موسوعة التفسير

سورةُ ص
الآيات (21-26)

ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ

غريب الكلمات:

نَبَأُ: النَّبأُ: خَبَرٌ عَظيمٌ يَحصُلُ به عِلمٌ، وأصلُ (نبأ): يدُلُّ على الإتيانِ مِن مكانٍ إلى مكانٍ، والخَبَرُ يأتي مِن مَكانٍ إلى مَكانٍ .
الْخَصْمِ: أي: المُتخاصِمَينِ والمُتنازِعَينِ، ويَقَعُ على الواحِدِ والاثنَينِ والجَماعةِ، وأصلُ (خصم): يدُلُّ على مُنازَعةٍ .
تَسَوَّرُوا: أي: صَعِدوا وتَسَلَّقوا، يُقالُ: تَسَوَّرتُ الحائِطَ والسُّورَ: إذا عَلَوْتَه، وأصلُ (سور): يدُلُّ على عُلُوٍّ وارتِفاعٍ .
الْمِحْرَابَ: المِحرابُ: مُقَدَّمُ كُلِّ مَجلِسٍ ومُصَلًّى وأشرَفُه، ويُطلقُ على المَسجدِ، وموضعِ العبادةِ، والغُرفةِ، والموضعِ العالي الشَّريفِ .
بَغَى: أي: طغَى، وتعدَّى، والبَغْيُ: الظُّلْمُ، وأيضًا قَصْدُ الفسادِ، وأصلُ البغيِ: تَجاوُزُ الحدِّ، يقال: بَغَى الجرحُ، أي: تَجاوَزَ الحدَّ في فسادِه .
تُشْطِطْ: أي: تَجُرْ وتُسرِفْ وتَتجاوَزْ، وأصلُ (شطط): يدُلُّ على المَيلِ .
سَوَاءِ الصِّرَاطِ: أي: قَصْدَ الطَّريقِ المُستقيمِ ووسَطَه، والصِّراطُ: الطَّريقُ، وأصلُ (سوي): يدُلُّ على استقامةٍ واعتدالٍ بيْنَ شيئَينِ .
أَكْفِلْنِيهَا: أي: انزِلْ عنها لي، واجعَلْني كافِلَها، وأصلُ (كفل): يدُلُّ على تَضمُّنِ الشَّيءِ للشَّيءِ .
وَعَزَّنِي: أي: غلَبَني وقهَرَني، وأصلُ (عزز): يدُلُّ على شِدَّةٍ وقُوَّةٍ .
الْخُلَطَاءِ: أي: الشُّرَكاءِ، وأصلُ (خلط): يدُلُّ على الجَمعِ .
وَخَرَّ رَاكِعًا: أي: ألقَى بنفْسِه إلى الأرضِ ساجدًا، والخُرورُ والخَرُّ: السُّقوطُ مِنْ عُلُوٍّ إلى الأرضِ، وخرَّ: سقَط على وَجهِه، وأصلُ (خرر): هو اضْطِرابٌ، وسُقوطٌ مع صوتٍ، ورَاكِعًا: أي: ساجدًا، عبَّر بالرُّكوعِ عنه؛ لأنَّ كلَّ واحِدٍ منهما نوعٌ مِنَ الانحناءِ، وأصلُ (ركع): يدُلُّ على انحناءٍ في الإنسانِ وغيرِه .
وَأَنَابَ: أي: رجَعَ وتابَ، وأصلُ (نوب): يدُلُّ على اعتيادِ مَكانٍ ورُجوعٍ إليه .
لَزُلْفَى: أي: قُرْبةً ودَرَجةً ومَنزِلةً، وأصلُ (زلف): يدُلُّ على تَقدُّمٍ في قُربٍ إلى شَيءٍ .
مَآَبٍ: أي: مَرجِعٍ ومُنقَلَبٍ، وأصلُ (أوب): يدُلُّ على رُجوعٍ .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى: وهل أتاك -يا مُحمَّدُ- نَبَأُ المُتخاصِمَينِ حينَ تسَلَّقا على داودَ مِحْرابَه، حينَ دخَلوا عليه فجأةً ففَزِعَ منهم! قالوا له: لا تخَفْ، نحن خَصْمانِ بَغى بَعضُنا على بَعضٍ؛ فاحكُمْ بَيْنَنا بالحُكمِ الحَقِّ، ولا تَتجاوَزْه إلى غَيرِه، وأرشِدْنا بحُكمِك العادِلِ إلى طَريقِ الحَقِّ الواضِحِ.
قال أحَدُ الخَصْمَينِ لِداودَ: إنَّ هذا أخي له تِسعٌ وتِسعونَ نَعجةً، وليَ نَعجةٌ واحِدةٌ لا أملِكُ غَيْرَها، فقال لي أخي: مَلِّكْني إيَّاها بحيثُ تكونُ تحتَ كَفالَتي، وغَلَبَني في المُحاجَّةِ والمُخاطَبةِ! قال داودُ لِلمُتظَلِّمِ منهما: لقد ظلَمَك أخوك بسُؤالِه ضَمَّ نَعجتِك إلى نعاجِه الكثيرةِ، وإنَّ كثيرًا مِن الشُّرَكاءِ لَيَعتدي بعضُهم على بَعضٍ، ويَطمَعُ بَعضُهم في مالِ الآخَرِ، إلَّا الَّذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ؛ فإنَّهم لا يَقعونَ في ذلك، وقليلٌ أولئك.
وغَلَب على ظَنِّ داودَ بعدَ قَضائِه بيْنَ الخَصمَينِ أنَّما اختبَرْناه، فطَلَب مِن رَبِّه مَغفِرةَ ذَنْبِه، وألقَى بنفْسِه إلى الأرضِ ساجدًا، ورجَعَ إلى رَبِّه، فغفَرْنا لداودَ ذلك الذَّنْبَ، وإنَّ له عِندَنا مَنزِلةً عاليةً وحُسنَ مُنقَلَبٍ.
ثمَّ يقولُ تعالى موجِّهًا نبيَّه داودَ عليه السَّلامُ ووُلاةَ الأمورِ: يا داودُ إنَّا جعَلْناك خَليفةً في الأرضِ؛ فاحكُمْ بيْنَ النَّاسِ بالعَدلِ، ولا تتَّبِعْ هوى نَفْسِك فيُضِلَّك عن طريقِ الحَقِّ، إنَّ الَّذين يَميلونَ عن طَريقِ اللهِ لهم عذابٌ شَديدٌ؛ بسَبَبِ نِسيانِهم يومَ القيامةِ.

تفسير الآيات:

وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا أثنى اللهُ تعالى على داودَ عليه السَّلامُ بما أثنَى؛ ذكَرَ قِصَّتَه هذه؛ لِيُعلَمَ أنَّ مِثلَ قِصَّتِه لا يَقدَحُ في الثَّناءِ عليه، والتَّعظيمِ لِقَدْرِه، وإن تضَمَّنَت استِغفارَه رَبَّه .
وأيضًا لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى أنَّه آتَى نَبيَّه داودَ الفَصلَ في الخِطابِ بيْنَ النَّاسِ -على قَولٍ في التَّفسيرِ-، وكان مَعروفًا بذلك مَقصودًا؛ ذكَرَ تعالى نبَأَ خَصمَينِ اختَصَما عِندَه في قَضيَّةٍ، جعَلَهما اللهُ فِتنةً لداودَ عليه السَّلامُ، ومَوعِظةً لخَلَلٍ ارتكَبَه، فتاب اللهُ عليه، وغَفَر له .
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ.
أي: وهل أتاك -يا مُحمَّدُ- نبأُ المتخاصِمَينِ في قَضيَّةٍ، وخبَرُهما العَجيبُ مع داودَ ؟
إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ.
أي: حينَ تَسَلَّقَ المُتخاصِمانَ المِحْرابَ .
إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22).
إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ.
أي: حينَ دَخَلوا على داودَ بَغتةً فذُعِرَ وخافَ منهم .
قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ.
أي: قالوا لِداودَ لَمَّا رأَوْا فَزَعَه مِن دُخولِهم عليه: لا تخَفْ؛ نحن خَصْمانِ تَعدَّى أحَدُنا على صاحبِه، وتجاوَزَ حُدودَه بغَيرِ حَقٍّ .
فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ.
أي: فاقْضِ بيْنَنا بالعَدلِ، ولا تَجُرْ في القَضاءِ فتَتجاوَزَ الحَدَّ .
وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ.
أي: ودُلَّنا وأرشِدْنا بحُكمِك العادِلِ بيْنَنا إلى طَريقِ الحَقِّ الواضِحِ الَّذي لا الْتِباسَ فيه ولا إفراطَ ولا تَفريطَ .
إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23).
مناسبة الآية لما قبلها:
أنَّهم لَمَّا أخبَروا عن وُقوعِ الخُصومةِ على سَبيلِ الإجمالِ؛ أردَفوه ببَيانِ سَبَبِ تلك الخُصومةِ على سَبيلِ التَّفصيلِ، فقال :
إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً.
أي: قال أحَدُ الخَصمَينِ لِداودَ: إنَّ هذا أخي له تِسعٌ وتِسعونَ نَعجةً .
وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا.
أي: وليَ نَعجةٌ واحِدةٌ لا أملِكُ غَيْرَها، فقال لي أخي: أعطِنيها وضُمَّها إلَيَّ؛ فتَكونَ تحتَ يدي .
وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ.
أي: غلَبَني وقَهَرني في خِطابِه معي؛ لِيَأخُذَ مِنِّي نعجتي الوحيدةَ !
قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24).
قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ.
أي: قال داودُ للخَصم ِالمتظَلِّمِ مِن صاحِبِه: لقد ظلَمَك أخوك بسُؤالِه أخْذَ نَعجتِك الوحيدةِ؛ لِيَضُمَّها إلى نِعاجِه الكثيرةِ .
وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ.
أي: وإنَّ عادةَ كثيرٍ مِن الشُّرَكاءِ أن يَتعدَّى بعضُهم على بعضٍ، ويَظلِمَ بعضُهم بعضًا .
إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ.
أي: إلَّا الَّذين آمَنوا منهم بما وجَبَ عليهم الإيمانُ به، وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالحاتِ؛ فإنَّه لا يقَعُ منهم بَغْيٌ على شُرَكائِهم، وقَليلٌ هم أولئك .
وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ.
أي: وغَلَب على ظَنِّ داودَ بعدَ قَضائِه بيْن الخَصمَينِ أنَّما ابتَلَيْناه .
فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ.
أي: فطلَبَ مِن رَبِّه أن يَغفِرَ له ذَنْبَه؛ سَترًا له، وتَجاوُزًا عن مؤاخَذتِه به ، وألقَى بنَفْسِه إلى الأرضِ ساجدًا ، ورجَعَ إلى ربِّه وإلى رِضوانِه مِن خَطيئتِه تائِبًا .
عن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قرأ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو على المِنبَرِ ص، فلمَّا بلَغَ السَّجدةَ نَزَل فسَجَد، وسَجَد النَّاسُ معه، فلمَّا كان يومٌ آخَرُ قَرَأها، فلمَّا بلَغَ السَّجدةَ تَشَزَّنَ النَّاسُ للسُّجودِ، فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّما هي تَوبةُ نَبيٍّ، ولَكِنِّي رأيْتُكم تَشَزَّنْتُم للسُّجودِ، فنَزَل فسَجَد وسَجَدوا )) .
وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَجَد في ص، وقال: سَجَدَها داودُ تَوبةً، ونَسجُدُها شُكرًا)) .
وعنه أيضًا قال: ((ص ليس مِن عزائِمِ السُّجودِ، وقد رأيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَسجُدُ فيها)) .
وعن العَوَّامِ، قال: ((سألْتُ مُجاهِدًا عن سَجدةِ ص، فقال: سألْتُ ابنَ عَبَّاسٍ: مِن أين سَجَدْتَ؟ فقال: أوَما تَقرأُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ [الأنعام: 84]، أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام: 90] ؟ فكان داودُ ممَّن أُمِرَ نَبيُّكم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَقتَديَ به، فسجَدَها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم )) .
فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ (25).
فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ.
أي: فسَتَرْنا لداودَ ذلك الذَّنْبَ، وتَجاوَزْنا عن مُؤاخَذتِه به .
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ.
أي: وإنَّ لِداودَ عِندَنا لَقُربةً مِنَّا ومَنزِلةً رَفيعةً، وحُسْنَ مَرجِعٍ ومُنقَلَبٍ .
يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26).
يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ.
أي: يا داودُ إنَّا استَخلَفْناك في الأرضِ بعدَ مَن كان قَبْلَك؛ لِتأمُرَ بالمعروفِ، وتَنهَى عن المُنكَرِ، وتُدَبِّرَ أمورَ أهلِها الدِّينيَّةَ والدُّنيويَّةَ بأمْرِنا .
فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ.
أي: فاحكُمْ بيْن النَّاسِ بالعَدلِ والإنصافِ، وذلك بالحَقِّ المُنَزَّلِ مِن عندِ اللهِ تعالى .
وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.
أي: ولا تَتَّبِعْ هوَى نَفْسِك المُخالِفَ لأمرِ اللهِ؛ فيُضِلَّك الهوَى عن اتِّباعِ الحَقِّ المُوصِلِ لِرِضوانِ اللهِ وجَنَّتِه، ويُوقِعَك في الجَورِ والظُّلمِ .
كما قال تعالى: وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام: 119] .
إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ.
مناسبتها لما قبلها:
لَمَّا ذَكَرَ ما تَرتَّبَ على اتِّباعِ الهَوى، وهو الإضْلالُ عن سَبيلِ اللهِ؛ ذَكَر عِقابَ الضَّالِّ ، فقال:
إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ.
أي: إنَّ الَّذين يَحيدونَ عن طَريقِ اللهِ لهم عذابٌ شَديدٌ؛ بسَبَبِ نِسيانِهم يومَ القيامةِ، وتَرْكِهم الإيمانَ به، والاستِعدادَ له بالأعمالِ الصَّالحةِ .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ الله تعالى: وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ فيه أنَّ داودَ عليه السَّلامُ كان في أغلَبِ أحوالِه مُلازِمًا مِحرابَه لعبادةِ رَبِّه؛ ولهذا تسَوَّر الخَصمانِ عليه المحرابَ؛ لأنَّه كان إذا خلا في مِحرابِه لا يأتيه أحدٌ، فلم يجعَلْ كُلَّ وَقتِه للنَّاسِ، مع كثرةِ ما يَرِدُ عليه مِنَ الأحكامِ، بل جعَلَ له وَقتًا يخلو فيه برَبِّه، وتَقَرُّ عَينُه بعبادتِه، وتُعينُه على الإخلاصِ في جميعِ أمورِه .
2- قَولُ الله تعالى: وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ فيه أنَّه ينبغي استِعمالُ الأدَبِ في الدُّخولِ على الحُكَّامِ وغَيرِهم؛ فإنَّ الخَصمَينِ لَمَّا دخَلَا على داودَ عليه السَّلامُ في حالةٍ غيرِ مُعتادةٍ، ومِن غيرِ البابِ المعهودِ؛ فَزِعَ منهم، واشتَدَّ عليه ذلك، ورآه غيرَ لائقٍ بالحالِ .
3- قَولُ الله تعالى: وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ ... الآياتِ، في هذه القِصَّةِ دَليلٌ على التَّلَطُّفِ في رَدِّ الإنسانِ عن مَكروهٍ صَنَعه، وألَّا يُؤخَذَ بالعُنفِ ما أمكَنَ .
4- قَولُ الله تعالى: وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ فيه أنَّه لا يَمنَعُ الحاكِمَ مِن الحُكمِ بالحَقِّ سُوءُ أدَبِ الخَصمِ، وفِعلُه ما لا يَنبَغي .
5- قَولُ الله تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ فيه أنَّ المَوعوظَ والمَنصوحَ ولو كان كبيرَ القَدْرِ، جَليلَ العِلمِ، إذا نصَحَه أحَدٌ أو وعَظَه: لا يَغضَبُ ولا يَشمَئِزُّ، بل يُبادِرُه بالقَبولِ والشُّكرِ؛ فإنَّ الخَصمَينِ نصَحَا داودَ عليه السَّلامُ، فلم يَشمَئِزَّ ولم يَغضَبْ .
