موسوعة التفسير

سورةُ الإسراءِ
الآيات (40-44)

ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ

غريب الكلمات:

أَفَأَصْفَاكُمْ: أي: أَخْتَصَّكم، وأصلُ (صفو): يدُلُّ على خُلوصٍ، وتَناوُلِ صَفْوِ الشَّيءِ .
صَرَّفْنَا: أَيْ: بَيَّنَّا، والصَّرْفُ: ردُّ الشيءِ مِن حالةٍ إلى حالةٍ، أو إبدالُه بغيرِه .
تَفْقَهُونَ: أي: تَفْهمون، ويُقالُ: فَقِهْتُ الكلامَ؛ إذا فهمتَه حقَّ فهمِه، والفقهُ: هو التوصلُ إلى علمٍ غائبٍ بعلمٍ شاهدٍ، وأصلُ (فقه): يدلُّ على إدراكِ الشيءِ، والعلمِ به .

المعنى الإجمالي:

يبيِّنُ الله تعالى بعضَ الأدلةِ على استحالةِ أن يكونَ له شريكٌ أو ولدٌ، فيقول: أفخَصَّكم ربُّكم -أيُّها المُشرِكونَ- بإعطائِكم البَنينَ، واتَّخَذ لنَفسِه الملائِكةَ بَناتٍ؟! إنَّكم لتقولونَ قولًا مُنكَرًا عظيمًا. ولقد وضَّحْنا ونوَّعْنا في هذا القُرآنِ الأحكامَ والمواعِظَ والأمثالَ ليتَّعِظوا ويتَذكَّروا، وما يزيدُهم هذا إلَّا نُفورًا عن الحَقِّ، وغَفْلةً عن النَّظَرِ والاعتِبارِ.
 قُلْ -يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ: لو أنَّ مع اللهِ آلهةً أُخرى إذَنْ لطَلبَتْ تلك الآلِهةُ المزعومةُ طَريقًا إلى اللهِ بعِبادتِه والتقَرُّبِ وابتغاءِ الوَسيلةِ إليه، تنزَّه اللهُ وتقدَّسَ عَمَّا يقولُه المُشرِكونَ وتعالى عُلُوًّا كَبيرًا. تُسَبِّحُ له -سُبحانَه- السَّمَواتُ السَّبعُ والأَرَضونَ ومَن فيهنَّ مِن جَميعِ المَخلوقاتِ، وكُلُّ شَيءٍ من المخلوقات يُسَبِّحُ اللهَ تعالى تسبيحًا مَقرونًا بالثَّناءِ والحَمدِ له سُبحانَه، ولكِنْ لا تعلَمونَ -أيُّها النَّاسُ- تَسبيحَهم؛ إنَّه سُبحانَه كان حَليمًا بعِبادِه، لا يُعاجِلُ مَن عصاه بالعُقوبةِ، غَفورًا لِمَن تابَ منهم.

تفسير الآيات:

أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ نِسبةَ البناتِ إلى اللهِ تعالى ادِّعاءُ آلهةٍ تَنتَسِبُ إلى الله بالبُنوَّةِ؛ إذ عَبَد فريقٌ مِن العَرَبِ الملائكةَ كما عبدوا الأصنامَ، واعتلُّوا لعبادتِهم بأنَّ الملائكةَ بناتُ الله تعالى، فلمَّا نُهوا عن أن يجعَلوا مع اللهِ إلهًا آخَرَ خَصَّصَ بالتحذيرِ عبادةَ الملائكةِ؛ لئلَّا يتوهَّموا أنَّ عبادةَ الملائكةِ ليست كعبادةِ الأصنامِ؛ لأنَّ الملائكةَ بناتُ اللهِ، ليتوهَّموا أنَّ الله يرضى بأن يعبُدوا أبناءَه، وقد جاء إبطالُ عبادةِ الملائكةِ بإبطالِ أصلِها في معتَقَدِهم، وهو أنَّهم بناتُ الله، فإذا تبيَّن بطلانُ ذلك عَلِموا أنَّ جَعْلَهم الملائكةَ آلهةً يُساوي جَعْلَهم الأصنامَ آلهةً .
وأيضًا لَمَّا نَبَّه اللهُ تعالى على فَسادِ طَريقةِ مَن أثبَتَ لله شَريكًا ونَظيرًا؛ نَبَّهَ على طريقةِ مَن أثبَتَ له الوَلَدَ -سُبحانَه-، وعلى كَمالِ جَهلِ هذه الفِرقةِ .
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا.
أي: أفخَصَّكم ربُّكم -أيُّها المُشرِكونَ- بالذُّكورِ مِن الأولادِ، فلم يجعَلْ لِنَفسِه نَصيبًا منهم، وجعَلَ الملائِكةَ بَناتٍ له كما تَزعُمونَ، والحالُ أنَّكم لا تَرضَونَ البناتِ لأنفُسِكم؟! فهذا خِلافُ المَعقولِ والمَعهودِ المُتعارَفِ عليه؛ فإنَّ السَّادةَ لا يُؤثِرونَ عَبيدَهم بأفضَلِ الأشياءِ، ويتَّخِذونَ لأنفُسِهم أدْوَنَها !
كما قال تعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [الصافات: 149-155] .
وقال سُبحانَه: أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ [الطور: 39].
وقال عزَّ وجلَّ: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [النجم: 21، 22].
إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا.
أي: إنَّكم -أيُّها المُشرِكونَ- لَتَقولونَ على اللهِ قَولًا عَظيمًا، بافتِرائِكم أنَّ المَلائِكةَ بَناتُه .
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى فظاعةَ قَولِ الكافِرينَ بأنَّ الملائِكةَ بَناتُ اللهِ؛ أعقَبَ ذلك بأنَّ في القُرآنِ هَدْيًا كافيًا، ولكِنَّهم يَزدادونَ نُفورًا مِن تدَبُّرِه .
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41).
أي: ولقد بَيَّنَّا ونوَّعْنا وأكثَرْنا في هذا القُرآنِ العِبَرَ والمواعِظَ، والحِكَمَ والأمثالَ، والحُجَجَ والأدِلَّةَ؛ ليتَذَكَّروا ويتَّعِظوا، وما يزيدُ الظَّالِمينَ هذا التَّصريفُ والتَّذكيرُ بآياتِ القُرآنِ إلَّا ذَهابًا وهربًا من الحَقِّ، وتَباعُدًا عن الإيمانِ، وغفلةً عنِ النَّظَرِ والاعتبارِ .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا [الإسراء: 89].
وقال سُبحانَه: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا [طه: 113] .
وقال جلَّ جلالُه: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء: 82] .
قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه عَودٌ إلى إبطالِ تعدُّدِ الآلهةِ؛ زيادةً في استِئصالِ عَقائِدِ المُشرِكينَ مِن عُروقِها .
قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42).
أي: قل -يا مُحمَّدُ- لو كان مع اللهِ مَعبوداتٌ سِواه -كما يَزعُمُ المُشرِكونَ-، إذَنْ لَطَلبَتْ تلك المَعبوداتُ المَزعومةُ التقرُّبَ إلى اللهِ، ونَيْلَ رِضاه بعبادتِه؛ لاعتِرافِهم بفَضلِه، وعِلْمِهم بقُدرتِه وعَجزِهم، فكيف تَعبُدونَهم مِن دُونِه والحالةُ هذه ؟!
كما قال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ [الإسراء: 57] .
