أي: طلَب طلبةَ علوٍ واستطالةٍ). ((نظم الدرر)) (16/357). .
فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ.
أي: فاقْضِ بيْنَنا بالعَدلِ، ولا تَجُرْ في القَضاءِ فتَتجاوَزَ الحَدَّ [274] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/55)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/234). .
وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ.
أي: ودُلَّنا وأرشِدْنا بحُكمِك العادِلِ بيْنَنا إلى طَريقِ الحَقِّ الواضِحِ الَّذي لا الْتِباسَ فيه ولا إفراطَ ولا تَفريطَ [275] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/56)، ((الوسيط)) للواحدي (3/547)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/358)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/234)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 102، 103). .
إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23).
مناسبة الآية لما قبلها:
أنَّهم لَمَّا أخبَروا عن وُقوعِ الخُصومةِ على سَبيلِ الإجمالِ؛ أردَفوه ببَيانِ سَبَبِ تلك الخُصومةِ على سَبيلِ التَّفصيلِ، فقال [276] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/383). :
إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً.
أي: قال أحَدُ الخَصمَينِ لِداودَ: إنَّ هذا أخي له تِسعٌ وتِسعونَ نَعجةً [277] يُنظر: ((الفصل)) لابن حزم (4/14)، ((تفسير النيسابوري)) (5/588)، ((تفسير القاسمي)) (8/247)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 103، 104). قيل: المرادُ بقوله: أَخِي أُخوَّةُ الدِّينِ، أو أُخوَّةُ النَّسَبِ، أو أخوَّةُ الصَّداقةِ والأُلْفةِ، أو أخوَّةُ الشركةِ والخُلطةِ. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/83)، ((تفسير الألوسي)) (12/172)، ((تفسير السعدي)) (ص: 711). واختُلِف في المرادِ بالنَّعجةِ على قولَينِ؛ فقيل: المرادُ: أُنثَى الضَّأنِ. وقيل: المرادُ بها الكنايةُ عن المرأةِ. ممَّن ذهب إلى إبقاءِ لَفظِ النَّعجةِ على حقيقتِها مِن كَونِها أنثى الضَّأنِ، وأنها ليست كنايةً عن المرأةِ: ابنُ حزم، وأبو حيَّان، والنيسابوري، والقاسمي، وابن عثيمين. يُنظر: ((الفصل في المِلَل والأهواء والنِّحَل)) لابن حزم (4/14)، ((تفسير أبي حيان)) (9/149)، ((تفسير النيسابوري)) (5/588)، ((تفسير القاسمي)) (8/247)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 104). وقد ذهب كثيرٌ مِن المفسِّرينَ، ومنهم ابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، والواحدي، والزمخشري، والسعدي: إلى أنَّ المرادَ بالنَّعجةِ: المرأةُ، وأنَّ ذِكرَ النَّعجةِ مثَلٌ ضَرَبه الخَصمُ لداودَ عليه السَّلامُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/53)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/326)، ((الوسيط)) للواحدي (3/547)، ((تفسير الزمخشري)) (4/83)، ((تفسير السعدي)) (ص: 711). قال الأزهري: (والعربُ تَكْني بالنَّعجةِ والشَّاةِ عن المرأةِ). ((تهذيب اللغة)) (1/245). ويُنظر: ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 165)، ((الكامل في اللغة والأدب)) للمُبَرِّد (1/225) و(2/178)، ((معاني القرآن)) للنحاس (6/97). وقال القرطبي: (العربُ تَكْني عن المرأةِ بالنَّعجةِ والشَّاةِ؛ لِما هي عليه مِن السُّكونِ والمَعْجَزةِ وضَعفِ الجانبِ). ((تفسير القرطبي)) (15/172). وأيضًا لِما بيْنَهما مِن الملائمةِ فى الرَّحمةِ وكثرةِ التَّآلُفِ. يُنظر: ((الطراز لأسرار البلاغة)) ليحيى بن حمزة (1/215). قال البغوي: (قال الحُسَينُ بنُ الفضلِ: هذا تَعريضٌ للتَّنبيهِ والتَّفهيمِ؛ لأنَّه لم يكُنْ هناك نِعاجٌ ولا بَغْيٌ، فهو كقولِهم: ضرَب زَيدٌ عَمرًا، أو اشترى بَكْرٌ دارًا، ولا ضربٌ هنالك ولا شِراءٌ). ((تفسير البغوي)) (4/60). وقال ابنُ القيِّم: (تخريجُ هذا الكلامِ على المعاريضِ لا يَكادُ يَتأتَّى، وإنَّما وَجْهُه أنَّه كلامٌ خرَج على ضربِ المثالِ: أي: إذا كان كذلك فكيف الحُكمُ بيْنَنا؟ ونظيرُ هذا قَولُ المَلَكِ للثَّلاثةِ الَّذين أراد اللهُ أن يَبتليَهم: «مسكينٌ وغريبٌ وعابرُ سبيلٍ، وقد تقَطَّعَت بيَ الحِبالُ، ولا بلاغَ لي اليومَ إلَّا باللهِ ثمَّ بك، فأسألُك بالَّذي أعطاك هذا المالَ بعيرًا أتَبَلَّغُ به في سفري هذا» [البخاري (3464)، ومسلم (2964)]، وهذا ليس بتعريضٍ، وإنَّما هو تصريحٌ على وَجهِ ضَربِ المثالِ، وإيهامِ أنِّي أنا صاحِبُ هذه القضيَّةِ، كما أَوْهَمَ المَلَكانِ داودَ أنَّهما صاحِبا القِصَّةِ؛ لِيَتِمَّ الامتحانُ). ((إعلام الموقعين)) (3/169). وقال ابنُ عاشور: (ليس في قَولِ الخَصمَينِ: هَذَا أَخِي ولا في فَرضِهما الخُصومةَ الَّتي هي غيرُ واقِعةٍ: ارتكابُ الكَذِبِ؛ لأنَّ هذا مِن الأخبارِ المخالِفةِ للواقِعِ الَّتي لا يُريدُ المُخبِرُ بها أن يَظُنَّ المُخبَرُ -بالفتحِ- وُقوعَها إلَّا رَيْثَما يَحصُلُ الغَرَضُ مِن العِبرةِ بها، ثمَّ يَنكَشِفُ له باطِنُها فيَعلَمُ أنَّها لم تَقَعْ، وما يجري في خِلالِها مِن الأوصافِ والنِّسَبِ غيرِ الواقِعةِ فإنَّما هو على سبيلِ الفَرضِ والتَّقديرِ، وعلى نيَّةِ المُشابَهةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (23/238). ويُنظر: ((تفسير القرطبي)) (15/170). .
وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا.
أي: وليَ نَعجةٌ واحِدةٌ لا أملِكُ غَيْرَها، فقال لي أخي: أعطِنيها وضُمَّها إلَيَّ؛ فتَكونَ تحتَ يدي [278] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/149)، ((تفسير النيسابوري)) (5/588)، ((تفسير ابن عجيبة)) (5/17)، ((تفسير السعدي)) (ص: 711)، ((التفسير المنير)) للزحيلي (23/186). ذهب كثيرٌ مِن المفسِّرينَ -ومنهم ابنُ جرير، والقرطبي، والشوكاني- إلى أنَّ المرادَ: ولِيَ امرأةٌ واحِدةٌ، فقال لي أخي: انزِلْ لي عنها وضُمَّها إلَيَّ حتَّى أكفُلَها وأصيرَ زَوجًا لها. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/59)، ((تفسير القرطبي)) (15/174)، ((تفسير الشوكاني)) (4/489). .
وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ.
أي: غلَبَني وقَهَرني في خِطابِه معي؛ لِيَأخُذَ مِنِّي نعجتي الوحيدةَ [279] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/59)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/169)، ((تفسير ابن كثير)) (7/60)، ((تفسير السعدي)) (ص: 711)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/235). قال النيسابوري: (ليس السُّؤالُ هاهنا سؤالَ خُضوعٍ وتفَضُّلٍ، وإنَّما هو سؤالُ مُطالَبةٍ ومُعازَّةٍ). ((تفسير النيسابوري)) (5/589). وقال ابن عاشور: (وَعَزَّنِي غَلَبني في مُخاطَبتِه، أي: أظهَر في الكلامِ عِزَّةً علَيَّ وتطاوُلًا... والمعنى: أنَّه سأله أن يعطيَه نعجتَه، ولَمَّا رأى منه تمنُّعًا اشتدَّ عليه بالكلامِ وهَدَّده). ((تفسير ابن عاشور)) (23/235). !
قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24).
قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ.
أي: قال داودُ للخَصم ِالمتظَلِّمِ مِن صاحِبِه: لقد ظلَمَك أخوك بسُؤالِه أخْذَ نَعجتِك الوحيدةِ؛ لِيَضُمَّها إلى نِعاجِه الكثيرةِ [280] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/61، 62)، ((الوسيط)) للواحدي (3/547)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/342)، ((تفسير النيسابوري)) (5/589)، ((تفسير الألوسي)) (12/174)، ((تفسير السعدي)) (ص: 711)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/235، 236). وقد ذهب ابنُ جرير وغيرُه -كما تقدَّم- إلى أنَّ المرادَ بالنَّعجةِ في هذه القِصَّةِ المرأةُ، أي: لقد ظلمَك أخوك بسؤالِه امرأتَك الواحِدةَ إلى التِّسعِ والتِّسعينَ مِن نسائِه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/61، 62). قال الواحدي: (أي: إن كان الأمرُ على ما تقولُ فقد ظلمَك أخوك بما كلَّفَك مِن تَحَوُّلِك عن امرأتِك؛ لِيَتزَوَّجَها هو). ((الوسيط)) (3/547). .
وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ.
أي: وإنَّ عادةَ كثيرٍ مِن الشُّرَكاءِ أن يَتعدَّى بعضُهم على بعضٍ، ويَظلِمَ بعضُهم بعضًا [281] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/62)، ((الوسيط)) للواحدي (3/547)، ((أحكام القرآن)) للجصاص (3/500)، ((تفسير القرطبي)) (15/179)، ((تفسير أبي حيان)) (9/150)، ((تفسير الشوكاني)) (4/489)، ((تفسير الألوسي)) (12/174)، ((تفسير السعدي)) (ص: 711)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/236). ممَّن اختار أنَّ المرادَ بالخُلَطاءِ الشُّرَكاءُ: ابنُ جرير، والنحاس، والسمعاني، والبغوي، والرسعني، والعليمي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/62)، ((معاني القرآن)) للنحاس (6/102)، ((تفسير السمعاني)) (4/435)، ((تفسير البغوي)) (4/61)، ((تفسير الرسعني)) (6/476)، ((تفسير العليمي)) (6/16)، ((تفسير الشوكاني)) (4/489). قال ابن الجوزي: (قوله تعالى: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ يعني: الشُّرَكاءَ، واحدُهم: خليطٌ، وهو المُخالِطُ في المالِ، وإنَّما قال هذا؛ لأنَّه ظنَّهما شريكَينِ). ((تفسير ابن الجوزي)) (3/568). وقال ابن جُزَي: (الخلطاءُ هم الشُّرَكاءُ في الأموالِ، ولكنِ الخُلْطةُ أعَمُّ مِن الشَّركةِ، ألَا ترى أنَّ الخُلطةَ في المواشي ليست بشركةٍ في رقابِها؟ وقصَد داودُ بهذا الكلامِ الوعظَ للخَصمِ الَّذي بغَى، والتَّسليةَ بالتَّأسِّي للخَصمِ الَّذي بُغِيَ عليه). ((تفسير ابن جزي)) (2/206). ويُنظر: ((تفسير القرطبي)) (15/179). وقيل: الْخُلَطَاءِ: أي: الأصحابِ. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (5/88). .
إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ.
أي: إلَّا الَّذين آمَنوا منهم بما وجَبَ عليهم الإيمانُ به، وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالحاتِ؛ فإنَّه لا يقَعُ منهم بَغْيٌ على شُرَكائِهم، وقَليلٌ هم أولئك [282] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/641)، ((تفسير ابن جرير)) (20/62)، ((تفسير القرطبي)) (15/179)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/360)، ((تفسير السعدي)) (ص: 711)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/236)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 108، 109). .
وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ.
أي: وغَلَب على ظَنِّ داودَ بعدَ قَضائِه بيْن الخَصمَينِ أنَّما ابتَلَيْناه [283] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/63، 64)، ((تفسير القرطبي)) (15/179)، ((تفسير السعدي)) (ص: 711). قال البيضاوي: (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ: ابتَلَيْناه بالذَّنْبِ، أو امتَحَنَّاه بتلك الحُكومةِ). ((تفسير البيضاوي)) (5/27). .
فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ.
أي: فطلَبَ مِن رَبِّه أن يَغفِرَ له ذَنْبَه؛ سَترًا له، وتَجاوُزًا عن مؤاخَذتِه به [284] قال ابن عطيَّة: (لا خِلافَ بيْنَ أهلِ التَّأويلِ أنَّهم إنَّما كانوا ملائِكةً بَعَثَهم اللهُ ضَرْبَ مَثَلٍ لداودَ عليه السَّلامُ، فاختَصَموا إليه في نازلةٍ قد وقع هو في نحوِها، فأفتى بفُتيا هي واقِعةٌ عليه في نازلتِه، ولَمَّا شَعَر وفَهِم المرادَ، خَرَّ وأناب واستغفَرَ). ((تفسير ابن عطية)) (4/498). قال الثعالبي: (وأمَّا نازِلتُه الَّتي وَقَع فيها، ففيها للقُصَّاصِ تطويلٌ، فلم نَرَ سوقَ جميعِ ذلك؛ لعدَمِ صِحَّتِه). ((تفسير الثعالبي)) (5/62). وقال ابنُ كثير: (وقد ذكَر كثيرٌ مِن المفسِّرينَ مِن السَّلفِ والخلَفِ هاهنا قصصًا وأخبارًا أكثرُها إسرائيليَّاتٌ، ومنها ما هو مكذوبٌ لا محالةَ). ((البداية والنهاية)) (2/309). ويُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/60). وقال القاضي عياضٌ: (وأمَّا قصَّةُ داودَ عليه السَّلامُ فلا يجبُ أن يُلتفَتَ إلى ما سطره فيه الأَخْباريُّون عن أهلِ الكتابِ الَّذين بدَّلوا وغيَّروا ونقَلَه بعضُ المفسِّرينَ، ولم يَنُصَّ اللهُ على شَيءٍ مِن ذلك، ولا ورد في حديثٍ صحيحٍ). ((الشفا بتعريف حقوق المصطفى)) (2/163). ويُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/52- 54)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/566)، ((تفسير الرازي)) (26/377). وذكر السبكي أنَّ المغفورَ في الآيةِ أحدُ ثلاثةِ أمورٍ: (إمَّا ظَنُّه، وإمَّا اشتغالُه بالحُكمِ عن العبادةِ، وإمَّا اشتغالُه بالعبادةِ عن الحكمِ، كما أشعَر به قولُه: الْمِحْرَابَ). ((القول المحمود)) (ص: 17). وقيل: ظنَّ دَاوُد عليه السَّلام أن يكونَ ما آتاهُ الله عزَّ وجل مِن سَعَةِ المُلكِ العظيمِ فِتْنةً، فاستغفَر اللهَ تعالى مِن هذا الظَّنِّ، فغفَر له؛ إِذْ لم يكُنْ ما آتاه الله تعالى مِن ذلك فتنةً. واختاره ابنُ حزم. يُنظر: ((الفصل في المِلَل والأهواء والنِّحَل)) (4/15). وقيل: إنَّه فَزِع منهم ظانًّا أنَّهم يَغتالونَه، فلمَّا اتَّضَح له أنَّهم جاؤُوا في حُكومةٍ، ولم يقَعْ ما كان ظنَّه؛ استغفَر اللهَ مِن هذا الظَّنِّ، فغفَر له. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/151). وقيل: إنَّ تلك الزَّلَّةَ إنَّما حَصَلت لأنَّه قضَى لأحدِ الخَصمَينِ قبْلَ أنْ يَسمَعَ كلامَ الخصمِ الثَّانِي. واختاره الرازيُّ. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/381). وردَّه ابنُ العربي والسعديُّ. يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/56)، ((تفسير السعدي)) (ص: 711). ويُنظر أيضًا: ((الوسيط)) للواحدي (3/547). قال النحاس: (قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ فيقالُ: إنَّ هذه خطيَّةُ داودَ صلَّى الله عليه وسلَّمَ؛ لأنَّه قال: لَقَدْ ظَلَمَكَ، مِن غيرِ تثبيتِ بَيِّنةٍ، ولا إقرارٍ مِن الخَصمِ، ولا سؤالٍ لِخَصْمِه هل كان هذا كذا أمْ لم يَكُنْ؟ هذا قولٌ). ((إعراب القرآن)) (3/309). وقال القرطبيُّ بعدَ ذِكرِ كلامِ النَّحَّاسِ: (وهو حسَنٌ إن شاء الله تعالى). ((تفسير القرطبي)) (15/175). واختار ابنُ عثيمينَ أنَّ اللهَ اختَبره بهذه الخصومةِ؛ وذلك لدخولِه المِحرابَ وإغلاقِه البابَ عليه، مُخالِفًا مقتضَى وظيفتِه، وما أُمِر به مِن الحُكمِ بيْنَ النَّاسِ، وأيضًا لحُكمِه بعدَ سماعِه مِن أحدِ الخَصمينِ دونَ الثَّاني، وليس في القرآنِ أنَّه سمِع جوابَ الثَّاني. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 111، 112). قال السعدي: (وهذا الذَّنْبُ الَّذي صَدَرَ مِن داودَ عليه السَّلامُ لم يَذكُرْه اللهُ؛ لعَدَمِ الحاجةِ إلى ذِكْرِه، فالتَّعَرُّضُ له مِن بابِ التَّكَلُّفِ، وإنَّما الفائدةُ ما قَصَّه اللهُ علينا مِن لُطفِه به وتَوبتِه وإنابتِه، وأنَّه ارتفَعَ مَحَلُّه؛ فكان بعدَ التَّوبةِ أحسَنَ منه قَبْلَها). ((تفسير السعدي)) (ص: 712). ، وألقَى بنَفْسِه إلى الأرضِ ساجدًا [285] نفى ابنُ العربيِّ وجودَ خِلافٍ بيْن العُلماءِ في أنَّ المرادَ بالرُّكوعِ هنا: السُّجودُ. وذكَرَ ابنُ تيميَّةَ اتِّفاقَ العُلَماءِ عليه. واعترض ابنُ عاشورٍ بأنَّ الخلافَ موجودٌ. يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/57)، ((جامع الرسائل)) لابن تيميَّةَ (1/36)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/240). وقيل: ذُكِر الرُّكوعُ مع أنَّ المرادَ به السُّجودُ؛ لأنَّه سجَد بعدَ أن كان راكعًا، أي: فخُرورُه كان مِن رُكوعٍ. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 922)، ((تفسير ابن كثير)) (7/60). قال ابن تيميَّةَ: (وقد ثبَتَ بالنَّصِّ الصَّحيحِ واتِّفاقِ النَّاسِ أنَّ داودَ سجَد... والآثارُ عن السَّلفِ متواترةٌ بأنَّ داودَ سجَد، فكُلُّ ساجدٍ راكِعٌ، وليس كلُّ راكِعٍ ساجدًا؛ فإنَّه إذا سجَد مِن قيامٍ انحنى انحناءَ الرَّاكعِ وزاد فإنَّه يَصيرُ ساجدًا، ولو صلَّى قاعدًا أيضًا انحنَى انحناءَ الرُّكوعِ وزاد فإنَّه يصيرُ ساجِدًا؛ فالسَّاجدُ راكِعٌ وزيادةٌ؛ فلهذا جازَ أن يُسمَّى راكِعًا... ومِن النَّاسِ مَن قالَ في قصَّةِ داودَ: إنَّه خَرَّ ساجِدًا بعدَ ما كان راكِعًا... وهذا قولٌ ضعيفٌ، والقرآنُ إنَّما فيه: وَخَرَّ رَاكِعًا، لم يقُلْ: خرَّ بعدَ ما كان راكِعًا... ولعلَّ داودَ سجَد مِن قيامٍ، وقيل: خرَّ راكعًا؛ ليبينَ أنَّ سُجودَه كان مِن قيامٍ، وهو أكمَلُ، ولَفْظُ خَرَّ يدُلُّ على أنَّه وصَل إلى الأرضِ، فجمع له معنى السُّجودِ والرُّكوعِ). ((جامع الرسائل)) (1/33-36). ، ورجَعَ إلى ربِّه وإلى رِضوانِه مِن خَطيئتِه تائِبًا [286] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/64)، ((تفسير السمعاني)) (4/436)، ((تفسير القرطبي)) (15/182، 183)، ((تفسير ابن كثير)) (7/60)، ((تفسير السعدي)) (ص: 711)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/240)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 112، 113). وقد اختلفَ العلماءُ في هذا الموضعِ: هل هو مِن مواضعِ السُّجودِ أو لا؟ فمذهَبُ الحنفيَّةِ والمالكيَّةِ وبعضِ الشَّافعيَّةِ ورِوايةٌ عن أحمدَ أنَّه مِن مواضعِ سجودِ التِّلاوةِ. وممَّن اختاره: ابنُ المُنذِرِ، وابنُ حزمٍ، وابنُ بازٍ، وابنُ عُثَيمينَ. يُنظر: ((حاشية ابن عابدين)) (2/103)، ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (1/350)، ((المجموع)) للنووي (4/61)، ((المغني)) لابن قدامة (1/441)، ((الأوسط)) لابن المنذر (5/261)، ((المحلى)) لابن حزم (3/322)، ((مجموع فتاوى ابن باز)) (24/406)، ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (4/98). .
