موسوعة التفسير

سورةُ ص
الآيات (17-20)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ

غريب الكلمات:

الْأَيْدِ: أي: القُوَّةِ الشَّديدةِ، وأصلُ (أيد): يدُلُّ على القُوَّةِ والحِفظِ [201] يُنظر: ((العين)) للخليل (8/97)، ((تفسير ابن جرير)) (20/40)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 76)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/163)، ((المفردات)) للراغب (ص: 97)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 326)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 359). .
أَوَّابٌ: أي: رَجَّاعٌ توَّابٌ، مِن قَولِهم: آبَ الرَّجُلُ إلى أهلِه: إذا رجَعَ، وأصلُ (أوب): يدُلُّ على رُجوعٍ [202] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 378)، ((تفسير ابن جرير)) (20/42)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 75)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/152)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 359)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 209). .
بِالْعَشِيِّ: أي: آخِرِ النَّهارِ مِن زَوالِ الشَّمسِ إلى الصَّباحِ، أو مِن الظُّهرِ إلى نِصفِ اللَّيلِ، أو صَلاةِ العَصرِ، وأصلُ (عشو): يدُلُّ على ظَلامٍ وقِلَّةِ وُضوحٍ [203] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/322)، ((المفردات)) للراغب (ص: 567)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 336)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 982). .
وَالْإِشْرَاقِ: أي: وَقتِ إشراقِ الشَّمسِ، أى: سُطوعِها وصَفاءِ ضَوئِها، وهو وَقتُ صَلاةِ الضُّحى، وهو غيرُ الشُّروقِ؛ لأنَّ الشُّروقَ هو وَقتُ طُلوعِ الشَّمسِ. يُقالُ: شَرَقَت الشَّمسُ: إذا طَلَعَت، وأشرَقَت: إذا أضاءَت. وأصلُ (شرق): يدُلُّ على إضاءةٍ وفَتحٍ [204] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/43)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/264)، ((المفردات)) للراغب (ص: 451)، ((تفسير القرطبي)) (15/159). .
مَحْشُورَةً: أي: مَجموعةً، وأصلُ الحَشرِ: يدُلُّ على السَّوقِ والبَعثِ [205] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/237)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/66)، ((المفردات)) للراغب (ص: 237). .
وَشَدَدْنَا: أي: قَوَّيْنا، والشَّدُّ: العَقدُ القَويُّ، وأصلُ (شدد): يدُلُّ على قُوَّةٍ في الشَّيءِ [206] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/179)، ((المفردات)) للراغب (ص: 447)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 326)، ((تفسير القرطبي)) (15/161)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 541). .
الْحِكْمَةَ: أي: النُّبُوَّةَ، وإصابةَ الصَّوابِ في القولِ والفعلِ، وأصلُ (حكم): يدُلُّ على المَنعِ، والحِكمةُ هذا قياسُها؛ لأنَّها تَمنَعُ من الجَهلِ [207] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 148)، ((تفسير ابن جرير)) (5/12)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2 /91)، ((المفردات)) للراغب (ص: 249)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 36، 326، 347). .
وَفَصْلَ الْخِطَابِ: أي: بَيانَ الكَلامِ وبلاغَتَه، وجَمْعَه للمَعنى المقصودِ الفاصِلِ بيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، وأصلُ (فصل): يدُلُّ على تمييزِ الشَّيءِ وإبانتِه [208] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 378)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 364)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/198) و(4/505)، ((المفردات)) للراغب (ص: 286)، ((تفسير البغوي)) (7/77)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/229). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مسَلِّيًا نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم، آمِرًا له بالصَّبرِ: اصبِرْ -يا مُحمَّدُ- على ما يَقولُه أولئك المُشرِكونَ، واذكُرْ عَبدَنا داودَ ذا القُوَّةِ؛ إنَّه كثيرُ التَّوبةِ والرُّجوعِ إلى رَبِّه.
ثمَّ يُبيِّنُ الله تعالى بعضَ مظاهرِ فضلِه على عبدِه داودَ عيه السَّلامُ، فيقولُ: إنَّا سَخَّرْنا الجِبالَ معه يُسَبِّحْنَ اللهَ آخِرَ النَّهارِ وأوَّلَه، وسَخَّرْنا الطَّيرَ مَجموعةً له، كلٌّ له رَجَّاعٌ، يُسبِّحُ بتَسبيحِه، وقَوَّيْنا مُلْكَ داودَ وثبَّتْناه، وآتَيْناه الحِكمةَ، والفَصْلَ في الكلامِ وفي الحُكمِ.

تفسير الآيات :

اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17).
مناسبة الآية لما قبلها:
أنَّ الكُفَّارَ لَمَّا بالَغوا في السَّفاهةِ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ حيثُ قالوا: إنَّه ساحِرٌ كذَّابٌ، وقالوا له على سَبيلِ الاستِهزاءِ: عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا؛ أمَرَه اللهُ تعالى بالصَّبرِ على سَفاهتِهم [209] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/373). .
اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ.
أي: اصبِرْ -يا محمَّدُ- على ما يَقولُه مُشرِكو قَومِك مِن كُلِّ ما يَسوؤُك مِن أقوالِهم [210] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/40)، ((تفسير القرطبي)) (15/158)، ((تفسير ابن كثير)) (7/57)، ((تفسير السعدي)) (ص: 711). .
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ.
مناسبتها لما قبلها:
لَمَّا أمَرَ اللهُ رَسولَه بالصَّبرِ على قَومِه، أمَرَه أن يَستعينَ على الصَّبرِ بالعبادةِ لله وَحْدَه، ويَتذكَّرَ حالَ العابِدينَ [211] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 711). .
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ.
أي: واذكُرْ -يا محمَّدُ- عَبْدَنا داودَ ذا القُوَّةِ [212] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/40)، ((تفسير القرطبي)) (15/158)، ((تفسير ابن كثير)) (7/57)، ((تفسير السعدي)) (ص: 711)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/227). قال الشوكاني: (ومعنى وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ: اذكُرْ قِصَّتَه؛ فإنَّك تجدُ فيها ما تتسلَّى به). ((تفسير الشوكاني)) (4/487). والمرادُ بالقُوَّةِ: قيل: هي القُوَّةُ على العبادةِ. وممَّن قال بهذا المعنى: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والزَّجَّاجُ، والثعلبيُّ، والواحدي، والقرطبي، وجلال الدين المحلي، والشوكاني، والسعدي، ونسَبَه الماتُريديُّ إلى عامَّةِ أهلِ التَّأويلِ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/639)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/323)، ((تفسير الثعلبي)) (8/182)، ((الوسيط)) للواحدي (3/543)، ((تفسير القرطبي)) (15/158)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 599)، ((تفسير الشوكاني)) (4/487)، ((تفسير السعدي)) (ص: 711)، ((تفسير الماتريدي)) (8/610). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، ومجاهدٌ، وقَتادةُ، والسُّدِّيُّ، وابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/41)، ((تفسير البغوي)) (4/56). وقيل: المرادُ: القُوَّةُ في العِلمِ والعَمَلِ. وممَّن ذهب إليه: ابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/57). وقال ابن عطيَّة: (الأَيْدِ: القوَّةِ، وهي في داودَ مُتضمنةٌ قوَّةَ البدَنِ، وقوَّتَه على الطَّاعةِ). ((تفسير ابن عطية)) (4/496). ويُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/145). وقال ابن جُزَي: (وكان داودُ جمَعَ قوَّةَ البدنِ، والقوَّةَ في الدِّينِ، والمُلكِ، والجنودِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/203). وقيل: المرادُ: مُطلَقُ القُوَّةِ، سواءٌ في العبادةِ، أو في المُلكِ، أو فيما سِوى ذلك؛ فهو ذو أَيْدٍ في كُلِّ ما تكونُ القُوَّةُ فيه صِفةَ مَدحٍ. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: ابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 84). .
كما قال تعالى: وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ [البقرة: 251] .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال له: ((أَحَبُّ الصَّلاةِ إلى اللهِ صَلاةُ داودَ عليه السَّلامُ، وأحَبُّ الصِّيامِ إلى اللهِ صِيامُ داودَ، وكان يَنامُ نِصفَ اللَّيلِ، ويَقومُ ثُلُثَه، وينامُ سُدُسَه، ويَصومُ يَومًا، ويُفطِرُ يَومًا )) [213] رواه البخاري (1131) واللفظ له، ومسلم (1159). .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال عن النَّبيِّ داودَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((كان أعْبَدَ النَّاسِ)) [214] رواه مسلم (1159). .
وعن عبدِ اللَّه بنِ عَمرٍو رَضِي اللَّه عنهما: قال: ((بَلَغ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنِّي أسْرُدُ الصَّومَ ، ...)) الحديث. وفيه: قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((فصُمْ صيامَ داودَ عليه السَّلامُ. قالَ: وكيفَ؟ قال: كانَ يصومُ يومًا ويُفْطِرُ يومًا، ولا يَفِرُّ إذا لاقَى )) [215] أخرجه البخاري (1977)، ومسلم (1159). .
إِنَّهُ أَوَّابٌ.
أي: إنَّه كَثيرُ التَّوبةِ والتَّضَرُّعِ والوُقوفِ عندَ حُدودِ اللهِ، رجَّاعٌ عمَّا يَكرَهُه اللهُ إلى ما يُحِبُّه ويَرضاه [216] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/42)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/350-352)، ((تفسير الشوكاني)) (4/487)، ((تفسير السعدي)) (ص: 711)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/227). .
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18).
أي: إنَّا ذلَّلْنا الجِبالَ يُسَبِّحْنَ اللهَ مع داودَ في آخِرِ النَّهارِ، ويُسَبِّحْنَ معه في وَقتِ ارتفاعِ الشَّمسِ حينَ تُضيءُ ويَصفو شُعاعُها، وهو وَقتُ الضُّحى [217] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/43)، ((تفسير القرطبي)) (15/159)، ((تفسير البيضاوي)) (5/26)، ((تفسير ابن كثير)) (7/57)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/350)، ((تفسير الشوكاني)) (4/487)، ((تفسير السعدي)) (ص: 711)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/228)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 88، 89). .