6- في قَولِه تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ دَليلٌ على أنَّ الخُصومَ إذا خاطَبوا الحاكِمَ بمِثلِه، وقالوا: «اعْدِلْ في حُكمِك، ولا تَجُرْ علينا»! لم يكُنْ ذلك منهما سُوءَ أدَبٍ، ولا يُجوزُ للحاكمِ أنْ يَجِدَ عليهما، ولا يُعاقِبَهما ، فمُخاطَبةُ الخَصمِ لِداودَ بهذا خارِجةٌ مَخرجَ الحِرصِ على إظهارِ الحَقِّ، وهو في مَعنى الذِّكرَى بالواجِبِ؛ فلذلك لا يُعَدُّ مِثلُها جَفاءً لِلحاكِمِ والقاضي، وهو مِن قَبيلِ: اتَّقِ اللهَ في أمْري. وصُدورُه قَبْلَ الحُكمِ أقرَبُ إلى مَعنى التَّذكيرِ، وأبعَدُ عن الجَفاءِ، فإنْ وَقَع بعدَ الحُكمِ كان أقرَبَ إلى الجَفاءِ .
7- في قَولِه تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فيه أنَّ ما معهم مِن الإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ يَمنَعُهم مِنَ الظُّلمِ . وكُلَّما كان الإنسانُ أقوى إيمانًا وأكثرَ عَمَلًا مِن الصَّالحاتِ، كان أبْعَدَ عن الظُّلمِ والبَغيِ .
8- في قَولِه تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أنَّ العَمَلَ لا يَنفَعُ إلَّا إذا بُنِيَ على الإيمانِ وكان صالِحًا، فعَمَلٌ بلا إيمانٍ لا يُقبَلُ، كما قال تعالى: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ [التوبة: 54] ، وكذلك لو كان هناك إيمانٌ لكِنْ لم يكنِ العَمَلُ صالِحًا؛ لِفَقْدِ الإخلاصِ أو الاتِّباعِ فيه، فإنَّه لا يَنفعُ .
9- قَولُ الله تعالى: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يُفيدُ أنَّ بَغْيَ أحَدِ المُتعاشِرَينِ على عَشيرِه: مُتَفَشٍّ بيْن النَّاسِ غيرِ الصَّالحينَ مِن المؤمِنينَ .
10- قَولُ الله تعالى: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فيه أنَّ المخالطةَ بيْن الأقارِبِ والأصحابِ، وكثرةَ التَّعَلُّقاتِ الدُّنيويَّةِ الماليَّةِ: مُوجِبةٌ للتَّعادي بيْنَهم، وبَغْيِ بعضِهم على بعضٍ، وأنَّه لا يَرُدُّ عن ذلك إلَّا استِعمالُ تقوى اللهِ، والصَّبرُ على الأُمورِ بالإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ، وأنَّ هذا مِن أقَلِّ شَيءٍ في النَّاسِ .
11- قال الله تعالى: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ذِكرُ غالِبِ أحوالِ الخُلَطاءِ أراد به الموعِظةَ لهما بعدَ القَضاءِ بَيْنَهما، على عادةِ أهلِ الخَيرِ مِنِ انتِهازِ فُرَصِ الهدايةِ؛ فأراد داودُ عليه السَّلامُ أن يُرَغِّبَهما في إيثارِ عادةِ الخُلَطاءِ الصَّالِحينَ، وأن يُكَرِّهَ إليهما الظُّلْمَ والاعتِداءَ. ويُستفادُ مِن المَقامِ أنَّه يأسَفُ لحالِهما، وأنَّه أراد تَسليةَ المظلومِ عَمَّا جرَى عليه مِن خَليطِه، وأنَّ له أُسوةً في أكثَرِ الخُلَطاءِ .
12- في قَولِه تعالى: وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ أنَّ الحاكمَ لا يَحكُمُ حتَّى يَستوعِبَ حُجَجَ الخَصمَينِ ، وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
13- في قَولِه تعالى: وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ أنَّ الحاكمَ الذي نَصَب نفْسَه لِيَكونَ حَكَمًا بيْنَ العِبادِ لا يَحِلُّ له أنْ يَختفِيَ عنهم في الوقتِ الَّذي يكونُ وقتًا للتَّحاكمِ، وفيه أنَّ الاشتِغالَ بما فيه مصلحةٌ عامَّةٌ أفضلُ مِن الاشتغالِ بما فيه مصلحةٌ خاصَّةٌ . وهذا على القولِ بأنَّ داودَ عليه السَّلامُ كان قد أغلَق بابَه، أو جعَل عليه حاجبًا يمنعُ النَّاسَ مِن الدُّخولِ عليه.
14- في قَولِه تعالى: وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ الظنُّ بمعنى العِلمِ -واللهُ أعلمُ- أي: عَلِمَ داودُ، والدَّليلُ عليه استِغفارُه وتوبتُه؛ لأنَّ بالشَّكِّ لا يَتحقَّقُ الذَّنْبُ؛ فلِلتَّائِبينَ بعدَه أنْ يَقتَدوا به -صلَّى الله عليه وسلَّم- في التَّوبةِ، فيَستَغفِروا خارِّينَ بيْنَ يَدَيْ ربِّهم في السُّجودِ؛ لأنَّه أجْدَرُ بالغُفرانِ لصاحبِه إذا تذَلَّلَ بالسُّجودِ لخالِقِه .
15- قَولُ الله تعالى: وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ فيه أنَّ الاستغفارَ والعِبادةَ -خُصوصًا الصَّلاةَ- مِن مُكَفِّراتِ الذُّنوبِ؛ فإنَّ اللهَ رَتَّب مَغفِرةَ ذَنْبِ داودَ على استِغفارِه وسُجودِه .
16- في قَولِه تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ أنَّه لا ينبغي للشَّخصِ إذا وُكِل إليه تَوَلِّي القضاءِ أنْ يَفِرَّ منه ما دام يَعرِفُ مِن نفْسِه الكفاءةَ؛ حتَّى لا يتَعطَّلَ هذا المَنصِبُ العظيمُ الَّذي هو مَنصِبُ الرُّسلِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ، فإذا أتاه دونَ سؤالٍ فلْيَستَعِنْ بالله، واللهُ يُعينُه عليه ، فمَنصِبُ القَضاءِ فَرْضُ كفايةٍ -كما قال ذلك أهلُ العِلمِ- وإذا لم يُوجَدْ إلَّا الشَّخصُ المُعَيَّنُ المُؤَهَّلُ، فإنَّه يَكونُ في حقِّه فرضَ عَينٍ .
17- قَولُ الله تعالى: وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فيه أنَّه ينبغي للحاكِمِ أن يَحذَرَ الهَوى، ويَجعَلَه منه على بالٍ؛ فإنَّ النُّفوسَ لا تخلو منه، بل يُجاهِدُ نَفْسَه بأن يكونَ الحَقُّ مَقصودَه، وأن يُلقِيَ عنه وقتَ الحُكمِ كُلَّ مَحبَّةٍ أو بُغضٍ لأحَدِ الخَصمَينِ .
18- قَولُ الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ فيه أنَّ السَّبَبَ الأوَّلَ لحُصولِ الضَّلالِ هو نِسيانُ يَومِ الحِسابِ؛ لأنَّه لو كان مُتذكِّرًا ليَومِ الحِسابِ لَمَا أعرَضَ عن إعدادِ الزَّادِ لِيَومِ المعادِ، ولَمَا صارَ مُستَغرِقًا في هذه اللَّذَّاتِ الفاسِدةِ .
19- في قَولِه تعالى: بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ الحَذَرُ مِن الانغِماسِ في الدُّنيا؛ الَّذي يُوجِبُ نِسيانَ يومِ الحسابِ، وكلُّ لَهْوٍ يَصُدُّ عن سبيلِ اللهِ يُنسِي يومَ الحسابِ .