عن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قرأ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو على المِنبَرِ ص، فلمَّا بلَغَ السَّجدةَ نَزَل فسَجَد، وسَجَد النَّاسُ معه، فلمَّا كان يومٌ آخَرُ قَرَأها، فلمَّا بلَغَ السَّجدةَ تَشَزَّنَ [287] التَّشَزُّنُ: التَّأهُّبُ والتَّهيُّؤُ للشَّيءِ، والاستِعدادُ له. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (2/471). النَّاسُ للسُّجودِ، فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّما هي تَوبةُ نَبيٍّ، ولَكِنِّي رأيْتُكم تَشَزَّنْتُم للسُّجودِ، فنَزَل فسَجَد وسَجَدوا )) [288] أخرجه أبو داودَ (1410) واللَّفظُ له، والدارِميُّ (1466)، وابنُ خُزَيْمةَ (1455). صحَّحه ابنُ حِبَّانَ في ((صحيحه)) (2765)، وصحَّح إسنادَه البَيْهَقيُّ في ((السنن الكبرى)) (2/318)، والنوويُّ في ((المجموع)) (4/60)، وابنُ كثير في ((تفسير القرآن)) (7/53)، والشوكاني في ((نيل الأوطار)) (3/120)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (2765). وصَحَّح الحديثَ الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (1410). .
وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَجَد في ص، وقال: سَجَدَها داودُ تَوبةً، ونَسجُدُها شُكرًا)) [289] أخرجه النسائي (957) واللفظ له، والطبراني (12/34) (12386)، والدارقطني (1/407). قال ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/151): (رجالُه على شرط البخاري). ووثَّق رواتَه ابنُ حجر في ((الدراية)) (1/211)، وقال في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (1/459): (أصلُه في البخاريِّ). وجَوَّد إسنادَه الشوكانيُّ في ((تفسيره)) (4/602)، وصَحَّح الحديثَ الألبانيُّ في ((صحيح سنن النسائي)) (957). .
وعنه أيضًا قال: ((ص ليس مِن عزائِمِ السُّجودِ، وقد رأيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَسجُدُ فيها)) [290] أخرجه البخاري (1069). .
وعن العَوَّامِ، قال: ((سألْتُ مُجاهِدًا عن سَجدةِ ص، فقال: سألْتُ ابنَ عَبَّاسٍ: مِن أين سَجَدْتَ؟ فقال: أوَما تَقرأُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ [الأنعام: 84]، أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام: 90] ؟ فكان داودُ ممَّن أُمِرَ نَبيُّكم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَقتَديَ به، فسجَدَها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم )) [291] أخرجه البخاري (4807). .
فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ (25).
فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ.
أي: فسَتَرْنا لداودَ ذلك الذَّنْبَ، وتَجاوَزْنا عن مُؤاخَذتِه به [292] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/76)، ((تفسير ابن عطية)) (4/502)، ((تفسير ابن كثير)) (7/60). .
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ.
أي: وإنَّ لِداودَ عِندَنا لَقُربةً مِنَّا ومَنزِلةً رَفيعةً، وحُسْنَ مَرجِعٍ ومُنقَلَبٍ [293] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/76)، ((تفسير ابن عطية)) (4/502)، ((تفسير ابن كثير)) (7/62)، ((تفسير السعدي)) (ص: 712). قيل: المرادُ بـ وَحُسْنُ مَآَبٍ: حُسنُ مَرجِعٍ في الآخرةِ. وممَّن قال بهذا المعنى: ابنُ جرير، وابن عطية، وابن كثير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/76)، ((تفسير ابن عطية)) (4/502)، ((تفسير ابن كثير)) (7/62). وقيل: المرادُ: حُسنُ مَرجِعٍ في كُلِّ ما يُؤمِّلُ مِن الخَيرِ، وفَوقَ ذلك. وممَّن قال بهذا المعنى: البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/365). ويُنظر أيضًا: ((تفسير السعدي)) (ص: 712)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 113). .
يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26).
يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ.
أي: يا داودُ إنَّا استَخلَفْناك في الأرضِ [294] قيل: الأرضُ هي أرضُ مملكتِه المعهودة، أي: جعَلْناك خليفةً في أرضِ إسرائيلَ. وممَّن قال بهذا: ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/242). وقيل: المرادُ: الأرضُ كُلُّها؛ إشارةً إلى إطلاقِ أمْرِه في جميعِها، فلا جُناحَ عليه فيما فعَلَ في أيِّ بلدٍ أرادَها؛ فهو كان خليفةً في بيتِ المقدِسِ بالفِعلِ، وهو خليفةٌ في جميعِ الأرضِ بالقُوَّةِ، بمعنى: أنَّه مهما حكَمَ فيها صَحَّ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/366). قال ابنُ عاشور: (يجوزُ أن يُجعَلَ الْأَرْضِ مرادًا به جميعُ الأرضِ؛ فإنَّ داودَ كان في زمَنِه أعظَمَ مُلوكِ الأرضِ؛ فهو مُتصَرِّفٌ في مملكتِه، ويَخافُ بأسَه ملوكُ الأرضِ). ((تفسير ابن عاشور)) (23/242). بعدَ مَن كان قَبْلَك؛ لِتأمُرَ بالمعروفِ، وتَنهَى عن المُنكَرِ، وتُدَبِّرَ أمورَ أهلِها الدِّينيَّةَ والدُّنيويَّةَ بأمْرِنا [295] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/77)، ((تفسير البغوي)) (4/66)، ((تفسير القرطبي)) (15/188)، ((تفسير السعدي)) (ص: 712)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/242). .
فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ.
أي: فاحكُمْ بيْن النَّاسِ بالعَدلِ والإنصافِ، وذلك بالحَقِّ المُنَزَّلِ مِن عندِ اللهِ تعالى [296] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/77)، ((تفسير القرطبي)) (15/189)، ((تفسير ابن كثير)) (7/62)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 121). .
وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.
أي: ولا تَتَّبِعْ هوَى نَفْسِك المُخالِفَ لأمرِ اللهِ؛ فيُضِلَّك الهوَى عن اتِّباعِ الحَقِّ المُوصِلِ لِرِضوانِ اللهِ وجَنَّتِه، ويُوقِعَك في الجَورِ والظُّلمِ [297] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/77)، ((تفسير القرطبي)) (15/189)، ((تفسير أبي السعود)) (7/223)، ((تفسير السعدي)) (ص: 712)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/244). .
كما قال تعالى: وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام: 119] .
إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ.
مناسبتها لما قبلها:
لَمَّا ذَكَرَ ما تَرتَّبَ على اتِّباعِ الهَوى، وهو الإضْلالُ عن سَبيلِ اللهِ؛ ذَكَر عِقابَ الضَّالِّ [298] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/152). ، فقال:
إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ.
أي: إنَّ الَّذين يَحيدونَ عن طَريقِ اللهِ لهم عذابٌ شَديدٌ؛ بسَبَبِ نِسيانِهم يومَ القيامةِ، وتَرْكِهم الإيمانَ به، والاستِعدادَ له بالأعمالِ الصَّالحةِ [299] يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/165)، ((الهداية)) لمكي (10/6237)، ((تفسير القرطبي)) (15/189)، ((تفسير ابن كثير)) (7/62، 63)، ((تفسير الشوكاني)) (4/493)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/246). قال مكِّي: (قال عِكْرِمةُ: هذا مِن التَّقديمِ والتَّأخيرِ. والتَّقديرُ عندَه: لهم يومَ الحسابِ عذابٌ شديدٌ بِمَا نَسُوا أي: بما ترَكوا أمرَ الله والقضاءَ بالعدلِ). ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) (10/6238). واختار هذا القولَ: ابنُ جريرٍ، والسمعاني. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/77)، ((تفسير السمعاني)) (4/437). وقال ابن كثير: (قال السُّدِّيُّ: «لهم عذابٌ شديدٌ بما تَرَكوا أنْ يعمَلوا ليومِ الحسابِ». وهذا القولُ أمشَى على ظاهِرِ الآيةِ. فاللهُ أعلَمُ). ((تفسير ابن كثير)) (7/63). .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ الله تعالى: وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ فيه أنَّ داودَ عليه السَّلامُ كان في أغلَبِ أحوالِه مُلازِمًا مِحرابَه لعبادةِ رَبِّه؛ ولهذا تسَوَّر الخَصمانِ عليه المحرابَ؛ لأنَّه كان إذا خلا في مِحرابِه لا يأتيه أحدٌ، فلم يجعَلْ كُلَّ وَقتِه للنَّاسِ، مع كثرةِ ما يَرِدُ عليه مِنَ الأحكامِ، بل جعَلَ له وَقتًا يخلو فيه برَبِّه، وتَقَرُّ عَينُه بعبادتِه، وتُعينُه على الإخلاصِ في جميعِ أمورِه [300] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 712). .
2- قَولُ الله تعالى: وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ فيه أنَّه ينبغي استِعمالُ الأدَبِ في الدُّخولِ على الحُكَّامِ وغَيرِهم؛ فإنَّ الخَصمَينِ لَمَّا دخَلَا على داودَ عليه السَّلامُ في حالةٍ غيرِ مُعتادةٍ، ومِن غيرِ البابِ المعهودِ؛ فَزِعَ منهم، واشتَدَّ عليه ذلك، ورآه غيرَ لائقٍ بالحالِ [301] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 712). .
3- قَولُ الله تعالى: وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ ... الآياتِ، في هذه القِصَّةِ دَليلٌ على التَّلَطُّفِ في رَدِّ الإنسانِ عن مَكروهٍ صَنَعه، وألَّا يُؤخَذَ بالعُنفِ ما أمكَنَ [302] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 221). .
4- قَولُ الله تعالى: وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ فيه أنَّه لا يَمنَعُ الحاكِمَ مِن الحُكمِ بالحَقِّ سُوءُ أدَبِ الخَصمِ، وفِعلُه ما لا يَنبَغي [303] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 712). .
5- قَولُ الله تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ فيه أنَّ المَوعوظَ والمَنصوحَ ولو كان كبيرَ القَدْرِ، جَليلَ العِلمِ، إذا نصَحَه أحَدٌ أو وعَظَه: لا يَغضَبُ ولا يَشمَئِزُّ، بل يُبادِرُه بالقَبولِ والشُّكرِ؛ فإنَّ الخَصمَينِ نصَحَا داودَ عليه السَّلامُ، فلم يَشمَئِزَّ ولم يَغضَبْ [304] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 712). .