وقال سُبحانه: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ [الفرقان: 17، 18].
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا أقامَ اللهُ تعالى الدَّليلَ القاطِعَ على كَونِه مُنَزَّهًا عن الشُّرَكاءِ، وعلى أنَّ القَولَ بإثباتِ الآلِهةِ قولٌ باطِلٌ؛ أردَفَه بما يدُلُّ على تَنزيهِه عن هذا القَولِ الباطِلِ، فقال :
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43).
أي: تَنزيهًا للهِ عمَّا لا يَليقُ بعَظَمتِه، وتعالى عُلُوًّا كبيرًا عمَّا يقولُ المُشرِكونَ مِن الكَذِبِ عليه، كنِسبةِ الوَلَدِ والشَّريكِ إليه .
كما قال تعالى: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصافات: 180].
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44).
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ.
أي: تُسَبِّحُ لله السَّمَواتُ السَّبعُ والأرضُ، ومَن فيهنَّ مِنَ المَلائِكةِ والإنسِ والجِنِّ وجميعِ المَخلوقاتِ، فتُنزِّهُه عمَّا لا يليقُ به .
كما قال تعالى: تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم: 90 - 95] .
وقال سُبحانَه: تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [الشورى: 5] .
وقال جلَّ جلالُه: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التغابن: 1] .
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ.
أي: وما مِن شَيءٍ من المَخلوقاتِ إلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِ الله تعالى، فيُنَزِّهُه تنزيهًا مَقرونًا بوَصفِه بصِفاتِ الكَمالِ مع محَبَّتِه وتَعظيمِه عزَّ وجَلَّ .
كما قال تعالى: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ [الرعد: 13] .
وقال سُبحانه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ [النور: 41] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء: 79] .
وقال تبارك وتعالى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة: 74] .
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((قَرَصَت نملةٌ نبيًّا مِنَ الأنبياءِ، فأمَرَ بقَريةِ النَّملِ فأُحرِقَتْ، فأوحى اللهُ إليه: أنْ قَرَصَتْك نَملةٌ أحرَقْتَ أمَّةً مِنَ الأُمَمِ تُسبِّحُ؟ !)) .
وعن عَبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كُنَّا مع رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سَفَرٍ، فقَلَّ الماءُ، فقال: اطلُبوا فَضْلةً مِن ماءٍ، فجاؤوا بإناءٍ فيه ماءٌ قَليلٌ، فأدخَلَ يَدَه في الإناءِ، ثمَّ قال: حَيَّ على الطَّهورِ المُبارَكِ، والبَرَكةُ مِنَ اللهِ. فلقد رأيتُ الماءَ يَنبُعُ مِن بَينِ أصابعِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولقد كُنَّا نَسمَعُ تَسبيحَ الطَّعامِ وهو يُؤكَلُ!)) .
وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ.
أي: ولكن لا تَعلَمونَ -أيُّها النَّاسُ- تَسبيحَ المَخلوقاتِ؛ لأنَّها على غيرِ لُغَتِكم .
إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا.
أي: إنَّ اللهَ كان حَليمًا، فلا يُعاجِلُ بالعُقوبةِ مَن يكفُرُ به ويَعصِيه، غفورًا لِمَن تابَ مِن عِبادِه، فيَستُرُ ذُنوبَهم، ويتَجاوَزُ عن مُؤاخَذتِهم بها .
كما قال تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا [فاطر: 45] .
وعن أبي موسى رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ لَيُملي للظَّالمِ حتى إذا أخَذَه لم يُفلِتْه، ثمَّ قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102] )) .