20- قَولُه تعالى: بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ فيه التَّرهيبُ مِن نسيانِ القيامةِ، قال تعالى: فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا [الأعراف: 51] .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إلى آخرِ القِصَّةِ: أنَّ الحُكْمَ بينَ النَّاسِ أفضَلُ مِن العباداتِ الخاصَّةِ؛ لأنَّ نَفعَه مُتَعَدٍّ، والعباداتِ الخاصَّةَ نَفعُها قاصِرٌ . وذلك على القولِ بأنَّ داودَ عليه السَّلامُ كان قد أغلَق بابَه، أو جعَل عليه حاجبًا يمنعُ النَّاسَ مِن الدُّخولِ عليه.
2- في قَولِه تعالى: فَفَزِعَ مِنْهُمْ أنَّ الأنبياءَ يَلحَقُهم مِن الطَّبائعِ البَشَريَّةِ ما يَلحَقُ غَيْرَهم؛ حيث لَحِقَه الفَزَعُ كما يَلحَقُ سائِرَ النَّاسِ .
3- قَولُ الله تعالى: وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ في هذه القِصَّةِ دليلٌ على جوازِ القَضاءِ في المَسجِدِ ، وذلك على قولٍ في معنى المحرابِ.
4- قال الله تعالى: إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً نَصَّ على الأُخُوَّةِ؛ لاقتِضائِها عَدَمَ البَغيِ، وأنَّ بَغْيَه الصَّادِرَ منه أعظَمُ مِن غَيرِه، سواءٌ كانت أُخوَّةً في الدِّينِ أو النَّسَبِ أو الصَّداقةِ .
5- قَولُ الله تعالى: إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فيه جَوازُ المعاريضِ مِن القَولِ -وذلك على قولٍ في معنى الآيةِ-؛ والمعاريضُ غيرُ مَعدودةٍ في عِدادِ الكَذِبِ .
6- لَباقةُ هَذينِ الخَصمَينِ؛ حيثُ لم تُثِرِ الخُصومةُ ضَغينتَهما؛ ولهذا قال: إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ، مع أنَّه قال في الأوَّلِ: بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ لكِنْ هذا البَغيُ لم تُفقَدْ به الأُخُوَّةُ؛ لِقَولِه: إِنَّ هَذَا أَخِي .
7- قَولُ الله تعالى: إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ فيه دَليلٌ شَرعيٌّ على جَوازِ وَضعِ القِصَصِ التَّمثيليَّةِ الَّتي يُقصَدُ منها التَّربيةُ والمَوعِظةُ، ولا يَتحَمَّلُ واضِعُها جُرحةَ الكَذِبِ ، وذلك على أحَدِ القَولَينِ في معنى الآيةِ.
8- قَولُ الله تعالى: قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ فيه سؤالٌ: كيف جاز لداودَ عليه السَّلامُ أن يَحكُمَ على أحَدِ الخَصمَينِ بمُجَرَّدِ قَولِ خَصمِه؟
الجواب من وجوه:
 الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ هذا الكلامَ ليس ابتداءً مِن داودَ عليه السَّلامُ إثرَ فَراغِ لَفظِ المُدَّعِي، ولا فُتيا بظاهِرِ كَلامِه قَبْلَ ظُهورِ ما يَجِبُ، فذلك على تقديرِ: لَئِنْ كان ما تقولُ، لَقد ظَلَمَك. أي: أنَّ هذا الحكمَ كان مشروطًا بشرطِ كونِه صادقًا في دعواه.
الوجهُ الثَّاني: أنَّه ثَمَّ مَحذوفٌ، أي: فأقَرَّ المُدَّعَى عليه، فقال: لَقَدْ ظَلَمَكَ، ولكِنَّه لم يُحْكَ في القُرآنِ اعتِرافُ المُدَّعَى عليه؛ لأنَّه معلومٌ مِن الشَّرائِعِ كُلِّها؛ إذ لا يَحكُمُ الحاكِمُ إلَّا بعدَ إجابةِ المُدَّعَى عليه .
الوجهُ الثَّالِثُ: أن يكونَ التَّقديرُ أنَّ الخَصمَ الَّذي هذا شأنُه يكونُ قد ظَلَمك .
الوجهُ الرَّابعُ: أنَّه مِن المعلومِ مِن السِّياقِ السَّابِقِ مِن كَلامِهما: أنَّ هذا هو الواقِعُ؛ فلهذا لم يحتَجْ أن يَتَكلَّمَ الآخَرُ؛ فلا وَجْهَ للاعتِراضِ .
الوجهُ الخامِسُ: أنَّه قد عَلِمَ داودُ عليه السَّلامُ مِن تَساوُقِهما للخُصومةِ ومِن سُكوتِ أحَدِ الخَصمَينِ أنَّهما مُتقارِبانِ على ما وَصَفه الحاكي منهما .
الوجهُ السَّادسُ: أنَّ هذه كانت خطيئةَ داودَ عليه السَّلامُ؛ لأنَّه قال: لَقَدْ ظَلَمَكَ مِن غيرِ تثبُّتٍ ببَيِّنةٍ، ولا إقرارٍ مِن الخَصمِ هل كان هذا كذا أو لم يكُنْ .
9- قَولُ الله تعالى: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ استُدِلَّ به على جوازِ الشَّرِكةِ .
10- في قَولِه تعالى: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ دَليلٌ على أنَّ العَرَبَ -وإنْ سَمَّتِ النِّساءَ بالنِّعاجِ- فهي في هذا الموضِعِ نِعاجُ الغَنَمِ -على أحدِ القولَينِ-؛ لأنَّ الخُلَطاءَ لا يكونونَ في النِّساءِ، إنَّما يَكونونَ في الغَنَمِ .
11- في قَولِه تعالى: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ أنَّ أكثَرَ الشُّرَكاءِ يَحصُلُ مِن أحدِهم بَغْيٌ على الآخَرِ، وهذا مِن الغَريبِ أن يَكونَ الإنسانُ كُلَّما قَرُبَ إلى الشَّخصِ تُوُقِّعَ منه البَغيُ أكثرَ ممَّا لو كان بعيدًا؛ لأنَّ البعيدَ ليس بيْنَه وبيْنَه صِلةٌ، لكنَّ الَّذي بيْنَه وبيْنَه صِلةٌ وهو الشَّريكُ: هو الَّذي رُبَّما يَجحَدُه أو يُنكِرُه، أو يَفعَلُ شيئًا لم يَأذَنْ به أو ما شابَهَ ذلك .
12- قال عزَّ وجلَّ: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ في قَولِه تعالى: وَقَلِيلٌ مَا هُمْ أنَّ الجَمعَ بيْن هذَينِ الوَصفَينِ؛ الإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ: قَليلٌ .
13- قال عزَّ وجَلَّ: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ في قَولِ الله تعالى: وَقَلِيلٌ مَا هُمْ حَثٌّ للخَصْمَينِ أن يَكونا مِنَ الصَّالِحينَ؛ لِما هو مُتقَرِّرٌ في النُّفوسِ مِن نَفاسةِ كُلِّ شَيءٍ قَليلٍ .
14- في قَولِه تعالى: وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ أنَّ الأنبياءَ عليهم السَّلامُ قد يُفتَنونَ ويُختَبَرونَ، ولكِنَّ الفِتنةَ الَّتي يُفتَنُ بها الأنبياءُ لا يُمكِنُ أنْ تَعودَ إلى إبطالِ مُقَوِّماتِ الرِّسالةِ والنُّبوَّةِ؛ كالفِتنةِ التي تَعودُ إلى الكَذِبِ، أو الشِّركِ، أو الأخلاقِ الرَّديئةِ، وما أشبَهَها، هذا لا يُمكِنُ أنْ يَقَعَ مِن الأنبياءِ .
15- في قَولِه تعالى: فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ أنَّ العبدَ بعدَ التَّوبةِ يعودُ خيرًا ممَّا كان .