6- في قَولِه تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ دَليلٌ على أنَّ الخُصومَ إذا خاطَبوا الحاكِمَ بمِثلِه، وقالوا: «اعْدِلْ في حُكمِك، ولا تَجُرْ علينا»! لم يكُنْ ذلك منهما سُوءَ أدَبٍ، ولا يُجوزُ للحاكمِ أنْ يَجِدَ عليهما، ولا يُعاقِبَهما [305] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (3/752). ، فمُخاطَبةُ الخَصمِ لِداودَ بهذا خارِجةٌ مَخرجَ الحِرصِ على إظهارِ الحَقِّ، وهو في مَعنى الذِّكرَى بالواجِبِ؛ فلذلك لا يُعَدُّ مِثلُها جَفاءً لِلحاكِمِ والقاضي، وهو مِن قَبيلِ: اتَّقِ اللهَ في أمْري. وصُدورُه قَبْلَ الحُكمِ أقرَبُ إلى مَعنى التَّذكيرِ، وأبعَدُ عن الجَفاءِ، فإنْ وَقَع بعدَ الحُكمِ كان أقرَبَ إلى الجَفاءِ [306] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/234). .
7- في قَولِه تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فيه أنَّ ما معهم مِن الإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ يَمنَعُهم مِنَ الظُّلمِ [307] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 711). . وكُلَّما كان الإنسانُ أقوى إيمانًا وأكثرَ عَمَلًا مِن الصَّالحاتِ، كان أبْعَدَ عن الظُّلمِ والبَغيِ [308] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 117). .
8- في قَولِه تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أنَّ العَمَلَ لا يَنفَعُ إلَّا إذا بُنِيَ على الإيمانِ وكان صالِحًا، فعَمَلٌ بلا إيمانٍ لا يُقبَلُ، كما قال تعالى: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ [التوبة: 54] ، وكذلك لو كان هناك إيمانٌ لكِنْ لم يكنِ العَمَلُ صالِحًا؛ لِفَقْدِ الإخلاصِ أو الاتِّباعِ فيه، فإنَّه لا يَنفعُ [309] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 118). .
9- قَولُ الله تعالى: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يُفيدُ أنَّ بَغْيَ أحَدِ المُتعاشِرَينِ على عَشيرِه: مُتَفَشٍّ بيْن النَّاسِ غيرِ الصَّالحينَ مِن المؤمِنينَ [310] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/236). .
10- قَولُ الله تعالى: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فيه أنَّ المخالطةَ بيْن الأقارِبِ والأصحابِ، وكثرةَ التَّعَلُّقاتِ الدُّنيويَّةِ الماليَّةِ: مُوجِبةٌ للتَّعادي بيْنَهم، وبَغْيِ بعضِهم على بعضٍ، وأنَّه لا يَرُدُّ عن ذلك إلَّا استِعمالُ تقوى اللهِ، والصَّبرُ على الأُمورِ بالإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ، وأنَّ هذا مِن أقَلِّ شَيءٍ في النَّاسِ [311] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 712). .
11- قال الله تعالى: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ذِكرُ غالِبِ أحوالِ الخُلَطاءِ أراد به الموعِظةَ لهما بعدَ القَضاءِ بَيْنَهما، على عادةِ أهلِ الخَيرِ مِنِ انتِهازِ فُرَصِ الهدايةِ؛ فأراد داودُ عليه السَّلامُ أن يُرَغِّبَهما في إيثارِ عادةِ الخُلَطاءِ الصَّالِحينَ، وأن يُكَرِّهَ إليهما الظُّلْمَ والاعتِداءَ. ويُستفادُ مِن المَقامِ أنَّه يأسَفُ لحالِهما، وأنَّه أراد تَسليةَ المظلومِ عَمَّا جرَى عليه مِن خَليطِه، وأنَّ له أُسوةً في أكثَرِ الخُلَطاءِ [312] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/236). .
12- في قَولِه تعالى: وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ أنَّ الحاكمَ لا يَحكُمُ حتَّى يَستوعِبَ حُجَجَ الخَصمَينِ [313] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 118). ، وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
13- في قَولِه تعالى: وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ أنَّ الحاكمَ الذي نَصَب نفْسَه لِيَكونَ حَكَمًا بيْنَ العِبادِ لا يَحِلُّ له أنْ يَختفِيَ عنهم في الوقتِ الَّذي يكونُ وقتًا للتَّحاكمِ، وفيه أنَّ الاشتِغالَ بما فيه مصلحةٌ عامَّةٌ أفضلُ مِن الاشتغالِ بما فيه مصلحةٌ خاصَّةٌ [314] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 118). . وهذا على القولِ بأنَّ داودَ عليه السَّلامُ كان قد أغلَق بابَه، أو جعَل عليه حاجبًا يمنعُ النَّاسَ مِن الدُّخولِ عليه.
14- في قَولِه تعالى: وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ الظنُّ بمعنى العِلمِ -واللهُ أعلمُ- أي: عَلِمَ داودُ، والدَّليلُ عليه استِغفارُه وتوبتُه؛ لأنَّ بالشَّكِّ لا يَتحقَّقُ الذَّنْبُ؛ فلِلتَّائِبينَ بعدَه أنْ يَقتَدوا به -صلَّى الله عليه وسلَّم- في التَّوبةِ، فيَستَغفِروا خارِّينَ بيْنَ يَدَيْ ربِّهم في السُّجودِ؛ لأنَّه أجْدَرُ بالغُفرانِ لصاحبِه إذا تذَلَّلَ بالسُّجودِ لخالِقِه [315] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (3/755). .
15- قَولُ الله تعالى: وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ فيه أنَّ الاستغفارَ والعِبادةَ -خُصوصًا الصَّلاةَ- مِن مُكَفِّراتِ الذُّنوبِ؛ فإنَّ اللهَ رَتَّب مَغفِرةَ ذَنْبِ داودَ على استِغفارِه وسُجودِه [316] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 712). .
16- في قَولِه تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ أنَّه لا ينبغي للشَّخصِ إذا وُكِل إليه تَوَلِّي القضاءِ أنْ يَفِرَّ منه ما دام يَعرِفُ مِن نفْسِه الكفاءةَ؛ حتَّى لا يتَعطَّلَ هذا المَنصِبُ العظيمُ الَّذي هو مَنصِبُ الرُّسلِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ، فإذا أتاه دونَ سؤالٍ فلْيَستَعِنْ بالله، واللهُ يُعينُه عليه [317] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 126). ، فمَنصِبُ القَضاءِ فَرْضُ كفايةٍ -كما قال ذلك أهلُ العِلمِ- وإذا لم يُوجَدْ إلَّا الشَّخصُ المُعَيَّنُ المُؤَهَّلُ، فإنَّه يَكونُ في حقِّه فرضَ عَينٍ [318] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 126). .
17- قَولُ الله تعالى: وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فيه أنَّه ينبغي للحاكِمِ أن يَحذَرَ الهَوى، ويَجعَلَه منه على بالٍ؛ فإنَّ النُّفوسَ لا تخلو منه، بل يُجاهِدُ نَفْسَه بأن يكونَ الحَقُّ مَقصودَه، وأن يُلقِيَ عنه وقتَ الحُكمِ كُلَّ مَحبَّةٍ أو بُغضٍ لأحَدِ الخَصمَينِ [319] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 712). .
18- قَولُ الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ فيه أنَّ السَّبَبَ الأوَّلَ لحُصولِ الضَّلالِ هو نِسيانُ يَومِ الحِسابِ؛ لأنَّه لو كان مُتذكِّرًا ليَومِ الحِسابِ لَمَا أعرَضَ عن إعدادِ الزَّادِ لِيَومِ المعادِ، ولَمَا صارَ مُستَغرِقًا في هذه اللَّذَّاتِ الفاسِدةِ [320] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/387). .
19- في قَولِه تعالى: بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ الحَذَرُ مِن الانغِماسِ في الدُّنيا؛ الَّذي يُوجِبُ نِسيانَ يومِ الحسابِ، وكلُّ لَهْوٍ يَصُدُّ عن سبيلِ اللهِ يُنسِي يومَ الحسابِ [321] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 129). .
20- قَولُه تعالى: بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ فيه التَّرهيبُ مِن نسيانِ القيامةِ، قال تعالى: فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا [322] يُنظر: ((شجرة المعارف والأحوال)) للعز بن عبد السلام (ص: 75). [الأعراف: 51] .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إلى آخرِ القِصَّةِ: أنَّ الحُكْمَ بينَ النَّاسِ أفضَلُ مِن العباداتِ الخاصَّةِ؛ لأنَّ نَفعَه مُتَعَدٍّ، والعباداتِ الخاصَّةَ نَفعُها قاصِرٌ [323] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 114). . وذلك على القولِ بأنَّ داودَ عليه السَّلامُ كان قد أغلَق بابَه، أو جعَل عليه حاجبًا يمنعُ النَّاسَ مِن الدُّخولِ عليه.
2- في قَولِه تعالى: فَفَزِعَ مِنْهُمْ أنَّ الأنبياءَ يَلحَقُهم مِن الطَّبائعِ البَشَريَّةِ ما يَلحَقُ غَيْرَهم؛ حيث لَحِقَه الفَزَعُ كما يَلحَقُ سائِرَ النَّاسِ [324] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 115). .
3- قَولُ الله تعالى: وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ في هذه القِصَّةِ دليلٌ على جوازِ القَضاءِ في المَسجِدِ [325] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن الفرس (3/456)، ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 221). ، وذلك على قولٍ في معنى المحرابِ.
4- قال الله تعالى: إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً نَصَّ على الأُخُوَّةِ؛ لاقتِضائِها عَدَمَ البَغيِ، وأنَّ بَغْيَه الصَّادِرَ منه أعظَمُ مِن غَيرِه، سواءٌ كانت أُخوَّةً في الدِّينِ أو النَّسَبِ أو الصَّداقةِ [326] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 711). .
5- قَولُ الله تعالى: إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فيه جَوازُ المعاريضِ مِن القَولِ [327] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 221). -وذلك على قولٍ في معنى الآيةِ-؛ والمعاريضُ غيرُ مَعدودةٍ في عِدادِ الكَذِبِ [328] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (3/750). .
6- لَباقةُ هَذينِ الخَصمَينِ؛ حيثُ لم تُثِرِ الخُصومةُ ضَغينتَهما؛ ولهذا قال: إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ، مع أنَّه قال في الأوَّلِ: بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ لكِنْ هذا البَغيُ لم تُفقَدْ به الأُخُوَّةُ؛ لِقَولِه: إِنَّ هَذَا أَخِي [329] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 116). .
