موسوعة التفسير

سورةُ الأنْبياءِ
الآيات (78-80)

ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ

غريب الكلمات:

الْحَرْثِ: أي: الزَّرعِ، أو البُستانِ، وأصْلُ (حرث): يدُلُّ على إلقاءِ البَذرِ في الأرضِ، وتَهيئتِها للزَّرعِ .
نَفَشَتْ: أي: رعَتْ لَيلًا، والنَّفشُ: الرَّعيُ باللَّيلِ، وأصلُ (نفش): يدُلُّ على انتشارٍ .
لَبُوسٍ: أي: الدُّروعِ، سُمِّيت لَبُوسًا؛ لأنَّها تُلبَسُ، واللَّبوسُ عندَ العَرَبِ: السِّلاحُ كُلُّه، وأصلُ (لبس): يدُلُّ على مُخالَطةٍ ومُداخَلةٍ .
لِتُحْصِنَكُمْ: أي: لِتَمنَعَكم وتَحمِيَكم، وأصلُ (حصن): يدلُّ على حِفظٍ وحِياطةٍ .
بَأْسِكُمْ: أي: حَرْبِكم، وأصلُ (بأس): يدُلُّ على الشِّدَّةِ وما ضاهاها .

مشكل الإعراب:

قَوْلُه تعالى: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ
قولُه: وَالطَّيْرَ مَنصوبٌ عطفًا على الْجِبَالَ، أو مَفعولٌ معه .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى: واذكُرْ -يا مُحمَّدُ- نبيَّ اللهِ داودَ وابنَه سُلَيمانَ، إذ يَحكُمانِ في شأنِ زَرعٍ عَدَت عليه غَنَمُ قومٍ آخرينَ، وانتَشَرَت فيه ليلًا فأتلَفَتْه، وكنَّا لحُكمِهم شاهِدينَ لا يخفَى علينا شيءٌ، فَفَهَّمْنا سُليمانَ تلك القضيَّةَ، وكُلًّا مِن داودَ وسليمانَ أعطَينا نُبُوَّةً وعِلمًا، وذلَّلْنا مع داودَ الجِبالَ والطَّيرَ يُسَبِّحنَ معه إذا سبَّحَ، وكُنَّا فاعلينَ ذلك. وعلَّمنا داودَ صِناعةَ الدُّروعِ؛ لتحميَ المحارِبينَ مِن وَقْعِ السِّلاحِ فيهم، فهل أنتم شاكِرونَ نِعمةَ الله عليكم حيثُ أجراها على يَدِ عَبدِه داودَ؟

تفسير الآيات:

وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا كان المقصودُ ذِكرَ نِعَمِ الله تعالى على داودَ وسُلَيمانَ عليهما السَّلامُ؛ ذكَرَ أوَّلًا النِّعمةَ المُشتَركةَ بيْنهما، ثمَّ ذكَرَ ما يختَصُّ به كُلُّ واحدٍ منهما مِنَ النِّعَمِ .
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ.
أي: واذكُرْ -يا محمَّدُ - خبَرَ داودَ وسُلَيمانَ حينَ يَحكُمانِ في شأنِ الزَّرعِ أو الغَرسِ الذي انتَشَرَت فيه غَنَمُ قَومٍ آخرينَ في اللَّيلِ، فَرَعَت في البُستانِ وأكَلَت ما في أشجارِه .
وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ.
أي: وكنا لحُكمِ داودَ وسُلَيمانَ والمُتحاكِمين إليهما عالِمينَ لا يخفَى علينا شيءٌ .
فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79).
فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ.
أي: ففهَّمْنا تلك القضيَّةَ سُلَيمانَ .
وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا.
أي: وكلًّا مِن داودَ وسُلَيمانَ آتَينا نُبُوَّةً، وعِلمًا بدينِ اللهِ وأحكامِه .
وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ.
مناسبتُها لما قبلَها:
أنَّها شُروعٌ في بَيانِ ما يَختَصُّ بكلٍّ منهما مِن كَرامتِه تعالى، إثْرَ بَيانِ كَرامتِه العامَّةِ لهما .
وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ.
أي: وذلَّلْنا مع داودَ الجِبالَ والطَّيرَ يُسَبِّحْنَ بمِثلِ تَسبييحِه إذا سَبَّحَ؛ مُعجِزةً له ، وكنَّا فاعلينَ ذلك .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سبأ: 10].
وقال سُبحانَه: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ [ص: 17 - 19] .
وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80).
وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
في قَولِه تعالى: لِتُحْصِنَكُمْ قراءاتٌ:
1- قراءةُ لِتُحْصِنَكُمْ بتاءٍ مَضمومةٍ، على التأنيثِ، أي: لِتُحصِنَكم هذه الصَّنعةُ .
2- قراءةُ لِنُحْصِنَكُم بنونٍ مضمومةٍ، على أنَّ الله تعالى يخبِرُ عن نَفسِه، أي: لِنُحصِنَكم نحنُ من بأسِكم بواسطةِ هذه الدُّروعِ .
3- قراءة لِيُحْصِنَكُم بياءٍ مَضمومةٍ، على التذكيرِ، أي: لِيُحصِنَكم الله تعالى، أو: ليحصِنَكم هذا اللَّبوسُ .
وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ.
أي: وعلَّمْنا داودَ كيفيَّةَ صِناعةِ الدُّروعِ لكم؛ لِتَقيَكم في القتالِ مِن سلاحِ أعدائِكم .
كما قال تعالى: وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ [النحل: 81] .
فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ.
أي: فهل أنتم -أيُّها النَّاسُ- شاكِرو اللهِ على تيسيرِه لكم نِعمةَ الدُّروعِ ؟