16- قَولُ الله تعالى في حقِّ داودَ عليه السَّلامُ: فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ، وقولُه عن سُلَيمانَ عليه السَّلامُ: قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي ... إلى أن قال عنه: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ يُبَيِّنُ إكرامَ اللهِ لِعَبدِه داودَ وسُلَيمانَ؛ بالقُربِ منه، وحُسنِ الثَّوابِ، وألَّا يُظَنَّ أنَّ ما جرَى لهما مُنقِصٌ لدَرَجتِهما عندَ الله تعالى، وهذا مِن تمامِ لُطفِه سبحانه بعبادِه المُخلَصينَ: أنَّه إذا غَفَر لهم، وأزال أثَرَ ذُنوبِهم، أزال الآثارَ المترتِّبةَ عليه كلَّها، حتَّى ما يقَعُ في قُلوبِ الخَلقِ؛ فإنَّهم إذا عَلِموا ببَعضِ ذُنوبِهم وقَعَ في قُلوبِهم نُزولُهم عن دَرَجتِهم الأُولى، فأزال اللهُ تعالى هذه الآثارَ، وما ذاك بعزيزٍ على الكريمِ الغَفَّارِ .
17- قَولُ الله تعالى: وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ يُبَيِّنُ اعتِناءَ اللهِ تعالى بأنبيائِه وأصفيائِه عندَما يقَعُ منهم بَعضُ الخَلَلِ، بفِتنتِه إيَّاهم، وابتلائِهم بما به يَزولُ عنهم المحذورُ، ويَعودون إلى أكمَلَ مِن حالتِهم الأُولى، كما جرَى لداودَ وسُلَيمانَ عليهما السَّلامُ .
18- في قَولِه تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ أنَّه يجِبُ الحُكمُ بيْنَ النَّاسِ بالحقِّ؛ سواءٌ كان ذلك في طريقِ الحُكمِ أو في نفْسِ الحُكمِ، أمَّا طريقُ الحكمِ؛ فهو معاملةُ الخَصمينِ بحيثُ تكونُ المعامَلةُ بيْنَهما على وجهِ العدلِ، وألَّا يميلَ إلى أحَدِ الخَصمَينِ أو يحابيه؛ لِقَرابةٍ، أو لجاهِه، أو سبَبٍ يقتَضى المَيلَ، ويُؤيِّدُ هذا قَولُه: وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى، وأمَّا في الحكمِ؛ فأنْ يَحكُمَ بما تقتضيه الشَّريعةُ .
19- قَولُ الله تعالى: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ فيه أنَّ الحُكمَ بيْنَ النَّاسِ مَرتبةٌ دينيَّةٌ تولَّاها رُسُلُ اللهِ وخواصُّ خَلقِه، وأنَّ وَظيفةَ القائِمِ بها: الحُكمُ بالحَقِّ، ومُجانبةُ الهوى؛ فالحُكمُ بالحَقِّ يَقتَضي العِلمَ بالأُمورِ الشَّرعيَّةِ، والعِلمَ بصُورةِ القَضيَّةِ المحكومِ فيها، وكيفيَّةَ إدخالِها في الحُكمِ الشَّرعيِّ؛ فالجاهِلُ بأحَدِ الأمْرَينِ لا يَصلُحُ للحُكمِ، ولا يَحِلُّ له الإقدامُ عليه .
20- المعروفُ في استعمالِ الهوَى عندَ الإطلاقِ: أنَّه المَيلُ إلى خلافِ الحقِّ، كما في قولِه عزَّ وجلَّ: وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ .
21- قال الله تعالى: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى، ولذلك اشتَرَط العُلَماءُ في الخَليفةِ شُروطًا كُلُّها تَحومُ حوْلَ الحَيلولةِ بيْنَه وبيْنَ اتِّباعِ الهوَى، وما يُوازيه مِنَ الوُقوعِ في الباطِلِ، وهي: التَّكليفُ، والحُرِّيَّةُ، والعَدالةُ، والذُّكورةُ .
22- مُجَرَّدُ الحبِّ والبغضِ هو هوًى، لكنَّ المُحَرَّمَ منه هو اتِّباعُ حُبِّه وبُغْضِه بغيرِ هُدًى مِن اللهِ؛ ولهذا قال اللهُ سبحانه لنَبيِّه داودَ عليه السَّلامُ: وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ، فأخبَرَ أنَّ مَنِ اتَّبَعَ هواه أضَلَّه ذلك عن سَبيلِ اللهِ، وهو هُداهُ الَّذي بَعَثَ به رَسولَه، وهو السَّبيلُ إليه .
23- قال الله تعالى: وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لم يَنْهَه عن هوى النَّفْسِ، ولكِنْ نهاه عن اتِّباعِ هواها؛ لأنَّ النَّفْسَ قد تَهوى في الحُكمِ بغيرِ حَقٍّ؛ حيث قال: فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى؛ لأنَّ النَّفْسَ أُنشِئَت على الهوى والمَيلِ إلى اللَّذَّاتِ والشَّهواتِ، وعلى ذلك طُبِعَت وبُنِيَت؛ فيكونُ في هواها إلى ما تَهوى مدفوعًا غيرَ مالِكٍ ولا قادِرٍ على دَفْعِه؛ لذلك لم يَنْهَه عن هواها، ولكِنْ نهاه عن اتِّباعِ هواها، ويَقدِرُ على مَنْعِها بالعَقلِ، ورَدِّها إلى اتِّباعِ الحَقِّ؛ لذلك كان ما ذَكَر. واللهُ أعلَمُ .
24- في قَولِه تعالى: فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أنَّ اتِّباعَ الهوَى يَجلِبُ للإنسانِ الضَّلالَ، كما أنَّه هو نَفْسُه ضَلالٌ، فإذا اتَّبَعتَ الهوى في قَضيَّةٍ ما فانتَظِرِ اتِّباعَ الهوى في القَضيَّةِ الَّتي تليها؛ لأنَّ المَعصيةَ قَبْلَ أنْ يَقَعَ فيها الإنسانُ يَجِدُ نَفْسَه تَستوحِشُ منها وتَنفِرُ، فإذا فَعَلَها مَرَّةً هانتْ عليه، وانكسرَ الحِجابُ، فإذا هانتْ عليه أوَّلَ مَرَّةٍ هانتْ عليه الثَّانيةُ ثمَّ الثَّالثةُ، حتَّى تُصبِحَ وكأنَّها لا شَيءَ؛ ولهذا يَضرِبُ العامَّةُ مَثَلًا له فائِدةٌ، يقولونَ: «بكثرةِ الإمسَاسِ يَقِلُّ الإحساسُ»، يعني: إذا أكثَرَ الإنسانُ مُماسَّةَ الشَّيءِ قَلَّ إحساسُه به .
25- قَولُ الله تعالى: وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ في جَعلِ الضَّلالِ عن سَبيلِ اللهِ، ونِسيانِ يومِ الحِسابِ سَبَبينِ لاستِحقاقِ العَذابِ الشَّديدِ: تَنبيهٌ على تلازُمِهما؛ فإنَّ الضَّلالَ عن سَبيلِ اللهِ يُفضي إلى الإعراضِ عن مُراقَبةِ الجَزاءِ .
26- أنَّ دِينَ اللهِ تعالى واحِدٌ لا يَتشعَّبُ؛ لِقَولِه تعالى: عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فأفرَدَها، ويدُلُّ لهذا قَولُه تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام: 153] ؛ فسَبيلُ اللهِ واحِدةٌ، وما خالَفَها فهو المُتَشَتِّتُ؛ فهذا سَبَبُه الهوى، وهذا سَبَبُه خَشيةُ الناسِ، وهذا سَبَبُه كذا، وهذا سَبَبُه كذا؛ فتتفَرَّقُ السُّبُلُ .
27- أنَّ مِن أسبابِ الضَّلالِ عن سَبيلِ اللهِ نِسيانَ يومِ الحِسابِ، والغفلةَ عنه، والانغماسَ في الدُّنيا حتَّى تُنسِيَ الإنسانَ ما خُلِقَ له، وما هو مُقبِلٌ عليه؛ ولهذا قال تعالى: بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ أي: غَفَلوا عنه، وليس المرادُ بالنِّسيانِ الذُّهولَ الَّذي يُعفَى عنه، بلِ المرادُ بالنِّسيانِ التَّركُ الَّذي هو الغَفلةُ، وعَدَمُ المُبالاةِ به .
28- إثباتُ الأسبابِ؛ تُؤخَذُ مِن قَولِه تعالى: بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ؛ لأنَّ الباءَ هذه للسَّبَبيَّةِ .
