موسوعة التفسير

سورةُ الكَهفِ
الآيات (52-56)

ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ

غريب الكلمات:

مَوْبِقًا: مَهلِكًا وحاجِزًا، وأصلُ (وبق): يدُلُّ على هَلاكٍ، وحَيلولةٍ بينَ شَيئَينِ [878] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 269)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/82)، ((البسيط)) للواحدي (14/52)، ((المفردات)) للراغب (ص: 852)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 215).   .
سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ: أي: طَريقتُنا في إهلاكِهم، وأصلُ (سنن): يدُلُّ على جَرَيانِ الشَّيءِ، واطرادِه في سُهولٍة [879] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 269)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/60)، ((المفردات)) للراغب (ص: 429)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 129)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/350).   .
قُبُلًا: أي: عِيانًا ومُواجَهةً، وأصلُ (قبل): يدلُّ على مُواجَهةِ شَيءٍ لشَيءٍ [880] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 158)، ((تفسير ابن جرير)) (15/301)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/51).   .
لِيُدْحِضُوا: أي: لِيُبطِلوا ويُزيلوا، وأصلُ (دحض): يدلُّ على زَوالِ شيءٍ عن مَقامِه [881] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/302)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 220)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/332)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 366)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 988).   .

المعنى الإجمالي:

يحكي الله تعالَى مشهدًا مِن مشاهدِ القيامةِ، يكشفُ عن حالِ المشركينَ معَ شركائِهم، فيقولُ: واذكُرْ يومَ يقولُ اللهُ للمُشرِكينَ يومَ القيامةِ: نادُوا آلهَتَكم الذين كُنتُم تَزعُمونَ أنَّهم شُرَكاءُ لي في العبادةِ؛ لِيَنصروكم اليومَ مني، فاستغاثوا بهم فلم يُغيثوهم، وجعَلْنا بين المُشرِكينَ وآلهَتِهم حائلًا مُهلِكًا في جَهنَّمَ.
ثمَّ يُبيِّنُ حالةَ المجرمينَ عندَما يبصِرونَ النارَ، فيقولُ: ورأى المُجرِمونَ النَّارَ فأيقَنوا أنَّهم واقِعونَ فيها، ولم يَجِدوا عنها مكانًا يَنصَرِفونَ إليه.
ثمَّ يخبرُ الله تعالى عن عظمةِ القرآنِ، فيقولُ: ولقد وضَّحْنا ونوَّعْنا في هذا القُرآنِ للنَّاسِ أمثالًا كثيرةً؛ ليتذَكَّروا ويتَّعِظوا بها. وكان الإنسانُ أكثَرَ المخلوقاتِ مُجادَلةً ومُخاصَمةً.
ثمَّ يحكي الله تعالى الأسبابَ التي منَعتْ بعضَ الناسِ مِن الإيمانِ، فيقول: وما منعَ النَّاسَ مِن الإيمانِ بالحقِّ -حين جاءَهم- واستغفارِ رَبِّهم، إلَّا ما قدَّره اللهُ مِن أنَّهم لا يؤمِنونَ، بل يستمرُّون على كفرِهم فتُصيبُهم سُنَّةُ اللهِ في إهلاكِ السَّابِقينَ عليهم من الأمم الكافرة واستِئصالِهم، أو يُصيبُهم عذابُ الله عِيانًا يَرَونَه.
ثمَّ يبينُ تعالى وظيفةَ الرسلِ، فيقولُ: وما نُرسِلُ الرُّسُلَ إلى النَّاسِ إلَّا ليكونوا مُبَشِّرينَ المُؤمِنينَ بالثَّوابِ العاجِلِ والآجِلِ، ومُخوِّفينَ الكافِرينَ من العِقابِ العاجِلِ والآجِلِ، ويُخاصِمُ الذين كَفَروا رُسُلَهم بالباطِلِ تَعَنُّتًا؛ لِيُزيلوا بباطِلِهم الحَقَّ الذي جاءَهم به الرَّسولُ، واتَّخَذوا كِتابي وحُجَجي وما خُوِّفوا به مِن العذابِ سُخريةً واستِهزاءً.

تفسير الآيات:

وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى حالَ مَن أشرك به في الدُّنيا، وحَكَم بجَهلِ المشركِين وسَفَهِهم، وأبطَلَ هذا الشِّركَ غايةَ الإبطالِ، وأقام البُرهانَ القاطِعَ على بُعدِ رُتبةِ مَعبوداتِ المُشرِكينَ عن المَنزِلةِ التي أحَلُّوهم بها مِنَ الشِّركِ؛ أخبَرَ عن حالِهم مع شُرَكائِهم يومَ القيامةِ مبينًا أنَّهم مع عدَمِ نَفعِهم لهم في الدُّنيا، يتخَلَّونَ عنهم في الآخِرةِ أحوجَ ما يكونونَ إليهم؛ تخييبًا لِظَنِّهم أنَّهم يُقَرِّبونَهم إلى اللهِ زُلفى [882] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (١٢/٧٨)، ((تفسير السعدي)) (ص: ٤٨٠).   .
وأيضًا فإنَّه انتقالٌ مِن إبطالِ مَعبوديَّةِ الشَّيطانِ والجِنِّ إلى إبطالِ إلهيَّةِ جَميعِ الآلهةِ التي عبَدَها دَهماءُ المُشرِكينَ، مع بيانِ ما يعتريهم من الخَيبةِ واليأسِ يَومَئذٍ [883] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (١٥/٣٤٤).   .
وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ.
أي: واذكُرْ يومَ يقولُ اللهُ للمُشرِكينَ يومَ القيامةِ تَوبيخًا وتقريعًا لهم: نادُوا آلهَتَكم التي ادَّعيتُم في الدُّنيا كَذِبًا أنَّهم شُرَكائي في العِبادةِ؛ نادُوهم لِيَنصُروكم ويَمنَعوكم مِن عَذابي [884] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/295)، ((تفسير القرطبي)) (11/2)، ((تفسير ابن كثير)) (5/169، 170)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/344-345)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/295)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 94).   .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام: 94] .
فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ.
أي: فاستغاثَ المُشرِكونَ بآلهَتِهم التي كانوا يَعبُدونَها في الدُّنيا، فلم يُجيبوهم ولم يَنصُروهم [885] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/295)، ((تفسير البغوي)) (3/200)، ((تفسير القرطبي)) (11/2)، ((تفسير ابن كثير)) (5/170)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/295).   .
كما قال تعالى: وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ [القصص: 64] .
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا.
أي: وجعَلْنا بين المُشرِكينَ وآلهَتِهم التي عَبَدوها حائِلًا مُهلِكًا [886] قال ابنُ كثيرٍ عن (الموبق): (يجوزُ أن يكونَ واديًا في جهنَّمَ، أو غيرَه). ((تفسير ابن كثير)) (5/170). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/298). وقال ابن عاشور: (والموبقُ هنا أُريدَ به جَهَنَّمُ، أيْ: حينَ دَعَوْا أصنامَهم بأسمائِهم كَوَّنَ اللَّهُ فيما بينَ مكانِهم ومكانِ أصنامِهم فُوَّهاتِ جهنَّمَ). ((تفسير ابن عاشور)) (15/345).   يَفصِلُ بينهم؛ فليس لأحدِ الفريقَينِ مِن سَبيلٍ للوُصولِ إلى الآخَرِ [887] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/298)، ((تفسير ابن كثير)) (5/170)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/78-79)، ((تفسير السعدي)) (ص: 480)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/345)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/296 - 298)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 95).   .
كما قال تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ [يونس: 28] .
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53).
 وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا.
أي: وعاينَ المُشرِكونَ النَّارَ فتيَقَّنوا [888] ممن قال بأنَّ المرادَ بالظنِّ هنا اليقينُ: ابنُ جرير، والبغوي، والقرطبي، وابنُ كثير، والشنقيطي، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/299)، ((تفسير البغوي)) (3/200)، ((تفسير القرطبي)) (11/3)، ((تفسير ابن كثير)) (5/171)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/298)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 95). ونسَب أبو حيان هذا القولَ إلى أكثرِ الناسِ. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/192). وقيلَ: الظنُّ هنا على موضوعِه مِنْ كونِه ترجيحَ أحدِ الجانبينِ، وكونهم لم يَجْزِموا بدخولِها رَجاءً وطمعًا في رحمةِ اللَّهِ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/524)، ((تفسير أبي حيان)) (7/192). وقال ابنُ عاشور: (والظَّنُّ مُستعملٌ هنا في معنى التحَقُّقِ، وهو مِن استعمالاتِه). ((تفسير ابن عاشور)) (15/346). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/524). أنَّهم داخِلُوها، وواقِعونَ فيها [889] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/299)، ((تفسير البغوي)) (3/200)، ((تفسير السعدي)) (ص: 480)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/298).   .
وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا.
أي: ولم يجِدِ المُشرِكونَ عن النَّارِ التي رأَوها مَكانًا يَنصَرِفونَ إليه، فيَصرِفُهم عن الوقوعِ فيها، أو طَريقًا يعدِلون عنها إليه، فلا بدَّ لهم منها [890] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/299)، ((تفسير القرطبي)) (11/4)، ((تفسير ابن كثير)) (5/171)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/86)، ((تفسير السعدي)) (ص: 480)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/299)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 95).   .
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ الكافرينَ لَمَّا افتخَروا على فُقَراءِ المسلمينَ بكثرةِ أموالِهم وأتباعِهم، وبيَّن تعالى بالوجوهِ الكثيرةِ أنَّ قولَهم فاسِدٌ، وشُبهَتَهم باطِلةٌ، وذكر فيه المَثَلينِ المتقَدِّمين، قال بعدَه: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الكهف: 54] ، وهو إشارةٌ إلى ما سبق [891] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (٢١/٤٧٥).   .
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ.
أي: ولقد نَوَّعْنا وكرَّرْنا وبَيَّنَّا في هذا القُرآنِ للنَّاسِ الأمثالَ بعِباراتٍ مُختَلفةٍ، وأساليبَ مُتَنوِّعةٍ، ومِن كُلِّ جِنسٍ وصِنفٍ؛ لِيَعقِلوا ويتذَكَّروا، ويتَّعِظوا ويَهتَدوا إلى الحَقِّ [892] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/299)، ((تفسير ابن كثير)) (5/171)، ((تفسير السعدي)) (ص: 480)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/299، 301)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 96).   .
وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا.
أي: ومع هذا البَيانِ لم يتقَبَّلوا القُرآنَ، وجادلوا فيه؛ لأنَّ الإنسانَ بطَبعِه هو أكثَرُ الأشياءِ مُجادَلةً ومُخاصَمةً، فيُعارِضُ الحَقَّ بالباطِلِ، فلا يُنيبُ إلى الحَقِّ، ولا يَنزَجِرُ بالمواعِظِ [893] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/299)، ((تفسير ابن كثير)) (5/171)، ((تفسير السعدي)) (ص: 480)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/301). قال ابنُ عاشور: (المرادُ هنا مُطلَقُ الجدَلِ وبخاصَّةٍ ما كان منه بباطلٍ، أي: أنَّ كُلَّ إنسانٍ في طَبعِه الحِرصُ على إقناعِ المخالفِ بأحقيَّةِ مُعتَقَدِه أو عَمَلِه، وسياقُ الكلامِ يقتضي إرادةَ الجَدلِ الباطِلِ). ((تفسير ابن عاشور)) (15/349). وقال ابنُ عثيمين: (إذا مَرَّ بك مِثلُ هذا في القُرآنِ الكريمِ الْإِنْسَانُ فلا تحمِلْه على الكافِرِ إلَّا إذا كان السِّياقُ يعَيِّنُ ذلك، فإذا كان السياقُ يراد به ذلك، صار هذا عامًّا يرادُ به الخاصُّ، لكِنْ إذا لم يكُنْ في السياقِ ما يُعَيِّنُ ذلك فاجعَلْه للعُمومِ؛ اجعَلْه إنسانًا بوَصفِ الإنسانيَّةِ، والإنسانيَّةُ إذا غلَبَ عليها الإيمانُ اضمحَلَّ مُقتضاها المخالِفُ للفِطرةِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 97). وقال الشوكاني: (قال الزَّجَّاجُ: المرادُ بالإنسانِ: الكافرُ، واستدلَّ على أنَّ المرادَ: الكفارُ بقولِه تعالَى: وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ [الكهف: 56] ، وقيلَ: المرادُ به في الآيةِ: النَّضرُ بنُ الحارِثِ. والظَّاهِرُ العمومُ). ((تفسير الشوكاني)) (3/349). ويُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (3/296). وقال الشنقيطي: (أي: أكثَرُ الأشياءِ التي مِن شأنِها الخصومةُ إنْ فصَّلْتَها واحِدًا بعد واحدٍ جَدَلًا أي: خُصومةً ومماراةً بالباطِلِ؛ لِقَصدِ إدحاضِ الحَقِّ). ((أضواء البيان)) (3/301). ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/729)، ((تفسير أبي حيان)) (7/193). .