الفوائد التربوية :

1- قال الله تعالى: وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا في هذا تنبيهٌ على أنَّ العِلمَ أفضَلُ الكَمالاتِ وأعظَمُها؛ وذلك لأنَّ الله تعالى قَدَّمَ ذِكرَه هاهنا على سائِرِ النِّعَمِ الجليلةِ، مِثلُ: تَسخيرِ الجِبالِ والطيرِ، والريحِ والجِنِّ، وإذا كان العِلمُ مُقَدَّمًا على أمثالِ هذه الأشياءِ، فما ظَنُّك بغَيرِها ؟!
2- في قَولِه تعالى: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ ... دَلالةٌ على أنَّ العَمَلَ والمهنةَ ليستا نَقصًا؛ لأنَّ الأنبياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ كانوا يُمارِسونَها ، والآيةُ أصلٌ في اتِّخاذِ الصَّنائِعِ والأسبابِ، وهو قَولُ أهل العُقولِ والألبابِ، لا قَولُ الجَهَلةِ الأغبياءِ القائلينَ بأنَّ ذلك إنما شُرِعَ للضُّعَفاءِ؛ فالسَّبَبُ سُنَّةُ الله في خَلقِه، فمَن طعَنَ في ذلك فقد طَعَن في الكِتابِ والسُّنَّة، ونَسَب مَن ذَكَرْنا إلى الضَّعفِ وعَدَمِ المنَّةِ، فالصَّنعةُ يَكُفُّ بها الإنسانُ نَفسَه عن النَّاسِ، ويَدفَعُ بها عن نَفسِه الضَّررَ والباسَ .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ استُدِلَّ به على جَوازِ الاجتِهادِ في الأحكامِ، ووُقوعِه للأنبياءِ .
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا أصلٌ في اختلافِ الاجتِهادِ، وفي العَمَلِ بالرَّاجِحِ، وفي مراتِبِ التَّرجيحِ .
3- في قَولِ اللهِ تعالى: وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا إنْ قيل: فكيف نَقَض داودُ حُكمَه باجتهادِ سُلَيمانَ؟
فالجوابُ عنه مِن وَجهَينِ؛ أحدُهما: يجوزُ أن يكونَ داودُ ذَكَر حُكمَه على الإطلاقِ، وكان ذلك منه على طَريقِ الفُتيا، فذَكَرَه لهم لِيُلزِمَهم إيَّاه، فلمَّا ظهر له ما هو أقوى في الاجتِهادِ منه عاد إليه.
الثَّاني: أنَّه يجوزُ أن يكونَ اللهُ أوحى بهذا الحُكمِ إلى سُلَيمانَ، فلَزِمَه ذلك، ولأجْلِ النَّصِّ الواردِ بالوَحيِ رأى أن يَنقُضَ اجتِهادَه؛ لأنَّ على الحاكِمِ أن ينقُضَ حُكمَه بالاجتهادِ إذا خالف نصًّا .
4- قَولُ اللهِ تعالى: وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ استدَلَّ به مَن قال برُجوعِ الحاكِمِ بعد قضائِه عن اجتِهادِه إلى أرجحَ منه .
5- قَولُ اللهِ تعالى: وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا هذا دليلٌ على أنَّ الحاكِمَ قد يُصيبُ الحَقَّ والصَّوابَ، وقد يُخطِئُ ذلك، وليس بمَلومٍ إذا أخطأ مع بَذْلِ اجتِهادِه .
6- قال اللهُ تعالى: وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا فهذه القضيَّةُ التي تضَمَّنَتْها الآيةُ مَظهَرٌ مِن مظاهِرِ العَدلِ، ومَبالِغِ تَدقيقِ فِقهِ القَضاءِ، والجَمعِ بين المصالِحِ، والتفاضُلِ بينَ مراتِبِ الاجتهادِ، واختِلافِ طُرُقِ القَضاءِ بالحَقِّ مع كونِ الحَقِّ حاصِلًا للمُحِقِّ، فمَضمونُها أنَّها الفِقهُ في الدِّينِ الذي جاء به المُرسَلونَ مِن قَبلُ .