29- مُناسَبةُ ذِكرِ الله تعالى قصَّةَ داودَ عليه السَّلامُ في سورةِ (ص): أنَّهم لَمَّا قالوا أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا [ص: 8] كان في ذلك الكلامِ إشعارٌ بهَضمِ جانبِه، فغار الله لذلك، وبيَّن أنَّهم ليس عندَهم خزائنُ رحمتِه، ولا لهم مُلكٌ، وأنَّهم جندٌ مهزومون. وكأنَّه يقولُ: وما قدرُ هؤلاء؟ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ [ص: 17] واذكُرْ مَن آتَيْناه المُلكَ العظيمَ في الدُّنيا، مع ما لَه في الآخرةِ، وهو أخوك، وأنت عندَنا أرفَعُ رتبةً منه. وفي ذلك تسليةٌ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلم مِن وجهينِ:
 أحدهما: أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لا شكَّ أنَّه يَفرَحُ لإخوتِه الأنبياءِ بما يَحصُلُ لهم مِن الخَيرِ، كما لو حصَل لِنَفْسِه، سواء بسواء، وأكثر.
والثَّاني: أنَّه يعلمُ أنَّ رتبتَه عندَ الله أكمَلُ. وإذا ذكَر هذَينِ الأمْرَينِ، احتقَر قُرَيشًا فيه، وعلِم أنَّ الَّذي أُوتوه وافتَخَروا به لا شيءَ. فهذا وجهُ المناسبةِ .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ كلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لإيرادِ قِصَّةِ داودَ عليه السَّلامُ . أو مَعطوفٌ على جُملةِ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ [ص: 18] ، والإنشاءُ هنا في معنَى الخَبَرِ؛ فإنَّ هذه الجُملةَ قصَّتْ شأنًا مِن شأنِ داودَ مع ربِّه تعالى، فهي نَظيرُ ما قَبْلَها .
- وأيضًا قَولُه: وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ظاهِرُه الاستِفهامُ، ومَعناهُ: الدَّلالةُ على أنَّه مِنَ الأنباءِ العَجيبةِ الَّتي حَقُّها أنْ تَشيعَ ولا تَخفَى على أحَدٍ، وفي الاستِفهامِ معنَى التَّشويقِ إلى استِماعِه؛ وذلك أنَّ هذه القِصَّةَ إنْ كانتْ مَعلومةً للسَّامِعِ فيَكونُ في الاستِفهامِ بَعثٌ له، وتَحريضٌ على إشاعَتِها، وإعلامِ النَّاسِ بها، أي: كأنَّك ما عَلِمْتَها حيثُ تُخْفيها، ولا تؤدِّي حقَّها مِن الإذاعةِ، وإنْ لم تكُنْ معلومةً كان تأنيبًا على التَّقاعُدِ عن استِعلامِها، وتَشويقًا إلى استِماعِها. والخِطابُ يَجوزُ أنْ يَكونَ لكلِّ سامِعٍ .
- والتَّعريفُ في الْخَصْمِ للعَهدِ الذِّهنيِّ، أي: عهدِ فَردٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِن جِنسِه، أي: نَبأُ خَصمٍ مُعَيَّنٍ هذا خَبَرُه. والخَصمُ: اسمٌ يُطلَقُ على الواحِدِ وأكثَرَ ، وأُريدَ به هنا خَصْمانِ؛ لقَولِه بعْدَه: خَصْمَانِ [ص: 22] ، أو نحنُ فَوجانِ مُتَخاصِمانِ، على تَسميةِ مُصاحِبِ الخَصمِ خَصمًا ، وقيل غيرُ ذلك .
2- قولُه تعالَى: إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ
- قَولُه: قَالُوا لَا تَخَفْ استِئنافٌ وَقَعَ جَوابًا عن سُؤالٍ نَشَأَ مِن حِكايةِ فَزَعِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ كأنَّه قيلَ: فماذا قالوا عِندَ مُشاهَدَتِهم لِفَزَعِه؟ فقيل: قالوا -إزالةً لِفَزَعِه-: لَا تَخَفْ خَصْمَانِ ... .
- وجاءَ ضَميرُ المُتكَلِّمِ ومعه غَيرُه في قولِه: بَغَى بَعْضُنَا؛ رَعْيًا لِمَعنى خَصْمَانِ، ولم يُبَيِّنا الباغيَ منهما؛ لأنَّ مَقامَ تَسكينِ رَوْعِ دَاودَ يَقتَضي الإيجازَ بالإجمالِ، ثم يَعقُبُه التَّفصيلُ، ولِإظهارِ الأدَبِ مع الحاكِمِ؛ فلا يَتَولَّيانِ تَعيينَ الباغي منهما، بل يَترُكانِه لِلحاكِمِ يُعيِّنُ الباغيَ منهما في حُكمِهِ حينَ قال لِأحَدِهما: لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ [ص: 24] .
- والفاءُ في قَولِه: فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ تَفريعٌ على قَولِه: خَصْمَانِ؛ لِأنَّ داودَ عليه السَّلامُ لَمَّا كان مَلِكًا، وكان اللَّذانِ حَضَرَا عِندَه خَصمَيْنِ؛ كان طَلَبُ الحُكمِ بَيْنَهما مُفَرَّعًا على ذلك. والباءُ في بِالْحَقِّ لِلمُلابَسةِ، وهي مُتعَلِّقةٌ بقَولِه: فَاحْكُمْ، وهذا مُجرَّدُ طَلَبٍ منهما لِلحَقِّ .
- والنَّهيُ في قَولِه: وَلَا تُشْطِطْ مُستَعمَلٌ في التَّذكيرِ والإرشادِ .
 - وقَولُهما: وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ يَصرِفُ عن إرادةِ الجَفاءِ مِن قَولِهما: وَلَا تُشْطِطْ؛ لأنَّهما عَرَفا أنَّه لا يَقولُ إلَّا حَقًّا، وأنَّهما تَطَلَّبَا منه الهُدَى، وعُبِّر بالهُدَى هنا عن البَيانِ، وإيضاحِ الصَّوابِ .
- قولُه: سَوَاءِ الصِّرَاطِ ضُرِب مثلًا لِعَيْنِ الحقِّ ومحضِه الَّذي لا يَشوبُه باطِلٌ، وعُبِّر به عنه؛ لِأنَّ الصِّراطَ الطَّريقُ الواسِعُ، والسَّواءُ منه هو الَّذي لا الْتِواءَ فيه، ولا شُعَبَ تَتشَعَّبُ منه، فهو أسرَعُ إيصالًا إلى المَقصودِ باستِوائِه، وأبعَدُ عن الالتِباسِ بسَلامَتِه مِنَ التَّشَعُّبِ .
- ومَجموعُ قَولِه: وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ تَمثيلٌ لِحالِ الحاكِمِ بالعَدلِ بحالِ المُرشِدِ الدَّالِّ على الطَّريقِ المُوصلةِ؛ فهو مِنَ التَّمثيلِ القابِلِ تَجزِئةَ التَّشبيهِ في أجزائِه .
3- قولُه تعالَى: إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ
- قَولُه: إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ استِئنافٌ لِبَيانِ ما فيه الخُصومةُ، أيْ: أخي في الدِّينِ، أو في الصُّحبةِ، والتَّعرُّضُ لذلك تَمهيدٌ لِبَيانِ كَمالِ قُبحِ ما فَعَل به صاحِبُه .
- ويَجوزُ أنْ يَكونَ أَخِي بَدَلًا مِنِ اسمِ الإشارةِ، ويَجوزُ أنْ يَكونَ خَبَرَ إِنَّ، وهو أوْلَى؛ لِأنَّ فيه زيادةَ استِفظاعِ اعتِدائِه عليه .