كما قال تعالى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [النحل: 4] .
وعن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طَرَقَه [894] طَرَقَه: أي: أتاه في اللَّيلِ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (6/64).   وفاطِمةَ بنتَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليلةً، فقال لهم: ألَا تُصَلُّونَ؟! قال عليٌّ: فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّما أنفُسُنا بيَدِ اللهِ، فإذا شاء أن يبعَثَنا بعَثَنا، فانصرف رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حين قلتُ ذلك، ولم يرجِعْ إليَّ شَيئًا، ثمَّ سَمِعتُه وهو مُدبِرٌ يَضرِبُ فَخِذَه ويقولُ: وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا)) [895] رواه البخاري (7465) واللفظ له، ومسلم (775). قال ابنُ تيمية: (هذا الحديثُ نَصٌّ في ذَمِّ مَن عارضَ الأمرَ بالقَدَر؛ فإنَّ قَولَه: «إنَّما أنفُسُنا بيد الله» إلى آخِره، استنادٌ إلى القَدَر في تَركِ امتثالِ الأمرِ، وهي في نفسِها كَلِمةُ حَقٍّ؛ لكِنْ لا تصلُحُ لمعارضةِ الأمر، بل معارضةُ الأمرِ بها من بابِ الجَدَلِ المذمومِ الذي قال اللهُ فيه: وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا). ((مجموع الفتاوى)) (15/229).   .
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55).
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ.
أي: وما منع النَّاسَ مِن الإيمانِ بالحَقِّ حين جاءَهم، وأن يَطلُبوا مِن رَبِّهم مَغفِرةَ ذُنوبِهم [896] مِن المفسِّرينَ مَن ذهَب إلى أنَّ المرادَ بـ النَّاسَ: الكُفَّارُ والمُشركون في عهدِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنَّ المرادَ بالهُدى: ما جاء به محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. ومنهم: ابنُ جريرٍ، وابنُ عطية. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/300)، ((تفسير ابن عطية)) (3/525). قال ابنُ الجوزي: (قوله تعالى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا قال المفسِّرون: يعني: أهلَ مكة إذ جاءهم الهُدى، وهو محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم، والقرآنُ، والإِسلامُ). ((تفسير ابن الجوزي)) (3/92). وقيل: المعنى: وما منع الكُفَّارَ مِن جميعِ الأمم أن يؤمِنوا حين جاءَتْهم رسُلُهم بالبيِّناتِ. وممن قال بذلك: ابنُ كثير، وابنُ عاشور، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/172)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/349، 350)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/303، 304). .
إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ.
أي: إلا ما قدَّره الله وسبَق في علمِه أنَّهم لا يؤمنون، بل يستمرُّون على كفرِهم حتى يأتيَهم سنةُ الأممِ الكافرةِ قبلَهم، وهي عذابُ الاستئصالِ، والإهلاكُ في الدُّنيا [897] يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 665)، ((تفسير ابن جزي)) (1/468)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/303، 304). وممن ذهب إلى المعنى المذكور: الواحدي، وابنُ جزي، والشنقيطي. يُنظر : المصادر السابقة. قال ابن المظفر الرازي: (تحقيقُه: أنَّه وعيدٌ وتهديدٌ لهم بالعذابِ، كأنَّه قال: إنَّهم لا يؤمنونَ إلى أن يأتيَهم العذابُ، فحينئذٍ يؤمنونَ، ولا ينفعُهم إيمانُهم، نظيره: كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [الشعراء: 200، 201]، كما تقولُ في الشاهدِ لعدوِّك: ما تريدُ إلَّا أن أقتلَك، ولا شكَّ أنَّه لا يريدُ ذلك، كأنَّه قال: إنَّما يمتنعونَ مِن الإيمانِ لأعذبَهم. والله أعلم). ((مباحث التفسير)) (ص: 208). وقيل: المعنى: ما منَعَ النَّاسَ أن يؤمنوا إلَّا الذي منَع الأوَّلينَ قَبلَهم؛ مِن عادةِ العِنادِ والطغيانِ، وطريقتِهم في تكذيبِ الرسُلِ، والاستخفافِ بهم. فمَنَعهم تقليدُ سُنَّةِ الأوَّلينَ مِن الإيمانِ إلى أن يأتيَهم العذابُ كما أتى الأوَّلينَ. وممن قال به: ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/350). وقيل: المعنى: ما منَع الناسَ مِن الإيمانِ إلَّا طلبُ مجيءِ العذابِ، كما أتَى الأوَّلينَ عندَ امتناعِهم مِن الإيمانِ. وممن ذهَب إلى هذا المعنى: الزجاج، ومكي بنُ أبي طالبٍ، وابنُ كثيرٍ. يُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (3/296)، ((الهداية)) لمكي (6/4410)، ((تفسير ابن كثير)) (5/172). .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ [الحجر: 10 - 13].