كما قال اللهُ تباركَ وتعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سبأ: 10] .
وقال عزَّ وجلَّ: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء: 44] .
وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19).
وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً.
أي: وسَخَّرْنا الطَّيرَ مَجموعةً لداودَ [218] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/45)، ((تفسير القرطبي)) (15/161)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/353)، ((تفسير الشوكاني)) (4/488)، ((تفسير السعدي)) (ص: 711). .
كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ.
أي: كلٌّ رجَّاعٌ له، يُسَبِّحُ بتَسبيحِه [219] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/45)، ((تفسير القرطبي)) (15/161)، ((تفسير البيضاوي)) (5/26)، ((تفسير ابن كثير)) (7/58)، ((تفسير الشوكاني)) (4/488)، ((تفسير السعدي)) (ص: 711)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/229). ممَّن اختار أنَّ الضميرَ في لَهُ يعودُ إلى داودَ عليه السَّلامُ: ابنُ جرير، والرسعني، والقرطبي، والبيضاوي، وابنُ كثير، والبِقاعي، وابنُ عاشور، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/45)، ((تفسير الرسعني)) (6/461)، ((تفسير القرطبي)) (15/161)، ((تفسير البيضاوي)) (5/26)، ((تفسير ابن كثير)) (7/58)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/353)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/229)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 90-92). قال الرسعني: (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ أي: كلُّ واحدٍ مِن الجبالِ والطَّيرِ رجَّاعٌ إلى طاعةِ داودَ وأمرِه، أو كلٌّ لأجْلِ داودَ، أي: لأجْلِ تسبيحِه مُسَبِّحٌ؛ لأنَّها كانت تُسبِّحُ بتسبيحِه). ((تفسير الرسعني)) (6/461). ممَّن اختار المعنى الأوَّلَ: ابنُ جرير، ومكِّي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/45)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6215). وممَّن اختار المعنى الثَّانيَ: ابنُ جُزَي، والنيسابوري، وأبو السعود. يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/204)، ((تفسير النيسابوري)) (5/587)، ((تفسير أبي السعود)) (7/219). وقيل: أَوَّابٌ أي: مطيعٌ لداودَ، يسَبِّحُ بتسبيحِه. وممَّن اختار هذا المعنى: القرطبي، والخازن. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (15/161)، ((تفسير الخازن)) (4/33). وقال ابنُ عثيمين: (أي: كُلٌّ لداودَ رجَّاعٌ، أي: مُرجِّعٌ معه؛ إذا سَبَّح سَبَّحت الجبالُ، وإذا سَبَّح سبَّحت الطُّيورُ المجموعةُ إليه. وقيل: إنَّ الأوَّابَ: الرَّجَّاعُ... والمعنيان مُتلازِمانِ؛ لأنَّه إذا كان رجَّاعًا يَرجِعُ إلى داودَ لِيُسَبِّحَ معه فهو مُرجِّعٌ معه). ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 91). وقيل: إنَّ الضميرَ في لَهُ يرجعُ إلى الله. وممَّن اختاره: الشوكاني، والسعدي. يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/488)، ((تفسير السعدي)) (ص: 711). قال الشوكاني: (كلُّ واحدٍ مِن داودَ والجبالِ والطَّيرِ رَجَّاعٌ إلى طاعةِ اللهِ وأمْرِه). ((تفسير الشوكاني)) (4/488). وقال البيضاوي: (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ كُلُّ واحدٍ مِن الجِبالِ والطَّيرِ؛ لأجْلِ تَسبيحِه: رَجَّاعٌ إلى التَّسبيحِ، والفَرقُ بيْنَه وبيْن ما قَبْلَه أنَّه يدُلُّ على الموافقةِ في التَّسبيحِ، وهذا على المداومةِ عليها، أو كُلٌّ منهما ومِن داودَ عليه السَّلامُ مُرجِّعٌ لله التَّسبيحَ). ((تفسير البيضاوي)) (5/26). .
كما قال اللهُ تباركَ وتعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سبأ: 10] .
وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20).
وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ.
أي: وقَوَّيْنا مُلْكَ داودَ وثبَّتْناه [220] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/48)، ((تفسير القرطبي)) (15/161)، ((تفسير البيضاوي)) (5/26)، ((تفسير ابن كثير)) (7/58)، ((تفسير السعدي)) (ص: 711)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/229). .
وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ.