الفوائد التربوية:

قال تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ. فالَّذي ينبغي لنا أنْ نَسْتَفيدَه مِنْ ذلك أنْ نذكُرَ في قُلوبِنا عندَ رؤيةِ كُلِّ شيءٍ مِنْ صُنعِ اللهِ، وسماعِ كلِّ صوتٍ مِنْ مخلوقاتِ اللهِ، أنَّه يُسَبِّحُ بحمدِ اللهِ بدَلالتِه على تنزيهِه عمَّا لا يليقُ به، وعلى قدرتِه وحكمتِه ومشيئَتِه ورحمتِه، وأنَّ لها تسبيحًا آخرَ غيبيًّا لا نفقهُه بكَسْبِنا؛ لأنَّنا لا نُدرِكُ حياتَها .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- أنَّ المَخلوقاتِ -وإنْ كانت جَمادًا- تُحِسُّ بعَظَمةِ الخالِقِ؛ قال الله تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ .
2- في قَولِه تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ دَليلٌ على أنَّ ذا الرُّوحِ وغيرَه ممَّا لا حياةَ فيه ولا حَرَكةَ ظاهرةً، مِثْلَ الحَجَرِ والمَدَر والخَشَبِ- أنَّها تُسَبِّحُ، لا أنَّه مَخصوصٌ به الرُّوحانيُّونَ دُونَ غَيرِهم .
3- في قَولِه تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ دَلالةٌ على أنَّ تَرْكَ قَتْلِ الدَّوَابِّ والحَشَراتِ التي سَكَتَ الشَّرعُ عنها -كالصَّراصيرِ والجِعْلانِ، والخُنْفُساءِ وما أشبَهَها- أَولى؛ فإنَّه وإنْ كان قَتْلُها مُباحًا، فتَرْكُها تُسَبِّحُ اللهَ عزَّ وجلَّ أَولى مِن قَتْلِها .
4- قال الله تعالى: إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا لَمَّا كان الغالِبُ على أحوالِ البَشَرِ أنَّ حَليمَهم إذا غَضِبَ لا يَغفِرُ، وإنْ عفا كان عَفوُه مُكَدَّرًا؛ قال تعالى: حَلِيمًا غَفُورًا مُشيرًا بصِيغةِ المُبالغةِ إلى أنَّه على غيرِ ذلك؛ ترغيبًا في التَّوبةِ .