7- قَولُ الله تعالى: إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ فيه دَليلٌ شَرعيٌّ على جَوازِ وَضعِ القِصَصِ التَّمثيليَّةِ الَّتي يُقصَدُ منها التَّربيةُ والمَوعِظةُ، ولا يَتحَمَّلُ واضِعُها جُرحةَ الكَذِبِ [330] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/238). ، وذلك على أحَدِ القَولَينِ في معنى الآيةِ.
8- قَولُ الله تعالى: قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ فيه سؤالٌ: كيف جاز لداودَ عليه السَّلامُ أن يَحكُمَ على أحَدِ الخَصمَينِ بمُجَرَّدِ قَولِ خَصمِه؟
الجواب من وجوه:
 الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ هذا الكلامَ ليس ابتداءً مِن داودَ عليه السَّلامُ إثرَ فَراغِ لَفظِ المُدَّعِي، ولا فُتيا بظاهِرِ كَلامِه قَبْلَ ظُهورِ ما يَجِبُ، فذلك على تقديرِ: لَئِنْ كان ما تقولُ، لَقد ظَلَمَك. أي: أنَّ هذا الحكمَ كان مشروطًا بشرطِ كونِه صادقًا في دعواه.
الوجهُ الثَّاني: أنَّه ثَمَّ مَحذوفٌ، أي: فأقَرَّ المُدَّعَى عليه، فقال: لَقَدْ ظَلَمَكَ، ولكِنَّه لم يُحْكَ في القُرآنِ اعتِرافُ المُدَّعَى عليه؛ لأنَّه معلومٌ مِن الشَّرائِعِ كُلِّها؛ إذ لا يَحكُمُ الحاكِمُ إلَّا بعدَ إجابةِ المُدَّعَى عليه [331] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/149). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (26/384). وقال الثعلبي: (حُذِف الاعتِرافُ؛ لأنَّ ظاهرَ الآيةِ دالٌّ عليه، كقولِ العرَبِ: أمَرْتُك بالتِّجارةِ فكسَبْتَ الأموالَ [أي: فاتَّجرتَ فاكتسبتَ الأموالَ]). ((تفسير الثعلبي)) (8/189). .
الوجهُ الثَّالِثُ: أن يكونَ التَّقديرُ أنَّ الخَصمَ الَّذي هذا شأنُه يكونُ قد ظَلَمك [332] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/384). .
الوجهُ الرَّابعُ: أنَّه مِن المعلومِ مِن السِّياقِ السَّابِقِ مِن كَلامِهما: أنَّ هذا هو الواقِعُ؛ فلهذا لم يحتَجْ أن يَتَكلَّمَ الآخَرُ؛ فلا وَجْهَ للاعتِراضِ [333] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 711). .
الوجهُ الخامِسُ: أنَّه قد عَلِمَ داودُ عليه السَّلامُ مِن تَساوُقِهما للخُصومةِ ومِن سُكوتِ أحَدِ الخَصمَينِ أنَّهما مُتقارِبانِ على ما وَصَفه الحاكي منهما [334] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/235). .
الوجهُ السَّادسُ: أنَّ هذه كانت خطيئةَ داودَ عليه السَّلامُ؛ لأنَّه قال: لَقَدْ ظَلَمَكَ مِن غيرِ تثبُّتٍ ببَيِّنةٍ، ولا إقرارٍ مِن الخَصمِ هل كان هذا كذا أو لم يكُنْ [335] يُنظر: ((إعراب القرآن)) للنحاس (3/309)، ((تفسير القرطبي)) (15/175). .
9- قَولُ الله تعالى: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ استُدِلَّ به على جوازِ الشَّرِكةِ [336] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 221). قال ابنُ قُدامةَ: (الشركةُ: هي الاجتماعُ في استحقاقٍ أو تصَرُّفٍ، وهي ثابتةٌ بالكتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ؛ أمَّا الكتابُ فقولُ الله تعالى: فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ [النساء: 12]، وقال الله تعالى: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ. والخُلَطاءُ هم الشُّرَكاءُ ...). ((المغني)) (5/3). .
10- في قَولِه تعالى: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ دَليلٌ على أنَّ العَرَبَ -وإنْ سَمَّتِ النِّساءَ بالنِّعاجِ- فهي في هذا الموضِعِ نِعاجُ الغَنَمِ -على أحدِ القولَينِ-؛ لأنَّ الخُلَطاءَ لا يكونونَ في النِّساءِ، إنَّما يَكونونَ في الغَنَمِ [337] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (3/752). وتقدَّم ذِكرُ الخلافِ في ذلك (ص: 104). .
11- في قَولِه تعالى: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ أنَّ أكثَرَ الشُّرَكاءِ يَحصُلُ مِن أحدِهم بَغْيٌ على الآخَرِ، وهذا مِن الغَريبِ أن يَكونَ الإنسانُ كُلَّما قَرُبَ إلى الشَّخصِ تُوُقِّعَ منه البَغيُ أكثرَ ممَّا لو كان بعيدًا؛ لأنَّ البعيدَ ليس بيْنَه وبيْنَه صِلةٌ، لكنَّ الَّذي بيْنَه وبيْنَه صِلةٌ وهو الشَّريكُ: هو الَّذي رُبَّما يَجحَدُه أو يُنكِرُه، أو يَفعَلُ شيئًا لم يَأذَنْ به أو ما شابَهَ ذلك [338] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 117). .
12- قال عزَّ وجلَّ: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ في قَولِه تعالى: وَقَلِيلٌ مَا هُمْ أنَّ الجَمعَ بيْن هذَينِ الوَصفَينِ؛ الإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ: قَليلٌ [339] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 117). .
13- قال عزَّ وجَلَّ: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ في قَولِ الله تعالى: وَقَلِيلٌ مَا هُمْ حَثٌّ للخَصْمَينِ أن يَكونا مِنَ الصَّالِحينَ؛ لِما هو مُتقَرِّرٌ في النُّفوسِ مِن نَفاسةِ كُلِّ شَيءٍ قَليلٍ [340] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/236). .
14- في قَولِه تعالى: وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ أنَّ الأنبياءَ عليهم السَّلامُ قد يُفتَنونَ ويُختَبَرونَ، ولكِنَّ الفِتنةَ الَّتي يُفتَنُ بها الأنبياءُ لا يُمكِنُ أنْ تَعودَ إلى إبطالِ مُقَوِّماتِ الرِّسالةِ والنُّبوَّةِ؛ كالفِتنةِ التي تَعودُ إلى الكَذِبِ، أو الشِّركِ، أو الأخلاقِ الرَّديئةِ، وما أشبَهَها، هذا لا يُمكِنُ أنْ يَقَعَ مِن الأنبياءِ [341] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 118). .
15- في قَولِه تعالى: فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ أنَّ العبدَ بعدَ التَّوبةِ يعودُ خيرًا ممَّا كان [342] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 234). .
16- قَولُ الله تعالى في حقِّ داودَ عليه السَّلامُ: فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ، وقولُه عن سُلَيمانَ عليه السَّلامُ: قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي ... إلى أن قال عنه: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ يُبَيِّنُ إكرامَ اللهِ لِعَبدِه داودَ وسُلَيمانَ؛ بالقُربِ منه، وحُسنِ الثَّوابِ، وألَّا يُظَنَّ أنَّ ما جرَى لهما مُنقِصٌ لدَرَجتِهما عندَ الله تعالى، وهذا مِن تمامِ لُطفِه سبحانه بعبادِه المُخلَصينَ: أنَّه إذا غَفَر لهم، وأزال أثَرَ ذُنوبِهم، أزال الآثارَ المترتِّبةَ عليه كلَّها، حتَّى ما يقَعُ في قُلوبِ الخَلقِ؛ فإنَّهم إذا عَلِموا ببَعضِ ذُنوبِهم وقَعَ في قُلوبِهم نُزولُهم عن دَرَجتِهم الأُولى، فأزال اللهُ تعالى هذه الآثارَ، وما ذاك بعزيزٍ على الكريمِ الغَفَّارِ [343] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 712). .
17- قَولُ الله تعالى: وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ يُبَيِّنُ اعتِناءَ اللهِ تعالى بأنبيائِه وأصفيائِه عندَما يقَعُ منهم بَعضُ الخَلَلِ، بفِتنتِه إيَّاهم، وابتلائِهم بما به يَزولُ عنهم المحذورُ، ويَعودون إلى أكمَلَ مِن حالتِهم الأُولى، كما جرَى لداودَ وسُلَيمانَ عليهما السَّلامُ [344] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 712). .
18- في قَولِه تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ أنَّه يجِبُ الحُكمُ بيْنَ النَّاسِ بالحقِّ؛ سواءٌ كان ذلك في طريقِ الحُكمِ أو في نفْسِ الحُكمِ، أمَّا طريقُ الحكمِ؛ فهو معاملةُ الخَصمينِ بحيثُ تكونُ المعامَلةُ بيْنَهما على وجهِ العدلِ، وألَّا يميلَ إلى أحَدِ الخَصمَينِ أو يحابيه؛ لِقَرابةٍ، أو لجاهِه، أو سبَبٍ يقتَضى المَيلَ، ويُؤيِّدُ هذا قَولُه: وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى، وأمَّا في الحكمِ؛ فأنْ يَحكُمَ بما تقتضيه الشَّريعةُ [345] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للكيا الهراسي (4/360-361)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 126). ويُنظر أيضًا: ((الأم)) للشافعي (7/98). .
19- قَولُ الله تعالى: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ فيه أنَّ الحُكمَ بيْنَ النَّاسِ مَرتبةٌ دينيَّةٌ تولَّاها رُسُلُ اللهِ وخواصُّ خَلقِه، وأنَّ وَظيفةَ القائِمِ بها: الحُكمُ بالحَقِّ، ومُجانبةُ الهوى؛ فالحُكمُ بالحَقِّ يَقتَضي العِلمَ بالأُمورِ الشَّرعيَّةِ، والعِلمَ بصُورةِ القَضيَّةِ المحكومِ فيها، وكيفيَّةَ إدخالِها في الحُكمِ الشَّرعيِّ؛ فالجاهِلُ بأحَدِ الأمْرَينِ لا يَصلُحُ للحُكمِ، ولا يَحِلُّ له الإقدامُ عليه [346] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 712). .
20- المعروفُ في استعمالِ الهوَى عندَ الإطلاقِ: أنَّه المَيلُ إلى خلافِ الحقِّ، كما في قولِه عزَّ وجلَّ: وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [347] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/398). .
21- قال الله تعالى: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى، ولذلك اشتَرَط العُلَماءُ في الخَليفةِ شُروطًا كُلُّها تَحومُ حوْلَ الحَيلولةِ بيْنَه وبيْنَ اتِّباعِ الهوَى، وما يُوازيه مِنَ الوُقوعِ في الباطِلِ، وهي: التَّكليفُ، والحُرِّيَّةُ، والعَدالةُ، والذُّكورةُ [348] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/245، 246). .