أي: وآتَيْناه القُدرةَ على وَضعِ الأشياءِ في مَواضِعِها الصَّحيحةِ اللَّائقةِ بها وَفْقَ ما أُوتِيَه مِن النُّبوَّةِ والعِلمِ بحَقائِقِ الأشياءِ وفَهمِها ومَعرفةِ الصَّوابِ [221] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/639)، ((تفسير ابن جرير)) (20/48)، ((تفسير القرطبي)) (15/162)، ((تفسير ابن كثير)) (7/59)، ((تفسير الشوكاني)) (4/488)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/229). قال البِقاعي: (الْحِكْمَةَ أي: النُّبُوَّةَ الَّتي يَنشَأُ عنها العِلمُ بالأشياءِ على ما هي عليه، ووضْعُ الأشياءِ في أحكَمِ مَواضِعِها، فالحِكمةُ: العَمَلُ بالعِلمِ). ((نظم الدرر)) (16/355). وممَّن قال بأنَّ الحِكمةَ هي النُّبُوَّةُ: القرطبيُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (15/162)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/229). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: السُّدِّيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/48). وممَّن اختار أنَّ الحكمةَ هي النُّبوَّةُ والإصابةُ في الأمورِ: البغويُّ، والخازن، وجلال الدين المحلي. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/58)، ((تفسير الخازن)) (4/34)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 600). وممَّن اختار أنَّ الحكمةَ هي الفَهمُ والعِلمُ: مقاتلُ بنُ سُلَيْمانَ، والسَّمَرْقَنْديُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/639)، ((تفسير السمرقندي)) (2/605). قال ابنُ جرير: (الحِكمةُ مأخوذةٌ مِن الحُكمِ وفَصلِ القَضاءِ، وهي الإصابةُ، والإصابةُ في الأمورِ إنَّما تكونُ عن فَهمٍ بها وعِلمٍ ومَعرفةٍ، والنُّبُوَّةُ مِن أقسامِه؛ لأنَّ الأنبياءَ مُسَدَّدونَ مُفَهَّمونَ، ومُوَفَّقونَ لإصابةِ الصَّوابِ في الأمورِ، فالنُّبوَّةُ بَعضُ معاني الحِكمةِ). ((تفسير ابن جرير)) (5/12) بتصرف. .
كما قال تعالى: وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ [البقرة: 251] .
وَفَصْلَ الْخِطَابِ.
أي: وآتَيْنا داودَ الفَصْلَ في الكلامِ -فكان ذا بيانٍ وفَصاحةٍ- وفي الحُكمِ، فكان يَفصِلُ بيْنَ الخُصومِ [222] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/52)، ((تفسير القرطبي)) (15/162)، ((تفسير ابن كثير)) (7/59)، ((تفسير الشوكاني)) (4/488)، ((تفسير السعدي)) (ص: 711)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/229)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 95). قيل: المرادُ: بلاغةُ الكلامِ وجَمْعُه للمعنى المقصودِ، بحيث لا يحتاجُ سامعُه إلى زيادةِ تِبيانٍ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ عطية، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/497)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/229). وقيل: المرادُ: الفصلُ في القضاءِ والخصوماتِ بيْن النَّاسِ. وممَّن ذهَب إلى هذا القولِ: الشوكانيُّ، والسعديُّ. يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/488)، ((تفسير السعدي)) (ص: 711). وممَّن جمَع بيْن المعنيَينِ السَّابِقَينِ، واختار العمومَ في المعنى: ابنُ جرير، وابن كثير، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/52)، ((تفسير ابن كثير)) (7/59)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 95). قال ابنُ كثيرٍ: (وقَولُه: وَفَصْلَ الْخِطَابِ قال شُرَيحٌ القاضي والشَّعبيُّ: فَصْلُ الخِطابِ: الشُّهودُ والأَيْمانُ. وقال قَتادةُ: شاهِدانِ على المُدَّعِي، أو يمينُ المُدَّعَى عليه، هو فَصْلُ الخِطابِ الَّذي فَصَل به الأنبياءُ والرُّسُلُ -أو قال: المؤمِنونَ والصَّالحونَ- وهو قضاءُ هذه الأمَّةِ إلى يومِ القيامةِ. وكذا قال أبو عبدِ الرَّحمنِ السُّلَميُّ. وقال مجاهِدٌ والسُّدِّيُّ: هو إصابةُ القَضاءِ وفَهْمُه. وقال مجاهِدٌ أيضًا: هو الفَصلُ في الكلامِ وفي الحُكمِ. وهذا يَشملُ هذا كُلَّه، وهو المرادُ، واختاره ابنُ جريرٍ). ((تفسير ابن كثير)) (7/59). وقال ابنُ جرير: (الصَّوابُ أن يُعَمَّ الخبَرُ كما عَمَّه اللهُ، فيُقالَ: أُوتيَ داودُ فَصْلَ الخِطابِ في القَضاءِ والمحاورةِ والخُطَبِ). ((تفسير ابن جرير)) (20/52). وقال ابن كثير: (وهذا لا ينافي ما رُويَ عن أبي موسى، أنَّه قولُ: أمَّا بَعْدُ). ((البداية والنهاية)) (2/308). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/229، 230). وقال ابنُ عثيمين: (هل المعنى أنَّه يَفصِلُ الخِطابَ الصَّادِرَ مِن غَيرِه، بمعنى: أنَّه يَفصِلُ بيْنَ الخُصومِ ما تخاطَبوا فيه... أو فَصْلُ الخِطابِ يعني خِطابَه هو... كان فَصلًا، أي: ذا بيانٍ وفَصاحةٍ؟ نقولُ: المَعْنَيانِ مُحتمَلانِ؛ فالآيةُ تحتمِلُ هذا وتحتمِلُ هذا، وهما لا يَتنافَيانِ؛ فيَجِبُ أن تكونَ الآيةُ محمولةً عليهما). ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 95). .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ الله تعالى: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ فيه أنَّ اللهَ تعالى يَمدَحُ ويُحِبُّ القُوَّةَ في طاعتِه؛ قُوَّةَ القَلبِ والبَدَنِ؛ فإنَّه يَحصُلُ منها مِن آثارِ الطَّاعةِ وحُسنِها وكَثرتِها ما لا يَحصُلُ مع الوَهَنِ وعَدَمِ القُوَّةِ، وأنَّ العبدَ يَنبغي له تعاطي أسبابِها، وعدَمُ الرُّكونِ إلى الكَسَلِ والبَطالةِ المُخِلَّةِ بالقُوَى، المُضعِفةِ للنَّفْسِ [223] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 712). .