- قيل: الظَّاهِرُ إبقاءُ لَفظِ النَّعجةِ على حَقيقَتِه مِن كَونِها أُنثى الضَّأْنِ؛ لِأنَّ ذلك الإخبارَ كان صادِرًا مِنَ المَلائِكةِ -على قولٍ-، على سَبيلِ التَّصويرِ لِلمَسألةِ، والفَرضِ لها مِن غَيرِ تَلَبُّسٍ بشَيءٍ منها، فمَثَّلوا بقِصَّةِ رَجُلٍ له نَعجةٌ، ولِخَليطِه تِسعٌ وتِسعونَ، فأرادَ صاحِبُه تَتِمَّةَ المِئةِ، فطَمِعَ في نَعجةِ خَليطِه، وأرادَ انتِزاعَها منه، وحاجَّهُ في ذلك مُحاجَّةَ حَريصٍ على بُلوغِ مُرادِه، ويدُلُّ على ذلك قَولُه: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ [ص: 24] ، وهذا التَّصويرُ والتَّمثيلُ أبلَغُ في المَقصودِ، وأدَلُّ على المُرادِ .
- وقيل: إنَّ لَفظِ النَّعجةِ كِنايةٌ عنِ المَرأةِ؛ فقد كانوا يَكْنون عنِ المرأةِ بالنَّعجةِ والشَّاةِ، والكِنايةُ والتَّمثيلُ فيما يُساقُ لِلتَّعريضِ أبلَغُ في المَقصودِ، وفي مَعنى ذِكرِ النِّعاجِ نُكتةٌ بَليغةٌ؛ لِأنَّ تَحاكُمَهم في نَفْسِه كان تَمثيلًا، أيْ: تَعريضًا وتَوريةً، وكان كَلامُهم تَمثيلًا، أيْ: تَعريضًا وتَوريةً؛ لِأنَّ التَّمثيلَ أبلَغُ في التَّوبيخِ؛ ولِلتَّنبيهِ على أنَّه أمرٌ يُستَحْيا مِن كَشفِه، فيُكَنَّى عنه، كما يُكَنَّى عمَّا يُستَسمَجُ الإفصاحُ به .
- وقولُه: أَكْفِلْنِيهَا أي: اجْعَلْها في كَفالَتي، أي: حِفْظي، وهو كِنايةٌ عن الإعطاءِ والهِبةِ، أيْ: هَبْها لي .
- قَولُه: وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ أي: غَلَبَني في مُخاطَبَتِه، أيْ: أظهَرَ في الكَلامِ عِزَّةً علَيَّ وتَطاوُلًا؛ فجَعَلَ الخِطابَ ظَرفًا لِلعِزَّةِ؛ لِأنَّ الخِطابَ دَلَّ على العِزَّةِ والغَلَبةِ؛ فوَقَعَ تَنزيلُ المَدلولِ مَنزِلةَ المَظروفِ، وهو كَثيرٌ في الاستِعمالِ .
4- قولُه تعالَى: قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ
- قَولُه: قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ جَوابُ قَسَمٍ مَحذوفٍ؛ قَصَد به المُبالَغةَ في إنكارِ فِعلِ خَليطِه، وتَهجينِ طَمَعِه .
- وفي قَولِه: بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ أضافَ المَصدَرَ إلى المَفعولِ، وضَمَّنَ السُّؤالَ مَعنى الإضافةِ والضَّمِّ، أيْ: بإضافةِ نَعجَتِكَ على سَبيلِ السُّؤالِ والطَّلَبِ؛ ولذلك عَدَّاهُ بـ (إلى) .
- وأيضًا في قَولِه: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ كِنايةٌ عن أمْرِهما بأنْ يَكونَا مِنَ المُؤمِنينَ الصَّالِحينَ، وأنَّ ما فَعَلَه أحَدُهما ليس مِن شَأنِ الصَّالِحينَ .
- وزِيادةُ (ما) بَعدَ (قَلِيلٌ) في قَولِه: وَقَلِيلٌ مَا هُمْ؛ لِقَصدِ الإبهامِ، وفي هذا الإبهامِ إيذانٌ بالتَّعَجُّبِ مِن قِلَّتِهم بمَعونةِ السِّياقِ والمَقامِ. وقيل: (ما) صِلةٌ، تُفيدُ معنى التَّعظيمِ والتَّعَجُّبِ .
- وسَوقُ نَبَأِ الخَصمَيْنِ عَقِبَ التَّنويهِ بداودَ عليه السَّلامُ ليس إلَّا تَتميمًا لِلتَّنويهِ به؛ لِدَفعِ ما قد يُتَوهَّمُ أنَّه يَنقُضُ ما ذُكِرَ مِن فَضائِلِه ممَّا جاءَ في كِتابِ اليَهودِ في ذِكرِ هذه القِصَّةِ مِن أغلاطٍ باطِلةٍ تُنافي مَقامَ النُّبوَّةِ؛ فأُريدَ بَيانُ المِقدارِ الصَّادِقِ منها، وتَذييلُه بأنَّ ما صَدَرَ عن داودَ عليه السَّلامُ يَستَوجِبُ العِتابَ، ولا يَقتَضي العِقابَ؛ ولذلك خُتِمتْ بقَولِه: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ [ص: 25] .
- وأيضًا جاءتْ قِصَّةُ داودَ عليه السَّلامُ على طَريقةِ التَّمثيلِ والتَّعريضِ دونَ التَّصريحِ؛ لِكَونِها أبلَغَ في التَّوبيخِ، مِن قِبَلِ أنَّ التَّأمُّلَ إذا أدَّاهُ إلى الشُّعورِ بالمُعَرَّضِ به، كان أوْقَعَ في نَفْسِه، وأشَدَّ تَمكُّنًا مِن قَلبِه، وأعظَمَ أثَرًا فيه، وأجلَبَ لاحتِشامِه وحَيائِه، وأدْعى إلى التَّنَبُّهِ على الخَطَأِ فيه مِن أنْ يُبادِرَه به صَريحًا، مع مُراعاةِ حُسنِ الأدَبِ بتَركِ المُجاهَرةِ . وذلك بِناءً على قولٍ في التَّفسيرِ.
- وجاء الفَصلُ في القِصَّةِ على وَجهِ التَّحاكُمِ إلى داودَ عليه السَّلامُ لِيَحكُمَ بما حَكَم به مِن قَولِه: لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ؛ حتى يَكونَ مَحجوجًا بحُكمِه، ومُعتَرِفًا على نَفْسِه بظُلْمِه . وذلك بِناءً على قولٍ في التَّفسيرِ.
- وعَبَّرَ بالرَّاكِعِ عنِ السَّاجِدِ في قَولِه: وَخَرَّ رَاكِعًا؛ لِأنَّه يَنحَني ويَخضَعُ كالسَّاجِدِ، ويَجوزُ أنْ يَكونَ قدِ استَغفَرَ اللهَ لِذَنْبِه، وأحرَمَ برَكعَتَيِ الاستِغفارِ والإنابةِ؛ فيَكونَ المَعنى: وخرَّ لِلسُّجودِ راكِعًا، أيْ: مُصَلِّيًا؛ لِأنَّ الرُّكوعَ يُجعَلُ عِبارةً عنِ الصَّلاةِ . وقيل غيرُ ذلك .
5- قولُه تعالَى: فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ
- قولُه: فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ اسمُ الإشارةِ ذَلِكَ للإشارةِ إلى ما دَلَّتْ عليه خُصومةُ الخَصْمَينِ مِن تَمثيلِ ما فَعَله داودُ عليه السَّلامُ بصُورةِ قَضيةِ الخَصمَينِ -وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ-، وهذا مِن لَطائِفِ القُرآنِ؛ إذْ طَوى القِصَّةَ الَّتي تَمثَّلَ له فيها الخَصمانِ، ثمَّ أشارَ إلى المَطويِّ باسمِ الإشارةِ .
- وأتْبَعَ اللهُ سُبحانَه الخَبَرَ عنِ الغُفرانِ له بما هو أرفَعُ دَرَجةً؛ وهو أنَّه مِنَ المُقرَّبينَ عِندَ اللهِ، المَرْضيِّ عنهم، وأنَّه لم يُوقَفْ به عِندَ حَدِّ الغُفرانِ لا غَيرُ، فقالَ: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ. وتَأكيدُ الخَبَرِ -بـ (إنَّ) واللَّامِ-؛ لِإزالةِ تَوهُّمِ أنَّ اللهَ غَضِبَ عليه إذْ فَتَنَه؛ تَنزيلًا لِمَقامِ الاستِغرابِ مَنزِلةَ مَقامِ الإنكارِ .