وقال عزَّ وجلَّ: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [الذاريات: 52- 53].
وقال سُبحانَه: بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ * قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [المؤمنون: 81 - 83] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا [الإسراء: 59] .
وقال سُبحانه: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ [غافر: 84- 85] .
أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ قُبُلًا بضَمِّ القافِ والباءِ، قيل: جمعُ (قَبيلٍ)، أي: صنفًا صنفًا، ونوعًا نوعًا، والمعنى: يأتيهم العذابُ أنواعًا وأصنافًا مُختَلفةً يتلو بَعضُها بعضًا. وقيل: (قُبُل) بالضمِّ بمعنَى (قِبَل) بكسرِ القافِ، أي: مواجهةً، والمعنى: يأتيهم العذابُ عِيانًا أمامَ وُجوهِهم [898] قرأ بها عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائي، وأبو جعفرٍ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/311). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((تفسير ابن جرير)) (15/301)، ((الحجة للقراء السبعة)) لأبي علي الفارسي (5/153، 154)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 420)، ((تفسير ابن عطية)) (2/335)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/305).   .
2- قِراءةُ قِبَلًا بكَسرِ القافِ وفتحِ الباءِ، أي: يأتيهم العذابُ عِيانًا أمامَ وُجوهِهم [899] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/311). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((تفسير ابن جرير)) (15/301)، ((الحجة للقراء السبعة)) لأبي علي الفارسي (5/153)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 420)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/305).   .
أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا.
أي: أو [900] قال ابنُ الجوزي: (ذكر ابنُ الأنباري في أَوْ هاهنا ثلاثةَ أقوالٍ: أحدُها: أنَّها بمعنى الواوِ. والثاني: أنَّها لوقوعِ أحدِ الشيئينِ؛ إذ لا فائدةَ في بيانِه. والثالثُ: أنَّها دخلَتْ للتَّبعيضِ، أي: أنَّ بعضَهم يقَعُ به هذا، وبعضَهم يقعُ به هذا). ((تفسير ابن الجوزي)) (3/92). وقال ابنُ عاشور: («أو» هي التي بمعنى «إلى»، وانتصابُ فعلِ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ بـ «أن» مضمرةٍ بعدَ «أو». و «أو» متصلةُ المعنى بفِعلِ «مَنَع»، أي: منَعَهم تقليدُ سنةِ الأولينَ مِن الإيمانِ إلى أن يأتيَهم العذابُ كما أتَى الأوَّلينَ). ((تفسير ابن عاشور)) (15/350).   يأتيَ العذابُ الكُفَّارَ عِيانًا يَرَونَه أمامَ وُجوهِهم [901] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/301)، ((تفسير ابن كثير)) (5/172)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/88)، ((تفسير السعدي)) (ص: 480)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/305)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 99). وقال الشوكاني: (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ أي: عذابُ الآخرةِ قُبُلًا: قال الفرَّاء: إنَّ قُبُلًا جمعُ قَبيلٍ، أي: متفَرِّقًا يتلو بعضُه بعضًا. وقيل: عِيانًا. وقيل: فجأةً. ويناسِبُ ما قاله الفرَّاءُ قراءةُ أبي جعفرٍ وعاصمٍ والأعمشِ وحمزةَ والكسائيِّ ويحيى بن وثَّاب وخلف قُبُلًا بضمتين، فإنَّه جمعُ قبيل، نحوُ سَبيل وسُبُل، والمرادُ أصنافُ العذابِ، ويناسِبَ التفسيرَ الثانيَ -أي: عِيانًا- قراءةُ الباقين بكسرِ القاف وفتح الباءِ: أي: مُقابلةً ومُعاينةً، وقرئ بفتحتين على معنى: أو يأتيَهم العذابُ مُستقبَلًا، وانتصابُه على الحال. فحاصِلُ معنى الآية أنَّهم لا يؤمنون ولا يَستغفِرون إلَّا عند نزولِ عذابِ الدنيا المستأصِلِ لهم، أو عند إتيان أصنافِ عذابِ الآخرةِ أو معاينتِه). ((تفسير الشوكاني)) (3/350).   .
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) .
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه بعدَ أن أشارَ اللهُ تعالى إلى جِدالِ الكافرينَ في هُدى القُرآنِ، بما مهَّدَ له مِن قَولِه: وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الكهف: ٥٤]، وأشار إلى أنَّ الجِدالَ فيه مُجَرَّدُ مُكابَرةٍ وعِنادٍ، وأنَّه لا يَحُفُّ بالقُرآنِ ما يَمنَعُ مِن الإيمانِ به، كما لم يَحُفَّ بالهُدى الذي أُرسِلَ إلى الأُمَمِ ما يمنَعُهم الإيمانَ به- أعقَبَ ذلك بأنَّ وظيفةَ الرُّسُلِ التَّبليغُ بالبِشارةِ والنِّذارةِ، لا التَّصدِّي للمُجادَلة؛ لأنَّها مُجادَلةٌ لم يُقصَدْ منها الاستِرشادُ، بل الغايةُ منها إبطالُ الحَقِّ [902] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (١٥/٣٥٢).   .
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ.
أي: وما نُرسِلُ الرُّسُلَ إلَّا لِيُبَشِّروا المُؤمِنينَ بالثَّوابِ العاجِلِ والآجِلِ، ويُنذِروا الكافِرينَ بالعِقابِ العاجِلِ والآجِلِ، ولم نُرسِلْهم عَبَثًا، ولا لِيَتَّخِذَهم النَّاسُ أربابًا، ولا لِيدْعوا إلى أنفُسِهم، ولا لِيَجبُروا النَّاسَ على الإيمانِ، ولا ليُجيبوا أقوامَهم إلى طَلَبِ الآياتِ المُقتَرَحةِ أو إتيانِهم بالعَذابِ والهَلاكِ؛ فليس لهم ذلك ولا هو مِن مَهامِّهم [903] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/302)، ((تفسير القرطبي)) (11/6)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/89)، ((تفسير السعدي)) (ص: 480)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/306)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 99).   .
وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ.
أي: لَسْنا نَبعَثُ رُسُلَنا للجِدالِ والخُصُوماتِ، وإنَّما نَبعَثُهم مُبَشِّرينَ ومُنذِرينَ، ولكِنَّ الكُفَّارَ يُخاصِمونَ رُسُلَهم بالباطِلِ؛ لِيُزيلوا ويُبطِلوا بجِدالِهم الحقَّ الذي جاءَت به الرُّسُلُ [904] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/302)، ((تفسير القرطبي)) (11/6)، ((تفسير البيضاوي)) (3/285)، ((تفسير ابن كثير)) (5/172)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/306، 307). قال الشِّنقيطي: (كقَولِهم في الرَّسولِ: ساحِرٌ، شاعِرٌ، كاهِنٌ، وكقولهم في القرآنِ: أساطيرُ الأوَّلينَ، سِحر، شِعر، كهانة، وكسُؤالِهم عن أصحابِ الكهف، وذي القرنين، وسؤالِهم عن الرُّوحِ؛ عِنادًا وتعَنُّتًا، ليُبطِلوا الحقَّ بجدالهم وخِصامِهم بالباطلِ). ((أضواء البيان)) (3/306). وقال ابنُ عثيمين: (مثالُ ذلك في الرسُلِ يقولون: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا [التغابن: 6]، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً [المؤمنون: 24] ، ويجادلونَ في البَعثِ فيقولون: قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس: 78] ، ويجادِلون في الآلهة؛ يقولون: إذا كان المشرِكونَ وما يَعبُدونَ مِن دون الله حَصَبَ جهنَّمَ، فعيسى عليه السَّلامُ مِن حَصَبِ جهنَّمَ، وغير ذلك من المجادلة، وقد أبطل اللهُ مجادلتَهم بعيسى؛ قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى، ومنهم عيسى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [الأنبياء: 101] ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 100). .
كما قال تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة: 32] .
وقال سُبحانه: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ [غافر: 5] .
وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا.
أي: وجعَل [905] قال الراغب: (والاتِّخاذُ افتعالٌ منه [أي: الأخذ]، ويعدَّى إلى مفعولينِ، ويجري مجرَى الجعلِ). ((المفردات في غريب القرآن)) (ص: 67). ويُنظر: ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (2/57)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 101).   الكُفَّارُ حُجَجي وبَراهيني، وما أيَّدتُ به رُسُلي من المُعجِزاتِ، وما خُوِّفوا به مِن العذابِ، موضعَ سخريةٍ واستخفافٍ واستهزاءٍ [906] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/303)، ((تفسير الرسعني)) (4/310)، ((تفسير القرطبي)) (11/7)، ((تفسير ابن كثير)) (5/172)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/308)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 101).   .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا يخبِرُ الله تعالى عن عَظَمةِ القرآنِ، وجلالتِه، وعُمومِه، وأنَّه صَرَّف فيه مِن كُلِّ مَثَلٍ، أي: من كلِّ طريقٍ مُوصِلٍ إلى العلومِ النَّافعةِ، والسَّعادةِ الأبَديَّةِ، وكلِّ طريقٍ يَعصِمُ مِن الشَّرِّ والهلاكِ؛ ففيه أمثالُ الحلالِ والحرامِ، وجزاءُ الأعمالِ، والترغيبُ والترهيبُ، والأخبارُ الصَّادقةُ النافعةُ للقُلوبِ؛ اعتقادًا، وطُمأنينةً، ونورًا، وهذا مما يوجِبُ التَّسليمَ لهذا القرآنِ وتلقِّيَه بالانقيادِ والطاعةِ، وعدمَ المنازعةِ له في أمرٍ مِن الأمورِ، ومع ذلك كان كثيرٌ مِن النَّاسِ يجادِلونَ في الحَقِّ بعد ما تبَيَّن، ويجادِلونَ بالباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ؛ ولهذا قال: وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا أي: مجادلةً ومُنازعةً فيه، مع أنَّ ذلك غيرُ لائقٍ بهم، ولا عَدلٌ منهم، والذي أوجب له ذلك وعدمَ الإيمانِ باللهِ إنَّما هو الظُّلمُ والعِنادُ، لا لقُصورٍ في بيانِه وحُجَّتِه وبُرهانِه، وإلَّا فلو جاءهم العذابُ، وجاءهم ما جاء قَبلَهم؛ لم تكُنْ هذه حالَهم [907] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: ٤٨٠).   .
2- الجدالُ مذمومٌ إذا استُعمِلَ عندَ عدمِ الحاجةِ إليه، فيكونُ حينئذٍ شاغلًا عن الدعوةِ ومؤديًا -في الأكثرِ- إلى الفسادِ والفتنةِ. فإذا كان الجدالُ لمجردِ الغلبةِ والظهورِ فهو شرٌّ كلُّه، وأشدُّ شرًّا منه إذا كان لمدافعةِ الحقِّ بالباطلِ، قال تعالى: وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ [909] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 325).   ، فكلُّ إنسانٍ يُجادِلُ مِن أجلِ أن يُدحِضَ الحقَّ، فله نصيبٌ من هذه الآيةِ أي: مِن الكُفرِ -والعياذُ باللهُ- لأنَّ الكافرينَ هم الذين يُجادِلونَ بالباطِلِ؛ لِيُدحِضوا به الحقَّ [910] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 100).   .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا فهم تحقَّقوا -لا محالةَ- أنَّهم مُواقِعوها؛ لِيَكونَ ذلك من بابِ تَعجيلِ الهَمِّ والحَزَنِ لهم؛ فإنَّ توقُّعَ العذابِ والخَوفَ منه قبلَ وُقوعِه، عذابٌ ناجِزٌ [911] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/171).   .