2- قَولُ الله تعالى: إِنَّهُ أَوَّابٌ فيه أنَّ الرُّجوعَ إلى اللهِ تعالى في جميعِ الأُمورِ: مِن أوصافِ أنبياءِ اللهِ وخواصِّ خَلْقِه، كما أثنى اللهُ على داودَ وسُلَيمانَ بذلك؛ فلْيَقتَدِ بهما المُقتَدونَ، ولْيَهتَدِ بهُداهم السَّالِكونَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [224] يُنظر:  ((تفسير السعدي)) (ص: 712). [الأنعام: 90] .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَتأثَّرُ بتَكذيبِهم؛ ولهذا أمَرَه اللهُ بالصَّبرِ، وهذا أمرٌ لا شَكَّ فيه [225] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 85). .
2- قَولُ الله تعالى: اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ أمَرَ تعالى محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم -على جَلالةِ قَدْرِه- بأن يَقتديَ في الصَّبرِ على طاعةِ اللهِ بداودَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وذلك تَشريفٌ عَظيمٌ، وإكرامٌ لِداودَ عليه السَّلامُ؛ حيث أمَرَ اللهُ أفضَلَ الخَلقِ مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأن يَقتديَ به في مَكارِمِ الأخلاقِ [226] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/374). .
3- إنْ قيل: ما المناسبةُ بينَ أمرِ الله لنبيِّنا محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم بالصبرِ على أقوالِ الكفَّارِ وبينَ أمرِه له بذكرِ داودَ؟
 فالجوابُ: أنَّ ذِكرَ داودَ ومَن بعدَه مِن الأنبياءِ في هذه السورةِ فيه تسليةٌ للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ووعدٌ له بالنَّصرِ وتفريجِ الكربِ، وإعانةٌ له على ما أُمِر به مِن الصبرِ، وذلك أنَّ الله ذكَر ما أنعَم به على داودَ مِن تسخيرِ الطيرِ والجبالِ، وشدةِ مُلكِه، وإعطائِه الحكمةَ وفصلَ الخطابِ، ثمَّ الخاتمةَ له في الآخرةِ بالزلفَى وحسنِ المآبِ، فكأنَّه يقولُ: يا محمدُ كما أنعَمْنا على داودَ بهذه النِّعمِ كذلك نُنعِمُ عليك، فاصبِرْ ولا تحزَنْ على ما يقولونَ، ثمَّ ذكَر ما أعطَى سليمانَ مِن الملكِ العظيمِ، وتسخيرِ الريحِ والجنِّ والخاتمةِ بالزلفَى وحُسنِ المآبِ، ثمَّ ذكَر مَن ذكَر بعدَ ذلك مِن الأنبياءِ.
 والمقصدُ: ذِكرُ الإنعامِ عليهم لتقويةِ قلبِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وأيضًا فإنَّ داودَ وسليمانَ وأيوبَ أصابتهم شدائدُ ثمَّ فرَّجها الله عنهم، وأعقَبها بالخيرِ العظيمِ، فأمَر نبيَّنا محمدا صلَّى الله عليه وسلَّم بذكرِهم، ليُعلِمَه أنَّه يُفرِّجُ عنه ما يلقَى من إذايةِ قومِه، ويعقبُها بالنصرِ والظهورِ عليهم، فالمناسبةُ في ذلك ظاهرةٌ [227] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/203، 204). .
4- في قَولِه تعالى: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إثباتُ العِلَلِ والأسبابِ؛ لأنَّ الجُملةَ في قَولِه: إِنَّهُ أَوَّابٌ تَعليليَّةٌ، فداودُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مَوصوفٌ بالقُوَّةِ والعُبوديَّةِ؛ وذلك لأنَّه رَجَّاعٌ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، وكلُّ مَن كان رَجَّاعًا إلى اللهِ فسوف يكونُ قويًّا في عُبوديَّتِه [228] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 87). .