22- مُجَرَّدُ الحبِّ والبغضِ هو هوًى، لكنَّ المُحَرَّمَ منه هو اتِّباعُ حُبِّه وبُغْضِه بغيرِ هُدًى مِن اللهِ؛ ولهذا قال اللهُ سبحانه لنَبيِّه داودَ عليه السَّلامُ: وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ، فأخبَرَ أنَّ مَنِ اتَّبَعَ هواه أضَلَّه ذلك عن سَبيلِ اللهِ، وهو هُداهُ الَّذي بَعَثَ به رَسولَه، وهو السَّبيلُ إليه [349] يُنظر: ((الاستقامة)) لابن تيمية (2/226). .
23- قال الله تعالى: وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لم يَنْهَه عن هوى النَّفْسِ، ولكِنْ نهاه عن اتِّباعِ هواها؛ لأنَّ النَّفْسَ قد تَهوى في الحُكمِ بغيرِ حَقٍّ؛ حيث قال: فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى؛ لأنَّ النَّفْسَ أُنشِئَت على الهوى والمَيلِ إلى اللَّذَّاتِ والشَّهواتِ، وعلى ذلك طُبِعَت وبُنِيَت؛ فيكونُ في هواها إلى ما تَهوى مدفوعًا غيرَ مالِكٍ ولا قادِرٍ على دَفْعِه؛ لذلك لم يَنْهَه عن هواها، ولكِنْ نهاه عن اتِّباعِ هواها، ويَقدِرُ على مَنْعِها بالعَقلِ، ورَدِّها إلى اتِّباعِ الحَقِّ؛ لذلك كان ما ذَكَر. واللهُ أعلَمُ [350] يُنظر: ((تفسير الماتريدي)) (8/620). .
24- في قَولِه تعالى: فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أنَّ اتِّباعَ الهوَى يَجلِبُ للإنسانِ الضَّلالَ، كما أنَّه هو نَفْسُه ضَلالٌ، فإذا اتَّبَعتَ الهوى في قَضيَّةٍ ما فانتَظِرِ اتِّباعَ الهوى في القَضيَّةِ الَّتي تليها؛ لأنَّ المَعصيةَ قَبْلَ أنْ يَقَعَ فيها الإنسانُ يَجِدُ نَفْسَه تَستوحِشُ منها وتَنفِرُ، فإذا فَعَلَها مَرَّةً هانتْ عليه، وانكسرَ الحِجابُ، فإذا هانتْ عليه أوَّلَ مَرَّةٍ هانتْ عليه الثَّانيةُ ثمَّ الثَّالثةُ، حتَّى تُصبِحَ وكأنَّها لا شَيءَ؛ ولهذا يَضرِبُ العامَّةُ مَثَلًا له فائِدةٌ، يقولونَ: «بكثرةِ الإمسَاسِ يَقِلُّ الإحساسُ»، يعني: إذا أكثَرَ الإنسانُ مُماسَّةَ الشَّيءِ قَلَّ إحساسُه به [351] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 127). .
25- قَولُ الله تعالى: وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ في جَعلِ الضَّلالِ عن سَبيلِ اللهِ، ونِسيانِ يومِ الحِسابِ سَبَبينِ لاستِحقاقِ العَذابِ الشَّديدِ: تَنبيهٌ على تلازُمِهما؛ فإنَّ الضَّلالَ عن سَبيلِ اللهِ يُفضي إلى الإعراضِ عن مُراقَبةِ الجَزاءِ [352] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/246). .
26- أنَّ دِينَ اللهِ تعالى واحِدٌ لا يَتشعَّبُ؛ لِقَولِه تعالى: عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فأفرَدَها، ويدُلُّ لهذا قَولُه تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام: 153] ؛ فسَبيلُ اللهِ واحِدةٌ، وما خالَفَها فهو المُتَشَتِّتُ؛ فهذا سَبَبُه الهوى، وهذا سَبَبُه خَشيةُ الناسِ، وهذا سَبَبُه كذا، وهذا سَبَبُه كذا؛ فتتفَرَّقُ السُّبُلُ [353] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 128). .
27- أنَّ مِن أسبابِ الضَّلالِ عن سَبيلِ اللهِ نِسيانَ يومِ الحِسابِ، والغفلةَ عنه، والانغماسَ في الدُّنيا حتَّى تُنسِيَ الإنسانَ ما خُلِقَ له، وما هو مُقبِلٌ عليه؛ ولهذا قال تعالى: بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ أي: غَفَلوا عنه، وليس المرادُ بالنِّسيانِ الذُّهولَ الَّذي يُعفَى عنه، بلِ المرادُ بالنِّسيانِ التَّركُ الَّذي هو الغَفلةُ، وعَدَمُ المُبالاةِ به [354] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 128). .
28- إثباتُ الأسبابِ؛ تُؤخَذُ مِن قَولِه تعالى: بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ؛ لأنَّ الباءَ هذه للسَّبَبيَّةِ [355] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 129). .
29- مُناسَبةُ ذِكرِ الله تعالى قصَّةَ داودَ عليه السَّلامُ في سورةِ (ص): أنَّهم لَمَّا قالوا أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا [ص: 8] كان في ذلك الكلامِ إشعارٌ بهَضمِ جانبِه، فغار الله لذلك، وبيَّن أنَّهم ليس عندَهم خزائنُ رحمتِه، ولا لهم مُلكٌ، وأنَّهم جندٌ مهزومون. وكأنَّه يقولُ: وما قدرُ هؤلاء؟ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ [ص: 17] واذكُرْ مَن آتَيْناه المُلكَ العظيمَ في الدُّنيا، مع ما لَه في الآخرةِ، وهو أخوك، وأنت عندَنا أرفَعُ رتبةً منه. وفي ذلك تسليةٌ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلم مِن وجهينِ:
 أحدهما: أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لا شكَّ أنَّه يَفرَحُ لإخوتِه الأنبياءِ بما يَحصُلُ لهم مِن الخَيرِ، كما لو حصَل لِنَفْسِه، سواء بسواء، وأكثر.
والثَّاني: أنَّه يعلمُ أنَّ رتبتَه عندَ الله أكمَلُ. وإذا ذكَر هذَينِ الأمْرَينِ، احتقَر قُرَيشًا فيه، وعلِم أنَّ الَّذي أُوتوه وافتَخَروا به لا شيءَ. فهذا وجهُ المناسبةِ [356] يُنظر: ((القول المحمود)) للسبكي (ص: 21). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ كلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لإيرادِ قِصَّةِ داودَ عليه السَّلامُ [357] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/146)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/346). . أو مَعطوفٌ على جُملةِ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ [ص: 18] ، والإنشاءُ هنا في معنَى الخَبَرِ؛ فإنَّ هذه الجُملةَ قصَّتْ شأنًا مِن شأنِ داودَ مع ربِّه تعالى، فهي نَظيرُ ما قَبْلَها [358] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/230). .
- وأيضًا قَولُه: وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ظاهِرُه الاستِفهامُ، ومَعناهُ: الدَّلالةُ على أنَّه مِنَ الأنباءِ العَجيبةِ الَّتي حَقُّها أنْ تَشيعَ ولا تَخفَى على أحَدٍ، وفي الاستِفهامِ معنَى التَّشويقِ إلى استِماعِه؛ وذلك أنَّ هذه القِصَّةَ إنْ كانتْ مَعلومةً للسَّامِعِ فيَكونُ في الاستِفهامِ بَعثٌ له، وتَحريضٌ على إشاعَتِها، وإعلامِ النَّاسِ بها، أي: كأنَّك ما عَلِمْتَها حيثُ تُخْفيها، ولا تؤدِّي حقَّها مِن الإذاعةِ، وإنْ لم تكُنْ معلومةً كان تأنيبًا على التَّقاعُدِ عن استِعلامِها، وتَشويقًا إلى استِماعِها. والخِطابُ يَجوزُ أنْ يَكونَ لكلِّ سامِعٍ [359] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/82)، ((تفسير البيضاوي)) (5/27)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/258)، ((تفسير أبي حيان)) (9/146)، ((تفسير أبي السعود)) (7/220)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/231)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/346). .
- والتَّعريفُ في الْخَصْمِ للعَهدِ الذِّهنيِّ، أي: عهدِ فَردٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِن جِنسِه، أي: نَبأُ خَصمٍ مُعَيَّنٍ هذا خَبَرُه. والخَصمُ: اسمٌ يُطلَقُ على الواحِدِ وأكثَرَ [360] و(الخَصْمُ) في الأصلِ مَصدَرُ (خَصَمَه)، والعَرَبُ إذا نعتَت بالمَصدَرِ أفردَتْه وذكَّرَتْه، وعليه فالخَصمُ يُرادُ به الجَماعةُ والواحِدُ والاثنانِ، ويجوزُ جَمْعُه وتثنيتُه؛ لِتَناسي أصلِه الَّذي هو المصدَرُ، وتنزيلِه مَنزِلةَ الوصفِ. يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) للشنقيطي (ص: 199). ، وأُريدَ به هنا خَصْمانِ؛ لقَولِه بعْدَه: خَصْمَانِ [ص: 22] ، أو نحنُ فَوجانِ مُتَخاصِمانِ، على تَسميةِ مُصاحِبِ الخَصمِ خَصمًا [361] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/27)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/231). ، وقيل غيرُ ذلك [362] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/147). .
2- قولُه تعالَى: إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ
- قَولُه: قَالُوا لَا تَخَفْ استِئنافٌ وَقَعَ جَوابًا عن سُؤالٍ نَشَأَ مِن حِكايةِ فَزَعِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ كأنَّه قيلَ: فماذا قالوا عِندَ مُشاهَدَتِهم لِفَزَعِه؟ فقيل: قالوا -إزالةً لِفَزَعِه-: لَا تَخَفْ خَصْمَانِ ... [363] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/220)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/346). .
- وجاءَ ضَميرُ المُتكَلِّمِ ومعه غَيرُه في قولِه: بَغَى بَعْضُنَا؛ رَعْيًا لِمَعنى خَصْمَانِ، ولم يُبَيِّنا الباغيَ منهما؛ لأنَّ مَقامَ تَسكينِ رَوْعِ دَاودَ يَقتَضي الإيجازَ بالإجمالِ، ثم يَعقُبُه التَّفصيلُ، ولِإظهارِ الأدَبِ مع الحاكِمِ؛ فلا يَتَولَّيانِ تَعيينَ الباغي منهما، بل يَترُكانِه لِلحاكِمِ يُعيِّنُ الباغيَ منهما في حُكمِهِ حينَ قال لِأحَدِهما: لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ [364] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/233). [ص: 24] .