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا
- قولُه: أَفَأَصْفَاكُمْ استفهامٌ معناه الإنكارُ والتَّوبيخُ . وقيل: الاستفهامُ إنكارٌ وتهكُّمٌ .
- قولُه: أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ قصَدَ هاهنا بالتَّعرُّضِ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ تَشديدَ النَّكيرِ وتأكيدَه .
- وجُملةُ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا مُتفرِّعةٌ على جُملةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ تَفريعًا على النَّهيِ باعتبارِ أنَّ المنهيَّ عنه مُشتمِلٌ عمومُه على هذا النَّوعِ الخاصِّ الجديرِ بتَخصيصِه بالإنكارِ .
- قولُه: إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا فيه تأكيدُ فعْلِ (تقولون) بمَصدرِه قَوْلًا؛ تأكيدًا لمعنى الإنكارِ. وجعَلَه مُجرَّدَ قولٍ؛ لأنَّه لا يَعْدو أنْ يكونَ كلامًا صدَرَ عن غيرِ رَويَّةٍ؛ لأنَّه لو تأمَّلَه قائلُه أدنى تأمُّلٍ، لوجَدَه غيرَ داخلٍ تحت قضايا المقبولِ عقلًا. والعظيمُ: القويُّ، والمُرادُ هنا أنَّه عظيمٌ في الفسادِ والبُطلانِ؛ بقَرينةِ سياقِ الإنكارِ، ولا أبلَغَ في تَقبيحِ قولِهم مِن وصْفِه بالعظيمِ .
2- قَولُه تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا
- قولُه: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا التَّصريفُ كِنايةٌ عن التَّبيينِ بمُختلِفِ البيانِ ومُتَنوِّعِه. وضَميرُ لِيَذَّكَّرُوا عائدٌ إلى معلومٍ من المقامِ دَلَّ عليه قولُه: أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ، أي: ليذَّكَّرَ الَّذين خُوطِبوا بالتَّوبيخِ في قولِه: أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ؛ فهو التِفاتٌ من الخطابِ إلى الغَيبةِ، أو من خطابِ المُشركينَ إلى خطابِ المُؤمنينَ .
- وجُملةُ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا في مَوضعِ الحالِ، وهو حالٌ مقصودٌ منه التَّعجُّبُ من حالِ ضَلالتِهم؛ إذ كانوا يَزْدادون نُفورًا من كلامٍ فُصِّلَ وبُيِّنَ لتَذكيرِهم، وشأْنُ التَّفصيلِ أنْ يُفيدَ الطُّمأنينةَ للمقصودِ .
- وقال عَزَّ وجَلَّ هنا: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا، وقال بعدُ في هذه السُّورةِ أيضًا: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا [الإسراء: 89] ، وقال في سُورةِ (الكهفِ): وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الكهف: 54] ، وإنَّما لم يُذكرْ فى أَوَّل سورةِ (الإسراء) للنَّاسِ؛ لتقدُّمِ ذكرِهم فى السُّورةِ، وذكَرهم فى سورةِ (الكهفِ) إِذ لم يَجْرِ ذكرُهم، وذكَر (النَّاس) فى آخرِ سورة (الإسراءِ)، وإنْ جرَى ذكرُهم؛ لأَنَّ ذكرَ الإِنْسِ والجنِّ جرَى معًا، فذكَر لِلنَّاسِ؛ كراهةَ الالتباسِ، وقدَّمه على فِي هَذَا الْقُرْآنِ كما قدَّمه فى قوله: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ثمَّ قال: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ، وأَمَّا فى سورةِ (الكهفِ) فقدِّم فِي هَذَا الْقُرْآنِ؛ لأَنَّ ذكرَه أجلُّ الغرضِ؛ وذلك أَنَّ اليهودَ سألتْه عن قصَّةِ أَصحابِ الكهفِ، وقصَّةِ ذى القَرْنينِ، فأَوحَى الله إليه فى القرآنِ؛ وكان تقديمُه فى هذا الموضعِ أَجدرَ، والعنايةُ بذكرِه أَحرَى وأَخلقَ .
- وقُدِّمَ لِلنَّاسِ على فِي هَذَا الْقُرْآنِ هنا في الآيةِ الثَّانيةِ؛ اهتمامًا بالتَّمييزِ المذكورِ، وبالنَّاسِ لأنَّهم الأصلُ في التَّكليفِ؛ ولهذا اقتصَرَ عليهم في غالبِ الآياتِ؛ كقولِه: مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ [البقرة: 159] ، وقولِه: أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ [البقرة: 185] ، وعكَسَ في (الكهفِ) لمُناسبةِ قولِه قبْلُ: مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً [الكهف: 49] .