7- في قَولِه تعالى: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ دَلالةٌ على أنَّ النَّاسَ متفاوِتونَ في الأفهامِ، ولو كان الفَهمُ متماثلًا لَمَا خُصَّ به سُلَيمانُ .
8- في قَولِه تعالى: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا دَلالةٌ على أهميَّةِ الفَهمِ، وأنَّ العلمَ ليس كلَّ شَيءٍ .
9- قال اللهُ تعالى: وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا فقد خَصَّ أحَدَ النبِيَّينِ الكريمَينِ بالتَّفهيمِ مع ثنائِه على كُلٍّ منهما بأنَّه أُوتيَ عِلمًا وحُكمًا، فهكذا إذا خَصَّ اللهُ أحَدَ العالِمَينِ بعِلمِ أمرٍ وفَهِمَه لم يوجِبْ ذلك ذَمَّ مَن لم يحصُلْ له ذلك من العُلَماءِ، بل كلُّ مَنِ اتَّقى الله ما استطاعَ فهو مِن أولياءِ الله المتَّقينَ، وإن كان قد خَفِيَ عليه مِن الدِّينِ ما فَهِمَه غيرُه . فالعلماءُ المجتهدون؛ للمصيبِ منهم أجرانِ، وللآخَرِ أجرٌ واحدٌ، وكلٌّ منهم مطيعٌ لله بحسَبِ استطاعتِه؛ ولا يُكَلِّفُه اللهُ ما عجزَ عن عِلْمِه .
10- قَولُ اللهِ تعالى: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا أصلٌ في عُذرِ المُجتَهِدِ إذا أخطأ الاجتِهادَ، أو لم يهتَدِ إلى المُعارِضِ؛ لِقَولِه تعالى: وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا في مَعرِضِ الثَّناءِ على داودَ وسُلَيمانَ عليهما السَّلامُ .
11- استُدلَّ بقَولِ الله تعالى: وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ على تَضمينِ أربابِ المَواشي ما أفسَدَت باللَّيلِ دُونَ النَّهارِ؛ لأنَّ النَّفْشَ لا يَكونُ إلَّا باللَّيلِ .
12- قَولُه تعالى: كُنَّا فَاعِلِينَ في موضِعَينِ مِن كتابِه؛ أحَدُهما: قَولُه تعالى: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ، والثَّاني: قَولُه تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء: 104] ، فتأمَّلْ قولَه: كُنَّا فَاعِلِينَ في هذَينِ المَوضِعَينِ، المتضَمِّنَ للصُّنعِ العَجيبِ الخارِجِ عن العادةِ: كيف تَجِدُه كالدَّليلِ على ما أخبَرَ به، وأنَّه لا يَستَعصي على الفاعِلِ حَقيقةً، أي: شَأنُنا الفِعلُ، كما لا يَخفى الجَهرُ والإسرارُ بالقَولِ على مَن شَأنُه العِلمُ والخِبرةُ، ولا تَصعُبُ المَغفِرةُ على مَن شَأنُه أن يَغفِرَ الذُّنوبَ، ولا الرِّزقُ على مَن شَأنُه أن يَرزُقَ العِبادَ -سُبحانَه وبِحَمدِه !
13- في قَولِه تعالى: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ دَلالةٌ على أنَّ داودَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كان حَدَّادًا .