5- قَولُ الله تعالى: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ استُدِلَّ به على مَشروعيَّةِ صَلاةِ الضُّحى [229] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/375)، ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 220). ، مع الأحاديثِ المشهورةِ الثَّابتةِ في ذلك.
6- في قَولِه تعالى: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ أنَّ للجَمادِ إرادةً؛ لأنَّ التَّسبيحَ لا بُدَّ أنْ يكونَ بإرادةٍ، ويدُلُّ على ذلك أيضًا قولُه تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [230] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 91). [الإسراء: 44] .
7- في قَولِه تعالى: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى يُنطِقُ الجَمادَ بأصواتٍ يَفهَمُها مَن يَفهَمُها مِن الآدَمِيِّينَ [231] يُنظر: ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيمية (8/459). .
8- قَولُ الله تعالى: وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ فيه أنَّ مِن أكبَرِ نِعَمِ اللهِ على عَبدِه: أن يَرزُقَه العِلمَ النَّافِعَ، ويَعرِفَ الحُكمَ والفَصلَ بيْن النَّاسِ -على قولٍ في التَّفسيرِ في معنى الآيةِ-، كما امتَنَّ اللهُ به على عَبدِه داودَ عليه السَّلامُ [232] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 712). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ أُعقِبتْ حِكايةُ أقوالِ مُشْرِكي قُرَيشٍ مِنَ التَّكذيبِ ابتِداءً مِن قَولِه: وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ [ص: 4] إلى هنا، بأمْرِ اللهِ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالصَّبرِ على أقوالِهم؛ إذْ كان جميعُها أذًى: إمَّا صريحًا، كما قالوا: سَاحِرٌ كَذَّابٌ [ص: 4] ، وقالوا: إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ [ص: 7] ، إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ [ص: 6] ، وإمَّا ضِمنًا، وذلك ما في سائرِ أقوالِهم مِن إنكارِ ما جاء به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والاستِهزاءِ بقَولِهم: رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [ص: 16] مِن إثباتِ أنَّ الإلهَ واحِدٌ، ويَشملُ ما يَقولونَه ممَّا لم يُحْكَ في أوَّلِ هذه السُّورةِ [233] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/226). .
- قَولُه: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ يَجوزُ أنْ يَكونَ عَطفًا على قَولِه: اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ بأنْ أُتْبِعَ أمْرُه بالصَّبرِ بالأمرِ بالائتساءِ ببعضِ الأنبياءِ السَّابِقينَ فيما لَقُوهُ مِنَ النَّاسِ، ثمَّ كانتْ لهم عاقِبةُ النَّصرِ، وكَشفِ الكُرَبِ. ويَجوزُ أنْ يَكونَ عطفًا على مَجموعِ ما تَقدَّمَ عَطْفَ القِصَّةِ على القِصَّةِ، والغرَضُ هوَ هو [234] يُنظَر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/226). .
- وابتُدئَ بذِكرِ داودَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ لأنَّ اللهَ أَعطاهُ مُلْكًا وسُلطانًا لم يكُنْ لآبائِه؛ ففي ذِكرِه إيماءٌ إلى أنَّ شأنَ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سيَصيرُ إلى العِزَّةِ والسُّلطانِ، ولم يكُنْ له سلَفٌ ولا جُندٌ؛ فقد كان حالُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أَشْبَهَ بحالِ داودَ عليه السَّلامُ [235] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/226). .
- وأيضًا في قَولِه: اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ أُدمِجَ في خِلالِ قصَّةِ داودَ عليه السَّلامُ الإيماءُ إلى التَّحذيرِ مِنَ الضَّجَرِ في ذاتِ اللهِ تعالى، واتِّقاءِ مُراعاةِ حُظوظِ النَّفْسِ في سِياسةِ الأُمَّةِ؛ إبعادًا لرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن مَهاوي الخطأِ والزَّلَلِ، وتأديبًا له في أوَّلِ أمْرِه وآخِرِه [236] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/226، 227). .
- ووصْفُ داودَ عليه السَّلامُ بقَولِه: عَبْدَنَا وَصْفُ تَشريفٍ بالإضافةِ، بقَرينةِ المَقامِ [237] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/227). .
- وقولُه: إِنَّهُ أَوَّابٌ أي: رَجَّاعٌ إلى مَرضاةِ اللهِ تعالى، وهو تَعليلٌ لكَونِه ذَا الْأَيْدِ، ودليلٌ على أنَّ المُرادَ به القوَّةُ في الدِّينِ؛ فإنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كان يَصومُ يومًا ويُفطِرُ يَومًا، ويَقومُ نِصفَ اللَّيلِ، وكَونُه تعليلًا لهذا المعنى لأنَّ ذَا الْأَيْدِ يَحتمِلُ أنْ يَكونَ في الجِسمِ؛ لقَولِه تعالى: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ [سبأ: 10] ، وأنْ يَكونَ في الدِّينِ، فلمَّا جيءَ بقَولِه: إِنَّهُ أَوَّابٌ أعلَمَ أنَّ المُرادَ القوَّةُ في الدِّينِ [238] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/26)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/247)، ((تفسير أبي السعود)) (7/219)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/341). ، وهذا على قولٍ في التَّفسيرِ.