6- قولُه تعالَى: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ
- قَولُه: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ... كَلامٌ مُستَأنَفٌ مَسوقٌ لِحِكايةِ ما خُوطِبَ به داودُ عليه السَّلامُ بعدَ ما تَقدَّمَ، وهو مَقولُ قَولٍ مَحذوفٍ مَعطوفٍ على قَولِه: فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ [ص: 25] ، أيْ: صَفَحْنا عنه، وذَكَّرْناه بنِعمةِ المُلْكِ، ووَعَظْناه؛ فجَمَعَ له بهذا تَنويهًا بشَأنِه، وإرشادًا لِلواجِبِ .
- وافتِتاحُ الخِطابِ بالنِّداءِ في قَولِه: يَا دَاوُودُ؛ لاستِرعاءِ وَعيِه، واهتِمامِه بما سَيُقالُ له .
- وقَولُه: فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مُفرَّعٌ على جَعْلِه خَليفةً؛ فأمَرَه بأنْ يَحكُمَ بيْنَ النَّاسِ بالحَقِّ؛ لِلدَّلالةِ على أنَّ ذلك واجِبُه، وأنَّه أحَقُّ النَّاسِ بالحُكمِ بالعَدلِ؛ ذلك لِأنَّه هو المَرجِعُ لِلمَظلومينَ، والَّذي تُرفَعُ إليه مَظالِمُ الظَّلَمةِ مِنَ الوُلاةِ، فإذا كان عادِلًا خَشِيَه الوُلاةُ والأُمراءُ؛ لِأنَّه ألِفَ العَدلَ، وكَرِهَ الظُّلْمَ فلا يُقِرُّ ما يَجري منه في رَعيَّتِه كُلَّما بَلَغَه، فيَكونَ الناسُ في حَذَرٍ مِن أنْ يَصدُرَ عنهم ما عَسى أنْ يُرفَعَ إلى الخَليفةِ فيَقتَصَّ مِنَ الظَّالِمِ، وأمَّا إنْ كانَ الخَليفةُ يَظلِمُ في حُكمِه، فإنَّه يَألَفُ الظُّلْمَ، فلا يُغضِبُه إذا رُفِعتْ إليه مَظلِمةُ شَخصٍ، ولا يَحرِصُ على إنصافِ المَظلومِ، والمُرادُ بالنَّاسِ ناسُ مَملَكَتِه؛ فالتَّعريفُ لِلعَهدِ، أو هو لِلاستِغراقِ العُرفيِّ .
- وأيضًا قَولُه: فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أمْرٌ بالدَّيمومةِ، وتَنبيهٌ لِغَيرِه ممَّن وَلِيَ أُمورَ النَّاسِ؛ فمِن حيثُ هو مَعصومٌ لا يَحكُمُ إلَّا بالحَقِّ أُمِرَ أوَّلًا بالحُكمِ، ولَمَّا كان الهَوى قد يَعرِضُ لِغَيرِ المَعصومِ أُمِرَ باجتِنابِه، وذَكَر نَتيجةَ اتِّباعِه؛ وهي إضلالُه عن سَبيلِ اللهِ .
- وتَقدَّمَ الأمْرُ بالحُكمِ بالحَقِّ على قَولِه: وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى؛ لِيَكونَ تَوطِئةً لِلنَّهيِ عن اتِّباعِ الهَوى؛ سَدًّا لِذَريعةِ الوُقوعِ في خَطَأِ الحَقِّ؛ فإنَّ داودَ عليه السَّلامُ ممَّن حَكَمَ بالحَقِّ، فأمْرُه به باعتِبارِ المُستَقبَلِ .
- والهَوى: كِنايةٌ عن الباطِلِ والجَورِ والظُّلمِ .
- والتَّعريفُ في الْهَوَى تَعريفُ الجِنسِ المُفيدُ لِلاستِغراقِ؛ فالنَّهيُ يَعُمُّ كُلَّ ما هو هَوًى؛ سواءٌ كان هَوى المُخاطَبِ، أو هَوى غَيرِه، مِثلَ هَوى زَوجِه ووَلَدِه، وسَيِّدِه وصَديقِه .
- وأيضًا النَّهيُ عن اتِّباعِ الهَوى تَحذيرٌ له، وإيقاظٌ؛ لِيَحذَرَ مِن جَرَّاءِ الهَوى، ويَتَّهِمَ هَوى نَفْسِه، ويَتعَقَّبَه، فلا يَنقادَ إليه فيما يَدعوه إليه إلَّا بعدَ التَّأمُّلِ والتَّثبُّتِ، والاستِرسالُ في اتِّباعِ الشَّهَواتِ وُقوعٌ في الرَّذائِلِ في الأغلَبِ؛ ولهذا جَعَلَ هنا الضَّلالَ عن سَبيلِ اللهِ مُسبَّبًا عنِ اتِّباعِ الهَوى، وهو تَسبُّبٌ أغلَبيٌّ عُرفيٌّ؛ فشَبَّهَ الهَوى بسائِرٍ في طَريق مهلكةٍ، وعَبَّرَ عن ذلك بالإضْلالِ عن طَريقِ الرَّشادِ، المُعبَّرِ عنه بسَبيلِ اللهِ؛ فإنَّ الَّذي يَتَّبِعُ سائِرًا غَيرَ عارِفٍ بطَريقِ المَنازِلِ النَّافِعةِ، لا يَلبَثُ أنْ يَجِدَ نَفْسَه وإيَّاه في مهلكةٍ أو مَقطَعةِ طَريقٍ .
- وقَولُه: فَيُضِلَّكَ جَوابٌ لِلنَّهيِ في قولِه: وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى .
- وقَولُه: عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فيه الثَّناءُ العظيمُ على شَريعةِ اللهِ؛ وذلك بإضافتِها إلى اللهِ؛ لأنَّ كلَّ ما أُضيفَ إلى اللهِ -إذا كانتِ الإضافةُ خاصَّةً- فإنَّ الإضافةَ تدُلُّ على شَرَفِه .
- وجُملةُ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ... يَظهَرُ أنَّها ممَّا خاطَبَ اللهُ به داودَ عليه السَّلامُ؛ فهي في مَوقِعِ العِلَّةِ لِلنَّهيِ؛ فكانت (إِنَّ) مُغْنيةً عن فاءِ التَّسبُّبِ والتَّرتُّبِ، فالشَّيءُ الَّذي يُفضي إلى العَذابِ الشَّديدِ خَليقٌ بأنْ يُنهَى عنه. وإنْ كانتِ الجُملةُ كلامًا مُنفَصِلًا عن خِطابِ داودَ عليه السَّلامُ كانت مُعتَرضةً ومُستَأنَفةً استِئنافًا بَيانيًّا؛ لِبَيانِ خَطَرِ الضَّلالِ عن سَبيلِ اللهِ . وأتَى بهذه الجملةِ الاستئنافيَّةِ الاستقلاليَّةِ؛ أوَّلًا: تفاديًا لمُخاطَبةِ داودَ عليه السَّلامُ بذلك، وثانيًا: لِيَكونَ أَعَمَّ .
- وفي قَولِه: إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ إظهارُ سَبِيلِ اللَّه في مَوقِعِ الإضمارِ -حيثُ لم يقُلْ: (سَبيلِه)-؛ لِزيادةِ التَّقريرِ، والإيذانِ بكَمالِ شَناعةِ الضَّلالِ عنه .
- وجِيءَ بالمَوصولِ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ؛ لِلإيماءِ إلى أنَّ الصِّلةَ عِلَّةٌ لاستِحقاقِ العَذابِ .
- والعُمومُ الَّذي في قَولِه: الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يُكسِبُ الجُملةَ وصْفَ التَّذييلِ .
- واللَّامُ في لَهُمْ عَذَابٌ لِلاختِصاصِ .
- والباءُ في بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ سَبَبيَّةٌ، و(ما) مَصدَريَّةٌ، أيْ: بسَبَبِ نِسيانِهم يَومَ الحِسابِ .
- والنِّسيانُ في قَولِه: بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ: مُعبَّرٌ به عن الإعراضِ الشَّديدِ؛ لأنَّه يُشبِهُ نِسيانَ المُعرَضِ عنه .