14- في قَولِه تعالى: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ دليلٌ على أنَّ الاحتِرازاتِ ليست تَنقُصُ في التوكُّلِ؛ إِذْ كان اللهُ جلَّ وتعالى قد جَعَلَ الدِّرعَ صيانةً في الحُروبِ، وجعَلَها في النِّعَمِ التي طالب بشُكرِها، وإذا كان ذلك كذلك، فالمكاسِبُ كلُّها، وإعدادُ الأقواتِ غيرُ مؤثِّرةٍ في الثِّقةِ بالخالِقِ؛ ولا مَعدودةٍ في عِدَادِ خوفِ فَواتِ الرِّزقِ .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ
- قولُه: وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ فيه الإتيانُ بصِيغةِ المُضارِعِ يَحْكُمَانِ حِكايةً للحالِ الماضيةِ؛ لاستحضارِ صُورتِها .
- وجُملةُ: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ اعتراضٌ مُقرِّرٌ للحُكْمِ، ومُفيدٌ لِمَزيدِ الاعتناءِ بشأْنِه .
- وفيه مِن فُنونِ البَلاغةِ: ما يُعرَفُ بجَمْعِ المُختلِفِ والمُؤتلِفِ، وهو عبارةٌ عن إرادةِ المُتكلِّمِ التَّسويةَ بين مَمدوحينِ، فيأْتي بمَعانٍ مُؤتَلِفةٍ في مَدْحِهما، ثمَّ يَرومُ بعْدَ ذلك تَرجيحَ أحَدِهما على الآخرِ بزِيادةِ فَضْلٍ لا يَنقُصُ مَدْحَ الآخَرِ، فيأْتي لأجْلِ ذلك التَّرجيحِ بمَعانٍ تُخالِفُ معانِيَ التَّسويةِ؛ فهنا ساوَى أوَّلَ الآيةِ بين داودَ وسُليمانَ عليهما السَّلامُ في أهْلِيَّةِ الحُكْمِ، ثمَّ رجَّحَ آخِرَها سُليمانَ بقولِه: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ، فسوَّى في الحُكمِ والعِلمِ، وزاد في فَضْلِ سُليمانَ بالفَهمِ، وحصَلَ الالْتِفاتُ، فأَتى بما يقومُ مَقامَ تلك الزِّيادةِ الَّتي يُرجَّحُ بها سُليمانُ؛ لِتُرشِدَ إلى المُساواةِ في الفضْلِ، لِتكونَ فَضيلةُ السِّنِّ وما يَستتبِعُها مِن وَفْرةِ التَّجارِبِ وحُنْكةِ الحياةِ قائمةً مَقامَ الزِّيادةِ الَّتي رُجِّحَ بها سُليمانُ في الحُكْمِ؛ فساوتِ الآيةُ الكريمةُ بيْن داودَ وسُليمانَ في التَّأهُّلِ للحُكْمِ، وشرَّكَت بيْنهما فيه، حيث قالت: إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ، وأخبَرَتْ أنَّ اللهَ سُبحانَه فهَّمَ سُليمانَ إصابةَ الحُكْمِ، ففضَلَ أباهُ بذلك بعْدَ المُساواةِ، ثمَّ الْتَفَتْ سُبحانَه إلى مُراعاةِ حَقِّ الوالدِ، فقال: وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا، فرَجَعا بذلك إلى المُساواةِ بعْدَ تَرجيحِ سُليمانَ؛ لِيُعلِّمَ الولَدَ بذلك بِرَّ الوالِدِ ويُعرِّفَه ما له عليه من الحقِّ، حتَّى إذا فكَّرَ النَّاظِرُ في هذا الكلامِ، وقال: مِن أين جاءتِ المُساواةُ في الحُكْمِ والعلمِ بعْدَ الإخبارِ بأنَّ سُليمانَ فَهِمَ مِن الحُكْمِ ما لم يَفْهَمْه أبوه؟ عَلِم أنَّ حَقَّ الأُبوَّةِ قام مَقامَ تلك الفضيلةِ، فحصَلَتِ المُساواةُ. وحصَلَ في هذا الكلامِ ضَرْبٌ آخَرُ من المحاسِنِ يُقالُ له: الالْتِفاتُ؛ وذلك في قولِه تعالى فيها: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ، وأدْمَجَ في هذا الالْتِفاتِ ضَرْبًا آخَرَ مِن المَحاسِنِ يُقالُ له: التَّنكيتُ؛ فإنَّ النُّكتةَ الَّتي مِن أجْلِها جُمِعَ الضَّميرُ الَّذي كان مِن حَقِّه أنْ يكونَ مُثَنًّى هي الإشارةُ إلى أنَّ هذا الحُكْمَ مُتَّبَعٌ يَجِبُ الاقتداءُ به؛ لأنَّه عَينُ الحقِّ ونَفْسُ العدْلِ، وكيف لا يكونُ كذلك وقد أخبَرَ سُبحانه أنَّه شاهِدٌ له؟! أي: هو مُراعًى بعَينِه عَزَّ وجَلَّ. ويجوزُ أنْ يكونَ جُمِعَ الضَّميرُ الَّذي أُضِيفَ إليه الحُكْمُ مِن أجْلِ أنَّ الحُكْمَ يَستلزِمُ حاكِمًا، ومَحكومًا له، ومَحكومًا عليه؛ فجُمِعَ الضَّميرُ لأجْلِ ذلك .
2- قوله تعالى: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ
- صِيغَةُ التَّفهيمِ في قولِه: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ تُفِيدُ شِدَّةَ حُصولِ الفِعْلِ أكثَرَ مِن صِيغةِ الإفهامِ؛ فدَلَّ على أنَّ فَهْمَ سُليمانَ في القضيَّةِ كان أعمَقَ .
- قولُه: وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا تَذييلٌ؛ للاحتراسِ لدَفْعِ تَوهُّمِ أنَّ حُكْمَ داودَ كان خطَأً أو جَورًا، وإنَّما كان حُكْمُ سُليمانَ أصوبَ .
- و(مع) ظَرْفٌ مُتعلِّقٌ بفِعْلِ يُسَبِّحْنَ، وقُدِّمَ على مُتعلَّقِه؛ للاهتمامِ به لإظهارِ كَرامةِ دَاودَ .
- وقُدِّمَتِ الجِبالُ على الطَّيرِ؛ لأنَّ تَسخيرَها وتَسبيحَها أعجَبُ وأدَلُّ على القُدرةِ، وأدخَلُ في الإعجازِ؛ لأنَّها جَمادٌ والطَّيرَ حيوانٌ، إلَّا أنَّه غيرُ ناطقٍ .
- قولُه: يُسَبِّحْنَ استئنافٌ مُبيِّنٌ لجُملةِ (سَخَّرْنَا)، أو حالٌ مُبيِّنةٌ، وذِكْرُها هنا استطرادٌ وإدماجٌ .
- وجُملةُ: وَكُنَّا فَاعِلِينَ تَذييليَّةٌ مُعترِضةٌ بين الإخبارِ عمَّا أُوتِيَهُ داودُ .
3- قوله تعالى: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ
- قولُه: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ فيه فضْلُ هذه الصَّنعةِ؛ إذ أسنَدَ تَعليمَها إيَّاهُ إليه تعالى .
- قولُه: فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ أمْرٌ وارِدٌ على صُورةِ الاستفهامِ؛ للمُبالَغةِ أو التَّقريعِ ؛ فالاستفهامُ في قولِه: فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ مُستعمَلٌ في استبطاءِ عدَمِ الشُّكرِ، ومُكَنًّى به عن الأمْرِ بالشُّكرِ، وكان العُدولُ عن إيلاءِ (هل) الاستفهاميَّةِ بجُملةٍ فِعْليَّةٍ إلى الجُملةِ الاسميَّةِ، مع أنَّ لـ(هل) مَزِيدَ اختصاصٍ بالفِعْلِ، فلم يقُلْ: (فهلْ تَشكُرون)، وعدَلَ إلى: فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ؛ لِيَدُلَّ العُدولُ عنِ الفِعْليَّةِ إلى الاسميَّةِ على ما تَقْتضيهِ الاسميَّةُ من مَعنى الثَّباتِ والاستمرارِ، أي: فهلْ تَقرَّرَ شُكْرُكم وثبَتَ؛ لأنَّ تَقرُّرَ الشُّكرِ هو الشَّأنُ في مُقابَلةِ هذه النِّعمةِ .