2- وجهُ الجَمعِ بينَ قَولِه تعالى هنا: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا، وبينَ قولِه تعالى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا [الإسراء: 94] بما حاصِلُه: أنَّ المانِعَ المذكورَ في سورة (الإسراء) مانِعٌ عاديٌّ يجوزُ تخَلُّفُه؛ لأنَّ استِغرابَهم بَعْثَ رَسولٍ مِن البشَرِ مانِعٌ عادِيٌّ يجوزُ تخَلُّفُه؛ لإمكانِ أن يستغرِبَ الكافِرُ بَعثَ رَسولٍ مِن البشَرِ، ثمَّ يُؤمِنَ به مع ذلك الاستغرابِ؛ فالحَصرُ في قَولِه تعالى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا [الإسراء: 94] حصرٌ في المانعِ العاديِّ، وأمَّا الحصرُ في قَولِه هنا: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا فهو حَصرٌ في المانِعِ الحقيقيِّ؛ لأنَّ إرادتَه جَلَّ وعلا عَدَمَ إيمانِهم، وحُكْمَه عليهم بذلك، وقضاءَه به: مانِعٌ حقيقيٌّ مِن وقوعِ غيرِه [912] يُنظر: ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/97)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/305).   .
3- قوله تعالى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا فيه دليلٌ على إثباتِ القدرِ [913] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (14/59).   ، وذلك على القولِ المختارِ في تفسيرِ الآيةِ.

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا عطْفٌ على جُملةِ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ؛ فيُقدَّرُ: واذكُرْ يومَ يقولُ: نادُوا شُركائي، أو على جُملةِ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ فالتَّقديرُ: ولا أشهدْتُ شُركاءَهم جميعًا، ولا تنفَعُهم شُركاؤُهم يومَ الحشرِ؛ فهو انتقالٌ مِن إبطالِ مَعبوديَّةِ الشَّيطانِ والجنِّ إلى إبطالِ إلهيَّةِ جميعِ الآلهةِ الَّتي عبَدَها دَهْماءُ المُشرِكين، مع بَيانِ ما يَعتريهم من الخَيبةِ واليأسِ يومئذٍ. وقد سلَكَ في إبطالِ إلهيَّتِها بالاستدلالِ على انتفاءِ الماهيَّةِ بانتفاءِ لَوازمِها؛ فإنَّه إذا انْتَفى نفْعُها للَّذين يَعبُدونها، استلزَمَ ذلك انتفاءَ إلهيَّتِها، وحصَلَ بذلك تَشخيصُ خَيبتِهم ويأسِهم من النَّجاةِ [914] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/344).   .
     - قولُه: وَيَوْمَ يَقُولُ، أي: اللهُ عَزَّ وجَلَّ للكافرينَ؛ تَوبيخًا وتَعجيزًا [915] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/229).   ، وضميرُ الغائبِ عائدٌ إلى اللهِ تعالى؛ لدَلالةِ المقامِ عليه [916] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/345).   .
     - وإضافةُ الشُّركاءِ إليه في قولِه: شُرَكَائِيَ على زَعْمِهم؛ تَوبيخًا لهم، والإضافةُ تَكونُ بأدنى مُلابسةٍ. ومفعولَا (زعَمْتُم) مَحذوفانِ؛ لدَلالةِ المعنى عليهما؛ إذ التَّقديرُ: زعمْتُموهم شُركائي [917] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/728)، ((تفسير البيضاوي)) (3/284)، ((تفسير أبي حيان)) (7/191).   .
     - قولُه: نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أمْرُه إيَّاهم بمُناداةِ شُركائِهم مُستعملٌ في معناه مع إرادةِ لازمِه، وهو إظهارُ باطلِهم؛ بقرينةِ فعْلِ الزَّعمِ، ولذلك لم يسَعْهم إلَّا أنْ يُنادوهم، حيث قال: فَدَعَوْهُمْ لطمَعِهم، فإذا نادَوهم تبيَّنَ لهم خَيبةُ طمَعِهم، ولذلك عُطِفَ فعْلُ الدُّعاءِ بالفاءِ الدَّالَّةِ على التَّعقيبِ، وأتَى به في صِيغَةِ المُضِيِّ؛ للدَّلالةِ على تَعجيلِ وُقوعِه حينئذٍ، حتَّى كأنَّه قدِ انْقَضى [918] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/345).   .
     - وفيه تقديمُ وصْفِهم بوصْفِ الشُّركاءِ قبْلَ فعْلِ الزَّعمِ؛ تَهكُّمًا بالمُخاطبينَ، وتَوبيخًا لهم، ثمَّ أردَفَ بما يدُلُّ على كذِبِهم فيما ادَّعَوا بفعْلِ الزَّعمِ الدَّالِّ على اعتقادٍ باطلٍ [919] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/345).   .
     - قولُه: فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ، أي: نادَوهم للإغاثةِ، وفيه بَيانٌ لكَمالِ اعتنائِهم بإعانتِهم على طريقةِ الشَّفاعةِ؛ إذ مَعلومٌ أنْ لا طريقَ إلى المُدافعةِ، وفي إيرادِ عدمِ استجابتِه لهم مع ظُهورِه: تَهكُّمٌ بهم، وإيذانٌ بأنَّهم في الحَماقةِ بحيثُ لا يَفْهمونه إلَّا بالتَّصريحِ به [920] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/229).   .
2- قوله تعالى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا عطْفٌ على جُملةِ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا، أي: جعَلْنا المَوبقَ ورآهُ المُجْرِمون؛ فذِكْرُ المُجرِمين إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ للدِّلالةِ على ما يُفيده الْمُجْرِمُونَ من تلبُّسِهم بما استحقُّوا به عذابَ النَّارِ [921] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/229).   ، وكذلك عُبِّرَ بـ (النَّارِ) في مَقامِ الإضمارِ للمَوبقِ؛ للدَّلالةِ على أنَّ المَوبقَ هو النَّارُ، فهو شَبيهٌ بعطْفِ البَيانِ [922] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/345-346).   . ولم يقل: (وَرأَوا)، ولكنَّه أظهرَ؛ للدَّلالةِ على تَعليقِ الحُكمِ بالوصفِ [923] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (١٢/٨٦).   .