- والفاءُ في قَولِه: فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ تَفريعٌ على قَولِه: خَصْمَانِ؛ لِأنَّ داودَ عليه السَّلامُ لَمَّا كان مَلِكًا، وكان اللَّذانِ حَضَرَا عِندَه خَصمَيْنِ؛ كان طَلَبُ الحُكمِ بَيْنَهما مُفَرَّعًا على ذلك. والباءُ في بِالْحَقِّ لِلمُلابَسةِ، وهي مُتعَلِّقةٌ بقَولِه: فَاحْكُمْ، وهذا مُجرَّدُ طَلَبٍ منهما لِلحَقِّ [365] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/233). .
- والنَّهيُ في قَولِه: وَلَا تُشْطِطْ مُستَعمَلٌ في التَّذكيرِ والإرشادِ [366] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/234). .
 - وقَولُهما: وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ يَصرِفُ عن إرادةِ الجَفاءِ مِن قَولِهما: وَلَا تُشْطِطْ؛ لأنَّهما عَرَفا أنَّه لا يَقولُ إلَّا حَقًّا، وأنَّهما تَطَلَّبَا منه الهُدَى، وعُبِّر بالهُدَى هنا عن البَيانِ، وإيضاحِ الصَّوابِ [367] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/234). .
- قولُه: سَوَاءِ الصِّرَاطِ ضُرِب مثلًا لِعَيْنِ الحقِّ ومحضِه الَّذي لا يَشوبُه باطِلٌ، وعُبِّر به عنه؛ لِأنَّ الصِّراطَ الطَّريقُ الواسِعُ، والسَّواءُ منه هو الَّذي لا الْتِواءَ فيه، ولا شُعَبَ تَتشَعَّبُ منه، فهو أسرَعُ إيصالًا إلى المَقصودِ باستِوائِه، وأبعَدُ عن الالتِباسِ بسَلامَتِه مِنَ التَّشَعُّبِ [368] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/83)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/234). .
- ومَجموعُ قَولِه: وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ تَمثيلٌ لِحالِ الحاكِمِ بالعَدلِ بحالِ المُرشِدِ الدَّالِّ على الطَّريقِ المُوصلةِ؛ فهو مِنَ التَّمثيلِ القابِلِ تَجزِئةَ التَّشبيهِ في أجزائِه [369] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/235). .
3- قولُه تعالَى: إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ
- قَولُه: إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ استِئنافٌ لِبَيانِ ما فيه الخُصومةُ، أيْ: أخي في الدِّينِ، أو في الصُّحبةِ، والتَّعرُّضُ لذلك تَمهيدٌ لِبَيانِ كَمالِ قُبحِ ما فَعَل به صاحِبُه [370] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/221)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/235). .
- ويَجوزُ أنْ يَكونَ أَخِي بَدَلًا مِنِ اسمِ الإشارةِ، ويَجوزُ أنْ يَكونَ خَبَرَ إِنَّ، وهو أوْلَى؛ لِأنَّ فيه زيادةَ استِفظاعِ اعتِدائِه عليه [371] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/235). .
- قيل: الظَّاهِرُ إبقاءُ لَفظِ النَّعجةِ على حَقيقَتِه مِن كَونِها أُنثى الضَّأْنِ؛ لِأنَّ ذلك الإخبارَ كان صادِرًا مِنَ المَلائِكةِ -على قولٍ-، على سَبيلِ التَّصويرِ لِلمَسألةِ، والفَرضِ لها مِن غَيرِ تَلَبُّسٍ بشَيءٍ منها، فمَثَّلوا بقِصَّةِ رَجُلٍ له نَعجةٌ، ولِخَليطِه تِسعٌ وتِسعونَ، فأرادَ صاحِبُه تَتِمَّةَ المِئةِ، فطَمِعَ في نَعجةِ خَليطِه، وأرادَ انتِزاعَها منه، وحاجَّهُ في ذلك مُحاجَّةَ حَريصٍ على بُلوغِ مُرادِه، ويدُلُّ على ذلك قَولُه: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ [ص: 24] ، وهذا التَّصويرُ والتَّمثيلُ أبلَغُ في المَقصودِ، وأدَلُّ على المُرادِ [372] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/149)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/350، 351). .
- وقيل: إنَّ لَفظِ النَّعجةِ كِنايةٌ عنِ المَرأةِ؛ فقد كانوا يَكْنون عنِ المرأةِ بالنَّعجةِ والشَّاةِ، والكِنايةُ والتَّمثيلُ فيما يُساقُ لِلتَّعريضِ أبلَغُ في المَقصودِ، وفي مَعنى ذِكرِ النِّعاجِ نُكتةٌ بَليغةٌ؛ لِأنَّ تَحاكُمَهم في نَفْسِه كان تَمثيلًا، أيْ: تَعريضًا وتَوريةً، وكان كَلامُهم تَمثيلًا، أيْ: تَعريضًا وتَوريةً؛ لِأنَّ التَّمثيلَ أبلَغُ في التَّوبيخِ؛ ولِلتَّنبيهِ على أنَّه أمرٌ يُستَحْيا مِن كَشفِه، فيُكَنَّى عنه، كما يُكَنَّى عمَّا يُستَسمَجُ الإفصاحُ به [373] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/83)، ((تفسير البيضاوي)) (5/27)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/261)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 487)، ((تفسير أبي السعود)) (7/221)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/348- 350). .
- وقولُه: أَكْفِلْنِيهَا أي: اجْعَلْها في كَفالَتي، أي: حِفْظي، وهو كِنايةٌ عن الإعطاءِ والهِبةِ، أيْ: هَبْها لي [374] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/235). .
- قَولُه: وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ أي: غَلَبَني في مُخاطَبَتِه، أيْ: أظهَرَ في الكَلامِ عِزَّةً علَيَّ وتَطاوُلًا؛ فجَعَلَ الخِطابَ ظَرفًا لِلعِزَّةِ؛ لِأنَّ الخِطابَ دَلَّ على العِزَّةِ والغَلَبةِ؛ فوَقَعَ تَنزيلُ المَدلولِ مَنزِلةَ المَظروفِ، وهو كَثيرٌ في الاستِعمالِ [375] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/235). .
4- قولُه تعالَى: قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ
- قَولُه: قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ جَوابُ قَسَمٍ مَحذوفٍ؛ قَصَد به المُبالَغةَ في إنكارِ فِعلِ خَليطِه، وتَهجينِ طَمَعِه [376] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/86)، ((تفسير البيضاوي)) (5/27)، ((تفسير أبي السعود)) (7/221). .
- وفي قَولِه: بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ أضافَ المَصدَرَ إلى المَفعولِ، وضَمَّنَ السُّؤالَ مَعنى الإضافةِ والضَّمِّ، أيْ: بإضافةِ نَعجَتِكَ على سَبيلِ السُّؤالِ والطَّلَبِ؛ ولذلك عَدَّاهُ بـ (إلى) [377] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/150)، ((تفسير أبي السعود)) (7/221)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/236). وقال ابنُ جريرٍ: (قال داودُ للخَصمِ المُتظلِّمِ مِن صاحِبِه: لقد ظلَمك صاحبُك بسؤالِه نعجتَك إلى نعاجِه، وهذا مما حُذِفتْ منه الهاءُ، فأُضيف بسقوطِ الهاءِ منه إلى المفعولِ به). ((تفسير ابن جرير)) (20/61). .
- وأيضًا في قَولِه: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ كِنايةٌ عن أمْرِهما بأنْ يَكونَا مِنَ المُؤمِنينَ الصَّالِحينَ، وأنَّ ما فَعَلَه أحَدُهما ليس مِن شَأنِ الصَّالِحينَ [378] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/236). .
- وزِيادةُ (ما) بَعدَ (قَلِيلٌ) في قَولِه: وَقَلِيلٌ مَا هُمْ؛ لِقَصدِ الإبهامِ، وفي هذا الإبهامِ إيذانٌ بالتَّعَجُّبِ مِن قِلَّتِهم بمَعونةِ السِّياقِ والمَقامِ. وقيل: (ما) صِلةٌ، تُفيدُ معنى التَّعظيمِ والتَّعَجُّبِ [379] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/87)، ((تفسير البيضاوي)) (5/27)، ((تفسير أبي حيان)) (9/150)، ((تفسير أبي السعود)) (7/221)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/237)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/347). .
- وسَوقُ نَبَأِ الخَصمَيْنِ عَقِبَ التَّنويهِ بداودَ عليه السَّلامُ ليس إلَّا تَتميمًا لِلتَّنويهِ به؛ لِدَفعِ ما قد يُتَوهَّمُ أنَّه يَنقُضُ ما ذُكِرَ مِن فَضائِلِه ممَّا جاءَ في كِتابِ اليَهودِ في ذِكرِ هذه القِصَّةِ مِن أغلاطٍ باطِلةٍ تُنافي مَقامَ النُّبوَّةِ؛ فأُريدَ بَيانُ المِقدارِ الصَّادِقِ منها، وتَذييلُه بأنَّ ما صَدَرَ عن داودَ عليه السَّلامُ يَستَوجِبُ العِتابَ، ولا يَقتَضي العِقابَ؛ ولذلك خُتِمتْ بقَولِه: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ [380] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/237). [ص: 25] .
- وأيضًا جاءتْ قِصَّةُ داودَ عليه السَّلامُ على طَريقةِ التَّمثيلِ والتَّعريضِ دونَ التَّصريحِ؛ لِكَونِها أبلَغَ في التَّوبيخِ، مِن قِبَلِ أنَّ التَّأمُّلَ إذا أدَّاهُ إلى الشُّعورِ بالمُعَرَّضِ به، كان أوْقَعَ في نَفْسِه، وأشَدَّ تَمكُّنًا مِن قَلبِه، وأعظَمَ أثَرًا فيه، وأجلَبَ لاحتِشامِه وحَيائِه، وأدْعى إلى التَّنَبُّهِ على الخَطَأِ فيه مِن أنْ يُبادِرَه به صَريحًا، مع مُراعاةِ حُسنِ الأدَبِ بتَركِ المُجاهَرةِ [381] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/81)، ((تفسير أبي السعود)) (7/222). . وذلك بِناءً على قولٍ في التَّفسيرِ.
- وجاء الفَصلُ في القِصَّةِ على وَجهِ التَّحاكُمِ إلى داودَ عليه السَّلامُ لِيَحكُمَ بما حَكَم به مِن قَولِه: لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ؛ حتى يَكونَ مَحجوجًا بحُكمِه، ومُعتَرِفًا على نَفْسِه بظُلْمِه [382] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/82). . وذلك بِناءً على قولٍ في التَّفسيرِ.