وقيل: إنَّ جملةَ إِنَّهُ أَوَّابٌ تعليلٌ للأمرِ بذِكرِه؛ إيماءً إلى أنَّ الأمرَ لقَصدِ الاقتِداءِ به، كما قال تعالى: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام: 90] ؛ فالجُملةُ مُعترِضةٌ بيْنَ جُملةِ وَاذْكُرْ وجُملةِ بيانِها، وهي: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ [239] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/227). .
2- قولُه تعالَى: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ
- قَولُه: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ استِئنافٌ مَسوقٌ لتعليلِ قوَّتِه في الدِّينِ وأوَّابيَّتِه إلى مَرضاتِه تعالى. و(مع) مُتعلِّقةٌ بالتَّسخيرِ، وإيثارُها هنا على اللَّامِ؛ لِما أُشيرَ إليه في سُورةِ (الأنبياءِ) مِن أنَّ تسخيرَ الجِبالِ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لم يكُنْ بطريقِ تَفويضِ التَّصرُّفِ الكُلِّيِّ فيها إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كتَسخيرِ الرِّيحِ وغَيرِها لسُلَيمانَ عليه السَّلامُ، بل بطريقِ التَّبَعيَّةِ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ والاقتِداءِ به في عِبادةِ اللهِ تعالى؛ قال عزَّ وجلَّ: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء: 79] ، وقال سبحانه: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ [الأنبياء: 81] .
وقيل: إنَّ (مع) مُتعلِّقةٌ بما بعْدَها، وهو أقرَبُ بالنِّسبةِ إلى ما في سورةِ (الأنبياءِ) [240] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/219). ، فهي ظَرفٌ لـ يُسَبِّحْنَ، وقُدِّم على مُتعَلَّقِه؛ للاهتِمامِ بمَعِيَّتِه المَذكورةِ [241] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/228). .
- وجُملةُ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ بيانٌ لجُملةِ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا، أي: اذكُرْ فَضائلَه وما أَنعَمْنا عليه مِن تَسخيرِ الجِبالِ وكَيْتَ وكَيْتَ [242] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/228). .
- وجُملةُ يُسَبِّحْنَ حالٌ، واختِيرَ الفِعلُ المُضارِعُ يُسَبِّحْنَ دُونَ الوَصفِ (مُسَبِّحاتٍ) الَّذي هو الشَّأنُ في الحالِ؛ لأنَّه أُريدَ الدَّلالةُ على تَجدُّدِ تَسبيحِ الجِبالِ معه كلَّما حضَرَ فيها، ولِما في المُضارِعِ مِنِ استِحضارِ تلك الحالةِ الخارقةِ للعادةِ مِن حُدوثِ التَّسبيحِ مِنَ الجِبالِ شَيئًا بعْدَ شَيءٍ، وحالًا بعْدَ حالٍ، وكأنَّ السَّامِعَ حاضِرٌ تلك الجبالَ يَسمَعُها تُسَبِّحُ [243] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/79)، ((تفسير البيضاوي)) (5/26)، ((تفسير أبي حيان)) (9/145)، ((تفسير أبي السعود)) (7/219)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/228)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/342). .
3- قولُه تعالَى: وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ
- قَولُه: وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ المَحشورةُ: المُجتمِعةُ حَوْلَه عِندَ قِراءتِه الزَّبورَ، ولم يُؤْتَ في صِفةِ الطَّيرِ بالحَشرِ بالمُضارِعِ كما جيءَ به في يُسَبِّحْنَ؛ إذِ الحَشرُ يَكونَ دَفْعةً، فلا يَقتَضي المَقامُ دَلالةً على تَجدُّدٍ ولا على استِحضارِ الصُّورةِ؛ فجيءَ به اسمًا لا فِعلًا، وذلك أبلَغُ مِن أن يُقالَ: وسَخَّرْنا الطَّيرَ يُحشَرْنَ- على أنَّ الحَشرَ يوجَدُ مِن حاشِرِها شَيئًا بعْدَ شَيءٍ، والحاشِرُ هو اللهُ عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ حَشْرَها جُملةً واحدةً أدَلُّ على القُدرةِ منه مُدرجًا [244] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/79)، ((تفسير البيضاوي)) (5/26)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/228). .
- قَولُه: كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ استِئنافٌ مُقَرِّرٌ لِمَضمونِ ما قبْلَه، مُصرِّحٌ بما فُهِم منه إجمالًا مِن تَسبيحِ الطَّيرِ، أي: كُلُّ واحدٍ مِنَ الجبالِ والطَّيرِ لأجْلِ تَسبيحِه رَجَّاعٌ إلى التَّسبيحِ، وذلك على قولٍ [245] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/219). ، وتَنوينُ كُلٌّ عِوَضٌ عن المُضافِ إليه [246] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/228، 229). .