- ومن المناسبةِ الحَسنةِ كذلك: خِتامُ آيةِ (الإسراءِ) الأُولَى بقولِه: وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا؛ لأنَّ الضميرَ للمَذكورينَ ممَّن خُصَّ بمقصودِ الخِطاب المُكْنَى عنهم بقولِه: لِيَذَّكَّرُوا، وختامُ الآيةِ الثانية بقولِه: فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا [الإسراء: 89] ؛ لتُعطِيَ إعادةَ الظاهرِ من التعنيفِ والتقريعِ ما لا يُعطيه المُضمَرُ، ولأنَّ أوَّلَ الخِطابِ وصَدْرَ الآيةِ لَمَّا قُدِّمَ فيه ذِكرُ النَّاس لشرفِ الجِنسِ الإنسانيِّ على الجِنِّ، ثمَّ لم يَكُن ممَّن لم يُؤمِنْ إلَّا العِنادُ، قيل: فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ؛ ليُعطيَ بفحواه أنَّه كأنَّه قيل: فأبَى أكثرُ النَّاسِ على تَشريفِهم وتَفضيلِنا إيَّاهم إلَّا الكُفرَ؛ فأحرزَ الظاهرُ ما لم يكُنْ ليحرِزَه إضمارُهم. وختَم آية (الكهفِ) بقولِه: وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الكهف: 54] ؛ تَمهيدًا لِمَا سيأتي بعدَه من قوله تعالى: وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ [الكهف: 56] ، فلمَّا بُنِيَ هذا على الآيةِ، واتَّصلَ الكلامُ والْتَحَم، نُوسِب بينهما، وليس في الآيتَينِ في سُورةِ (الإسراءِ) قبلُ ولا فيما تقدَّم كلَّ واحدةٍ منهما وفيما بُني عليهما ما يَستدعي ذِكرَ الجدلِ ولا الوصفَ به؛ فلذلك خُتِمتْ كلُّ واحدةٍ منهما بما تَقدَّم؛ فأُعقِبَتِ الأُولى بقولِه تعالى: وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا [الإسراء: 41] ، وأُعقِبَتِ الثانيةُ بقولِه: فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا، وأُعقِبتْ آيةُ (الكهفِ) بما يُناسِبُ ما ورَد عليه بَعدَه، وجاء كلٌّ على ما يُناسبُ .
- قولُه: لِيَذَّكَّرُوا فيه الْتِفاتٌ إلى الغَيبةِ؛ للإيذانِ باقتضاءِ الحالِ أنْ يُعْرِضَ عنهم، ويَحْكي للسَّامعينَ هَنَاتِهم .
3- قَولُه تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا
- جُملةُ كَمَا يَقُولُونَ مُعترِضةٌ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ تعدُّدَ الآلهةِ لا تحقُّقَ له، وإنَّما هو مُجرَّدُ قولٍ عارٍ عن المُطابقةِ لِمَا في نفْسِ الأمرِ. وإِذًا دالَّةٌ على الجوابِ والجزاءِ؛ فهي مُؤكِّدةٌ لمعنى الجوابِ الَّذي تدُلُّ عليه اللَّامُ المُقترِنةُ بجوابِ (لو) الامتناعيَّةِ الدَّالةِ على امتناعِ حُصولٍ .
- قولُه: إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا فيه استحضارُ الذَّاتِ العلِيَّةِ بوصْفِ ذِي الْعَرْشِ دونَ اسمِه العَلَمِ (الله)؛ لِمَا تتضمَّنَه الإضافةُ إلى العرشِ من الشَّأنِ الجليلِ ، ولأنَّ في التصريحِ بالعرشِ تَصويرًا لعَظَمتِه سبحانَه .
4- قَولُه تعالى: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا
- قولُه: عُلُوًّا كَبِيرًا فيه وصْفُ العُلوِّ بالكِبَرِ؛ مُبالغةً في معنى البراءةِ والبُعدِ ممَّا وَصَفوه به .
5- قَولُه تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا
- قولُه: وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ فيه ما يُعْرَفُ بالتَّنكيتِ، وهو قصْدُ المُتكلِّمِ إلى شَيءٍ بالذِّكرِ دونَ غيرِه ممَّا يسُدُّ مَسدَّه لنُكتةٍ في المذكورِ تُرجِّحُ مَجيئَه على سِواه؛ فقد خصَّ سُبحانَه هنا تَفْقَهُونَ دونَ (تعلمون)؛ لِمَا في الفقهِ من الزِّيادةِ على العلْمِ؛ لأنَّه التَّصرُّفُ في المعلومِ بعدَ عِلْمِه، واستنباطِ الأحكامِ منه، والمُرادُ الَّذي يَقْتضيه معنى الكلامِ التَّفقُّهُ في معرفةِ التَّسبيحِ من الحيوانِ البهيمِ والنَّباتِ والجَمادِ، وكلِّ ما يَدخُلُ تحتَ لفظةِ (شَيءٍ) ممَّا لا يعقِلُ ولا ينطِقُ؛ إذ تَسبيحُ ذلك بمُجرَّدِ وُجودِه الدَّالِّ على قُدرةِ مُوجِدِه وحِكمتِه ، وذلك على أحدِ القولينِ في المرادِ بالتسبيحِ.
- قولُه: إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا فيه الختْمُ بالحِلْمِ والمغفرةِ عقِبَ تَسابيحِ الأشياءِ، وهو غيرُ ظاهرٍ في بادي الرَّأيِ؛ ووجْهُ ذلك الخِتامِ وحِكمتُه: أنَّه لمَّا كانتِ الأشياءُ كلُّها تُسبِّحُ ولا عِصيانَ في حقِّها وأنتم تَعْصون، ختَمَ بالحلمِ والغُفرانِ؛ مُراعاةً للمُقدَّرِ في الآيةِ وهو العِصيانُ. وقيل: التَّقديرُ: حليمًا عن تَفريطِ المُسبِّحينَ، غفورًا لذُنوبِهم. وقيل: حليمًا عن المُخاطبينَ الَّذين لا يَفْقهون التَّسبيحَ بإهمالِهم النَّظرَ في الآياتِ والعِبَرِ؛ ليَعْرِفوا حقَّه بالتَّأمُّلِ فيما أودَعَ في مَخلوقاتِه ممَّا يُوجِبُ تَنزيهَه .