     - قولُه: فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا والظَّنُّ مُستعمَلٌ هنا في معنى التَّحقُّقِ، ولعلَّ اختيارَه هنا ضربٌ من التَّهكُّمِ بهم، بأنَّهم رَجَّحوا أنَّ تلك النَّارَ أُعِدَّتْ لأجْلِهم في حينِ أنَّهم مُوقِنون بذلك. والمُواقَعةُ: مُفاعَلةٌ من الوُقوعِ، وهو الحصولُ؛ لقصْدِ المُبالَغةِ، أي: واقِعون فيها وُقوعَ الشَّيءِ الحاصلِ في موقعٍ يتطلَّبُه، فكأنَّه يقَعُ هو فيه [924] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/346).   .
     - قولُه: وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا في الكلامِ إيجازٌ، تَقديرُه: وحاوَلوا الانقلابَ أو الانصرافَ، فلم يَجِدوا عنها مَصرِفًا [925] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/346).   .
3- قولُه تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا عطْفٌ على الجُملِ السَّابقةِ الَّتي ضُرِبَت فيها أمثالٌ، مِن قولِه: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ [الكهف: 32] ، وقولِه: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف: 45] ، ولمَّا كان في ذلك لهم مَقنعٌ، وما لهم منه مَدفعٌ، عاد إلى التَّنويهِ بهَدْيِ القُرآنِ عودًا ناظرًا إلى قولِه: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ [الكهف: 27] ، وقولِه: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: 29] ؛ فأشارَ لهم أنَّ هذه الأمثالَ الَّتي قرَعَتْ أسماعَهم هدْيٌ من جُملةِ هدْيِ القُرآنِ الَّذي تَبرَّموا منه [926] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/346).   .
     - قولُه: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا فيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ تَقدَّمَ نظيرُ هذه الآيةِ في سُورةِ الإسراءِ، فقال: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا [الإسراء: 89] ، فقُدِّمَ في هذه الآيةِ أحدُ مُتعلِّقَي فعْلِ التَّصريفِ على الآخرِ؛ إذ قُدِّمَ هنا قولُه: فِي هَذَا الْقُرْآنِ على قولِه: لِلنَّاسِ، عكْسَ آيةِ سُورةِ الإسراءِ؛ ووجهُ ذلك: أنَّ ذِكْرَ القُرآنِ أهمُّ من ذِكْرِ النَّاسِ بالأصالةِ، ولا مُقْتضى للعُدولِ عنه هنا، بل الأمْرُ بالعكْسِ؛ لأنَّ الكلامَ جارٍ في التَّنويهِ بشأْنِ القُرآنِ، وأنَّه يَنزِلُ بالحقِّ لا بِهَوى الأنفُسِ. والنَّاسُ: اسمٌ عامٌّ لكلِّ مَن يبلُغُه القُرآنُ في سائرِ العُصورِ المُستقبَلةِ، والمقصودُ على الخُصوصِ المُشرِكون، كما دَلَّ عليه جُملةُ: وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكَثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا، فوِزانُه وِزانُ قولِه: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا [الإسراء: 89] ، وسيجيءُ قولُه: وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ [الكهف: 56] . وهذا يُشبِهُ العامَّ الواردَ على سبَبٍ خاصٍّ وقرائنَ خاصَّةٍ [927] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/346-347).   .
     - وجُملةُ: وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا تَذييلٌ، وهو مُؤذِنٌ بكلامٍ مَحذوفٍ على وجْهِ الإيجازِ، والتَّقديرُ: فجَادلوا فيه؛ وكان الإنسانُ أكثرَ جدَلًا، فإنَّ الإنسانَ اسمٌ لنَوعِ بني آدمَ، وحرْفُ (أل) فيه لتعريفِ الحقيقةِ، فهو أوسعُ عُمومًا من لفْظِ (النَّاس) [928] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/347).   .
     - وقولُه: شَيْءٍ اسمٌ مُفردٌ مُتوغِّلٌ في العُمومِ؛ ولذلك صَحَّت إضافةُ اسمِ التَّفضيلِ إليه، أي: أكثرَ الأشياءِ، واسمُ التَّفضيلِ هنا مَسلوبُ المُفاضَلةِ، وإنَّما أُتِيَ بصِيغَتِه؛ لقصْدِ المُبالَغةِ في شِدَّةِ جدَلِ الإنسانِ، وجُنوحِه إلى المُماراةِ والنِّزاعِ حتَّى فيما تَرْكُ الجدالِ في شأْنِه أحسَنُ، بحيث إنَّ شِدَّةَ الوصفِ فيه تُشْبِهُ تفوُّقَه في الوصْفِ على كلِّ مَن يَعرِضُ أنَّه موصوفٌ به [929] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/347).   .
4- قوله تعالى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا هذا تأسُّفٌ عليهم، وتَنبيهٌ على فَسادِ حالِهم؛ لأنَّ هذا المنْعَ لم يكُنْ بقصْدٍ منهم أنْ يَمتنِعوا ليَجِيئَهم العذابُ، وإنَّما امْتَنعوا هم مع اعتقادِ أنَّهم مُصيبونَ، لكنَّ الأمْرَ في نفْسِه يَسوقُهم إلى هذا، فكان حالُهم يَقْتضي التَّأسُّفَ عليهم [930] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/193).   .