- واللَّامُ في قولِه: لَهُ أَوَّابٌ لامُ التَّقويةِ. وتَقديمُ المَجرورِ على مُتعلَّقِه؛ للاهتِمامِ بالضَّميرِ المجرورِ [247] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/228). .
- وجَعَل الخَبَرَ أَوَّابٌ مُفرَدًا؛ قيل: إشارةً إلى شِدَّةِ زَجَلِها بالتَّأويبِ وعَظَمَتِه، والإفرادُ أيضًا يُفيدُ الحُكمَ على كُلِّ فَردٍ، ولو جَمَع لَطَرَقه احتِمالُ أنَّ الحُكمَ على المَجموعِ يُقَيِّدُ الجَمْعَ. و أَوَّابٌ هذا غَيرُ أَوَّابٌ في قَولِه: إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص: 17] ؛ فلمْ تَتَكرَّرِ الفاصِلةُ، والفَرقُ بَيْنَه وبيْنَ ما قَبْلَه أنَّه يدُلُّ على المُوافَقةِ في التَّسبيحِ، وهذا على المُداوَمةِ عليها، أو: كُلٌّ منهما ومِن داودَ عليه السَّلامُ مُرَجِّعٌ للهِ التَّسبيحَ [248] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/26)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (6/371)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/229). .
- وفي قَولِه: وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ وُضِعَ الأوَّابُ مَوضِعَ المُسَبِّحِ: إمَّا لأنَّها كانت تُرجِّعُ التَّسبيحَ، والمُرجِّعُ رجَّاعٌ؛ لأنَّه يَرجِعُ إلى فِعلِه رُجوعًا بعْدَ رُجوعٍ، وإمَّا لأنَّ الأوَّابَ -وهو التَّوَّابُ الكثيرُ الرُّجوعِ إلى اللهِ وطلَبِ مَرْضاتِه- مِن عادتِه أنْ يُكثِرَ ذِكرَ اللهِ، ويُديمَ تَسبيحَه وتَقديسَه، فأصلُ الكَلامِ: كلٌّ مِنَ الجِبالِ والطَّيرِ لأجْلِ تَسبيحِ داودَ مُسَبِّحٌ، فقيل: أَوَّابٌ؛ لأنَّ كلَّ مُرَجِّعٍ للتَّسبيحِ راجِعٌ إليه، كما أنَّ كلَّ مُكذِّبٍ للحقِّ كاذِبٌ، وإنَّما عدَلَ منه إلى الأوَّابِ لنُكتةٍ؛ وهي: إمَّا أنْ يَكونَ كِنايةً عن التَّرجيعِ في التَّسبيحِ مِنَ (الأَوْبِ): الرُّجوعِ، أو عن كَثرةِ التَّسبيحِ؛ لأنَّ الأوَّابَ -أي: التَّوَّابَ- مِن عادتِه أنْ يُكثِرَ التَّسبيحَ، ولو تُرِكَ على ظاهِرِه لم يُعلَمْ ذلك، ولو قيل: كلٌّ له كالأوَّابِ -أي: التَّوَّابِ، على التَّشبيهِ- لم يُفهَمْ منه المَقصودُ صريحًا [249] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/79)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/251، 252)، ((تفسير أبي السعود)) (7/219). .
4- قولُه تعالَى: وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ
- قَولُه: وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ أي: قَوَّيْناهُ بالهَيبةِ والنُّصرةِ وكَثرةِ الجُنودِ، وهي عِبارةٌ شامِلةٌ لِما وهَبَه اللهُ تعالى مِن قوَّةٍ وجُندٍ ونِعمةٍ. والشَّدُّ: الإمساكُ وتَمكُّنُ اليَدِ ممَّا تُمسِكُه؛ فيَكونُ لقَصدِ النَّفعِ كما هنا، ويَكونُ لقَصدِ الضُّرِّ كقَولِه: وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ [يونس: 88] ، فشَدُّ المُلكِ هو تَقويةُ مُلكِه، وسَلامتُه مِن أضرارِ ثَورةٍ لَديهِ، ومِن غَلَبةِ أعدائِه عليه في حُروبِه [250] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/146)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/229). .
- ووصْفُ القَولِ بـ (الفَصلِ) وَصْفٌ بالمَصدرِ، أي: فاصِلٌ، والفاصِلُ: الفارِقُ بيْن شَيئَينِ، وهو ضِدُّ الواصلِ، والمعنَى: أنَّ داودَ عليه السَّلامُ أُوتيَ مِن أَصالةِ الرَّأيِ وفَصاحةِ القَولِ ما إذا تَكلَّمَ جاء بكَلامٍ فاصِلٍ بيْنَ الحقِّ والباطِلِ، شأنُ كَلامِ الأنبياءِ والحُكَماءِ [251] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/228). ، وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.