- وعَبَّرَ بالرَّاكِعِ عنِ السَّاجِدِ في قَولِه: وَخَرَّ رَاكِعًا؛ لِأنَّه يَنحَني ويَخضَعُ كالسَّاجِدِ، ويَجوزُ أنْ يَكونَ قدِ استَغفَرَ اللهَ لِذَنْبِه، وأحرَمَ برَكعَتَيِ الاستِغفارِ والإنابةِ؛ فيَكونَ المَعنى: وخرَّ لِلسُّجودِ راكِعًا، أيْ: مُصَلِّيًا؛ لِأنَّ الرُّكوعَ يُجعَلُ عِبارةً عنِ الصَّلاةِ [383] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/88)، ((تفسير البيضاوي)) (5/27)، ((تفسير أبي السعود)) (7/222). . وقيل غيرُ ذلك [384] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/240). .
5- قولُه تعالَى: فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ
- قولُه: فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ اسمُ الإشارةِ ذَلِكَ للإشارةِ إلى ما دَلَّتْ عليه خُصومةُ الخَصْمَينِ مِن تَمثيلِ ما فَعَله داودُ عليه السَّلامُ بصُورةِ قَضيةِ الخَصمَينِ -وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ-، وهذا مِن لَطائِفِ القُرآنِ؛ إذْ طَوى القِصَّةَ الَّتي تَمثَّلَ له فيها الخَصمانِ، ثمَّ أشارَ إلى المَطويِّ باسمِ الإشارةِ [385] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/241). .
- وأتْبَعَ اللهُ سُبحانَه الخَبَرَ عنِ الغُفرانِ له بما هو أرفَعُ دَرَجةً؛ وهو أنَّه مِنَ المُقرَّبينَ عِندَ اللهِ، المَرْضيِّ عنهم، وأنَّه لم يُوقَفْ به عِندَ حَدِّ الغُفرانِ لا غَيرُ، فقالَ: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ. وتَأكيدُ الخَبَرِ -بـ (إنَّ) واللَّامِ-؛ لِإزالةِ تَوهُّمِ أنَّ اللهَ غَضِبَ عليه إذْ فَتَنَه؛ تَنزيلًا لِمَقامِ الاستِغرابِ مَنزِلةَ مَقامِ الإنكارِ [386] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/241). .
6- قولُه تعالَى: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ
- قَولُه: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ... كَلامٌ مُستَأنَفٌ مَسوقٌ لِحِكايةِ ما خُوطِبَ به داودُ عليه السَّلامُ بعدَ ما تَقدَّمَ، وهو مَقولُ قَولٍ مَحذوفٍ مَعطوفٍ على قَولِه: فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ [ص: 25] ، أيْ: صَفَحْنا عنه، وذَكَّرْناه بنِعمةِ المُلْكِ، ووَعَظْناه؛ فجَمَعَ له بهذا تَنويهًا بشَأنِه، وإرشادًا لِلواجِبِ [387] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/242)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/353). .
- وافتِتاحُ الخِطابِ بالنِّداءِ في قَولِه: يَا دَاوُودُ؛ لاستِرعاءِ وَعيِه، واهتِمامِه بما سَيُقالُ له [388] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/242). .
- وقَولُه: فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مُفرَّعٌ على جَعْلِه خَليفةً؛ فأمَرَه بأنْ يَحكُمَ بيْنَ النَّاسِ بالحَقِّ؛ لِلدَّلالةِ على أنَّ ذلك واجِبُه، وأنَّه أحَقُّ النَّاسِ بالحُكمِ بالعَدلِ؛ ذلك لِأنَّه هو المَرجِعُ لِلمَظلومينَ، والَّذي تُرفَعُ إليه مَظالِمُ الظَّلَمةِ مِنَ الوُلاةِ، فإذا كان عادِلًا خَشِيَه الوُلاةُ والأُمراءُ؛ لِأنَّه ألِفَ العَدلَ، وكَرِهَ الظُّلْمَ فلا يُقِرُّ ما يَجري منه في رَعيَّتِه كُلَّما بَلَغَه، فيَكونَ الناسُ في حَذَرٍ مِن أنْ يَصدُرَ عنهم ما عَسى أنْ يُرفَعَ إلى الخَليفةِ فيَقتَصَّ مِنَ الظَّالِمِ، وأمَّا إنْ كانَ الخَليفةُ يَظلِمُ في حُكمِه، فإنَّه يَألَفُ الظُّلْمَ، فلا يُغضِبُه إذا رُفِعتْ إليه مَظلِمةُ شَخصٍ، ولا يَحرِصُ على إنصافِ المَظلومِ، والمُرادُ بالنَّاسِ ناسُ مَملَكَتِه؛ فالتَّعريفُ لِلعَهدِ، أو هو لِلاستِغراقِ العُرفيِّ [389] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/243). وقال الشنقيطي: (مَعلومٌ أنَّ نَبيَّ اللهِ داودَ لا يَحكُمُ بغيرِ الحَقِّ، ولا يَتَّبعُ الهوى فيُضِلُّه عن سَبيلِ اللهِ، ولكِنَّ اللهَ تعالى يأمُرُ أنبياءَه عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وينهاهم؛ لِيُشرِّعَ لأُمَمِهم). ((أضواء البيان)) (6/340). .
- وأيضًا قَولُه: فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أمْرٌ بالدَّيمومةِ، وتَنبيهٌ لِغَيرِه ممَّن وَلِيَ أُمورَ النَّاسِ؛ فمِن حيثُ هو مَعصومٌ لا يَحكُمُ إلَّا بالحَقِّ أُمِرَ أوَّلًا بالحُكمِ، ولَمَّا كان الهَوى قد يَعرِضُ لِغَيرِ المَعصومِ أُمِرَ باجتِنابِه، وذَكَر نَتيجةَ اتِّباعِه؛ وهي إضلالُه عن سَبيلِ اللهِ [390] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/152). .
- وتَقدَّمَ الأمْرُ بالحُكمِ بالحَقِّ على قَولِه: وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى؛ لِيَكونَ تَوطِئةً لِلنَّهيِ عن اتِّباعِ الهَوى؛ سَدًّا لِذَريعةِ الوُقوعِ في خَطَأِ الحَقِّ؛ فإنَّ داودَ عليه السَّلامُ ممَّن حَكَمَ بالحَقِّ، فأمْرُه به باعتِبارِ المُستَقبَلِ [391] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/243، 244). .
- والهَوى: كِنايةٌ عن الباطِلِ والجَورِ والظُّلمِ [392] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/244). .
- والتَّعريفُ في الْهَوَى تَعريفُ الجِنسِ المُفيدُ لِلاستِغراقِ؛ فالنَّهيُ يَعُمُّ كُلَّ ما هو هَوًى؛ سواءٌ كان هَوى المُخاطَبِ، أو هَوى غَيرِه، مِثلَ هَوى زَوجِه ووَلَدِه، وسَيِّدِه وصَديقِه [393] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/244). .
- وأيضًا النَّهيُ عن اتِّباعِ الهَوى تَحذيرٌ له، وإيقاظٌ؛ لِيَحذَرَ مِن جَرَّاءِ الهَوى، ويَتَّهِمَ هَوى نَفْسِه، ويَتعَقَّبَه، فلا يَنقادَ إليه فيما يَدعوه إليه إلَّا بعدَ التَّأمُّلِ والتَّثبُّتِ، والاستِرسالُ في اتِّباعِ الشَّهَواتِ وُقوعٌ في الرَّذائِلِ في الأغلَبِ؛ ولهذا جَعَلَ هنا الضَّلالَ عن سَبيلِ اللهِ مُسبَّبًا عنِ اتِّباعِ الهَوى، وهو تَسبُّبٌ أغلَبيٌّ عُرفيٌّ؛ فشَبَّهَ الهَوى بسائِرٍ في طَريق مهلكةٍ، وعَبَّرَ عن ذلك بالإضْلالِ عن طَريقِ الرَّشادِ، المُعبَّرِ عنه بسَبيلِ اللهِ؛ فإنَّ الَّذي يَتَّبِعُ سائِرًا غَيرَ عارِفٍ بطَريقِ المَنازِلِ النَّافِعةِ، لا يَلبَثُ أنْ يَجِدَ نَفْسَه وإيَّاه في مهلكةٍ أو مَقطَعةِ طَريقٍ [394] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/244). .
- وقَولُه: فَيُضِلَّكَ جَوابٌ لِلنَّهيِ في قولِه: وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى [395] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/152). .
- وقَولُه: عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فيه الثَّناءُ العظيمُ على شَريعةِ اللهِ؛ وذلك بإضافتِها إلى اللهِ؛ لأنَّ كلَّ ما أُضيفَ إلى اللهِ -إذا كانتِ الإضافةُ خاصَّةً- فإنَّ الإضافةَ تدُلُّ على شَرَفِه [396] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 128). .
- وجُملةُ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ... يَظهَرُ أنَّها ممَّا خاطَبَ اللهُ به داودَ عليه السَّلامُ؛ فهي في مَوقِعِ العِلَّةِ لِلنَّهيِ؛ فكانت (إِنَّ) مُغْنيةً عن فاءِ التَّسبُّبِ والتَّرتُّبِ، فالشَّيءُ الَّذي يُفضي إلى العَذابِ الشَّديدِ خَليقٌ بأنْ يُنهَى عنه. وإنْ كانتِ الجُملةُ كلامًا مُنفَصِلًا عن خِطابِ داودَ عليه السَّلامُ كانت مُعتَرضةً ومُستَأنَفةً استِئنافًا بَيانيًّا؛ لِبَيانِ خَطَرِ الضَّلالِ عن سَبيلِ اللهِ [397] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/223)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/245)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/353). . وأتَى بهذه الجملةِ الاستئنافيَّةِ الاستقلاليَّةِ؛ أوَّلًا: تفاديًا لمُخاطَبةِ داودَ عليه السَّلامُ بذلك، وثانيًا: لِيَكونَ أَعَمَّ [398] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 123). .
- وفي قَولِه: إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ إظهارُ سَبِيلِ اللَّه في مَوقِعِ الإضمارِ -حيثُ لم يقُلْ: (سَبيلِه)-؛ لِزيادةِ التَّقريرِ، والإيذانِ بكَمالِ شَناعةِ الضَّلالِ عنه [399] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/223). .
- وجِيءَ بالمَوصولِ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ؛ لِلإيماءِ إلى أنَّ الصِّلةَ عِلَّةٌ لاستِحقاقِ العَذابِ [400] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/245). .
- والعُمومُ الَّذي في قَولِه: الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يُكسِبُ الجُملةَ وصْفَ التَّذييلِ [401] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/245). .
- واللَّامُ في لَهُمْ عَذَابٌ لِلاختِصاصِ [402] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/245). .
- والباءُ في بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ سَبَبيَّةٌ، و(ما) مَصدَريَّةٌ، أيْ: بسَبَبِ نِسيانِهم يَومَ الحِسابِ [403] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/245). .
- والنِّسيانُ في قَولِه: بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ: مُعبَّرٌ به عن الإعراضِ الشَّديدِ؛ لأنَّه يُشبِهُ نِسيانَ المُعرَضِ عنه [404] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/245). .