     - وهو عطْفٌ على جُملةِ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ... [الكهف: 54] ، ومعناها مُتَّصِلٌ تَمامَ الاتِّصالِ بمعنى الجُملةِ الَّتي قبْلَها، بحيث لو عُطِفَت عليها بفاءِ التَّفريعِ لكان ذلك مُقْتضَى الظَّاهرِ، وتُعْتَبَرُ جُملةُ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكَثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الكهف: 54] مُعترِضةً بينهما، لولا أنَّ في جَعْلِ هذه الجُملةِ مُستقِلَّةً بالعطْفِ اهتمامًا بمضمونِها في ذاتِه، بحيث يُعَدُّ تَفريعُه على مَضمونِ الَّتي قبْلَها يَحيدُ به عن الموقعِ الجديرِ هو به في نُفوسِ السَّامعينَ؛ إذ أُريدَ أنْ يكونَ حقيقةً مُقرَّرةً في النُّفوسِ. ولهذه الخُصوصيَّةِ عُدِلَ في هذه الجُملةِ عن الإضمارِ إلى الإظهارِ بقولِه: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ، وبقولِه: إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى دونَ أنْ يقولَ: وما منَعَهم أنْ يُؤمِنوا إذ جاءهم الهُدى؛ قصْدًا لاستقلالِ الجُملةِ بذاتِها غيرِ مُستعانةٍ بغيرِها، فتكونُ فائدةً مُستقِلَّةً تَستأهِلُ توجُّهَ العُقولِ إلى وعْيِها لذاتِها، لا لأنَّها فرعٌ على غيرِها. على أنَّ عُمومَ (النَّاس) هنا أشمَلُ من عُمومِ لفْظِ (النَّاس) في قولِه: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ [الكهف: 54] ؛ فإنَّ ذلك يعُمُّ النَّاسَ الَّذين يَسْمَعون القُرآنَ في أزمانِ ما بعْدَ نُزولِ تلك الآيةِ، وهذا يعُمُّ النَّاسَ كلَّهم الَّذين امْتَنعوا من الإيمانِ باللهِ. وكذلك عُمومُ لفْظِ (الهُدى) يشمَلُ هُدى القُرآنِ وما قبْلَه من الكُتبِ الإلهيَّةِ وأقوالِ الأنبياءِ كلِّها؛ فكانت هذه الجُملةُ قِياسًا تَمثيليًّا بشَواهدِ التَّاريخِ وأحوالِ تلقِّي الأُمَمِ دَعواتِ رُسلِهم [931] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/349).   .
     - وذِكْرُ الاستغفارِ هنا بعْدَ ذِكْرِ الإيمانِ تلْقينٌ لهم بأنْ يُبادِروا بالإقلاعِ عنِ الكُفرِ، وأنْ يَتوبوا إلى اللهِ من تَكذيبِ النَّبيِّ ومُكابرتِه [932] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/349).   .
     - قولُه: إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ، أي: إلَّا طلَبُ، أو: انتظارُ، أو: تَقديرُ أنْ تَأتيَهم سُنَّةُ الأوَّلينَ، وهي الاستئصالُ؛ فحُذِفَ المُضافُ وأُقِيمَ المُضافُ إليه مَقامَه [933] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/729)، ((تفسير البيضاوي)) (3/285)، ((تفسير أبي السعود)) (5/230).   -وهذا على أحدِ الأقوالِ في التفسيرِ- والمرادُ: ما منَعهم إلَّا سببُ إتيانِ سُنَّةِ الأوَّلينَ لهم، أو إتيانُ العذابِ؛ وسببُ ذلك هو: التكبُّرُ والمكابرةُ والتمسُّكُ بالضلالِ؛ فلا يُوجَدُ مانعٌ يَمنعُهم الإيمانَ يُعطيهم المعذرةَ به، ولكنَّهم ساروا على سَننِ مَن قَبْلَهم مِن الضلالِ. وهذا كنايةٌ عن انتفاءِ إيمانِهم إلى أنْ يَحُلَّ بهم أحدُ العَذابَينِ، وفي هذه الكِنايةِ تهديدٌ وإنذارٌ وتحذيرٌ، وحثٌّ على المبادرةِ بالاستغفارِ مِن الكفرِ [934] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/352).   .
5- قوله تعالى: وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا
     - جُملةُ: وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ عطْفٌ على جُملةِ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وكِلْتا الجُملتينِ مُرتبِطٌ بجُملتيْ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الكهف: 54] ، وتَرتيبُ هذه الجُملِ في الذِّكرِ جارٍ على تَرتيبِ مَعانيها في النَّفسِ، بحيث يُشْعِرُ بأنَّ كلَّ واحدةٍ منها ناشئٌ مَعناها على معنى الَّتي قبْلَها؛ فكانت جُملةُ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ مُفيدةً معنى الاستدراكِ، أي: أرسَلْنا الرُّسلَ مُبشِّرينَ ومُنذِرينَ بما فيه مَقنعٌ لطالبِ الهُدى، ولكنَّ الَّذين كَفَروا جادَلوه بالباطلِ؛ لإزالةِ الحقِّ لا لقصْدٍ آخرَ [935] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/353).   .
     - واختيارُ فِعْلِ المُضارَعةِ وَيُجَادِلُ؛ للدَّلالةِ على تكرُّرِ المُجادَلةِ، أو لاستحضارِ صُورةِ المُجادَلةِ [936] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/353).   .
     - وجُملةُ: وَاتَّخَذُوا آيَاتِي عطْفٌ على جُملةِ وَيُجَادِلُ؛ فإنَّهم ما قَصَدوا مِن المُجادَلةِ الاهتداءَ، ولكنْ أرادوا إدحاضَ الحقِّ، واتِّخاذَ الآياتِ كلِّها -وبخاصَّةٍ آياتُ الإنذارِ- هُزؤًا [937] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/353).   .
     - وفعلُ الاتِّخاذِ إِذا قُيِّد بحالةٍ يفيدُ شدَّةَ اعتناءِ المُتَّخِذِ بتلك الحالةِ بحيثُ ارتَكَب الفعلَ لأجلِها، وجَعَله لها قَصْدًا [938] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/17).   .
     - وعطْفُ وَمَا أُنْذِرُوا على (الآياتِ) عطْفُ خاصٍّ على عامٍّ؛ لأنَّه أبلَغُ في الدَّلالةِ على توغُّلِ كُفْرِهم وحَماقةِ عُقولِهم. و(مَا) مَصدريةٌ، أي: وإنذارَهم، والإخبارُ بالمصدرِ للمُبالَغةِ [939] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/353).   .